الثلاثاء، ٣١ يوليو ٢٠١٢

لحظة خاصة جدا

08-02-2008
أكتب إليك الآن‏,‏ علي الرغم من أني اتخذت قراري فيما أعانيه‏,‏ لكن شيئا ما يعوقني عن التنفيذ‏,‏ ربما صورة أخي التي لا تفارقني‏,‏ وطفليه البريئين‏,‏ وربما يكون ترددي سببه أمي التي لا أريد إغضابها في هذا العمر‏,‏ خاصة أني لا أجرؤ علي مصارحتها بأسباب هذا القرار‏.‏

سيدي‏...‏ دعني أبدأ منذ البداية‏,‏ منذ طفولتي‏,‏ عندما أصبحت الطفل الثالث لأسرة عريقة في صعيد مصر‏..‏ سبقتني شقيقتي بثلاث سنوات‏,‏ وشقيقي الأكبر بسبع سنوات‏.‏

والدي كان من كبار التجار‏,‏ سمعته طيبة‏,‏ محبوب من الجميع‏..‏ كان حنونا‏,‏ مثقفا ومتحضرا‏.‏ وكانت تجمعه بوالدتي علاقة مثالية‏,‏ أستدعيها دائما كلما قرأت المشكلات الزوجية في بريدك‏,‏ وأحمد الله علي أني كنت ابنا لمثل هذين الأبوين‏.‏

كانت لوالدي هيبة تدفعنا لاحترامه قبل الخوف منه‏,‏ لم يدعنا نفرض سيطرتنا علي شقيقتي أو نعاملها علي أنها أقل من الولد‏.‏ كما علمني كيف احترم شقيقي الأكبر‏,‏ فلا يعلو صوتي عليه‏,‏ ولا أرد له أمرا حتي لو لم يعجبني ما يطلبه مني‏.‏

وبدوره لم يستغل أخي سلطاته الممنوحة له‏,‏ فكان صديقا أكثر منه أخا أكبر‏.‏

مرت السنوات‏,‏ ونحن نحسد أنفسنا علي السعادة التي نعيش فيها‏,‏ حتي تخرج شقيقي في كلية محترمة‏,‏ ورفض أن يلتحق بوظيفة‏,‏ ليعين أبي في إدارة أعماله‏,‏ فيما كانت أختي تدرس بالجامعة‏,‏ وكنت أنا طالبا بالمرحلة الثانوية‏.‏ في تلك الفترة‏,‏ لم يكن هناك ما يعكر صفو حياتنا‏,‏ أو ينذر بأن العواصف تتأهب لتهز أركان هذا البيت الهادئ‏.‏

ذات مساء عاد أبي منهكا‏,‏ مصفر الوجه‏,‏ أصابنا جميعا بالفزع عليه وقال لنا إنه يشتكي من آلام في صدره‏,‏ وطلب منا أن نطمئن عليه‏,‏ واصطحب أمي إلي حجرة النوم‏,‏ ونحن ننتظر بالخارج‏.‏ دقائق وخرجت أمي فزعة وأمرتنا بأن نستدعي الطبيب بسرعة‏,‏ لكن إرادة الله كانت أسبق من وصول الطبيب‏,‏ رحل والدي بأزمة قلبية مفاجئة‏,‏ وتركنا في حزن ووحدة كبيرين‏.‏ فقدنا الأمان والحنان مع رحيله‏..‏

كنت صغيرا لا أعي أشياء كثيرة حولي‏,‏ لكني لاحظت أن شقيقي الأكبر رابط الجأش‏,‏ احتضنني مع شقيقتي وأمي‏,‏ وكأنه يقول لنا‏:‏ اطمئنوا لن يتغير شيء‏.‏

الحقيقة أن أخي كان صادقا فيما وعدنا به‏.‏ نعم افتقدنا الوالد‏,‏ لكن شقيقي تحول إلي دور الأب بث في روح المسئولية‏,‏ وأصر علي أن أشاركه ـ علي الرغم من صغر سني ـ في إدارة ممتلكاتنا من دون أن يؤثر ذلك علي دراستي‏,‏ باختصار جعلني رجلا أتحمل المسئولية في سني مراهقتي الأولي‏.‏

لا أعتقد أني في حاجة إلي سرد أسلوب أخي مع أمي وشقيقتي‏,‏ فقد كان رائعا‏,‏ مجسدا لفطنة أبي وذكائه في تربيته وتحميله المسئولية مبكرا‏,‏ وكأنه كان يشعر بما سيتحمله بعد رحيله‏.‏

سيدي‏..‏ أعتذر عن تلك المقدمة الطويلة‏,‏ لكنها كانت ضرورية لأن المشكلة التي أعرضها عليك متصلة اتصالا وثيقا واساسيا بأخي الراحل‏.‏

واصلت رحلة تعليمي ومسئولياتي في العمل بنجاح حتي تخرجت في الجامعة‏,‏ قبلها بقليل‏,‏ تزوجت شقيقتي من إنسان فاضل‏,‏ غادرتنا‏,‏ ولم تتركنا أبدا‏.‏ وقبلها ايضا ـ أي قبل تخرجي ـ تزوج شقيقي من فتاة جميلة من عائلة عريقة في مدينتنا‏,‏ وانتقل للعيش معنا في نفس البيت‏,‏ فقد كنا نقطن في بيت كبير‏,‏ أنا وأمي في دور كامل‏,‏ وشقيقي مع زوجته في دور منفصل‏.‏ ومما زاد حياتنا بهجة وسعادة‏,‏ مجئ أول مولود لأخي‏,‏ أعقبه بعد عامين بمولود آخر‏.‏

كل شيء يسير في حياتنا طبيعي‏,‏ السعادة تحيط بنا من كل اتجاه‏,‏ مشروعاتنا تكبر‏,‏ وأنا ارتبط بفتاة من المدينة وحددنا موعدا قريبا للزواج‏..‏ لكن‏!‏

هذه الـ لكن اللعينة هي مفتاح كل احزاننا‏,‏ فقد صحونا ذات صباح علي صوت أخي الذي يئن ألما‏,‏ أسرعنا به إلي المستشفي وهو لا يقدر علي الوقوف‏,‏ لنكتشف كارثة‏,‏ أخي‏,‏ وأبي وصديقي‏,‏ أصيب بورم خبيث علي الكبد المتليف منذ زمن‏,‏ وهو ونحن لا ندري‏.‏ كان منشغلا بنا وبارضائنا عن نفسه‏,‏ لم يلتفت إلي شحوب وجهه أو زيارات الالم المتقطعة‏.‏ لم يمض وقت طويل حتي سكن الحزن بيتنا‏,‏ انكسرت روح أمي‏,‏ وشحبت أرملة أخي‏,‏ وانطفأ بريق عيون الولدين‏,‏ فوجدت صورة أخي امامي‏

تذكرني بما حدث يوم موت أبي‏,‏ فسارعت باحتضانهم‏,‏ محاولا طمأنتهم علي المستقبل‏,‏ مرددا‏:‏ أخي موجود لم يمت‏,‏ وأولاده سيكملون معي المسيرة‏..‏كنت حريصا علي إعادة البهجة إلي البيت مرة أخري‏..‏ تقربت من أرملة شقيقي‏,‏ وزاد اهتمامي بطفليها‏,‏ حتي فوجئت ذات يوم‏,‏ انفردت بي أمي وقالت لي إنها تريد أن تطلب مني شيئا وتدعو الله ألا أخيب ظنها‏,‏ ارتبت فيما يدور برأسها وكأني فهمت ما تنوي قوله‏.‏ أرملة أخيك مازالت صغيرة‏

ولن نقبل أن يدخل عليها رجل آخر‏,‏ يربي أولاد شقيقك‏,‏ نحن أولي بلحمنا‏..‏ رجاء وكأنه أمر‏,‏ وأمر لا يمكن مناقشته أو رفضه‏,‏ انها تحدثني عن لحم حبيبي وشقيقي‏,‏ عن أطفاله‏,‏ اطفالي‏..‏ لم أفكر وقتها في خطيبتي‏,‏ فقد رأيت ما قالته منطقيا وطبيعيا‏,‏ ويحدث كثيرا في بلادنا‏..‏ نعم لا أتصور رجلا آخر ينام بجوار أرملة شقيقي أو يربي طفليه‏,‏ يهملهما أو يهينهما‏.‏

من غير دخول في التفاصيل‏,‏ حدث ما رأته أمي‏,‏ تزوجت أرملة شقيقي بعد عام من وفاته‏.‏

كان الأمر صعبا في بدايته‏,‏ ولم تطاوعني نفسي لعدة أشهر علي الاقتراب منها‏,‏ علي الرغم من اهتمامها بي‏,‏ وحرصها علي ألا تجرح مشاعري‏,‏ حتي استطعت تجاوز هذه المحنة القاسية‏,‏ وبدأنا نمارس حياتنا بشكل طبيعي‏,‏ عدا لحظات‏,‏ يحاصرني فيها وجه شقيقي أوتفاصيله‏,‏ فأود أن أسألها ماذا كان يفعل في مثل هذه اللحظات‏,‏ ولكني أصمت وأهرب من الحجرة‏.‏

إلي أن جاءت تلك الليلة‏,‏ وفي لحظة خاصة جدا‏,‏ سمعت زوجتي تهمس لي أنها كانت معجبة بي منذ سنوات‏,‏ أي في أثناء حياتها مع شقيقي وأن شيئا مابداخلها كان يخبرها بأني سأكون زوجها‏.‏

انتفضت وصرخت في وجهها‏:‏ كنت تفكرين في وأنت متزوجة من شقيقي‏,‏ بكت‏,‏ وكأنها اندهشت من رد فعلي‏,‏ قالت جملا لم أفهم منها‏,‏ إلا أنها كانت تندهش من هذا الإحساس الغريب وتطرده من تفكيرها‏,‏ ولكنه كان يراودها من وقت لآخر‏.‏

كانت تلك الليلة الأخيرة بيننا‏,‏ لم أستطع أن أقربها بعد ذلك‏,‏ إحساس بالخيانة يتسلل إلي كلما فكرت فيه‏,‏ وإدانة لها بداخلي علي ماقالته لي‏.‏

حاولت أن تستعيدني بكل الوسائل والمبررات‏,‏ ولكن انكسر بداخلي شيء وعزمت داخل نفسي علي تطليقها‏.‏ ولكن لا أعرف ماذا سأقول لأمي‏,‏ ولإبني شقيقي اللذين يتعاملان معي علي أني والدهما‏.‏

إني في حيرة وعذاب‏.‏ لا أستطيع أن أعيش معها بعد ما عرفته‏,‏ وليس من السهل تنفيذ قراري‏,‏ ولا أعرف طريقا للخروج من هذا المأزق‏,‏ ربما تراها أزمة خاصة‏,‏ لاتعني الكثيرين ولكنها أزمة تهدد حياة أسرة كاملة ومستقبل أطفال ليس لهم ذنب في كل هذا‏,‏ فما الذي يمكن أن تنصحني به‏.‏

**‏ سيدي‏..‏ نعم هي مشكلة خاصة ولكنها متكررة بأوجه مختلفة في مجتمعاتنا‏.‏ الشقيق عليه أن يتزوج من أرملة شقيقه حماية للأبناء‏,‏ حتي لو لم يكن يرغبها أويري نفسه في تلك العلاقة أو مع تلك المرأة‏.‏ والغريب أن هذا يحدث معك وقد رباك والدك علي التحضر‏.‏ وما أقوله ليس القصد منه إدانتك‏,‏ فقد تصرفت بنبل وشهامة لايمكن أن ألومك عليهما‏,‏ ولكني أرصد الفكرة نفسها‏,‏ ولا أرحب بها في حالات كثيرة‏.‏

أما وأنك‏,‏ قد ضحيت بخطيبتك وتزوجتها بكامل وعيك واختيارك‏,‏ كنت أنتظر أن أسمع منك عن علاقتك الخاصة بها‏,‏ عن مشاعرك تجاهها‏,‏ هل تؤدي كل شيء بشكل وظيفي‏,‏ هل تتعامل معها علي أنها أرملة شقيقك‏,‏ أم أن هناك أشياء تجمع بينكما‏,‏ وتري فيها ماتحب أن تراه في زوجتك؟

لو لم يوجد لديك أي شيء من هذا‏,‏ ولاتشعر تجاهها بمشاعر الزوج لزوجته‏,‏ فهذا يعني أنك كنت تبحث عن مخرج لهذه العلاقة فتصيدت ما رأيته كارثة‏,‏ وخيانة لتحل نفسك مما ألزمتها به‏.‏ فإذا أقررت بذلك‏,‏ فسأقترح عليك ألا تطلقها وتبقي عليها مع حفظ كل حقوقها الشرعية والمادية‏,‏ وتختار من تريدها أن تشارككما الحياة‏,‏ بشرط موافقة زوجتك علي ذلك‏,‏ فلها حق قبول هذا الوضع بعد ان تشرح لها مايدور في نفسك دون ادعاءات‏,‏ أو رفضه كاملا‏.‏

أما اذا كنت صادقا فيما عرضته‏,‏ وأن الأزمة الوحيدة التي هددت سعادة الأسرة واستقرارها‏.‏ هي ماقالته لك‏,‏ فدعني اختلف معك‏,‏ لأني أراك قاسيا‏,‏ حساسا تجاه شقيقك الراحل‏.‏ قالت لك ياسيدي تلك الكلمات في لحظة خاصة جدا‏,‏ وتلك اللحظات تولد كلمات جميلة ومشاعر صادقة‏,‏ ربما أرادت منها التأكيد لك علي أنها اصبحت لك وحدك لايشاركك فيها شقيقك‏.‏

هل تحاسبها علي إحساس غامض كان يزورها أحيانا‏,‏ ألاتراها شفافية‏..‏ حاسة خاصة‏,‏ وقد صدقت‏.‏ لا ياعزيزي‏,‏ لاتهدم البيت لسبب واه‏,‏ لاتشتت أطفالكما‏,‏ وثق بأن مولودا جديدا سيقرب بينكما كثيرا وسيفرح شقيقك وهو بين يدي الرحمن‏,‏ فلا تعذب نفسك بما لايستحق العذاب‏.‏ واعترف امام نفسك بأن شقيقك مات وأصبح في عالم آخر‏,‏ فلا تأتي به إلي عالمنا‏,‏ واستمتع مع زوجتك التي تحبك‏,‏ فهي في حاجة إليك كما أطفالها‏,‏ ولاتعيد الحزن إلي قلب أمك من جديد‏..‏ وإلي لقاء بإذن الله‏.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق