الأربعاء، ١ أغسطس ٢٠١٢

الطرف الثالث

02-03-2007
{‏ أنا فتاة جامعية عمري‏19‏ عاما‏..‏ أعيش في وضع مادي جيد‏,‏ لدي أبوان رائعان‏,‏ وشقيقة أصغر مني بخمس سنوات‏,‏ ولاينقصني أي شيء إلا الشعور بمعني الأسرة‏.‏
قرأت ياسيدي كل مانشر عن الغربة وسفر الآباء للخارج‏,‏ لم يفزعني ما ألم بالشاب صاحب قصة قصور وقبور‏.‏ وتفهمت جيدا آلام صاحب رسالة طريق الغربة‏.‏ أعرف جيدا معاناة الزوجة عندما يغيب عنها زوجها‏,‏ وتصبح وحيدة في تفاصيل الحياة‏,‏ بارد ليلها وهي وحيدة في الفراش‏,‏ مضطرب صباحها وهي تقوم بكل الأدوار‏,‏ تواجه تعنت ورغبات الآخرين‏.‏

{‏ أنا فتاة جامعية عمري‏19‏ عاما‏..‏ أعيش في وضع مادي جيد‏,‏ لدي أبوان رائعان‏,‏ وشقيقة أصغر مني بخمس سنوات‏,‏ ولاينقصني أي شيء إلا الشعور بمعني الأسرة‏.‏
قرأت ياسيدي كل مانشر عن الغربة وسفر الآباء للخارج‏,‏ لم يفزعني ما ألم بالشاب صاحب قصة قصور وقبور‏.‏ وتفهمت جيدا آلام صاحب رسالة طريق الغربة‏.‏ أعرف جيدا معاناة الزوجة عندما يغيب عنها زوجها‏,‏ وتصبح وحيدة في تفاصيل الحياة‏,‏ بارد ليلها وهي وحيدة في الفراش‏,‏ مضطرب صباحها وهي تقوم بكل الأدوار‏,‏ تواجه تعنت ورغبات الآخرين‏.‏

لكن ما لم أجده فيما نشرته من رسائل‏,‏ هوما اسميته أنت الطرف الثالث‏,‏ والذي غالبا مايكون سبب الأزمة‏,‏ من بدايتها إلي نهايتها‏.‏

أقصد الأبناء‏,‏ فالآباء يفكرون في السفر من أجلنا‏,‏ يضحون بسعادتهم وباستقرارهم وبمستقبلهم من أجل توفير حياة أفضل‏,‏ وتأمين مستقبلنا بشقة أو سيارة أو رصيد في البنك‏,‏ قليل منهم ينجح في ذلك‏,‏ وكثير منهم لايوفر إلا ما يكفي حياة أسرته‏.‏

نحن الطرف الثالث ــ ياسيدي ــ الجاني والمجني عليه‏,‏ أتذكر جيدا حوارا دار بين أبي وأمي منذ عشر سنوات‏,‏ عندما أتاه عرض مغري للسفر إلي إحدي دول الخليج‏,‏ وقالت له أمي وقتها‏:‏ أنت مهندس ناجح ومستقبلك في مصر‏,‏ ومستوانا جيد‏..‏ ليه السفر والبهدلة‏.‏

لا أنسي صوته وهو ينظر إلي ويقول لها‏:‏ يا أم البنات‏,‏ بناتك هتكبر‏,‏ عاوزين نعلمهن كويس ونجهزهن‏,‏ وجايز واحدة منهن تحب ولدا فقيرا‏,‏ علي الأقل نوفر لهن الشقة‏.‏

حوار لم أستوعبه وقتها‏,‏ ولكن الآن أجد أن تفكيرهما كان محصورا في النواحي المادية‏,‏ واكتشفت بعد ذلك اني فقدت أشياء كثيرة أهم من السيارة التي اشتراها لي أبي‏,‏ أو الأموال التي أودعها لي في البنك‏.‏

سافر أبي‏,‏ وكنت أراه في العام مرة أو مرتين‏,‏ مشاعري تجاهه دائما قلقة ومسافرة‏,‏ فهو إما أن يأتي أسابيع‏,‏ ويكون خلالها مشغولا‏,‏ بانهاء متعلقاته‏,‏ أو البحث عن شراء أراض أو بيعها‏.‏ ضيوف وأقارب قادمون مرة للترحيب بمجيئه وأخري لتوديعه قبل سفره‏.‏

لم أهنأ أبدا بالنوم في حضنه‏,‏ أو اللعب معه‏.‏ نعم كنا نخرج سويا‏,‏ يصطحبنا في مطاعم فاخرة‏,‏ نذهب للسينما‏,‏ لكني لم أر تلك الأشياء‏,‏ حياة طبيعية‏,‏ كنت أراها تمثيلا‏,‏ أو بمعني آخر محاولة مصطنعة لإسعادنا‏,‏ ولم أرها أبدا حياة لعائلة تقليدية‏.‏

كنت أنام قلقة‏,‏ أخشي أن أصحو في الصباح فلا أجد أبي‏.‏ حتي عندما كنا نسافر إليه‏,‏ لم أكن أشعر بأي سعادة‏,‏ أفرح قليلا بالمشتريات الكثيرة‏,‏ ولكني لم أجد أبي أبدا‏.‏

أعترف لك بأني كنت أخجل من والدي في إجازاته‏,‏ لا أستطيع أن أرتدي ملابسي الطبيعية في البيت‏,‏ أشعر أني اثنتين‏,‏ واحدة متحفظة وقورة في وجوده‏,‏ والثانية مرحة منطلقة في غيابه‏.‏

لاتتوقع مني أن أخبرك بأني فشلت في دراستي أو انحرفت أو تعرفت علي أصدقاء سوء‏,‏ فهذا وجه واحد لغياب الأب‏,‏ ولكني والحمد لله‏,‏ وبفضل أمي‏,‏ متفوقة دراسيا وملتزمة أخلاقيا أنا وشقيقتي‏.‏ وإن كنت أفتقد الأب‏,‏ أحسد البنات وهن يسرن متعلقات بأيدي أبائهن‏,‏ أحلم بأن نجتمع أمام التليفزيون أو خلفه‏,‏ المهم أن نجتمع‏.‏

نعم أبي معنا دائما‏,‏ عبر الهاتف‏,‏ عبر النت‏,‏ وإن كانت صورته تأتينا كما هو في حياتنا ــ مهتزة ــ غيرواضحة الملامح‏.‏

صورة تقول إنه في حياتنا‏,‏ موجود بشكل ما‏,‏ ولكنه غير متكامل‏.‏ أتعاطف مع أمي وهي تصرخ فينا‏,‏ تحاصرنا وتخشي علينا من كل شئ‏,‏ أضبطها تبكي وحيدة‏,‏ احتضنها وأبكي دون حوار‏.‏

سيدي‏..‏ ألتمس العذر لأبي ألف مرة‏,‏ وأقدر تضحيته من أجل سعادتنا‏,‏ ولكن هل نحن سعداء؟‏..‏ في وقت يجب أن أحلم بالحبيب‏,‏ أحلم بالأب‏,‏ كل أحلامي الآن رجل كبير السن يحتويني ويهتم بي‏.‏

لا تشغلني كثيرا فكرة الزواج‏,‏ فلم أر صورة لهذه العلاقة‏,‏ غير تلك الصورة الكاذبة التي تقدمها السينما‏,‏ ولم أعد ألح كثيرا علي أبي ليعود‏,‏ فقد زادت مشاجراته مع أمي في كل إجازة‏,‏ لايعجبه كثيرا من قراراتها‏,‏ ونحن اعتدنا غيابه ونظمنا حياتنا بدونه‏.‏

لا أسألك رأيا‏,‏ فأنا أعرف أين الأزمة‏,‏ ولكني فقط أردت أن أتحدث‏,‏ أن أعرض صوتا لطرف دائما غائب‏,‏ ودائما يدعي الآباء أنهم يفعلون كل شئ من أجله؟

{‏ عزيزتي‏..‏ نعم أنت لست في حاجة إلي رأي‏..‏ فقد أنضجتك الغربة‏..‏ فهي ليست فقط للذين يركبون الطائرات ويرحلون‏,‏ ولكنها أيضا في الفقد والاحتياج‏.‏ أنت في حاجة إلي أب‏,‏ إلي ذلك الهارب بحثا عن سراب‏,‏ عن سعاة كانت بين أصابعه وفي قلبه فاستبدلها بالدولارات‏.‏ وحتي لا يسئ أحد فهمي‏,‏ نعم قد تضطرنا الظروف للسفر بحثا عن رزق أو عن حياة أفضل‏,‏ ولكن هذا السفر يجب ألا يطول‏,‏ وإن طال فعلينا أن نصطحب أبناءنا معنا‏.‏ وإلا ما معني غياب هذا الأب‏,‏ بعد أن اشتري سيارة لابنته ووضع لها أموالا في البنك‏,‏ بينما هي تشعر بالوحدة وتحلم بصورة الأب‏.‏

إنها الوحدة التي ألفها وألفتها زوجته وأولاده‏,‏ ولن يقضي عليها البعد أو الأموال‏.‏ إن الأبوة والمسئولية تقتضيان من كل من يشابه هذا الأب أن يحزم حقائبه ومشاعره ويعود فورا‏,‏ ليحتوي أبناءه‏,‏ يحتضنهم‏,‏ يذيب الثلج المتراكم علي أرواحهم‏,‏ فالحياة تعاش مرة واحدة‏,‏ واستثمار الحب في نفوس الأبناء أجدي من الاستثمار بالمال‏.‏ الحياة الانسانية لاتستقيم عبر الهاتف والنت‏,‏ إنها وجود حقيقي‏,‏ نفس ورائحة عرق وحضن دافئ ملموس‏,‏ لا كلمات ووعود وهدايا‏,‏ وإلي لقاء بإذن الله‏.‏

baridelgomaa@ahram.org.eg

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق