الأربعاء، ١ أغسطس ٢٠١٢

قبــل الرحـــيل

19-01-2007
أكتب إليك من علي فراش المرض‏,‏ لا أعرف ماذا تبقي لي من أيام‏,‏ أشعر بأن الأجل قد دنا‏,‏ وأن ما فات لن يعود‏,‏ لكني أحس بمرارة في نفسي‏,‏ ورغبة عارمة في الانتقام علي الرغم من أن جسدي الضعيف يخذلني حتي عن التحرك نحو دورة المياه‏,‏ فأبكي علي الصحة التي أهدرتها‏,‏ وعلي العمر الذي فات‏.‏ إنها الحكمة التي نتعلمها بعد فوات الأوان‏,‏ ولا نؤمن بها عندما نراها تفيض من الآخرين‏,‏ اعتقادا منا بأن ما أصاب الآخرين يستحيل عليه أن يقترب منا‏,‏ وعندما نتعلم الدرس نكون قد فقدنا قدرتنا علي التنفيذ‏.‏

سيدي‏.‏ اغفر لي استرسالي‏,‏ واضطراب أفكاري‏,‏ لأنني ظللت طوال اليوم أستجمع مالدي من قوة‏,‏ منتظرا أن ينصرف أبنائي من المستشفي‏,‏ حتي أزيح عن نفسي بعض الهم الذي أخجل من البوح به أمام أحد‏,‏ وربما تكون هذه آخر كلماتي‏,‏ فالطعنة التي تلقيتها‏,‏ آلامها أكثر إيلاما من عذاب المرض وحتي لا أطيل عليك سأبدأ حكايتي‏.‏

أنا رجل عمري الآن يقترب من الستين‏,‏ لدي من الأبناء ثلاثة‏,‏ أعمل في وظيفة جيدة‏,‏ كانت تدر علي دخلا محدودا‏,‏ وأرجو أن تغفر لي تغيير بعض المعلومات عني أو إخفائها حتي لا أوذي أبنائي‏.‏

تزوجت منذ ثلاثين عاما‏,‏ من فتاة اختارتها لي والدتي‏,‏ وقالت لي إنها من أسرة طيبة‏,‏ وقد كنت ابنا بارا بوالدي‏,‏ لا أعصي لهما أمرا وأثق في رأيهما‏,‏ كما كنت الابن المدلل لأني الأكثر تفوقا‏,‏ والأكثر طاعة لهما‏.‏

لذلك كنت حريصا علي السكن بجوار أسرتي‏,‏ حتي أحافظ علي المودة والتواصل‏.‏ لاحظت زوجتي مدي ارتباطي بعائلتي‏,‏ فلم تبد تذمرا أو اعتراضا في البداية‏,‏ ولكني لمست غيرتها من تلك العلاقة‏,‏ وعدم رغبتها مصاحبتي أثناء زيارتهم‏,‏ بمبررات مختلفة‏.‏ ولم أتوقف طويلا أمام هذا الأمر‏,‏ وإن لفت نظر أمي‏,‏ فكانت توصيني بالاهتمام بها وعدم إغضابها‏,‏ بل كانت تعتقد أحيانا أني أغضبها فتحذرني من ذلك‏.‏

لم تعلن زوجتي غضبها أو رفضها لعلاقتي بأسرتي‏,‏ إلا بعد إنجابها ابننا الأول‏,‏ وتعلقي الشديد به‏,‏ وكذلك تعلق والدي بحفيدهما‏.‏ فبدأت في مخططها‏,‏ الشكوي المتكررة من ضيق الشقة‏,‏ ومن غيابي‏,‏ من تدليل الجدة والجد لحفيدهما والذي حتما سيفسده ويهدم خطتها في التربية السليمة‏.‏

المهم استجبت لـ زن زوحتي‏,‏ وانتقلت إلي شقة أخري‏,‏ تبعد كثيرا عن بيت العائلة‏,‏ ومن هذه اللحظة‏,‏ اكتشفت وجها آخر في زوجتي‏,‏ امرأة قوية‏,‏ قيادية‏,‏ حاسمة‏.‏ بدأت ترسم لي طريق حياتنا‏,‏ الحياة لا تعرف الضعفاء‏,‏ لا وقت للمشاعر‏,‏ القوة الحقيقية في الثروة‏,‏ فالناس لا تحترم إلا الأغنياء هكذا كانت تري زوجتي‏,‏ ولا أدري كيف قبلت فكرتها عن الحياة‏,‏ فارتبطت بعمل آخر‏,‏ أخرج من الصباح‏,‏ لا أعود إلا في المساء‏

ستسألني عن أهلي‏,‏ عن أمي وأبي وإخوتي‏,‏ انقطعت عنهم ياسيدي‏,‏ أصبحت لا أزورهم إلا نادرا‏,‏ مكتفيا بالمكالمات التليفونية والتي أخذت هي الأخري في التضاؤل‏.‏ كانت تذبحني كلمات أمي الباكية وهي ترجوني أن أذهب إليها لتراني وحفيديا‏,‏ فكنت أعدها بذلك‏,‏ ثم تصدمني نظرات زوجتي فأتراجع حتي المرات القليلة التي كان يزورني فيها أبي وأمي أو اشقائي وزوجاتهم تعاملهم زوجتي بجفاء شديد حتي يفكروا ألف مرة قبل تكرار الزيارة‏.‏

وعندما كنت أعاتبها‏,‏ تقول لي‏:‏ داري علي شمعتك‏,‏ أنت الآن في وضع أفضل من إخوتك‏,‏ سيغارون منك ويطمعون فيك‏.‏ لا تسلني كيف كنت أقبل هذا الرأي‏,‏ قبلته وعملت به حتي إنقطعت صلة الجميع بي‏.‏

أنجبت زوجتي مرتين‏,‏ ولم أعد أري إلا أسرتي الصغيرة‏,‏ هي كل شيء في حياتي‏,‏ وحتي أكون دقيقا في اللفظ‏,‏ لم أعد أري أسرتي‏,‏ فأنا أعمل‏,15‏ ساعة يوميا‏.‏ نعم جمعت أموالا كثيرة‏,‏ كانت زوجتي تشتري بها أرضا وعقارات باسمها‏,‏ وتقول لي إنها ستديرها لي لأني مشغول أغلب الوقت وكله لمين يعني ماهو لأولادنا‏.‏

مرت سنوات طويلة لم يتغير شيء‏,‏ سوي رحيل والدتي بعد مرض قصير‏,‏ ولم أكن بجوارها قبل وفاتها‏,‏ وقال لي أشقائي إنها كانت تتمتم باسمي قبل رحيلها‏,‏ بينما قاطعني والدي وقال إنه غاضب علي إلي يوم الدين‏,‏ حاولت قدر استطاعتي استرضاءه دون جدوي‏,‏ والحقيقة أني لم أبذل جهدا كافيا لإرضائه بسبب عملي المتواصل‏,‏ وانشغالي بزوجتي وأبنائي‏.‏

سيدي‏..‏ لن أصف لك مدي كراهيتي لنفسي وأنا أتذكر كل هذا الآن‏,‏ من أين أتيت بكل هذا الجفاء‏,‏ وكل هذه القسوة؟

سامحني يا أبي‏,‏ سامحيني يا أمي‏,‏ قد ألقاكما قريبا‏..‏ ليتكما كنتما أحياء لأقبل قدميكما‏,‏ أقبل التراب الذي تسيران عليه‏..‏ ولكن لم يعد يجدي ذلك الآن؟ لقد انتقم لكما الله مني وبنفس السلاح الذي أدميتكما به‏!‏

ظللت مثل الثور في الساقية معصوب العينين‏,‏ تقذفني الحياة يمنة ويسرة‏,‏ لا أعرف معني للسعادة‏,‏ أولادي يتفوقون في دراستهم‏,‏ يعيشون حياتهم الخاصة‏,‏ لا أراهم إلا نادرا‏.‏ أما زوجتي فقد ظلت مشغولة بهم وبالثروة التي تتزايد إلي أن جاء هذا اليوم العصيب الذي سقطت فيه في العمل‏.‏

نقلني زملائي إلي المستشفي‏.‏ لم يكن هناك سبب ظاهر لإغمائي‏.‏ فطلب الطبيب عمل بعض الأشعات والتحاليل‏,‏ وكانت المفاجأة‏,‏ إصابتي بورم خبيث في صدري‏.‏ لا أعتقد أني في حاجة إلي ذكر التفاصيل‏.‏

دوامة من التشخيصات‏,‏ ثم لا مفر‏,‏ لابد من جراحة‏,‏ والجراحة محفوفة بالمخاطر‏,‏ لذلك نصحني بعض الأطباء بالسفر إلي فرنسا لإجرائها هناك‏,‏ خاصة أن الورم في بدايته‏.‏

طرحت الأمر علي زوجتي‏,‏ ففوجئت بها تسألني‏:‏ من أين تكاليف العملية؟ عملي سيتكفل بجزء من التكاليف‏,‏ ويمكن الحصول علي مبلغ من وزارة الصحة‏,‏ والباقي من ممتلكاتنا‏,‏ من ثروتنا التي أفنيت عمري في جمعها؟
تعتقد ماذا كان ردها؟‏..‏ ممتلكاتنا‏,‏ ثروتنا‏,‏ لا‏,‏ انس‏,‏ هذه أموال للأولاد مستقبلهم‏,‏ احتمالات نجاح العملية محدودة‏,‏ فهل نغامر ونضحي بمستقبل أولادك من أجل إحتمال‏..‏ رب هنا رب هناك‏..‏ لم أصدق أذني وأنا أسمع تلك الكلمات‏..‏ انهمرت الدموع من عيني‏,‏ وبكيت كما لم أبك من قبل‏,‏ فاستدارت وتركتني غارقا في ألمي‏.‏

الكارثة الأكبر‏,‏ أن أبنائي‏,‏ الذين أفنيت عمري من أجلهم‏,‏ لم يفكر أحدهم في إثنائها عن تفكيرها‏,‏ لم يحاول أن يواسيني أو يكشف لي عن غضبه أو رفضه لمنطقها‏.‏

سيدي‏..‏ أجلس الآن في مستشفي خاص‏,‏ بعد أن ساءت حالتي‏,‏ أتلقي علاجا كيماويا منتظما‏..‏ أعود إلي بيتي أياما قليلة‏,‏ ثم تنتكس صحتي فأعود مرة أخري‏,‏ هربا من الجفاء الذي أعانيه مع أسرتي‏.‏

تزورني زوجتي مرة في الأسبوع ـ تأدية واجب ـ ويتردد علي الأولاد كلما سمحت لهم الظروف‏.‏ ظروف العمل والأصدقاء ومواعيد السينما‏,‏ يجلسون معي لحظات‏,‏ ثم يعتذرون لارتباطهم بمواعيد مهمة‏.‏

أستعيد صوت أمي وهي تبكي في التليفون‏,‏ صوت أبي وهو يعلن غضبه علي‏,‏ لا أجد إلا أشقائي حولي وفي عيونهم نظرات عتاب وعطف‏.‏

لا أعرف ماذا أفعل كي أستريح قبل الرحيل‏..‏ الندم يقتلني كل لحظة‏,‏ والغضب والرغبة في الإنتقام يعجز جسدي النحيل عن تحملهما‏,‏ فأسأل الله أن يريحني من هذا العذاب‏..‏ وأسألك أنت وقرائك أن تدعوا لي بالرحمة والمغفرة‏.‏

*‏ سيدي‏..‏ قبل حديثي إليك أدعو الله الرحمن الرحيم‏,‏ القادر الكريم أن يعفو عنك ويشفيك ويرينا معجزته فيك‏,‏ وأدعو كل الأصدقاء أن يدعوا لك في كل صلاة‏.‏ كما أرجو ألا تفهم أن عنوان قصتك خاص بك‏,‏ بل هو معني حاصرني‏,‏ لأن كثيرا منا تشغله الحياة ببهارجها‏,‏ غافلا أنها رحلة بين بابين متواجهين أحدهما للدخول والآخر للخروج‏.‏

دعني ـ عزيزي ـ أعترف لك بأني لأول مرة أشعر بالعجز عن مواجهة صاحب رسالة بأخطائه أو لومه علي ما ارتكب من آثام وخطايا‏,‏ خاصة إذا كانت بالوالدين‏,‏ ولكن ضعفي وعجزي أمام كلماتك سببهما إحساس بمقدار ألمك ووحدتك وصدمتك فيمن ضحيت بعمرك وبأهلك من أجلهم‏.‏ وكذلك ندمك علي جفائك وتقصيرك تجاه والديك‏.‏ فلست في حاجة مني إلي كشف أخطائك‏,‏ فسطور خطابك تعري كل شيء وتعلمنا الكثير‏.‏

أنت يا سيدي الآن في مواجهة مع نفسك‏,‏ هذه المواجهة تستدعي منك أولا أن تتخلص من رغبتك في الانتقام‏,‏ فالدم لا يغسل بالدم ولكن بالماء‏,‏ وعليك أن تغفر أولا لأولادك لأنهم ضحايا لك ولأمهم‏,‏ وكما قال الشاعر الفيلسوف المؤمل الكوفي‏:‏

ينشأ الصغير علي ما كان والده
إن العروق عليها ينبت الشجر
ظلمت نفسك‏,‏ بعقوقك لوالديك‏,‏ فعاقك أبناؤك‏:‏ وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين صدق الله العظيم‏,‏ عليك التسليم بذلك حتي تستريح‏,‏ وتستعيد الرغبة في الحياة‏,‏ فأحاسيسك التي تحاصرك كل لحظة تنهك جهاز مناعتك وتعين المرض عليك‏,‏ بينما إرادة الشفاء نصف الشفاء‏,‏ عليك أن تثق في رحمة الله‏:‏ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما‏,‏ وتثق أيضا بأن الوالدين مهما غضبا لا يخرجان الأبناء من دائرة عطفهما وحبهما‏,‏ حتي لو جاهرا بغير ذلك‏.‏ وعليك أن تري في مرضك رحمة من الله سبحانه وتعالي‏,‏ وتأمل معي قول رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم‏:‏ ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذي ولا غم‏,‏ حتي الشوكة يشاكها‏,‏ إلا كفر الله بها من خطاياه‏.‏

كما أريد أن أطمئنك بوجود أساتذة عظام في مجال علاج السرطان في مصر‏,‏ وأرجو أن تتصل بي أو تحدد لي المستشفي الذي تعالج به‏,‏ فإذا قرر الأطباء إجراء الجراحة لك‏,‏ فأقدم ولا تخف‏,‏ فلكل أجل كتاب‏.‏

أما أبناؤك فإني أدعوهم إلي تأمل ما حدث معك‏,‏ يتدبرونه‏,‏ ويفهمون أنهم سيشربون من الكأس نفسها‏,‏ فمن أكرم والديه سر بأولاده‏,‏ وليتهم يعرفون أن أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين‏,‏ فيفرون إليك يقبلون قدميك ويطلبون رضاءك قبل فوات الأوان‏.‏ نعم لقد أخطأ والداكم في تربيتكم‏,‏ وغرسوا فيكم الجفاء وحب الذات‏,‏ ولكن العاقل من يعتبر بغيره‏.‏

وتبقي الزوجة‏,‏ وبعض الزوجات داء بعضهن دواء‏,‏ وزوجتك من النوع الأول‏,‏ باعدت بينك وبين أسرتك‏,‏ وملأت قلبك بالقسوة تجاه والديك‏,‏ وأدخلت في روعك أن المال يغنيك عمن تحبهم ويحبونك‏,‏ متناسية أو جاهلة أن المال خادم جيد ولكنه سيد فاسد‏,‏ وأنه كالسماد لايفيد إذا لم ينثر‏.‏

لذلك أدعوها إلي تأمل قول الله سبحانه وتعالي‏:‏ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن وأسألها هل كنت لباسا لزوجك؟ هل تعرفين أن الملائكة تلعنك إذا بات زوجك غاضبا عليك عن حق؟‏..‏ هل تفهمين أنك ستحصدين المر من ثمار كراهيتك وأنانيتك وطمعك؟

سيدتي‏..‏ غرتك الدنيا‏,‏ فلا تغتري بكذبها‏,‏ وانزعي من صدر أبنائك تلك الكراهية والأنانية لأنك أقرب من سيحصد ثمارها‏,‏ واطلبي الصفح من زوجك‏,‏ وأعيدي إليه ما جمعه من عرقه وسهره ودفع ثمنه غاليا‏,‏ فما ستفقدينه لن تعوضك عنه أموال الدنيا‏.‏ وإلي لقاء بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق