19-01-2007
أكتب إليك من علي فراش المرض, لا أعرف ماذا تبقي لي من أيام, أشعر بأن الأجل قد دنا, وأن ما فات لن يعود, لكني أحس بمرارة في نفسي, ورغبة عارمة في الانتقام علي الرغم من أن جسدي الضعيف يخذلني حتي عن التحرك نحو دورة المياه, فأبكي علي الصحة التي أهدرتها, وعلي العمر الذي فات. إنها الحكمة التي نتعلمها بعد فوات الأوان, ولا نؤمن بها عندما نراها تفيض من الآخرين, اعتقادا منا بأن ما أصاب الآخرين يستحيل عليه أن يقترب منا, وعندما نتعلم الدرس نكون قد فقدنا قدرتنا علي التنفيذ.
سيدي. اغفر لي استرسالي, واضطراب أفكاري, لأنني ظللت طوال اليوم أستجمع مالدي من قوة, منتظرا أن ينصرف أبنائي من المستشفي, حتي أزيح عن نفسي بعض الهم الذي أخجل من البوح به أمام أحد, وربما تكون هذه آخر كلماتي, فالطعنة التي تلقيتها, آلامها أكثر إيلاما من عذاب المرض وحتي لا أطيل عليك سأبدأ حكايتي.
أنا رجل عمري الآن يقترب من الستين, لدي من الأبناء ثلاثة, أعمل في وظيفة جيدة, كانت تدر علي دخلا محدودا, وأرجو أن تغفر لي تغيير بعض المعلومات عني أو إخفائها حتي لا أوذي أبنائي.
تزوجت منذ ثلاثين عاما, من فتاة اختارتها لي والدتي, وقالت لي إنها من أسرة طيبة, وقد كنت ابنا بارا بوالدي, لا أعصي لهما أمرا وأثق في رأيهما, كما كنت الابن المدلل لأني الأكثر تفوقا, والأكثر طاعة لهما.
لذلك كنت حريصا علي السكن بجوار أسرتي, حتي أحافظ علي المودة والتواصل. لاحظت زوجتي مدي ارتباطي بعائلتي, فلم تبد تذمرا أو اعتراضا في البداية, ولكني لمست غيرتها من تلك العلاقة, وعدم رغبتها مصاحبتي أثناء زيارتهم, بمبررات مختلفة. ولم أتوقف طويلا أمام هذا الأمر, وإن لفت نظر أمي, فكانت توصيني بالاهتمام بها وعدم إغضابها, بل كانت تعتقد أحيانا أني أغضبها فتحذرني من ذلك.
لم تعلن زوجتي غضبها أو رفضها لعلاقتي بأسرتي, إلا بعد إنجابها ابننا الأول, وتعلقي الشديد به, وكذلك تعلق والدي بحفيدهما. فبدأت في مخططها, الشكوي المتكررة من ضيق الشقة, ومن غيابي, من تدليل الجدة والجد لحفيدهما والذي حتما سيفسده ويهدم خطتها في التربية السليمة.
المهم استجبت لـ زن زوحتي, وانتقلت إلي شقة أخري, تبعد كثيرا عن بيت العائلة, ومن هذه اللحظة, اكتشفت وجها آخر في زوجتي, امرأة قوية, قيادية, حاسمة. بدأت ترسم لي طريق حياتنا, الحياة لا تعرف الضعفاء, لا وقت للمشاعر, القوة الحقيقية في الثروة, فالناس لا تحترم إلا الأغنياء هكذا كانت تري زوجتي, ولا أدري كيف قبلت فكرتها عن الحياة, فارتبطت بعمل آخر, أخرج من الصباح, لا أعود إلا في المساء
ستسألني عن أهلي, عن أمي وأبي وإخوتي, انقطعت عنهم ياسيدي, أصبحت لا أزورهم إلا نادرا, مكتفيا بالمكالمات التليفونية والتي أخذت هي الأخري في التضاؤل. كانت تذبحني كلمات أمي الباكية وهي ترجوني أن أذهب إليها لتراني وحفيديا, فكنت أعدها بذلك, ثم تصدمني نظرات زوجتي فأتراجع حتي المرات القليلة التي كان يزورني فيها أبي وأمي أو اشقائي وزوجاتهم تعاملهم زوجتي بجفاء شديد حتي يفكروا ألف مرة قبل تكرار الزيارة.
وعندما كنت أعاتبها, تقول لي: داري علي شمعتك, أنت الآن في وضع أفضل من إخوتك, سيغارون منك ويطمعون فيك. لا تسلني كيف كنت أقبل هذا الرأي, قبلته وعملت به حتي إنقطعت صلة الجميع بي.
أنجبت زوجتي مرتين, ولم أعد أري إلا أسرتي الصغيرة, هي كل شيء في حياتي, وحتي أكون دقيقا في اللفظ, لم أعد أري أسرتي, فأنا أعمل,15 ساعة يوميا. نعم جمعت أموالا كثيرة, كانت زوجتي تشتري بها أرضا وعقارات باسمها, وتقول لي إنها ستديرها لي لأني مشغول أغلب الوقت وكله لمين يعني ماهو لأولادنا.
مرت سنوات طويلة لم يتغير شيء, سوي رحيل والدتي بعد مرض قصير, ولم أكن بجوارها قبل وفاتها, وقال لي أشقائي إنها كانت تتمتم باسمي قبل رحيلها, بينما قاطعني والدي وقال إنه غاضب علي إلي يوم الدين, حاولت قدر استطاعتي استرضاءه دون جدوي, والحقيقة أني لم أبذل جهدا كافيا لإرضائه بسبب عملي المتواصل, وانشغالي بزوجتي وأبنائي.
سيدي.. لن أصف لك مدي كراهيتي لنفسي وأنا أتذكر كل هذا الآن, من أين أتيت بكل هذا الجفاء, وكل هذه القسوة؟
سامحني يا أبي, سامحيني يا أمي, قد ألقاكما قريبا.. ليتكما كنتما أحياء لأقبل قدميكما, أقبل التراب الذي تسيران عليه.. ولكن لم يعد يجدي ذلك الآن؟ لقد انتقم لكما الله مني وبنفس السلاح الذي أدميتكما به!
ظللت مثل الثور في الساقية معصوب العينين, تقذفني الحياة يمنة ويسرة, لا أعرف معني للسعادة, أولادي يتفوقون في دراستهم, يعيشون حياتهم الخاصة, لا أراهم إلا نادرا. أما زوجتي فقد ظلت مشغولة بهم وبالثروة التي تتزايد إلي أن جاء هذا اليوم العصيب الذي سقطت فيه في العمل.
نقلني زملائي إلي المستشفي. لم يكن هناك سبب ظاهر لإغمائي. فطلب الطبيب عمل بعض الأشعات والتحاليل, وكانت المفاجأة, إصابتي بورم خبيث في صدري. لا أعتقد أني في حاجة إلي ذكر التفاصيل.
دوامة من التشخيصات, ثم لا مفر, لابد من جراحة, والجراحة محفوفة بالمخاطر, لذلك نصحني بعض الأطباء بالسفر إلي فرنسا لإجرائها هناك, خاصة أن الورم في بدايته.
طرحت الأمر علي زوجتي, ففوجئت بها تسألني: من أين تكاليف العملية؟ عملي سيتكفل بجزء من التكاليف, ويمكن الحصول علي مبلغ من وزارة الصحة, والباقي من ممتلكاتنا, من ثروتنا التي أفنيت عمري في جمعها؟
تعتقد ماذا كان ردها؟.. ممتلكاتنا, ثروتنا, لا, انس, هذه أموال للأولاد مستقبلهم, احتمالات نجاح العملية محدودة, فهل نغامر ونضحي بمستقبل أولادك من أجل إحتمال.. رب هنا رب هناك.. لم أصدق أذني وأنا أسمع تلك الكلمات.. انهمرت الدموع من عيني, وبكيت كما لم أبك من قبل, فاستدارت وتركتني غارقا في ألمي.
الكارثة الأكبر, أن أبنائي, الذين أفنيت عمري من أجلهم, لم يفكر أحدهم في إثنائها عن تفكيرها, لم يحاول أن يواسيني أو يكشف لي عن غضبه أو رفضه لمنطقها.
سيدي.. أجلس الآن في مستشفي خاص, بعد أن ساءت حالتي, أتلقي علاجا كيماويا منتظما.. أعود إلي بيتي أياما قليلة, ثم تنتكس صحتي فأعود مرة أخري, هربا من الجفاء الذي أعانيه مع أسرتي.
تزورني زوجتي مرة في الأسبوع ـ تأدية واجب ـ ويتردد علي الأولاد كلما سمحت لهم الظروف. ظروف العمل والأصدقاء ومواعيد السينما, يجلسون معي لحظات, ثم يعتذرون لارتباطهم بمواعيد مهمة.
أستعيد صوت أمي وهي تبكي في التليفون, صوت أبي وهو يعلن غضبه علي, لا أجد إلا أشقائي حولي وفي عيونهم نظرات عتاب وعطف.
لا أعرف ماذا أفعل كي أستريح قبل الرحيل.. الندم يقتلني كل لحظة, والغضب والرغبة في الإنتقام يعجز جسدي النحيل عن تحملهما, فأسأل الله أن يريحني من هذا العذاب.. وأسألك أنت وقرائك أن تدعوا لي بالرحمة والمغفرة.
* سيدي.. قبل حديثي إليك أدعو الله الرحمن الرحيم, القادر الكريم أن يعفو عنك ويشفيك ويرينا معجزته فيك, وأدعو كل الأصدقاء أن يدعوا لك في كل صلاة. كما أرجو ألا تفهم أن عنوان قصتك خاص بك, بل هو معني حاصرني, لأن كثيرا منا تشغله الحياة ببهارجها, غافلا أنها رحلة بين بابين متواجهين أحدهما للدخول والآخر للخروج.
دعني ـ عزيزي ـ أعترف لك بأني لأول مرة أشعر بالعجز عن مواجهة صاحب رسالة بأخطائه أو لومه علي ما ارتكب من آثام وخطايا, خاصة إذا كانت بالوالدين, ولكن ضعفي وعجزي أمام كلماتك سببهما إحساس بمقدار ألمك ووحدتك وصدمتك فيمن ضحيت بعمرك وبأهلك من أجلهم. وكذلك ندمك علي جفائك وتقصيرك تجاه والديك. فلست في حاجة مني إلي كشف أخطائك, فسطور خطابك تعري كل شيء وتعلمنا الكثير.
أنت يا سيدي الآن في مواجهة مع نفسك, هذه المواجهة تستدعي منك أولا أن تتخلص من رغبتك في الانتقام, فالدم لا يغسل بالدم ولكن بالماء, وعليك أن تغفر أولا لأولادك لأنهم ضحايا لك ولأمهم, وكما قال الشاعر الفيلسوف المؤمل الكوفي:
ينشأ الصغير علي ما كان والده
إن العروق عليها ينبت الشجر
ظلمت نفسك, بعقوقك لوالديك, فعاقك أبناؤك: وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين صدق الله العظيم, عليك التسليم بذلك حتي تستريح, وتستعيد الرغبة في الحياة, فأحاسيسك التي تحاصرك كل لحظة تنهك جهاز مناعتك وتعين المرض عليك, بينما إرادة الشفاء نصف الشفاء, عليك أن تثق في رحمة الله: ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما, وتثق أيضا بأن الوالدين مهما غضبا لا يخرجان الأبناء من دائرة عطفهما وحبهما, حتي لو جاهرا بغير ذلك. وعليك أن تري في مرضك رحمة من الله سبحانه وتعالي, وتأمل معي قول رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذي ولا غم, حتي الشوكة يشاكها, إلا كفر الله بها من خطاياه.
كما أريد أن أطمئنك بوجود أساتذة عظام في مجال علاج السرطان في مصر, وأرجو أن تتصل بي أو تحدد لي المستشفي الذي تعالج به, فإذا قرر الأطباء إجراء الجراحة لك, فأقدم ولا تخف, فلكل أجل كتاب.
أما أبناؤك فإني أدعوهم إلي تأمل ما حدث معك, يتدبرونه, ويفهمون أنهم سيشربون من الكأس نفسها, فمن أكرم والديه سر بأولاده, وليتهم يعرفون أن أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين, فيفرون إليك يقبلون قدميك ويطلبون رضاءك قبل فوات الأوان. نعم لقد أخطأ والداكم في تربيتكم, وغرسوا فيكم الجفاء وحب الذات, ولكن العاقل من يعتبر بغيره.
وتبقي الزوجة, وبعض الزوجات داء بعضهن دواء, وزوجتك من النوع الأول, باعدت بينك وبين أسرتك, وملأت قلبك بالقسوة تجاه والديك, وأدخلت في روعك أن المال يغنيك عمن تحبهم ويحبونك, متناسية أو جاهلة أن المال خادم جيد ولكنه سيد فاسد, وأنه كالسماد لايفيد إذا لم ينثر.
لذلك أدعوها إلي تأمل قول الله سبحانه وتعالي: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن وأسألها هل كنت لباسا لزوجك؟ هل تعرفين أن الملائكة تلعنك إذا بات زوجك غاضبا عليك عن حق؟.. هل تفهمين أنك ستحصدين المر من ثمار كراهيتك وأنانيتك وطمعك؟
سيدتي.. غرتك الدنيا, فلا تغتري بكذبها, وانزعي من صدر أبنائك تلك الكراهية والأنانية لأنك أقرب من سيحصد ثمارها, واطلبي الصفح من زوجك, وأعيدي إليه ما جمعه من عرقه وسهره ودفع ثمنه غاليا, فما ستفقدينه لن تعوضك عنه أموال الدنيا. وإلي لقاء بإذن الله.
مدونة بريد الجمعة مدونة إجتماعية ترصد أحوال الشارع المصرى والوطن العربى مدونة تتناول قصص, ومشكلات حقيقية للوطن العربى مثل: (ظاهرة العنوسة, الخيانة الزوجية, الخلافات الزوجية, التفكك الأسرى, الطلاق وآثاره السلبية على الأبناء, الحب من طرف واحد, مرض التوحد, الإبتلاءات من فقر ومرض وكيفية مواجهة الإنسان لها) ثم يعرض الموقع فى أخر كل موضوع رأى المحرر فى التغلب على هذه المحن
الأربعاء، ١ أغسطس ٢٠١٢
قبــل الرحـــيل
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق