الأربعاء، ١ مارس ٢٠٠٠

الأحلام الموءودة

03-01-2003
دفعتني للكتابة إليك رسالة يوم الخلاص التي يشكو فيها صاحبها من زوجته الجافة التي لم يشعر معها بالسعادة يوما ولا يربطه بها إلا حبه لأطفاله وخوفه من بعض الشيكات التي تحملها ضده‏,‏ وعزمه علي الزواج من أخري ذات يوم يسميه بيوم الخلاص‏,‏ وأنا طبيب في الأربعينات من العمر وقد أعطاني الله من فضله سماحة في الخلق ولينا في الطبع وفتح لي أبواب رزقه وحب الناس والحمد لله‏,‏ وقد نشأت في أسرة متدينة فقيرة تفتح أبوابها لكل من تعرفه بالرغم من فقرها الشديد‏,‏ حيث كان منزلنا يمتلئ دائما بالضيوف الذين يستعذبون الجلوس مع أبي‏,‏ وكنت ابنا مطيعا متفوقا ودائما من الأوائل ومحل افتخار أبي أمام اصدقائه‏,‏ وكانت مشكلتي الأساسية في هذا الوقت هي عدم قدرة أبي علي توفير نفقات الحياة الأساسية لنا ومنها نفقات دراستي بالثانوي والجامعة‏,‏ فعملت خلال دراستي لأوفر مصاريف الكتب واشتري ملابس لائقة اذهب بها إلي الجامعة‏,‏ وفي خضم هذا الكفاح كانت لي أوقاتي القصيرة التي أحلم فيها بأن تنجلي هذه الظروف ذات يوم وتنتهي المعاناة مع انتهاء دراستي وعملي كطبيب‏,‏ وكان هذا الأمل هو ما يعينني علي أن أتحمل هذه الظروف القاسية التي لم يكن لي يد فيها‏,‏ لكنه كثيرا ماك
ان ينتابني الإحساس بأنني مقهور بين ساعات عمل طويلة وساعات مذاكرة طويلة‏,‏ وفي هذه الأثناء تعرفت علي زميلة لي‏,‏ ظروفها مقاربة من ظروفي ووجد كل منا في الآخر ملاذا له أو ربما بصيص أمل وسط هذه الحياة المظلمة‏,‏ وكانت علاقتنا علاقة محترمة فتعاهدنا علي الزواج بعد التخرج وعلي أن نعمل ونغير ظروفنا إلي الأفضل بإذن الله لكننا بعد أن تخرجنا اكتشفنا أن احلامنا مستحيلة التحقيق لأننا لانملك شيئا سوي المرتب‏,‏ ووراء كل منا أسرة هو الأمل الوحيد لها‏,‏ وهكذا دفنت أملي لتحقيق أمل أسرتي وكذلك فعلت زميلتي واتفقنا علي أن نظل أصدقاء‏,‏ وتزوجت هي من أول شخص مناسب وباركت زواجها‏,‏ وبداخلي بركان لا يقدر علي الانفجار‏,‏ ولازمني إحساس القهر مرة ثانية ودفنت أحزاني بداخلي وانغمست في عملي‏,‏ وتحسنت احوالي المالية بعض الشيء فاقترحت علي أمي الزواج واختار لي أهلي فتاة من أسرة طيبة حاصلة علي شهادة متوسطة ووافقت علي اختيار أسرتي‏,‏ حيث لم يكن هناك سبب للرفض‏,‏ وتمت خطبتي لهذه الفتاة ورأيتها خلال الخطبة مرات قليلة وكانت لاتتحدث كثيرا‏,‏ وكنت أحيانا استعيد صورة فتاتي الجميلة التي تجيد الكلام فأتذكر أنها قد أصبحت زوجة وأما‏,‏ ولا يجوز لي أن أفكر
فيها‏.‏ وتزوجت من اختارها لي أهلي وبداخلي نفس الإحساس بالقهر من أنني لم أختر شريكة حياتي بنفسي‏,‏ وأقبلت علي الحياة مع زوجتي لكن كان هناك شئ بيننا دائما‏,‏ فهي تذكرني علي الدوام بأنها ابنة عائلة كبيرة‏,‏ وحتي دون أن تذكرني بذلك كنت اشعر بأنها تتميز علي بهذه الميزة التي لا يد لي فيها‏,‏ وبالرغم من أنها كانت أقل في الجمال والثقافة واللباقة وكل شئ من فتاتي السابقة الفقيرة‏,‏ ومضت الأيام والسنون انقطع خلالها أهلي عن زيارتي لأنها تتعالي عليهم‏,‏ ولا ترحب بوجودهم ولم أفكر في الانفصال عنها لأني كنت قد رزقت بأطفال ولم يكن أمامي إلا الصبر علي هذا البلاء‏,‏ واستبدلت بحب فتاتي الأولي حب ابنائي وصاروا كل شئ في حياتي‏,‏ وتوالت الأيام وازدادت الهوة بيني وبين زوجتي فحياتها محدودة بتحضير الطعام وأعمال المنزل ولا تعرف عن الزواج وعن حق الزوج أكثر من ذلك‏,‏ وزاد داخلي الاحساس بالقهر وعدم الرغبة في الحياة معها فأصبحت اقضي معظم وقتي في عملي وأنتهز الفرص لكي أزور أهلي وأصل رحمهم‏.‏

وفي ذروة هذا القهر شاءت الأقدار أن التقي بطبيبة صغيرة مطلقة‏,‏ شعرت بارتياح تجاهها خاصةوأن لها نفس شخصية زميلتي القديمة وانني قد وجدت فيها كل ما تفتقر إليه زوجتي من حب الناس والألفة بهم والصدق في القول والرقة في الطبع‏,‏ ووجدتني انجذب إليها واشتعل في داخلي أمل كذلك الذي كنت أشعر به خلال دراستي بالجامعة وبالرغم من ذلك فلقد كتمت مشاعري لفترة طويلة حتي صارت هذه الزميلة محور حياتي وبصيص الأمل فيها‏,‏ وبغير أن اجرؤ حتي علي أن اعترف لنفسي بأني أحبها حبا شديدا وعلي ثقة من مشاعرها تجاهي‏,‏ بالرغم من أنها لم تنطق بها ابدا‏,‏ لكنني لم أستطع أن أواجه المجتمع برغبتي في الزواج منها أو برغبتي وحقي في الحياة‏,‏ ولم استطع أن أواجه ابنائي الذين قد أعطيتهم كل حياتي‏,‏ مع أن لي الحق في الحياة أنا أيضا‏.‏

واني أكتب إليك الآن بعد أن اتخذت قراري من شهور بأن أعيش لابنائي‏,‏ وأن أنسي أمر هذه السيدة‏,‏ لكني احترق في داخلي يا سيدي وقد فقدت الرغبة في الحياة وصرت أتمني الموت‏,‏ وأريدك أن تقول لي ما يعينني علي ما اتخذته من قرار وأن تخبرني هل يجب أن يموت الآباء من أجل ابنائهم‏,‏ وهل يجب أن أضحي دائما من أجل سعادة الآخرين‏,‏ إنني انظر الي حالي وقد اجتمعت لي أسباب السعادة من مركز مرموق ومال وسمعة طيبة وأبناء متفوقين‏,‏ وأري أنني قد ابتليت في شريكة عمري‏.‏ واتساءل هل سيأتي اليوم الذي سيفارقني هذا الإحساس بالقهر؟ وهل يمكن ان تعود لي رغبتي في الحياة ومتي‏..‏ إنني أريد أن تقويني كلماتك فماذا تقول لي؟‏.‏

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
لو تأملت قصتك مع الحياة بعين محايدة‏..‏ وبعيدا عن ميل الانسان الغريزي للرثاء لنفسه ولوم الظروف المحيطة به واتهامها بحرمانه من السعادة المرجوة‏,‏ لعرفت أنك قد أضعت الحب الحقيقي من بين يديك بعد التخرج والعمل لسبب أساسي هو أنك قد سارعت بالاستسلام لظروفك الاجتماعية والعائلية‏.‏ بلا مقاومة‏,‏ وكذلك فعلت زميلتك‏,‏ مما يعني أن مشكلتكما الحقيقية لم تكن في ظروفكما الاجتماعية غير المواتية‏..‏ وإنما كانت اساسا في الانهزامية وخور الإرادة وضعف الهمة عن الكفاح والدفاع عن الحب والاستمساك به والصبر علي الظروف إلي أن تتغير للأفضل‏..‏ والحب الحقيقي أثمن من أن يضحي به طرفاه أو يتنازلا عنه بمثل هذه السهولة‏..‏ كما أن ظروف كل منكما لم تكن مستعصية علي الكفاح لتغييرها إلي الأفضل بشئ من الصبر ومغالبة الأوضاع‏,‏ بدليل أنك قد أصبحت خلال بضع سنوات أخري قادرا علي الزواج دون أن تتقاعس عن اداء واجبك الانساني تجاه اسرتك‏,‏ ولأنك تعرف ذلك في أعماقك وتشعر بلوم النفس علي التفريط في الحب وعدم الكفاح للحفاظ عليه‏,‏ فإنك تعاني الإحساس بالقهر ليس لأنك لم تختر زوجتك‏,‏ وإنما اختارتها لك اسرتك‏,‏ إذ ما كان اسهل عليك من أن تعترض علي الاختيار أو ترفضه أو تستبدله بغيره‏,‏ وإنما لأنك قد أدركت أنه كان في مقدورك لو كنت قد تحليت بالصبر وقوة الإرادة وعزيمة الكفاح أن تفوز بالحب والسعادة وألا تنهزم سريعا أمام الظروف غير المواتية‏..‏

هذا هو المبرر الحقيقي لما تشعر به من قهر داخلي وليس أي شئ آخر‏,‏ ولأنك كنت تنطوي علي هذه المشاعر المتضاربة‏,‏ فإنك قد بدأت حياتك الزوجية ومرآتك الداخلية مشوشة بلوم النفس علي التفريط في الحب وبالتشكك في قدرة الزوجة التي سمحت بها الظروف العائلية اخيرا علي تعويض ضياع الحب‏..‏ وأدي تفاعل كل تلك المشاعر إلي المسارعة بإعفاء النفس من المسئولية عن عدم التجاوب مع الزوجة‏,‏ بنسبة اللوم اليها وتحميلها المسئولية لأنها تختلف عن شخصية فتاة القلب السابقة‏,‏ ولأنها تكرس نفسها لابنائها وبيتها ولا تعرف من الزواج سوي ذلك‏..‏ أو لأنها تعتز بأوضاعها العائلية التي تفضل أوضاعك الأسرية‏.‏
والمؤكد أنك قد ظلمت نفسك وظلمت زوجتك بارتباطك بها وأنت غير مهيأ لاعتبارها من البداية شخصية مختلفة عن فتاتك السابقة ولها وسائلها المختلفة للتعبير عن المشاعر تجاه شريك الحياة‏..‏ وغير مسئولة كذلك عن الظروف التي دفعتك للتضحية بالحب‏.‏

فإذا كنت تسألني عن رأيي فيما اتخذته من قرار بمغالبة ضعفك العاطفي الطارئ تجاه زميلتك المطلقة‏..‏ وعجزك عن مواجهة تبعات اختيارك العاطفي لها‏,‏ وتراجعك عنه تكريسا لحياتك لأسرتك وابنائك‏,‏ فاني أقول لك إنه ليس من العدل أن يدفع غيرنا فواتير عجزنا السابق عن مغالبة ظروفنا‏.‏
ولاشك في أن محاولتك للتعويض العاطفي المتأخر كانت ستترتب عليها تبعات جسام يتأذي بها من لا ذنب لهم في استسلامك السريع بعد التخرج لظروفك‏..‏ وأولهم زوجتك التي لم يجبرك أحد علي الارتباط بها‏..‏ ولا تجد ما تأخذه عليها سوي في انكفائها علي بيتها وابنائها‏,‏ حتي ولو لم تحسن التعبير العاطفي عن الحب‏,‏ وابناؤك الذين لا ذنب لهم ولا جريرة فيما قضت به المقادير‏..‏

فلا تخجل من قرار شجاع رأيت معه أن تتحمل وحدك تبعات التفريط في الحب في البداية وعدم التواصل العاطفي بينك وبين من تزوجتها بإرادتك في النهاية‏..‏
فهكذا يفعل الفضلاء الذين يأبون إلا أن يتحملوا وحدهم تبعات اختياراتهم‏..‏ ولا يكلفون غيرهم من أمرهم رهقا بأية دعاوي أو مبررات‏,‏ ولو انصفت لحاولت إقناع نفسك بفتح صفحة جديدة مع زوجتك وأم ابنائك‏,‏ لا تنظر إليها فيها كرمز للهمة الخائرة والحب الذي تخلي عنه طرفاه‏..‏ وإنما كأنسانة وأم وزوجة جمع الله بينك وبينها ودامت عشرتكما بلا مشكلات حقيقية حتي أثمرت ثمارها الطيبة من الابناء‏..‏ ومن المؤكد أنك سوف تستشعر تجاهها احاسيس جديدة تقضي علي احاسيسك السابقة بالقهر والتعاسة‏.‏
المزيد ....

شـــواء الحـــب‏!‏

10-01-2003
أرجو أن تسمح لي بأن أعرض عليك مشكلتي التي لا أحسب أن أحدا غيري قد واجهها من قبل‏,‏ فأنا سيدة أبلغ من العمر‏42‏ عاما‏..‏ تزوجت ابن عمي وأنا طفلة في الثانية عشرة من عمري‏,‏ ولأننا من عائلة صعيدية كبري‏,‏ فلم يتوقف أحد أمام صغر سني‏,‏ ورأي الجميع ان حبي لابن عمي وحبه لي سوف يعدنا بحياة سعيدة‏,‏ وهكذا تزوجنا منذ ثلاثين عاما‏,‏ وأنجبنا خمسة أبناء بلغ أكثرهم الآن سن الشباب وعملوا‏,‏ وكان زوجي خلال رحلتنا معا شديد العصبية وصعب المراس ومتقلب المزاج وكثير الخطأ وقليل الاعتذار‏,‏ ولا شيء يرضيه‏,‏ لكني كنت اتغاضي دائما وأتسامح حفاظا عليه وعلي بيتي وأبنائي‏,‏ وخلال رحلة السنين توسع زوجي في تجارته وتحسن مركزه المالي كثيرا‏,‏ وكبر الأبناء وجنينا أولي ثمار الفرحة بزواج أكبرهم‏..‏ وبينما أنا في غمرة الفرحة بأول حفيدة لي منذ‏6‏ سنوات إذا بخبر عجيب ينزلني من سماء السعادة إلي الهاوية السحيقة‏..‏ فلقد تزوج زوجي من فتاة عمرها‏18‏ عاما وأنا في قمة أنوثتي وعطائي لزوجي وأبنائي‏,‏ وبعد‏24‏ عاما من الزواج‏,‏ وواجهت زوجي بما عرفت فأقر بخطئه وندم عليه ندما شديدا‏,‏ وقال لي إنه لا يعرف كيف فعل ذلك‏,‏ وأكد لي إنه ليست هناك في الوجود كله امرأة مثلي ولسوف يطلق الأخري علي الفور‏..‏ ونفذ ذلك بعد فترة قصيرة من الزواج‏.‏

وتنفست أنا الصعداء‏..‏ وسامحت زوجي وأقبلت عليه أكثر وأكثر لأملأ حياته بي‏,‏ فلم تمض سوي ثلاثة أشهر فقط إلا وسمعت أنه قد تزوج فتاة أخري في الثامنة عشرة كذلك‏..‏ وتكررت المواجهة بيني وبينه وثرت عليه فقابل ثورتي بالندم الشديد مرة أخري‏,‏ وقال لي إنه سيطلقها ولن يعود لمثل ذلك أبدا وطلقها بالفعل‏,‏ وتحاملت علي نفسي هذه المرة لكي أصفح عنه‏..‏ واحتويه وأواصل عطائي له‏..‏ فإذا به بعد فترة وجيزة أخري يتزوج بثالثة طلقها بعد أسبوع واحد من الزواج‏,‏ وقبل ان أعرف بنبأ زواجه‏,‏ ثم برابعة مطلقة ولها ولد‏..‏ فلم أطق صبرا هذه المرة وثرت أنا وأهلي جميعا عليه بعد أن بدا صبرنا عليه ينفد وبعد تعلله لنا في كل مرة بأنها ستكون الأخيرة ولن تتكرر من جديد‏..‏ وأنه سيعرف لي قدري ويكف عما يفعل خاصة أنه لايفعله بدافع الشهوة وإنما بدافع حب المغامرات‏!‏
ومرض زوجي في تلك الفترة بالقلب ودخل العناية المركزة أربع مرات خلال عام واحد‏..‏ ودعوت الله كثيرا أن يتم شفاؤه وأن يستوعب الدرس ويفهم مغزي ماحدث‏,‏ وهو أنه إنذار أو رسالة من السماء إليه لكي يستقر في بيته‏,‏ وبين زوجته وأبنائه وأحفاده ويعيد الهدوء لحياة الأسرة‏,‏ وقمت بتمريضه والسهر علي رعايته وراحته خلال مرضه علي أكمل وجه‏,‏ وغادر زوجي المستشفي بعد إجراء جراحة له في القلب ونصحه الأطباء بان يغير أسلوب حياته ويهتم بصحته لأن أي إهمال من جانبه سيودي بحياته‏,‏ ولمس زوجي منا جميعا الرعاية المخلصة له حتي قال لنا إنه لم يكن يعرف مقدار حبنا له إلا عندما رأي منا كل هذا العطف وهذا الاهتمام‏,‏ وطلق الزوجة الرابعة‏..‏ ورجع الهدوء إلي حياتنا وحمدت الله كثيرا وأدركت أن ملف مغامراته قد أغلق للأبد‏.‏

فإذا بي أصعق بعد أشهر قليلة بانه تزوج للمرة الخامسة ومن فتاة عمرها‏16‏ عاما تلميذة في الصف الثاني الثانوي ومن أسرة متواضعة للغاية وبيئة رديئة حقا‏..‏ ولست أقول ذلك لكي اسيء إليها وإنما لتعرف فقط بأي ثمن رخيص باع زوجي الزوجة الوفية والأبناء الخمسة والأحفاد الستة والاستقرار العائلي بزيجة أو مغامرة مع فتاة أصغر من أبنائه‏.‏
إنني الآن في قمة الثورة عليه ومصممة علي الطلاق‏,‏ لأنني قد ضقت به ولم أعد أحتمل حماقاته ونفد صبري ولم يبق منه ما يسمح لي بأن أغفر له أية أخطاء أخري‏..‏ وهو لا يريد أن يطلقني‏..‏ وأنا الآن أستعد لرفع دعوي طلاق ضده مع الحفاظ علي حقوقي لأنه لم يمر بعد عام علي زواجه الخامس‏,‏ لكني أخشي طريق النزاع حفاظا علي سمعة أبنائي الذين يشغلون مناصب مرموقة‏..‏ فبماذا تنصحني أن أفعل علما بأني أعيش الآن مع أصغر أبنائي وعمره‏8‏ سنوات وحولي أحفادي وأبنائي الآخرون لا يتركونني‏,‏ كما أريد نصيحتك لي كيف أشغل وقت فراغي حتي لا أفكر في هذا الرجل‏,‏ لأنني سأجن من التفكير وأتعجب كيف تهون العشرة بهذه السهولة؟ وكيف يهرب رجل من الاستقرار العائلي والبيت الهاديء والأبناء والأحفاد بحثا عن حياة جديدة وبعد أن اعطاه الله كل شيء؟‏!‏
وكيف لا يخشي رجل في الخمسين من عمره ـ الآن ـ كزوجي علي صورته أمام الناس وأمام أبنائه ومازال يبحث عن شيء لا تفهمه؟ إنني محبطة للغاية وأريد مشورتك وعلي استعداد للحضور إليك إذا أردت مناقشتي في بعض التفاصيل‏.‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏
استوقفتني في قصتك العجيبة هذه عبارة تأملتها طويلا وتعجبت لها كثيرا هي قولك أنه بعد زواجه الرابع بدأ صبركم ينفد عليه فأي صبر هذا ياسيدتي الذي يتسع لأربع زيجات متتاليات من فتيات صغيرات‏,‏ وبغير مبرر سوي الرغبة في المتعة ومعايشة إحساس المغامرة‏,‏ ودون أي مبرر مشروع أو نقص حسي أو عاطفي يشكو منه زوجك معك‏.‏
إننا ندعو دائما للتسامح بين الزوجين وبين البشر بصفة عامة‏,‏ لكن التسامح شيء والتفريط شيء آخر‏,‏ فالتسامح يعين المخطيء إذا ندم ندما صادقا علي خطئه علي نفسه ويساعده علي الرجوع عن غيه والالتزام بالطريق القويم بعد أن خبر الخطأ وعرف عاقبته‏.‏

أما التفريط فإنه فيشجع المخطيء علي الاستمرار في غيه واستمرار الخطأ مادام قد أمن العقاب عليه‏..‏ وعرف جيدا أنه سيجد لدي من يعنيهم أمره قلبا غفورا مهما فعل‏..‏
وجوهر فلسفة العقاب في كل الشرائع هو أن يحقق فضلا عن القصاص العادل هدف الردع لمرتكب الخطا لكيلا يقترف المزيد من الأخطاء في قادم الأيام‏,‏ وهدف الإنذار لمن يحومون حول البئر ألا يقتربوا منها لكيلا ينالهم مانال من وردها من قبل‏.‏
وتسامح الزوجة مع أخطاء من هذا النوع من جانب زوجها لا يكون أكثر من مرة أو مرتين علي أقصي تقدير خلال رحلة الزواج حفاظا علي الأسرة والأبناء ورعاية لحقهم عليها‏..‏ أما التسامح اللانهائي مع نفس الخطأ فإنه لا يحقق أبدا هدف الاصلاح الذي تنشده الزوجة‏..‏ ولا هدف العدل وتحمل كل إنسان لتبعات أفعاله وتكبد عواقبها راضيا أو ساخطا‏..‏ وهكذا استمرأ زوجك تكرار المغامرة وبنفس خطواتها واحدة بعد أخري حتي بلغت خمسا خلال ستة أعوام‏,‏ ولو كان قد شعر بتهديد جدي لاستقراره وأمانه ووضعه العائلي المحترم بعد الخطأ الثاني مثلا لما أدمن الخطأ واستسهله‏!‏ خاصة انه يبدي الندم الشديد عقب كل مغامرة ويقر لك بأنك أفضل زوجة في الوجود‏,‏ وأنه قد عرف خطأه واستنكره فلا تمضي شهور إلا ويكرره بنفس التفاصيل فأي ندم شديد هذا‏..‏ الذي لا يلبث أن يتبخر خلال بضعة أسابيع؟ لقد ذكرني ذلك بما جاء في رواية الثلاثية لأديبنا العظيم نجيب محفوظ عن شخصية إنسان مستهتر كثير العثرات وينتقل من خطأ بشع إلي خطأ أبشع‏,‏ وكلما أفتضح أمره طأمن رأسه مستخزيا وآسفا واعتذر لذويه بأن الشيطان قد أغواه فارتكبه رغما عنه‏,‏ حتي ضاقت به شقيقته ذات مرة فسألته ساخطة‏:‏ أليس للشيطان لعبة
أخري سواك ؟
وهي عبارة تنطبق إلي حد كبير علي زوجك العزيز‏!‏
ولقد فهمت من رسالتك أنه قد بدأ هذا العبث فجأة منذ ست سنوات فقط‏,‏ أي وهو في الرابعة والأربعين من عمره وبعد‏24‏ عاما من الزواج وإنجاب خمسة أبناء وأول حفيد‏..‏ ومعني ذلك أنه لم يحسن التعامل مع أزمة منتصف العمر التي تواجه بعض الرجال في هذه المرحلة‏..‏ فيشعرون خلالها بأن الشباب قد ولي‏,‏ وان مابقي من العمر أقل مما مضي منه‏,‏ ويهتزون نفسيا لرحيل بعض الأقران عن الحياة‏,‏ فيرغبون في إقناع أنفسهم قبل غيرهم أنهم مازالوا في عنفوان الشباب وقادرون علي الحب والمغامرة والفوز بإعجاب الفتيات‏..‏ ويزداد إحساسهم بالجدارة الموهومة كلما كان الطرف الآخر في المغامرة من جنس الفتيات الصغيرات‏!‏ ولأنهم يتورطون في هذا العبث عادة وهم في منتصف العمر وبعد ان عملوا ربع قرن تقريبا وبنوا حياتهم فإنهم يجدون غالبا في أيديهم من الإمكانات المادية ماييسر لهم هذا العبث ويعينهم عليه وعلي تحمل تكاليفه‏.‏
ويغيب عنهم وهم يعتزون بنجاحهم الخادع مع الفتيات الصغيرات‏..‏ ان عامل الإغراء المادي الذي يتوافر لديهم هو أحد أهم أسباب قبول بعض الفتيات لهم‏,‏ كما هو الحال غالبا في معظم زيجات زوجك الخمس ان لم تكن كلها‏!‏

ولقد قرأت أخيرا في رواية آلموت للروائي اليوجسلافي فلاديمير برتول عبارة فريدة تفسر لنا تفسيرا ساخرا سر اهتمام بعض الرجال وهم في منتصف العمر أو أكثر قليلا بالفتيات الصغيرات تقول‏:‏ إن شأن الحب كشأن الشواء كلما هرمت الأسنان تطلب الأمر أن يكون الحمل صغيرا‏!‏
ولقد يضاف إلي أزمة زوجك الذي يريد أن يقنع نفسه بأنه مازال الرجل الذي كان‏,‏ أن بعض من يتزوجون صغارا يتوهمون أنه قد فاتهم بالزواج المبكر والاستقامة الشخصية أن يعرفوا الكثير عن الجنس الآخر وأنهم لم يمارسوا تجارب العشق والحب والمغامرة في سن الشباب فيحاولون تعويض ذلك نفسيا بمثل هذا العبث المتأخر‏!‏
وأيا كانت دوافع زوجك النفسية أو غير النفسية لما فعل فإنها لا تبرر له أبدا أن يتزوج عليك خمس زيجات متتاليات أكثرهن من بنات أصغر من أبنائه‏..‏ ولا لوم عليك أبدا في نفاد صبرك الذي لم ينضب معينه إلا بعد الزيجة الخامسة من ابنة السادسة عشرة‏,‏ وبعد أربع أزمات قلبية وجراحة في القلب والتفافكم حوله خلال محنته المرضية‏..,‏ فمرحبا بنفاد الصبر مع مثل هذا الزوج الذي لا يتعلم أبدا من أخطائه ولا يصمد ندمه علي الخطأ لأكثر من أسابيع‏,‏ واستمسكي ياسيدتي بموقفك منه وبطلب الانفصال عنه واستعيني عليه بأبنائك الراشدين والعقلاء من أهلك‏,‏ عسي أن يوفر عليك طريق النزاع ويؤدي إليك حقوقك كاملة بغير مماطلة‏,‏ أو يكون ذلك دافعا أخيرا له للإقلاع النهائي عن هذا العبث الطائش بعد كل ماكان من أمره‏!‏
المزيد ....

علامــات الطريــق

17-01-2003
أكتب لك هذه الرسالة ردا علي رسالة حب الأهل للشاب الذي فقد أبويه الواحد بعد الآخر‏,‏ ويعيش وحيدا في مسكن الأسرة ويشكو وحدته وأفتقاده حب الأهل بعد خلو الدنيا عليه ويطلب منك أن تجمع بينه وبين أسرة لم يرزقها الله بأبناء لكي يتبادل معها الزيارات ويستشعر دفء الأهل الذي حرم منه في علاقته بهم‏,‏ خاصة أنه لا يشكو أية مشكلة مادية ولديه ما يكفيه من الدخل‏,‏ لكنه يحتاج إلي ما هو أهم من ذلك وهو الأهل‏,‏ واسمح لي قبل أن أعرض مساهمتي البسيطة في خدمة هذا الشاب أن أقدم إليك نفسي‏,‏ فأنا رجل نشأت في أسرة مفككة لانفصال الأبوين غير الرسمي‏,‏ ثم سرعان ما فقدت حنان الأم التي كنت أعيش في كنفها بعيدا عن الأب ولقيت أمي ربها بعد عناء طويل من المرض الذي أصابها بسبب جحود أبي لنا وتقتيره علينا علي عكس حياته المترفة مع زوجته الثانية وابنه المدلل منها‏,‏ وهكذا وجدت نفسي وأنا في سن صغيرة جدا بلا عائل ولا راع ولا سند‏..‏ ولم يكن أمامي إلا البحث عن أبي واستعطافه لكي يضمني إلي بيته وأسرته وأعيش مع زوجته وأبنائه‏..‏ وضمني أبي بالفعل إلي أسرته كارها أو راضيا‏,‏ ووجدتني أعيش في بيت أبي مواطنا من الدرجة العاشرة‏..‏ بل إني لا أخجل من أن أقول لك إنني وجدتني في منزلة أقل من منزلة الخادم‏..‏ وشعرت بالقهر والهوان‏..‏ وعشت في عزلة تامة وسط من يفترض أنهم أهلي‏..‏ وتحملت أقداري راضيا بقضاء الله وقدره لكي أستطيع مواصلة تعليمي ـ ثم سألت نفسي ذات يوم هل كنت أتوقع من زوجة الأب أن تكون أما حقيقية لي أو أن تكون لي منزلة الابن المدلل لديها؟ إذن فلأرض بأقداري التي فرضت علي ولأحاول أن أصنع لي عالما خاصا بي يهون علي مرارة حياتي‏..‏ وهكذا تحملت ظروفي وتعايشت مع هؤلاء الغرباء مقابل لقمة العيش‏,‏ واتخذت لي أصدقاء من أبناء الجيران وزملاء المدرسة‏..‏ ووضعت همي في دراستي فتحايلت علي الظروف لإيجاد الوقت الكافي لمذاكرة دروسي وأداء واجبات الخادم المنزلية دون تقصير‏,‏ وتحاشيت بقدر الإمكان أن أعطي زوجة أبي أي سبب للشكوي مني‏,‏ أو الزعم بأنني لا أقوم بما هو مطلوب مني من أعمال الخدمة‏..‏ ووفقني الله إلي النجاح في الدراسة بلا عثرات ولا دروس خصوصية‏,‏ ومن اجازة صيف السنة الأولي الاعدادية بدأت أعمل في الإجازة الصيفية وأدخر ما أتقاضاه من أجر أو بقشيش لأنفق منه علي دراستي أو علي مصروفي الشخصي في العام الدراسي التالي‏,‏ وكلما نجحت في امتحان آخر السنة‏..‏ شعرت إنني أقتربت خطوة من الخلاص‏,
‏ وكلما تفوقت في الدراسة أو علي الأقل واصلت التقدم فيها بلا مشاكل‏..‏ ازداد سوء معاملة زوجة أبي لي وحقدها علي خاصة كلما رسب أحد أبنائها أو تعثر‏,‏ إلي أن فقدت السيطرة علي نفسها ذات مرة قبيل امتحان الاعدادية وثارت ثورة هائلة علي ومزقت كل كتبي المدرسية وألقت بقصاصاتها في المجاري بدعوي تقصيري في واجباتي كخادم للأسرة‏!‏ وتحملت ذلك أيضا واستعرت كتب زملائي بالمدرسة واحدا بعد الآخر لكي أستعد لدخول الامتحان ونجحت والتحقت بالمدرسة الثانوية‏,‏ وواصلت الكفاح والتحمل حتي بلغت الثانوية العامة وبدأت امتحانها فلم تحتمل زوجة أبي أكثر من ذلك وتصيدت لي أي خطأ عابر وأصرت علي طردي من البيت لكي أعجز عن مواصلة الامتحان والنجاح‏,‏ وبكيت بالدموع الغزيرة لأبي ولها لكي ترحمني وتتركني أؤدي بقية الامتحان‏,‏ وطلب مني أبي أن أسترضيها وأن أقبل قدمها فلم أتردد في الانحناء علي الأرض وتقبيل قدمها حتي رضيت في النهاية وتركتني‏..‏ وجاءت نتيجة الامتحان ونجحت وحاربت للالتحاق بالجامعة ولم يستطع أبي الوقوف في طريقي‏..‏ خاصة أنني أعمل كل صيف ولا أكلفه إلا النذر اليسير‏,‏ والتحقت بإحدي الكليات وواصلت العمل والدراسة حتي تخرجت في الكلية‏..‏ وساعدني بعض الأشخاص الطيبين من عالمي الخاص علي العمل فعملت وبذلت كل طاقتي وجهدي واخلاصي في العمل وأنا أشعر بأنني قد تحررت أخيرا من ذل العبودية والخدمة في بيت أبي‏.‏ ومضت الأيام بخيرها وشرها‏..‏ وتقدمت في عملي حتي حققت فيه ما لم أكن أطمح إليه ذات يوم‏,‏ ولم أقطع صلتي بأسرة أبي ولا بأخوتي منه وإن كنت قد تعجبت كثيرا لفشلهم جميعا في استكمال دراستهم العالية رغم كل ما توافر لهم من رعاية وتدليل‏,‏ ورحلت زوجة أبي عن الحياة‏,‏ وأبتعد أبي عن أبنائه منها وشغل بدنياه الخاصة‏..‏ وتفرقوا هم في البلاد يسعون وراء الرزق في مدن بعيدة‏..‏ ولم أشعر تجاه أحدهم بالشماتة أو بالحقد لأني رأيت أنهم ضحايا مثلي مع اختلاف الأسباب‏,‏ فقد كانوا هم ضحايا تدليل الأبوين وجهلهما وبعدهما عن روح الدين وكنت أنا ضحية القسوة وعدم العدل معي‏..‏ لهذا لم أقطع رحمي بأحد منهم‏,‏ ولم أتردد في مساعدة من يحتاج للمساعدة منهم وها قد دارت عجلة الأيام وشغلوا جميعا بحياتهم في مدنهم البعيدة ووجدتني وحيدا من جديد اللهم إلا خلال الأيام القليلة التي يزورني فيها بعضهم‏..‏ وحين قرأت رسالة حب الأهل شعرت بأنني أريد أن أكون أخا أكبر لهذا الشاب الوحيد‏..‏ وأرجو أن تعينه مساهمتي البسيطة هذه في توفير الاستقرار النفسي والعائلي له‏..‏ كما أرجو أن أكون له نعم الأخ والمرشد والصديق بإذن الله‏.‏

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
أصدق يا سيدي أنك لا تنطوي لأخوتك غير الأشقاء علي الإحساس بالشماتة فيهم أو الحقد عليهم‏..‏ حتي ولو أستسلمت أحيانا لتأملات الإنسان الطبيعية في المقارنة بين نجاحك في الحياة وتعثرهم هم بالرغم مما حظوا به من تدليل وحياة ناعمة في رعاية أبويهم‏..‏ إذ يبدو أنك قد اعتدت التفكير العقلاني منذ الصغر‏,‏ أي منذ راغمت نفسك علي قبول واقعك المؤلم في بيت أبيك والرضا به وعزوته إلي أنه من غير المنتظر أن تكون زوجة أبيك أما حقيقية لك وأن تحظي لديها أنت بمنزلة الابن المعزز المكرم‏..‏ ومع أن هناك من زوجات الآباء من يرعين حدود ربهن في معاملة أبناء الزوج خاصة إذا كانوا يتامي ضعافا مثلك‏,‏ فلقد كان هذا التفكير العقلاني خير عون لك علي احتمال أوضاعك القاسية ومحاولة النجاة منها بالاجتهاد في الدراسة‏..‏ واتخاذ الأصدقاء المخلصين خارج دائرة الأهل‏.‏
واستهداء بهذا التفكير المنطقي فلقد حللت كذلك الموقف بعد أن اجتزت صعوبات حياتك ورأيت أن أخوتك غير الأشقاء حتي ولو لم يكونوا قد ترفقوا بك في صغرهم‏,‏ فما هم في النهاية إلا ضحايا لسوء رعاية الأبوين لهم‏..‏ ونتاج لغرسهما الذي أفتقد روح الدين والعدل والتربية السليمة‏..‏ وهكذا خلت نفسك من الموجدة عليهم‏..‏ لأن العادل من لا يحاكم النتائج عما جنته عليها الأسباب‏,‏ ولأنك أيضا قد تخطيت بصبرك وجلدك وكفاحك كل الصعوبات وحققت نجاحك في الحياة‏,‏ فعوضك النجاح عن اجترار الأحقاد واختزان المرارات‏.‏

والحق أنك قد طبقت بغير وعي منك وأنت حدث صغير أحدث ما ينصح به علماء النفس والتربية الآن من يواجهون ظروفا حياتية ظالمة تهدد بتعثرهم في الطريق وحرمانهم من فرصهم العادلة في الحياة الكريمة وهو الانتقام بالنجاح ممن أساءوا إليهم وليس بالحقد عليهم‏..‏ وإهدار الطاقة النفسية في محاربتهم أو محاولة الثأر منهم‏..‏ ويقولون إن خير وسيلة للانتقام ممن أساء إلينا هو أن نتحدي ظروفنا‏,‏ ونستمد من عنت الآخرين معنا قوة دافعة لتحقيق نجاحنا الشخصي في الحياة والتحرر من الواقع المؤلم الذي فرضوه علينا‏,‏ حتي ليجيء يوم يندم فيه من لم يترفقوا بنا في صغرنا علي أن أساءوا تقدير قدراتنا وملكاتنا وتمنوا لو كانوا قد أعانونا علي أمرنا في حينه لكي يحظوا بعرفاننا لهم بعد بلوغنا بر الأمان‏,‏ ويشاركونا بعض ثمار هذا النجاح إن لم يكن ماديا فعلي الأقل معنويا‏,‏ وذلك علي خلاف من يستسلم لظروفه‏..‏ ويكتفي بالرثاء لنفسه واستشعار ظلم الآخرين له‏..‏ فتتعثر خطواته ولا يصبح صالحا بعد ذلك إلا للحقد والفشل ومعايشة المشاعر السلبية الكريهة‏.‏
ومن عجب أن من ينتقمون لأنفسهم بالنجاح ممن حاولوا زرع الفشل في طريقهم يجدون أنفسهم غالبا بعد أن يصلوا إلي واحة الآمان‏..‏ أكثر استعدادا مما كانوا يظنون هم أنفسهم للتسامح مع الحياة بصفة عامة ومع من آذوهم وظلموهم وهم ضعفاء في حاجة إلي العون والمساعدة بصفة خاصة‏..‏ وتفسيري لذلك هو أنهم ربما يكونون قد اعتادوا خلال رحلة الكفاح ألا يتوقفوا أمام الصغائر‏..‏ وألا يستسلموا للمشاعر السلبية العاجزة‏..‏ ويفضلون استخدام طاقتهم النفسية فيما يحقق لهم الخير والسلام‏,‏ وليس في تبديدها في الأحقاد والمرارات والانحصار في الماضي‏,‏ كما قد يكون من أسباب ذلك أيضا أنهم ربما يشعرون في أعماقهم تجاه من ظلموهم وقسوا عليهم بالرثاء لهم والإشفاق عليهم من أنفسهم وليس بالحقد عليهم‏..‏ كما أنهم قد لا يشعرون بقيمة نجاحهم كاملة إلا في وجود هؤلاء الذين توقعوا لهم الفشل أو حاولوا زرع الألغام في طريقهم‏,‏ فكأنما يذكرونهم بعلامات الطريق الطويل الذي قطعوه في أصعب الظروف والإنجاز الكبير الذي حققوه فيرضون عن أنفسهم وكفاحهم‏..‏ ونجاحهم فهنيئا لك نفسك الراضية عن أقدارها في الحياة في ماضيها وحاضرها‏,‏ وشكرا لك علي رغبتك في الإسهام في حل مشكلة الشاب الوحيد كاتب رسالة حب الأهل‏..‏ وأرجو أن يتصل بك في أقرب فرصة‏!‏
المزيد ....

الإعصار المدمر

24-01-2003
أنا سيدة في الأربعينيات من العمر حين كنت أدرس في المرحلة الجامعية‏,‏ تعرفت علي شاب في السنة النهائية بالكلية وارتبطنا معا في قصة حب جميلة‏,‏ وبعد تخرجه تقدم إلي أبي طالبا يدي‏,‏ فرفضه علي الفور وقال لي إنه لا يرفضه لتواضع إمكاناته المادية وإنما لتواضع مستوي أسرته اجتماعيا بالقياس إلي أسرتي العريقة‏,‏ لكني صممت علي الارتباط بهذا الشاب وأعلنت مشاعري تجاهه‏..‏ فوافق أبي في النهاية علي خطبتي له‏,‏ لكنه قرر أن تكون مساعدته المادية لي في أضيق الحدود بسبب تمسكي بهذا الشاب الذي لا يراه مناسبا لي‏,‏ ولرفضي لشاب آخر من أسرة معروفة وملائم تماما لي‏..‏ وهكذا تمت الخطبة ثم القران‏..‏ وأقيم الزفاف في حفل صغير متواضع لا يتناسب أبدا مع المستوي العائلي لأهلي‏,‏ لكني لم آبه لذلك وكنت خلال الزفاف في شغل شاغل بعريسي عن المكان والزمان‏..‏ وبعد الزواج مباشرة حملت‏,‏ فانقطعت عن تدريب كنت أقوم به استعدادا لشغل وظيفة في احدي المؤسسات‏,‏ وبعد انجابي لطفلي طلب مني زوجي تأجيل العمل لفترة أخري لرعاية طفلي‏,‏ فاستجبت له بالرغم من اعتراض أبي وخوفه من ضياع فرصتي في العمل‏,‏ ورزقني الله بعد ذلك بطفلة ثم طفلين آخرين وشغلت بأبنائي وبيتي تماما ونسيت حلمي في العمل ومواصلة الدراسات العليا أو تناسيته‏,‏ ورحل أبي عن الحياة وورثت عنه قدرا معقولا من المال فأعطيته لزوجي علي الفور فاستعان به في فتح مكتب خاص له وانتقلنا إلي شقة جميلة واسعة في حي راق‏,‏ ومضت السنوات وكبر الأبناء وأصبح الابن الأكبر في أواخر المرحلة الجامعية والابنة التي تليه في بدايتها والابنة الأخري في المرحلة الثانوية والابن الأصغر في المدرسة الاعدادية‏..‏

وكانت لابنتي الطالبة الجامعية زميلة تقيم في العشوائيات وتأتي إليها لتذاكر معها فإذا تأخرت في العودة لمنزلها ليلا طلبت من ابني أن يقوم بتوصيلها إلي أقرب محطة مترو لكي ترجع إلي بيتها‏..‏ فيتبرم بذلك لأنه يعطله عن الاستذكار‏,‏ ثم تطوع زوجي لأن يقوم بهذه المهمة بدلا منه فأصبح يوصلها بسيارته إلي المترو إذا تأخرت لدينا في المساء‏,‏ ومضت الأيام هادئة وبهيجة إلي أن جاءت ابنتي ذات يوم وروت لي كلاما غريبا سمعته في كليتها وهو أن أباها علي علاقة بزميلتها هذه وأنه سوف يتزوجها‏!‏ ودهشت كثيرا لهذا الكلام الغريب‏.‏ وسخرت منه‏.‏ لأن زوجي في الخمسين ويكبر هذه الفتاة بأكثر من ضعف عمرها‏..‏ كما أنها لم تكن في نظري سوي طفلة كابنتي‏.‏ فانتظرت زوجي لأروي له هذه النكتة العجيبة ونضحك عليها معا ورويتها له ففوجئت به يسألني في برود‏:‏ ولم لا‏..‏ والشرع يسمح بذلك؟ وظننته في البداية يتعمد إغاظتي كنوع من المزاح الثقيل معي‏..‏ لكني وجدته جادا للأسف‏..‏ فانتابتني حالة هستيرية من الصراخ والعويل خيل إلي خلالها أنني أبكي عمري كله‏,‏ وتجمع الأبناء وكانت ليلة دامية‏..‏
وتطورت الأحداث بعد ذلك سريعا فأصبحت هذه الفتاة تطلب زوجي بكل جرأة في البيت فإذا رد عليها أحد الأبناء وضع السماعة في وجهها‏,‏ وفقد ابني ذات يوم أعصابه فتوجه إلي مسكن هذه الفتاة وسب أهلها متوعدا‏,‏ فلم يخرج إليه أحد منهم وتجمع حوله أهل الحارة وصرفوه بالحسني‏,‏ ورجع زوجي إلي البيت فإذا به ولأول مرة يضرب ابنه هذا‏,‏ ويتوعدنا جميعا ويقولها لي صراحة أنه يحبها وسوف يتزوجها‏..‏ وسوف يعيش معها في هذه الشقة نفسها‏,‏ لكن المشكلة هي أنها لا تريد لها ضرة ولهذا فهي تشترط عليه أن يطلقني أولا لكي تقبل بزواجه منها‏!‏ وبعد أهوال كثيرة انفطر قلبي خلالها من الحزن والألم أخبرت زوجي أنني موافقة علي زواجه منها وطلاقي لكني لن أتنازل عن أبنائي وهم حصاد عمري‏..‏ فليطلقني إذن إذا أراد وليدعني في مسكني كما أنا مع أبنائي وليذهب هو إليها لينهل من نبع العسل لديها كما يشاء ويرسل إلينا نفقات الأبناء كل شهر‏,‏ فلم يقبل بذلك‏,‏ وأكد لي أنه يريد الأبناء لأنه يحبهم ويريد الشقة لأنه اشتراها بماله‏,‏ ويريدني أن أتنازل له عنها وعن مؤخر الصداق البسيط وأخرج فقط من الشقة ومن حياته وهكذا يتحقق له ما يريد‏!‏

أنني أعجب يا سيدي لبعض الرجال لماذا يسعون إلي الزواج الثاني وهم لا ينقصهم شيء في زواجهم الأول‏..‏ ولا يشكون حرمانا عاطفيا ولا حسيا ولا يعانون سوء العشرة كما هو الحال مع زوجي‏,‏ وهل لمثل هذا الزواج من دافع إلا المتعة الحسية فقط‏..‏ وهل يتصورون أن الله سبحانه وتعالي قد أباح للرجل الزواج بأكثر من واحدة لكي يمتعه حسيا‏..‏ وليس لكي يكون ذلك رخصة له إذا كان محروما من الإنجاب من زوجته أو لديها ما يمنعها من إشباعه حسيا‏..‏ أو يشكو سوء عشرتها‏,‏ ولا يريد طلاقها حرصا علي الأبناء‏,‏ ثم كيف تبرر هذه الفتاة ومثيلاتها سطوها علي زوج سيدة أخري وأب لأبنائها؟ وماذا تقول له في تفسير ذلك‏..‏ هل تقول أنها تحب شبابه الذي لم يبق منه أثر؟ أم عينيه اللتين ذبلتا بفعل الزمن؟ أم قامته المنحنية خاصة إذا قيست بقامة ابنه التي تفوقها أم شعره الحرير الذي أصبح في خبر كان‏..‏ أم رجولته التي بلغت قمة المنحني وبدأت في الهبوط علي الناحية الأخري؟‏..‏ ولماذا لاتكون هذه الفتاة ومثيلاتها صريحة معه‏..‏ فتقول له بلا مواربة أحب شقتك التي لن أستطيع الحصول علي مثلها لو تزوجت شابا مثلي أو من وسطي‏..‏ وأحب سيارتك ودخلك الكبير الذي يوفر لي الحياة السهلة بلا كفاح ولا تعب؟‏..‏ انه يريدني أن أخرج من شقتي بحجة أنه قد دفع فيها ماله‏..‏ وقد يكون ما دفعه فيها من ماله فعلا لكنه مالي أنا أيضا ساهمت فيه خلال كفاح السنين بلقمتي التي حرمت نفسي منها وملابسي التي كانت تمضي السنوات دون أن أشتري الجديد منها وتنازلي عن تطلعاتي وأحلامي في العمل والدراسة‏,‏ وتفرغي لأسرته وبيته‏,‏ أنني أطالب بأن يكون الطلاق علي يد قاض يفصل بالعدل بين الشريكين وكذلك الزواج الثاني‏,‏ بحيث إذا قبلت به الزوجة الأولي كان ذلك شأنها وإذا رفضته حصلت علي حقوقها كاملة وفورا وبأسعار الزمن الحالي وليس بالقيمة المدونة في قسيمة الزواج قبل‏20‏ أو‏25‏ سنة‏,‏ لأن هذا هو العدل الذي يريده لنا الله‏..‏ وإلا فقل لي يا سيدي أين أذهب الآن بعد هذا العمر‏,‏ وقد مات الأب وهاجر الأخ وليس لي مال أتعيش منه أو وظيفة تؤمن حياتي‏..‏ ولم أسع إلي شيء من ذلك اعتمادا علي أن زوجي لن يغدر بي ذات يوم بعد ما كان من أمرنا معا‏,‏ إن صرختي هذه صرخة أم لا تستطيع أن تحيا بغير أبنائها ولا تستطيع أن تكون ضيفة شرف في حياتهم تراهم مرة كل شهر أو حتي كل أسبوع‏,‏ ثم تمضي في طريقها‏..‏ فكيف يريد هذا الزوج أن يحرمني منهم بحجة أنهم قد تجاوزوا سن حضانة الأم لهم؟‏..‏ وهل يستغني ابن عن أمه أو ابنة عن أمها؟‏!.‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏
يحق لك بالفعل أن تصرخي يا سيدتي وأن تضطربي أمام ما تواجهين من غدر الشريك بك وبقصة الحب التي جمعت بينكما‏,‏ في منتصف الطريق وقد كان الظن أن تكون الخاتمة سعيدة كما كانت البداية واعدة بالإخلاص والوفاء في الزمن الجميل فالشاعر العربي يقول‏:‏
حبل الفجيعة ملتف علي عنقي
من ذا يعاتب مشنوقا إذا اضطربا

وحبل الفجيعة في الحب والاخلاص والأمان‏..‏ يدفع بك بالفعل إلي هاوية الحيرة والاضطراب بعد أن ركل زوجك بقدميه كل شيء جمع بينكما في الحياة من أجل هذه الفتاة الصغيرة المغامرة‏!‏
لقد قلت الكثير من قبل عن أزمة منتصف العمر وتداعياتها ولن أكرره‏,‏ لكني سأقول فقط لزوجك أنه حتي في الخطأ هناك مراتب ودرجات‏,‏ ومنه الخطأ البسيط والجسيم والمضاعف والفادح‏,‏ ولاشك في أن ارتباطه بصديقة ابنته الطالبة بالسنة الأولي الجامعية‏..‏ والتي استقبلتها زوجته في بيتها كضيفة صغيرة تذاكر دروسها مع ابنتها‏..‏ هو خطأ فادح لأن اثاره السلبية لا تنعكس علي زوجته وحدها التي فجعت في وفائه لها وإنما تمتد بأعنف من ذلك إلي قيم أبنائه ومعنوياتهم ومثالياتهم‏..‏ وتهز صورته كأب بشدة في مخيلتهم وتشككهم في مفاهيم الحب والوفاء والاخلاص والاحترام والأبوة وترشحهم بقوة لاضطراب سفينتهم في الحياة‏.‏

ولن يجديه شيئا أن يتعلل بالحب أو بما أباحته الشريعة السمحاء من رخصة الزواج الثاني في رأب الصدع المعنوي الذي تعرض له الأبناء بهذه المغامرة المزلزلة بالفعل للقيم والمعاني الإنسانية‏.‏ فضلا عن أنه لم يتجمل في الخطأ‏..‏ ولم يحاول أن يحصر آثاره السلبية في أضيق الحدود‏,‏ ولم يتورع عن أن يعلن رغبته في أن يطلق زوجته وأم أبنائه الأربعة والتي حاربت أهلها لكي تتزوجه‏..‏ وأن يخرجها من بيتها لكي تحل محلها هذه الفتاة المغامرة‏..‏ ولا يشعر بأي غضاضة وهو يجاهر بأن طلاقه لزوجته واخراجها من بيتها هو شرط فتاته هذه لكي تقبل بالزواج منه‏!‏
ولو كان قد تخفي بابتلائه وقرر أن يتزوجها في مسكن آخر صغير مع الحفاظ علي زوجته وأسرته كما هي‏..‏ أو حتي مع طلاقه لزوجته إذا أرادت ذلك واستمرارها في بيتها وبين أبنائها وقيامه بحقها وحق أبنائه لربما خفف ذلك بعض الشيء من وقع جريمته في حق الوفاء لشريكة العمر‏..‏ أما أن يصر علي طلاق زوجته وطردها من سكنه إلي المجهول‏..‏ لكي يهنأ هو بحياته وشبابه مع صديقة ابنته السابقة فهو ليس من الترفق بشريكة العمر بعد رحلة السنين‏..‏ ولا هو من شيم أصحاب الفضل والمروءة حتي ولو تحولت مشاعرهم عن زوجاتهم‏,‏ إذ من يرضي بإخراج زوجة وأم لم تسيء إلي زوجها وأنجبت له‏4‏ أبناء وساهمت في ثروته بميراثها عن أبيها من مملكتها لكي تحتلها غازية جديدة في سن الشباب؟ وكيف يتصور أن تكون مشاعر ابنته الطالبة الجامعية تجاه صديقتها الغادرة التي دخلت بيتها وطعمت طعامها فنفست عليها حياتها وبيتها وأسرتها وأباها وقررت أن تستولي علي كل ذلك لنفسها توفيرا لكفاح السنين‏..‏ واستسهالا للصيد المتاح؟

وكيف يأمن هو لمن لم تر أي حرج في أن تسلب أم صديقتها زوجها وتخرجها من بيتها وتحرمها من الحياة وسط أبنائها دون أن يهتز طرفها؟ وبعض مثيلاتها ممن يقبلن بالزواج من زوج وأب يحاولن التخفف من إحساسهن بالذنب تجاه الزوجة الأولي والأبناء باشتراط ألا يطلق الزوج زوجته وألا يتأثر وضعها كزوجة وأم وشريكة حياة‏!‏
وألا يدفعه ذلك للتوجس والتحسب بعض الشيء لقسوتها المعنوية وتهللها للإضرار بسيدة لا ذنب لها في طيش زوجها ومحاولته التعلق بأذيال الشباب البائد؟

إن القدرة علي ايذاء الغير عمدا وبغير أدني تخوف من عقاب السماء أمر يثير الفزع في نفوس الفضلاء ويدفعهم للفرار من أصحاب هذه القدرة السادية كما يفر السليم من الأجرب‏..‏ فكيف يضع هو نفسه وحياته وأبناءه ومستقبله في أيدي فتاة من هذا النوع الجبار؟ وماذا سيكون من أمره معها بعد عشر سنوات حين يبلغ الستين وتكون هي قد بلغت بالكاد الثلاثين‏..‏ ويبدأ فارق العمر الكبير في أن يفعل فعله فيه كغيره من البشر‏..‏ والذي يعبر عنه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه بقوله ما معناه‏:‏
ـ النار تندلع والماء ينقطع‏!‏

إن الزواج ليس عشقا لمفاتن الأنثي وإنما هو إقامة بيت علي السكينة والآداب الاجتماعية وفي إطار من الإيمان بالله والعيش وفقا لتعاليمه‏,‏ لهذا قال الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه‏:‏ لا أحب الذواقين من الرجال ولا الذواقات من النساء
وقال إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات‏.‏ فعلي أي شيء سوف يقيم زوجك بيته الجديد إذا قبلت صديقة ابنته الغادرة بالزواج منه بعد أن يشردك أنت ويخرجك من جنتك في هذه المرحلة من العمر؟ وأي مثل ومثال سوف يقدمه لأبنائه حين يفعل ذلك؟

وأولا من رشيد في أهله يرده عن غيه ويقنعه إن لم يستطع أن يتغلب علي هذه النزوة الطارئة‏..‏ بأن يتخفي بها علي الأقل في أي مسكن آخر بعيدا عن محيط الأسرة‏,‏ وبغير أن يدمر حياة زوجته وأبنائه؟
المزيد ....

الشقة العلوية

31-01-2003
بكيت عندما قرأت قصة الرقم الناقص للفتاة التي أهملها والدها‏..‏ وانشغل بأبنائه من زوجته الجديدة حتي انه ليخطيء في ذكر عدد أبنائه فيغفل ابنته كاتبة الرسالة من هذا العدد‏,‏ وأريد أن أروي لك قصتي وأستشيرك بعد ذلك في أمر يحيرني فأنا شاب ولي أخت وحيدة تكبرني بعام واحد‏,‏ وقد تفتحت مداركنا علي نوبات الانفجار المتكررة والصراخ والمشاكل بين أبي وأمي‏,‏ إلي أن وقع الطلاق بينهما وعمري سبع سنوات وعمر أختي ثمان‏..‏ وكنا نعيش في منزل جدتي لأمي وهو منزل مكون من شقتين تعيش جدتي في الشقة الأرضية وتعيش أسرتنا في الشقة العلوية‏,‏ وبعد الطلاق غادر أبي مسكننا وتزوج علي الفور من امرأة أخري وانقطعت صلته بنا فلم أسمع عنه بعد ذلك شيئا‏,‏ وبعد ثلاث سنوات من الانفصال تزوجت أمي علي غير رغبة والدتها وأرادت أن تحصل علي الشقة العلوية لتتزوج فيها فأبت عليها جدتي ذلك وطردتها من المنزل لإهمالها لنا وعصبيتها معنا‏.‏ ومضت حياتنا مع جدتنا بعد ذلك هادئة‏,‏ واستعانت جدتنا علي إعالتنا بتأجير الشقة العلوية التي كنا نقيم فيها كأسرة مع أبي وأمي قبل أن تتحطم‏,‏ وبمعاشها عن جدي رحمه الله‏..‏ وواصلنا نحن التعليم حتي التحقت أختي بكلية من كليات القمة‏..‏ وكانت فرحة جدتي بذلك لا توصف حتي لقد ماتت يرحمها الله في اليوم نفسه الذي تلقينا فيه خبر قبول أختي بالكلية‏!‏

وازدادت أختي اصرارا علي النجاح والتفوق في هذه الكلية تنفيذا لوصية جدتها وبعد رحيل جدتي عن الحياة انقطع معاشها‏..‏ وأصبحنا أنا وأختي مطالبين بأن نحيا في حدود دخلنا من ايجار الشقة العلوية‏.‏
وتحملنا ظروفنا وواصلنا طريقنا بلا مساعدة من أحد‏..‏ ولم نسمع عن أبي أو أمي أي خبر طوال تلك السنين الصعبة‏..‏ والتحقت أنا أيضا بإحدي الكليات العملية‏..‏ وأصبحنا نذهب أنا وأختي في الصباح إلي كليتينا ونعمل في المساء لنستطيع تدبير نفقات معيشتنا ودراستنا‏,‏ فتعمل أختي في مكتب للآلة الكاتبة وأعمل أنا في مكتب لتصوير المستندات‏.‏

وخلال استغراقنا في كفاحنا في الحياة والدراسة‏,‏ فوجئنا ذات يوم ـ وكنت قد تخرجت في كليتي ولم تتخرج أختي لأن دراستها أطول من دراستي ـ بسيدة متبرجة تدخل علينا شقة جدتنا التي نقيم فيها‏,‏ وتطلب منا الحديث معنا لأنها والدتنا‏!‏ ورحبنا بها بحذر وتوجس فإذا بها تقول لنا إنها قد أنتظرت حتي تخرجت أنا في كليتي وجاءت لكي تحصل علي جزء من ميراثها الشرعي عن جدتي‏,‏ وعبثا حاولنا أن نقول لها إننا نعتمد علي ايجار الشقة العلوية في حياتنا‏..‏ وأن أختي أمامها عام آخر طويل في دراسة مكلفة قبل أن تتخرج وتعمل فلم يجد كل ذلك شيئا وأصرت علي بيع الشقة العلوية لساكنها وقبضت منه الثمن واختفت فلم نرها بعد ذلك ثانية‏!‏
وانقطع مصدر مهم للدخل بالنسبة لنا‏..‏ وزاد من صعوبة حياتنا أن أختي توقفت عن العمل ليلا بسبب ظروف امتحاناتها النهائية‏..‏ فأصبح العبء كله علي وحدي وخرجت أعمل ليلا ونهارا في أعمال صغيرة خارج نطاق تخصصي لأحصل علي قوت يومنا ونفقات دراسة أختي‏.‏

وأدت أختي الامتحان ونجحت فيه بحمد الله‏..‏ وفوجئنا بأحد المعيدين في كليتها يزورنا ليطلب يدها‏,‏ ورفضت أختي علي الفور لأن ظروفنا المادية لا تسمح لنا بتحمل تكاليف الزواج‏,‏ لكني شجعت أختي علي قبول هذا المعيد‏..‏ وأكدت لها أن مخاوفها من عجزنا عن تدبير تكاليف الجهاز والزواج لا ينبغي لها أن تحرمها من فرص السعادة‏..‏ وأن الله سبحانه وتعالي لابد سوف يساعدنا علي ذلك‏..‏ واعتزمت في نفسي أمرا فسألت أختي عن أمي‏:‏ ألم تترك لها عنوانا حين جاءت لتبيع الشقة التي كانت تعيننا علي الحياة؟ واكتشفت أنها قد تركت لها بالفعل عنوانها فأخذته منها وتوجهت إليها لزيارتها لأول مرة في حياتي‏..‏ فما أن سمعت مني أن أختي تقدم إليها عريس وأنها مترددة في قبوله لضيق ذات اليد حتي طردتني من بيتها خوفا من أن أطلب منها اية مساعدة‏..‏ وأعطتني عنوانا لأبي الذي لم أره منذ طفولتي وطلبت مني التوجه إليه‏..‏ ورغم ما شعرت به من مرارة فلقد تحاملت علي نفسي من أجل أختي وذهبت إلي عنوان أبي‏,‏ وأنا لا أعتزم مطالبته بشيء وإنما لأعيد الصلة به لكي يظهر فقط في الصورة عند زواج أختي‏,‏ فإذا به يستهزيء بي وتطردني زوجته وهو يلعن اليوم الذي تزوج فيه أمي‏.‏
ورجعت إلي البيت حزينا مقهورا‏,‏ ورجع المعيد ليعرف قرارنا فطلبت من أختي أن تدعنا وحدنا‏,‏ ثم رويت له قصتنا كاملة وبلا أية رتوش وقلت له في ختام حديثي‏:‏ هذا هو حالنا بلا خداع فإذا أردتنا علي هذا الحال فأهلا بك ومرحبا‏,‏ وإذا ابتعدت عنا فلا لوم عليك ولا عتاب لأن لكل إنسان ظروفه وقدرته‏,‏ فإذا بالرجل يؤكد لي أنه قد أكبر في صراحتي وأزداد اعجابا بأخلاقيات أختي ويريدها بحقيبة ملابسها فقط لا غير ولسوف يتكفل وحده بكل تكاليف الزواج‏,‏ فطفر الدمع من عيني واحتضنته وقلت له‏:‏ أهلا بك أخا لنا في وحدتنا بهذه الحياة الصعبة‏.‏

وتزوجت أختي من هذا الشاب الفاضل بعد عام ونصف العام وأقامت معه في حي قريب‏,‏ وخلا علي المسكن من الزهرة الوحيدة التي كانت تضيء حياتي بالبهجة والسرور وتخفف عني وحدتي‏..‏ وخلال انشغالها بإعداد جهازها راحت تلح علي أن أتزوج لكي نزف معا إلي عروسينا في نفس اليوم وأقيم في شقة جدتي‏,‏ وعرض علي خطيبها تجديد الشقة واعادة طلائها علي سبيل القرض الحسن وإلي أن أستطيع ذات يوم رد دينه له ووعدته بالتفكير في ذلك‏,‏ فإذا بأمي تظهر مرة أخري من جديد وتقول لي إن أختي قد تزوجت‏..‏ وإنني رجل أستطيع تدبير حياتي‏,‏ وهي أي أمي مازالت علي قيد الحياة ولم تمت بعد لكي أرثها ولذلك فلقد قامت ببيع الشقة التي لا مأوي لي غيرها لأحد أصدقائها وقبضت الثمن ولسوف يجيء صاحبها لتسلمها غدا‏!‏

ياربي‏..‏ وأين أقيم أنا يا أمي‏..‏ ولمن أذهب؟‏..‏ وليس معي ما أستطيع به تدبير غرفة بالايجار في أي مكان؟ لا جواب‏!‏ ولا جدوي من أي حديث معها‏..‏ ووجدتني مطرودا من مسكني بلا مأوي‏..‏ ولم أجد أمامي سوي أختي وزوجها الكريم اللذين لم يمض علي زواجهما سوي بضعة أيام‏..‏ فتوجهت إلي مسكنهما عند منتصف الليل وطرقت الباب في خجل‏..‏ ودخلت فرويت لهما القصة فانفجرت أختي في البكاء‏..‏ ورحب بي زوجها الطيب وطلب مني ألا أحمل هما لاقامتي معهما إلي أن تتحسن الأحوال‏..‏ وهون علي الأمر بأن الشقة كبيرة وهو يستعد للسفر للعمل في احدي الدول العربية خلال أسابيع ولا يريد أن يترك زوجته وحدها إلي أن تلحق به‏,‏ فشكرته علي مشاعره وعشت معهما في مسكنهما وبعد عدة شهور سافر زوج شقيقتي إلي الخارج وبعد أسابيع أخري سافرت إليه أختي للعمل معه‏,‏ وأصبحت وحيدا من جديد‏,‏ ومضي عام أرسل إلي بعده زوج شقيقتي عقد عمل بالدولة التي يعمل بها فسافرت إليه وإلي أختي الحبيبة‏,‏ وعملت لأول مرة في مجال تخصصي‏..‏ واستقرت بنا الحياة هناك ثماني سنوات سعيدة وهادئة تزوجت خلالها من مصرية مغتربة مثلي وأنجبت وأنجبت أختي‏,‏ ثم قررنا العودة إلي بلدنا وأسسنا أنا وصهري وأختي مشرو
عا صغيرا وناجحا نعمل فيه كلنا معا ويحقق لنا دخلا طيبا والحمد لله‏.‏ وبدأت الحياة تبتسم لنا وتعوض لنا شقاءنا ووحدتنا السابقة وفجأة ظهرت أمي في الأفق للمرة الثالثة بعد أن كنت قد نسيتها ونسيت أبي تماما‏,‏ فلقد طلقها زوجها الثالث وجاءت تطلب مني مالا لأنه لم يعد لديها ما يؤمن لها قوت يومها كما تقول‏,‏ ولا أعرف هل هي صادقة في ذلك أم أنها قد جاءت فقط لابتزازنا‏.‏

وإنني أسألك يا سيدي كيف أعطيها مالا وأنا لم آخذ منها شيئا؟ وهل أعطيها ما تريد باعتبارها أمي‏..‏ أم أنه من الخسارة أن أسمي مثل هذه السيدة أما؟

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
لو ترك الإنسان نفسه لانفعالاتها البدائية لما نصحتك إلا بأن تغلق بابك في وجه هذه السيدة وبأن تطردها من رحمتك بلا ندم كما طردتك أنت وأختك من رحمتها وأنتما في أشد الحاجة إلي عونها ومساندتها‏..‏ ولكن ماذا نفعل يا صديقي ونحن مأمورون بأن نحسن صحبة آبائنا وأمهاتنا في الدنيا ولو جاهدونا علي أن نشرك بالله أحدا‏,‏ ومأمورون بألا نقول لهم أف وألا ننهرهم وبأن نقول لهم قولا كريما؟ إنني أسلم معك بأن هذه السيدة ليست أما سوي بالميلاد‏,‏ وأنها لا تختلف في كثير أو قليل عن أنثي الضفدع التي تبيض بيضها في المياه الضحلة فما أن يقفس عن أفراخها حتي تدعها لمصيرها تلاطم أسباب الفناء وحدها كما أعرف أيضا أنها لا تستحق التكريم ولا الرعاية ولا العطف‏..‏ وأنه لا يحق لها أن تأتي في موسم الحصاد لكي تطالب بنصيبها في غرس لم تروه بقطرة ماء واحدة‏..‏ ولم ترعه بعض رعايته‏.‏
أعرف كل ذلك وأؤمن به‏..‏ لكن هل يستطيع ابن مكافح مثلك ومهما تكن مرارة الخذلان التي يشعر بها تجاه من يفترض فيها أنها أمه‏,‏ أن يردها خائبة إذا جاءته ذات يوم تسأله القوت؟

وهل يستطيع إن هو فعل ذلك أن يهنأ بحياته ويأمن ليومه وغده ويرجو الله أن يحفظ عليه أسرته وأبناءه وسعادته وأن ينجو من تعذيب الضمير والخوف من عقاب السماء؟ إنني أؤمن في كثير من الأحيان بتعريف الفيلسوف أرسطو لفعل الخير ووصفه له بأنه نوع من الأنانية المستنيرة‏,‏ بمعني أننا نفعل الخير لأنفسنا قبل أن يكون للآخرين ولإراحة ضمائرنا قبل أن يكون لنجدة الملهوف‏,‏ وأننا لو لم نفعل ما ينبغي علينا أن نفعله لما أعفانا ضميرنا الأخلاقي من الحساب والعقاب وبالتالي فإننا نفعله طلبا لراحة الضمير واطمئنان القلب واستشعار الرضا عن النفس‏.‏
ولا يتعارض ذلك أبدا مع الدوافع الدينية والأخلاقية للخير‏..‏ ولا مع التوسل به إلي الخالق جل شأنه لنيل رضائه وعفوه وحسن جزائه وتجنب عقابه‏.‏

ولقد كان الحسن البصري إذا سأله سائل يرفع رأسه إلي السماء قائلا‏:‏
ـ اللهم إن هذا يسألنا القوت ونحن نسألك الغفران‏..‏ وأنت بالمغفرة أجود منا بالعطية

وكان الزاهد الفضيل بن عياض يقول‏:‏لا يكتمل المعروف إلا بأن تري المنة لأخيك عليك إذا أخذ منك شيئا‏,‏ لأنه لولا أخذه منك ما حصل لك الثواب‏,‏ ولأنه خصك بالسؤال ورجا فيك الخير دون غيرك‏.‏
وتوجه أمك إليك بالسؤال وهي التي لم ترحمك في ضعفك‏..‏ ولم تكن لك أما‏,‏ حدث يدعو للتأمل ويتوقف عنده أهل الفضل‏..‏ وتتردد في أعماقهم الآية الكريمة‏:‏ وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور

نعم هي مناسبة للتأمل‏..‏ واستشعار الرضا عن النفس وعما حقق الإنسان بكفاحه وجلده وعرقه وصبره علي المكاره من نجاح انتقل به من حال إلي حال‏..‏ إذ لو لم تكن قد حققت شيئا وأخرجك ربك من الضعف إلي العزة لما توجهت إليك أمك بالسؤال وهي التي تعلم جيدا أنها لم تقدم لنفسها عندك ولم تقم بحقك عليها‏..‏ ولم تكن عونا لك ولأختك علي قسوة الدنيا بل كانت عونا لظروف الحياة عليكما فإن أعطيتها بعض ما تسأله فإنما تعطيها علي مذهب العادل عمر بن الخطاب الذي كان يقول‏:‏ رب قدرني علي من ظلمني لأجعل عفوي عنه شكرا لك علي قدرتي عليه‏.‏
ولاشك في أن أمك وقد رأت النبتة الضعيفة التي تخلت عنها قد صمدت لأنواء الحياة وازهرت وأثمرت تعض بنان الندم الآن علي أنها لم تسهم في رعايتها لكي تستظل بظلها الوارف في الكبر وتفوز منك بعطاء الحب الغامر‏.‏ وليس بعطاء الواجب الشحيح الذي يأتي علي قدر السؤال وسواء أكانت صادقة في دعواها أنها لا تجد قوت يومها أو كاذبة وترغب في ابتزازك‏.‏ فأعطها عطاء الواجب المحدود الذي يؤديه الإنسان إبراء للذمة‏..‏ وترفعا عن المذمة وليس تكريما لمن يعطيه ولا رعاية له‏,‏ وشكرا
المزيد ....

النصائح المسمومة‏!‏

07-02-2003
أكتب إليك لعلك تستطيع المساهمة في إصلاح نفوس البعض منا‏.‏
فأنا سيدة تزوجت زواجا تقليديا من رجل جاف الطباع‏,‏ وأنجبت ثلاث بنات وتمنيت بعدها أن يمن الله علي بولد لكي يعفيني من الكلام الجارح عن انجاب البنات دون البنين‏,‏ فوهبني الله ابنا وحيدا‏,‏ أفرغت فيه كل عواطفي‏,‏ حتي أن بناتي كن يلومنني علي التفرقة في المعاملة بينه وبينهن‏,‏ ودللته كثيرا حتي اتجه بكل عواطفه نحوي وابتعد عن والده بسبب حدته وصرامته معه‏,‏ ومضت بنا رحلة الحياة‏,‏ وبلغ ابني بداية مرحلة الشباب وبدأ يتطلع للفتيات من حوله وأنا أتحرق غيظا منهن‏..‏ وأبعده عن زميلاته في الجامعة‏,‏ إلي أن نبض قلبه لشقيقة زميل له وأصر علي الارتباط بها‏,‏ لكني أقنعته بأنها غير ملائمة له ففك ارتباطه بها وهو كاره لها‏,‏ ثم لم تمض شهور أخري حتي ارتبط بغيرها وتزوجها‏..‏ وبذلت زوجة ابني الشاب في بداية زواجها منه جهودا مضنية لاجتذابنا إليها إلا أنني كنت أشعر في نفسي بمرارة شديدة لانجذاب ابني لها‏,‏ وكذلك كانت تشعر بناتي بنفس المرارة تجاهها لاعجاب أزواجهن بها‏..‏ فبدأت أحاول الايحاء لابني بكثرة عيوبها‏,‏ واتهمها دائما بأنها قد أخطأت في كذا وكذا وكذا‏,‏ أو فعلت كذا وكذا مما لايصح لها أن تفعله‏..‏ ولأن ابني عصبي بطبعه وحاد فلقد بدأت المشكلات تتصاعد بينهما‏..‏ وكلما أوشك‏.‏ بيتهما علي الانهيار تدخلت بينهما وحثثته علي الصبر علي بلائه وطالبته بالحفاظ علي بيته حتي ولو كره ذلك من أجل طفله الصغير‏..‏ فيتردد ابني ويزداد حيرة في أمري‏,‏ وتوالت المشكلات بين ابني وزوجته‏,‏ وأنا مازلت علي طريقتي معه في الإيحاء غير المباشر له بسوء زوجته‏..‏ ووصيتي الخادعة له بالصبر عليها في نفس الوقت‏,‏ والحق أنني ـ وأعترف لك ذلك كنت نموذجا لما تسميه في ردودك بالأم المتوحشة التي تريد أن تستأثر بابنها لنفسها دون زوجته‏.‏

وقد وصلت محاولاتي معه إلي قمتها فوقع الانفصال بغير طلاق بينهما‏..‏ وهجرت هي بيت الزوجية ورجعت إلي بيت أهلها وبدأت القضايا بينهما‏..‏ ودخلت أنا شقة ابني الوحيد بعد أن رحلت عنها المغتصبة مع طفلها‏,‏ وتملكني الشعور الغامر بالانتصار‏..‏ وأنني قد حميت ابني من الصراع المستمر الذي كان يكابده منذ زواجه واستعدته لنفسي بعد أن كان ممزقا بين زوجته وأمه‏,‏ وكنت خلال السنوات الماضية علي خلاف مع أخي وصلتنا شبه مقطوعة‏,‏ ففوجئت به يتصل بي ذات يوم وينهي القطيعة معي‏,‏ ويعرض علي أن أرافقه في رحلة الحج عسي أن يغفر الله لنا ماكان من أمرنا‏..‏ فأستجبت لدعوته وسافرت معه لأداء فريضة الحج‏,‏ وغمرني الجو الروحاني في الأراضي المقدسة‏..‏ ثم سمعت ذات يوم في الحرم المكي خطبة عن صلة الرحم وواجب المؤمن في رعاية زوجته وأبنائه‏..‏ وكيف أن الطلاق هو أبغض الحلال إلي الله‏..‏ وأن قسوة القلوب ليست من الإيمان إلخ‏..‏ وبالرغم من أنها لم تكن المرة الأولي التي أسمع فيها مثل هذه المعاني الجليلة‏,‏ فلقد كان تأثري بها هذه المرة شديدا‏..‏ ورجعت إلي المكان الذي تقيم فيه وحاولت النوم ليلتها فلم استطع‏..‏ وتراءت لي صورة حفيدي يعاتبني علي حرمانه من أبيه‏..‏ فنهضت وأديت ركعتين لله ودعوت الله سحانه وتعالي أن يطهر قلبي من كل الشرور‏..‏ وانتهت رحلة الحج‏..‏ وعدت إلي مصر‏..‏ وتجنبت الحديث مع ابني عن زوجته‏,‏ وكلما هممت أن أوصيه خيرا بزوجته تذكرت وصايا الشر التي كنت أبثه خلالها سمومي‏..‏ فأصمت‏,‏ إلي أن جاء يوم واستجمعت إرادتي وذهبت إلي النادي في يوم العطلة حيث أعرف أن زوجة ابني تصطحب إليه طفلها كل أسبوع‏,‏ والتقيت بها‏..‏ واحتضنت حفيدي وجلست أتحدث إليها واستقبلتني زوجة ابني في البداية بتحفظ وهدوء‏..‏ لكني نجحت بعد قليل في أن أبث الطمأنينة في نفسها‏..‏ وأصررت علي أن أصطحبها معي في السيارة لتناول الغداء‏,‏ ولم تجد زوجة ابني مفرا من من القبول‏,‏ وعدت إلي البيت وهما معي وفوجيء لابني زوجته‏,‏ وبعد قليل أخذت الطفل معي إلي حجرة داخلية لكي أتيح لابني وزوجته أن يتحدثا علي انفراد‏..‏ وتحدثا طويلا واتصلا بأهلها وكانت علاقتي بهم مقطوعة منذ زمن إذ كانوا يرون أنني قد أفسدت ابني بالتدليل حتي ساءت خلقه وأصبح يشتم زوجته ويضربها‏,‏ فتحدثت معهم‏,‏ وتحدثوا معي بتحفظ في البداية لكني طبت منهم أن أزورهم لنجمع شمل ابني وزوجته وننهي القضايا بيننا‏..‏ وذهبت إليهم ووجدتهم يعرفون جيدا دوري في إفساد الحياة بين ابني وزوجته وكيف أنني كنت بالفعل نموذجا للأم المتوحشة المتملكة لابنها‏,‏ لكني تجاوزت عن كل ذلك واتفقنا علي أسس سليمة للحياة‏,‏ كما اتفقنا علي أن نجعل كتاب الله شهيدا علينا‏..‏ ورجعت زوجة ابني إليه‏,‏ ووجدتني أنظر إليها هذه المرة ليس كمغتصبة لابني مني‏,‏ وإنما كأم لحفيدي الجميل هذا‏,‏ وكزوجة لابني ترعاه وتحبه وتحمل اسمه‏,‏ ووجدتني أتغاضي عن هفواتها البسيطة‏,‏ وأصبر علي توجسها مني إلي أن تطمئن إلي‏..‏ وطلبت من إبني ألا يروي أي شئ عن حياته الخاصة معها‏,‏ وألا يشر أحدا في أي خلاف عابر لهما‏..‏ وتعاهدا أمامي علي ألا يبيت أحدهما غاضبا من الآخر دون أن يسوي أموره مع شريكه وتصفو له نفسه‏,‏ كما أصلحت بين بناتي وزوجة ابني‏..‏ وصرفت ابني عن أي عمل يضايق زوجته‏.‏

وبدأنا نلتقي حول مائدة الغداء الأسبوعية في بيتي ويتجمع كل الأبناء والأحفاد‏,‏ واكتشفت أن الدنيا جميلة وفيها متع كثيرة غير متعة الاستئثار بمشاعر الابن الوحيد دون زوجته‏..‏ وهدأ طبع ابني كثيرا بعد ذلك وبدأ وجهه يشرق بنور السعادة والاطمئنان‏,‏ وتفرغ لعمله دون منغصات‏,‏ وأنجب من زوجته طفله الثاني وكنت أنا من قامت بالنصيب الأكبر في خدمتها ورعايتها بعد الولادة‏,‏ ومنعت أمها من ذلك لأنها كانت مشغولة برعاية ابنة‏,‏ أخري لها أجريت لها عملية جراحية في ذلك الوقت‏..‏ ورجعت إلي الحديث كل يوم تليفونيا مع زوحة ابني كما كنت أفعل معها في بداية الزواج‏,‏ وأصبحت هي تخرج من عملها يوميا إلي بيتي قبل أن تذهب إلي بيتها فاستمتع برؤية الحفيدين العزيزين‏..‏ واتذكر قول زوجي لي رحمه الله ـ انني قد أفسدت ابني‏,‏ فأتمني لو كان قد عاش ليري كيف انني قد عمرت بيت ابني بعد أن كنت قد أوشكت علي هدمه‏,‏ والآن ياسيدي فإنني أرجو ألا يتصور أحد أنني قد خسرت شيئا بإقلاعي عن طباع الأم الشرسة‏,‏ فالحق هو أنني قد كسبت الكثير ولم أخسر شيئا‏,‏ فأنا مازلت الأم المتملكة لابنها‏..‏ لكن الاختلاف الوحيد هو أنني امتلكه بالحب الصادق وليس بالمؤامرات والوقيعة بينه وبين زوجته‏,‏ وامتلك أيضا زوجته التي صنعت مشاعرها لي والحفيدين الغاليين‏.‏

وامتلك قبيلة كبيرة من البنات والأحفاد والحمد لله رب العالمين‏.‏ وكل دعائي هو أن يغفر الله سبحانه وتعالي ماكان من أمري ويعفو عني والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏
في الحياة دائما متسع للجميع ياسيدتي‏..‏ وفي قلوب ابنائنا كذلك متسع لنا ولمن يحبون بغير أن يتعارض ذلك أبدا مع وفائهم لنا وبرهم بنا‏,‏ غير أن المأساة تبدأ حين يتطلع البعض منا إلي ما لا حق لهم فيه‏..‏ وحين يضعون أنفسهم في تناقض لا مبرر له مع من يحب هؤلاء الأبناء ويسكنون اليهم‏..‏ وحين نطلب لأنفسنا أن نكون دائما في بؤرة الاهتمام الأولي لدي هؤلاء الأبناء قبل أي شئ آخر‏,‏ خلافا لحقائق الحياة وطبيعة كل مرحلة من مراحل العمر‏.‏

ولقد توقفت في رسالتك أمام سطورها الأخيرة التي تقولين فيها إنك بعد أن راجعت موقفك السابق من ابنك وندمت علي نصائحك المسمومة له التي كادت تودي به وبأسرته الصغيرة إلي الانهيار‏..‏ وتخليت عن نظرتك الضيقة إلي الابن الوحيد وتطلعك السابق للاستئثار به دون العالمين‏,‏ حتي بعد أن تزوج وأنجب‏,‏ وتعاملت بالعدل والإحسان مع زوجته‏..‏ وصدقت نيتك في الحفاظ علي أسرته قد اكتشفت أنك لم تخسري شيئا‏,‏ بل كسبت الكثير والكثير‏..‏ إذ إنك مازلت تملكين ابنك‏..‏ لكنك تملكينه بالحب الصادق المبرأ من الأثرة والأنانية‏..‏ وبغير أن يكون هذا الابن شقيا في حياته الخاصة ولا ممزقا بين أمه وزوجته‏,‏ وتملكين إلي جواره من كنت تناصبينها العداء قبل ذلك وتعتبرينها مغتصبة له منك كما فإذا بك قد أضفت إلي بناتك لثلاث ابنة رابعة‏,‏ لم تحمليها وهنا علي وهن‏.‏ كما تملكين حفيديك وحب من هم حولك‏,‏ وتملكين ما هو أهم من كل ذلك وهو سلام النفس وطمأنينة القلب وراحة الضمير بعد أن تخلصت من شر نفسك‏..‏ وأدركت أن سعادة الآباء والأمهات الحقيقية ليس في أن يستأثروا بأبنائهم دون شرئهم في الحياة‏,‏ وإنما في أن يسعد هؤلاء الأبناء بحياتهم مع شركائهم فيسعد الآباء والأمهات بسعادة وينعمون بالشيخوخة الآمنة بغير منغصات‏.‏

والفارق بين الحالحين هو نفسه الفارق بين فساد النية وإخلاصها‏,‏ فلقد كنت تنصحين ابنك في السابق بأن يصبر علي بلائه وألا يفرط في زوجته وطفله‏..‏ وتوحين له في نفس الوقت بعيوبها وتفسدين عليه مشاعره تجاهها‏,‏ لأن النية في ذلك لم تكن خالصة وكانت النصائح ـ كما تعترفين ـ مسمومة وتهدف إلي غير ظاهرها‏..‏
ثم أصبحت الآن تحرصين علي سعادته صدقا وحقا وتنصحينه بألا يسئ عشرة زوجته وألا يظلمها معه‏..‏ لكن النية صادقة هذه المرة‏,‏ لهذا أثمرت النصيحة ثمارها الطيبة‏..‏ ورفرفت السعادة علي حياة ابنك وزوجته وطفليه‏..‏ ولقد ذكرني ذلك بما قاله امام البغدادي وعالمهم الورع سري السقطي ناصحا ابن شقيقته الامام الجنيد‏:‏ أحذر أن تكون ثناء منشورا وعيبا مستورا‏..‏

ولقد كنت أنت ياسيدتي في مرحلة الأثرة والأنانية ثناء منشورا تنصحين ابنك بالحفاظ علي أسرته‏..‏ وعيبا مستورا توحين له بعيوبها في نفس الوقت فتحرضينه عليها‏.‏
ومن الناص من يعيشون بين البشر كاعواد الريحان تنشر الشذي الطيب حولها وتكتفي بالقليل من الماء والهواء‏..‏ وامثال هؤلاء هم من عناصر الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه بقوله‏:‏ يدخل الجنة اقوام أفئدتهم كافئدة الطير‏,‏ اي في الطهاره والراقه وحب الخير للآخرين‏,‏ ومنهم من هم عكس ذلك ولقد اصبحت انت ياسيدي ممن ينشرون شذي المحبة والوئام حولهم بعد ان من قبل غير ذلك والحق أننا نحتاج دائما لأن نتدفق من حين لآخر لكي نراجع مواقفنا من الحياة والآخرين ونعترف‏,‏ خطائنا ونقلع عنها ونحسن من انفسنا ومن سلوكلنا في الحياه كما فعلت انت ذلك فخرجت من دياجير الكراهيه والانانيه والاثره الي ضياء المحبه والخير والعدل والسلام النفسي‏.‏

وقديما قال أحد الصالحين‏:‏ إني لأنظر في المرآة كل يوم مخافة أن يكون قد اسود وجهي‏!‏
أي مخسافة أن يكون قد أسود وجهه من وطأة آثامه وخطاياه وأخطائه المقصودة وغير المتعمدة‏.‏ كما روي ابن عباس أنه دخل علي العظيم عمر بن الخطاب بعد أن طعته قاتلة وهو مضجع علي وسادة من أدم وعنده جماعة من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم‏,‏ فقال له رجل‏:‏ ليس عليك بأس‏,‏ فقال عمر لئن لم يكن علة اليوم لتكونن بعد اليوم‏,‏ أن للحياة نصيبا من القلب وأن للموت لكربة‏..‏ ولقد تركت زهرتكم كما هي ما لبستها فأخلقتها‏,‏ وثمرتكم يانعة في أكمامها ما أكلتها وما جنيت ما جنيت إلا لكم‏,‏ وما تركت ورائي درهما ماعدا ثلاثين أو أربعين درهما‏,‏ ثم بكي وبكي معه الناس فقال له ابن عباس‏:‏ يا أمير المؤمنين أبشر فوالله لقد مات رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو عنك راض ومات أبوبكر وهو عنك راض‏,‏ وأن المسلمين لراضون عنك‏,‏ فلما ثقل عمر طلب من ابنه عبدالله أن يضع خده علي الأرض فكره عبدالله أن يفعل ذلك‏,‏ فوضع عمر خده علي الأرض وقال‏:‏ ويل لعمر ولأم عمر إن لم يعف الله عنه‏!‏

فإذا كان هذا هو شأن عمر وهو من هو فضلا وتقوي وعدلا وسابقة‏,‏ فكيف نمضي نحن في الحياة سادرين في غينا بغير أن نتوقف لنراجع أنفسنا فيما نفعل ونقلع عن الأخطاء‏..‏ ونندم عليها؟
لقد توقفت أنت ذات مرة فكان ما كان من أمرك‏,‏ فكيف يكون الحال إذا تذكر الجميع ثقل المسئولية وكربة الموت‏..‏ وراجعوا أنفسهم فيما يفعلون قبل فوات الأوان؟‏!‏
المزيد ....

طلقــة التحذيــر‏!‏

14-02-2003
قرأت رسالة الإعصار المدمر للزوجة التي يعتزم زوجها الزواج من فتاة صغيرة كانت تذاكر دروسها مع ابنته وتتأخر في العودة لبيتها‏,‏ ويتبرم ابن كاتبة الرسالة بتوصيلها إلي محطة المترو فيتطوع الأب للقيام بهذه المهمة‏..‏ وبعد قليل نشأت بينهما علاقة واعتزم الزواج منها بالرغم من فارق السن الكبير وفارق المستوي الاجتماعي‏..‏ فضلا عن أنها تشترط للزواج منه أن يطلق زوجته وأم أولاده وأن يخرجها من شقة الزوجية لتحل هي محلها بين أولاده‏..‏ ويرفض الزوج أن يدع زوجته في بيتها مع أولادها ويتزوج بمن أرادها في مسكن آخر‏,‏ مع أنه لا مأوي لكاتبة الرسالة سوي هذا المسكن‏,‏ قرأت هذه الرسالة فأصابتني بالأكتئاب واستدعت إلي ذاكرتي قصة محزنة كنت أحد شهودها القريبين‏,‏ وأريد أن أهديها إلي زوج كاتبة الإعصار لعله يتفكر فيها طويلا ويراجع نفسه فيما هو ماض إليه‏..‏ فلقد عملت بعد تخرجي في كلية الهندسة بإحدي شركات القطاع العام‏..‏ فلفتت نظري في هذه الشركة فتاة في العشرين من عمرها جمالها من النوع الصارخ وقوامها ممشوق ومثير‏,‏ والوجه أبيض مشرب بالحمرة والعينان زرقاوان والشعر ذهبي‏..‏ وكان مؤهلها دبلوم التجارة‏,‏ ولاحظت بعد قليل أنها موضع اهتمام رئيس الشركة الذي يقترب من الستين والذي عينها سكرتيرة له‏,‏ كما لاحظت أنها تركب سيارة فارهة لا تسمح لها امكاناتها بشرائها‏,‏ ثم عرفت بعد ذلك أن رئيس الشركة يعتزم الزواج منها بالرغم من أنه زوج لسيدة فاضلة وأب لولدين أكبرهما يدرس بالهندسة‏..‏ وأنه يقوم ببناء فيللا جديدة في منطقة العجمي لتكون عشا للزوجية الجديدة‏,‏ وكان ابنه الطالب بالهندسة يتردد علي في القسم الذي أعمل به في الشركة للتدريب لأنه في نفس تخصصي‏,‏ وكان شابا وسيما ورياضيا ومتدينا ويصلي معي في مسجد الشركة ويركب سيارة سيات صغيرة‏,‏ فروي لي أن والده طلب منه الذهاب إلي موقع الفيللا الجديدة مع سكرتيرته للإشراف علي أعمال التشطيبات الأخيرة لها بناء علي رغبتها فذهب معها في سيارتها الفارهة‏..‏ ففوجيء بها تمارس عليه كل فنون الإغراء لكي تغويه وتنال منه فلم يستجب لها حتي هجمت عليه في الفيللا الخالية تقبله وتضمه رغما عنه فصفعها وبصق عليها وأسرع بالفرار متألما‏..‏ ثم انقطعت السكرتيرة عن العمل بعد ذلك بفترة قصيرة وعرفنا أنها تزوجت رئيس الشركة وأنه صمم بإيحاء منها علي أن يقيم الولدان معه في الفيللا الجديدة بحجة رعايتهما في الدراسة‏,‏ خاصة أن أكبرهما في نهائي كلية الهندسة ولابد أن يحصل علي تقدير عال لكي يعين معيدا‏,‏ ورفض الابن الأكبر الإقامة مع أبيه بعد زواجه من هذه الفتاة فخيره الأب مسلوب الإرادة مع زوجته الجديدة‏,‏ بين أن يقبل ذلك أو يطلق أمه ويخرجها من مسكنها ويلقي بها في عرض الطريق وهي لا مأوي لها إلا بيتها‏,‏ فلم يتزحزح الابن الأكبر عن موقفه وأصيبت الزوجة الأولي بالرعب فتوجهت إلي فيللا الزوجة الجديدة في غيبة زوجها في العمل وتوسلت إليها أن تدع لها الولدين‏,‏ لكي تهنأ هي بحياتها الجديدة مع زوجها‏..‏ وأكدت لها أنها غير ساخطة علي زواجها من زوجها بل ودعت لها ربها بالسعادة والفلاح‏,‏ فلم يهتز لها جفن ورفضت طلبها في برود وأستدعت زوجها تليفونيا لكي يطرد زوجته وأم أبنائه من بيتها‏,‏ وجاء الزوج مهرولا وانفجر في شريكة عمره وتحملت هي ثورته في صبر ثم راحت تستعطفه أن يترك لها ولديها ويسعد هو بحياته مع زوجته الجديدة‏,‏ وذرفت دموعا غزيرة وأهانت نفسها في استجداء زوجها واستعطافه حتي كاد يلين ويستجيب لرجائها وقبل أن يفعل نظر إلي فاتنة قلبه يستأذنها بالنظر أو يستطلع رأيها فهزت رأسها في إشارة صامتة يمينا ويسارا هزة واحدة كانت كافية أن يستأسد الزوج من جديد ويطرد شريكة عمره شر طردة‏,‏ ولم يجد الابن الأكبر مفرا في النهاية من أن ينقذ أمه من الطلاق والطرد بالانتقال كارها إلي عش الزوجة الجديدة‏,‏ وكان يعرف أنها تريد كسر إرادته عقابا له علي ما فعل معها‏..‏ ومع ذلك فلقد قبل لكي يحفظ علي أمه أمانها وكرامتها‏,‏ وبدأ حياته في رعاية أبيه وزوجته الشابة‏..‏ وكان شابا فارع القامة مفتول العضلات وسيما وسامة الرجال‏,‏ كريم الخلق وكان أبوه دميما ذابل النظرات متهدل القامة يبدو إلي جواره كالقزم إلي جانب العملاق‏..‏ فلم يكد يستقر المقام بالابن في حياته الجديدة حتي عاودت الحية الرقطاء فحيحها معه‏..‏ ومارست عليه كل الضغوط والإغراءات إلي أن انهارت مقاومته في النهاية واستسلم لإرادتها‏,‏ وأصبح الأب والابن ينهلان من معين واحد ولم يغب ما يجري عن ملاحظة الابن الأصغر المراهق‏..‏ فانتهز فرصة غياب الأب والأخ ذات يوم وهاجم الحية الرقطاء يطلب نصيبه من المتعة المحرمة‏,‏ فقاومته وشكته لأخيه بعد عودته‏.‏ فانفجر فيه وصفعه بقوة‏,‏ وأوغرت الصفعة صدر الأخ الأصغر علي أخيه ورغب في الانتقام منه فباح بسره للأب المخدوع ورتب معه الأمر بحيث يتيح له ضبط زوجته الشابة مع ابنه الأكبر متلبسين بالجرم المشهود‏,‏ وتم ذلك بالفعل‏..‏ فلم يتمالك الأب نفسه وأفرغ مسدسه في الاثنين معا‏,‏ وانفجرت الفضيحة كالزلزال المدمر‏..‏ وكانت بداية لسلسلة من الكوارث التي دمرت رئيس الشركة أدبيا ومعنويا إلي الأبد‏,‏ فلقد فتحت خلال التحقيق كل الملفات‏,‏ وسئل عن مصدر الأموال التي بني بها الفيللا واشتري بها لزوجته الجديدة السيارة الفارهة‏..‏ وفتح لها بها حسابا متخما بالرصيد في البنك ليؤمن لها حياتها وتبين أنها كلها أموال مختلسة من الشركة‏..‏ فعوقب بالسجن خمس سنوات علي جريمة زوجته وابنه وبالسجن سبع سنوات علي جرائم الاختلاس‏,‏ ولست أدري هل نفذ العقوبة كاملة أم وافته المنية قبل أنتهائها‏,‏ فلقد انقطعت عني أخباره بعدها‏.‏ وعند هذا الحد من القصة المفجعة تركت شركة القطاع العام وعملت كمهندس تصميم بشركة سيمون بانجلترا لمدة خمس سنوات‏,‏ وكنت قد تزوجت وأنجبت فعدت بعد هذه الفترة فاشتريت ألف متر أقمت عليها فيللا صغيرة‏..‏ قضيت بها أجمل سنوات عمري مع زوجتي وبناتي الثلاث وابني‏,‏ ثم أصيبت زوجتي بالمرض اللعين في الغدة الدرقية وانتشر المرض في بقية جسمها‏,‏ وكانت زوجة فاضلة يجمعني بها حب كبير قوامه تفانيها في خدمتي وخدمة أبنائي‏,‏ وبعد اجراء عدة جراحات‏,‏ رجتني زوجتي باسم الحب الذي يجمع بيننا ألا أحضر لأبنائي زوجة أب بعد رحيلها عن الحياة وطلبت مني أن أقسم لها علي كتاب الله علي ذلك فأقسمت لها‏,‏ وفكرت في أن أسعد قلبها أكثر وأكثر فقمت وبغير أن تعلم ببيع الفيللا التي نقيم فيها صوريا لأبنائي وقمت بتسجيل عقد البيع ودفعت رسوم التسجيل وكانت مبلغا باهظا قدره‏30‏ ألف جنيه‏,‏ وعدت إلي البيت ومعي العقد المسجل فقدمته لها لكي يطمئن قلبها علي مستقبل أبنائها‏,‏ وبعد قليل رحلت زوجتي عن الحياة قريرة العين راضية مرضية رحمها الله‏.‏ وكنت في الخامسة والأربعين من عمري‏..‏ فكرست حياتي لأبنائي حتي زوجت بناتي الثلاث وسعدن بحياتهن وتزوج ابني وأنا الآن أنعم بأحفادي وأبنائي‏..‏ ويكفيني أن أسمع من زوج ابنتي الكبري ذات يوم أنني قد علمتهم معني الوفاء‏.‏ فاللهم اكرمنا في نهاية رحلتنا ولا تهنا واجمعنا بأحبتنا في مستقر رحمتك‏,‏ فإذا كنت قد رويت لك كل ذلك فلكي أقول للكهل بطل قصة‏,‏ الإعصار المدمر إن عليه أن يستيقظ من غفوته لأنه يسير في طريق الدمار والخسران الذي سبق لي أن رأيت رئيسي السابق يمضي فيه‏..‏ وأنه علي وشك أن يخسر زوجة أعطت عمرها له ولأولاده من أجل فتاة طائشة في سن أبنائه‏,‏ وأنه يكرر خطأ رئيس الشركة في الجمع بين أبنائه الشباب وفتاته الطائشة كما يريد أن يفعل‏,‏ خاصة أنني أري في الفتاة التي يريد الزواج منها كثيرا من السمات المشتركة بينها وبين الزوجة الشابة في القصة المفجعة منها الجرأة‏,‏ والقدرة علي الفعل‏,‏ وعدم احترام العشرة بين الرجل وزوجته الأولي إلي جانب فارق السن الهائل بين الطرفين‏,‏ وكلها سمات تنذر بأوخم العواقب‏,‏ فليعتبر بما حدث لغيره ممن مضوا علي نفس الطريق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏
ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
سئل عمرو بن العاص ذات يوم وقد كان من دهاة العرب‏:‏ ما الحكمة فأجاب‏:‏ الإصابة بالظن ومعرفة ما يكون بما قد كان‏,‏ فأما الإصابة بالظن فهو ما تعبر عنه الآن بحسن التقدير والتوقع والتبصر استنادا إلي استقراء حقائق الموقف ومحاولة تقويمها تقويما سليما‏..‏ وأما معرفة ما يكون بما قد كان فهو ما نترجمه الآن بدروس التاريخ وتجارب السابقين ومحاولة الاستهداء بها في معرفة ما قد يكون إذا تشابهت الظروف‏..‏
والمشكلة هي أن البعض منا لا يعتبرون بتجارب الآخرين وأخطاء السابقين ويسيرون علي نفس الدرب المؤدي إلي الهاوية‏,‏ أما لأنهم يتجاهلون هذه التجارب عن عمد لكيلا تثبط عزيمتهم عما يمضون إليه‏,‏ وإما ـ وهو الأغلب الأعم ـ لأنهم يقعون في هذا الخطأ البشري الشائع الذي يقع فيه غالبا من يستسلم لحمي الرغبة في الأشياء وينقاد إلي أهوائه‏,‏ وهو يعلل النفس بأنه لن يدفع الثمن الفادح الذي دفعه رفاق نفس الطريق من قبل‏,‏ وهو الاعتقاد بأنهم بشر استثنائيون وستكون تجربتهم مخالفة لتجارب الآخرين في نتائجها لأنهم الاستثناء من القاعدة ولأن الظرف مختلف‏..‏ وهو هاجس يراود للأسف كل من يخالف قوانين الحياة الطبيعية ويرتبط بمن تصغره بثلاثين أو أربعين عاما‏..‏ وهو وهم عجيب يعكس تناقضا غريبا في التفكير‏..‏ إذ أنه يفيد إدراك بطل التجربة أن حقائق الحياة ليست في صالحه‏,‏ ويفيد علي النقيض من ذلك اعتقاده الموهوم أن النتائج الوخيمة لذلك لن تنطبق عليه هو بالذات وإنما سوف يستثني منها‏,‏ لأنه إنسان مختلف ولأن شريكته في القصة إنسانة مختلفة إلي غير ذلك من سبل خداع النفس الذي لا يفيق منه صاحبه إلا علي دوي الكوارث‏,‏ فالسبب الأساسي في هذه القصة المفجعة التي تر
ويها لنا يا سيدي هو نفس السبب في كل قصة مشابهة وهو مخالفة قوانين الحياة الأساسية‏,‏ ومحاولة القفز فوق حقائق العمر وإسقاط نحو أربعين سنة من فارق العمر من كل الحسابات والانسياق وراء الأهواء دون تبصر أو احتراس‏..‏ ومحاولة جني عسل الشباب في غير موسمه‏,‏ فضلا عن التنكر لعهد الوفاء مع شريكة العمر‏,‏ والمجازفة بأمان الأبناء واستقرار حياتهم جريا وراء المتعة والمغامرة والتجربة الشخصية علي حساب الجميع‏,‏ ولقد كان الأديب الفرنسي أونوريه دي بلزاك يقول مفسرا زواجه لأول مرة‏.‏ وهو يقترب من الخمسين من أرملة متوسطة العمر رافضا الاقتران بفتاة تصغره بثلاثين أو عشرين سنة رغم تهافت الصغيرات عليه ـ إن المرأة التي في الأربعين تعطيني كل شيء‏,‏ أما الفتاة التي في العشرين فإنها ستأخذ مني كل شيء‏!‏
ولهذا فإن دعاءك إلي الله سبحانه وتعالي ألا يهيننا في أواخر الرحلة دعاء حق وصدق‏,‏ لأن المرء إذا وضع نفسه حيث لا يليق بها أن تكون فقد أهانها‏..‏ ومن أهان نفسه أهانته الحياة وأهانه الآخرون وسقط اعتباره بينهم‏..‏ ولكل شيء في النهاية ضريبته العادلة والتي لا مفر من أدائها‏,‏ فمن أراد المتعة اللاذعة في سن الكهولة والشيخوخة فليقبل تبعاتها وتداعياتها وعواقبها الوخيمة علي استقرار حياته وأبنائه ومكانته العائلية والاجتماعية‏,‏ ومن احترم قوانين الحياة ومثلها العليا فاز بالمشاعر العائلية الصافية والأحترام والأمان والكهولة المطمئنة والشيخوخة الهادئة حتي ولو صبر علي بعض نواقص حياته في أخريات الرحلة‏.‏ ولقد اخترت أنت يا سيدي الوفاء لذكري زوجتك الراحلة وتكريس حياتك للأبناء من بعدها‏..‏ وفزت مقابل ما اعتري حياتك من نقص بحب الأبناء والأصهار والأحفاد وأحترامهم ورعايتهم‏..‏ وهو اختيار لا يملك الإنسان إلا أن يحترمه‏..‏ تماما كما لا يملك المرء إلا أن يقدر ظروف من لا يصبر علي نفسه بعد رحيل شريكته‏,‏ فيتحري اختيار شريكة رحيمة ملائمة له في العمر والظروف ويقضي ما بقي له من الرحلة إلي جوارها حادبا علي أبنائه ومؤديا واجبه تجاههم علي أكمل
وجه‏.‏ وكل مصيب فيما يختاره لنفسه مادام يحترم قوانين الحياة‏,‏ ويحيا حياة فاضلة في اطار من تعاليم ربه ودينه‏..‏ وإني لأرجو أن يقرأ بطل قصة نحو الإعصار المدمر رسالتك التي أعتبرها طلقة تحذير قبل الاقتراب من دائرة النيران‏..‏ ويتفكر فيها مليا‏..‏ ويحسن فهم اشاراتها المخيفة قبل أن يمضي علي نفس الدرب الذي سار عليه من قبل بطل هذه الفاجعة التي ترويها لنا وكل فاجعة مماثلة‏..‏ والله فعال لما يريد‏.‏
المزيد ....

الأمنية المستحيلة‏!‏

21-02-2003
أرجو أن أذكرك بنفسي‏..‏ فأنا صاحبة رسالة الأيام السعيدة التي نشرت منذ أربع سنوات‏..‏ وكنت أشكو لك فيها قسوة أبي وإهانته الدائمة لي‏,‏ علي الرغم من أنني وحيدته وتقصيره في الإنفاق علي‏..‏ وضربه المستمر لي حتي اضطررت لدخول المستشفي عدة مرات من جراء ضربه لي‏..‏ ورويت لك في رسالتي كيف تحملت أمي كل هذه الصعاب وخرجت إلي العمل لكي تعينني وتعين نفسها علي استكمال مشوار الحياة وتصل بي إلي بر الأمان‏..‏ وقبل أن تنتهي دراستي الجامعية طردني أبي أنا وأمي حتي يتسني له الزواج وإنجاب الطفل الذكر الذي كثيرا ما حلم به‏..‏ وعاقبني من أجله علي مجيئي للحياة فتاة ولست ولدا‏..‏ ولقد طلبت منك في رسالتي تلك أن تجد لأمي زوجا يكون لي أبا بديلا للأب الذي عشت عمري كله دون أن أجده أو أتذوق حنانه ذات يوم‏,‏ وكم كان ردك علي جميلا وتفاءلت به في حياتي‏..‏ وإن كانت الظروف لم تسعدني بإيجاد هذا الأب البديل‏,‏ لكني تأقلمت مع حياتي وفوضت أمري إلي الله عز وجل ومضت بي الحياة‏..‏ ومنذ ثلاث سنوات وكانت قد مضي أحد عشر عاما منذ طردنا أبي وابتعد عنا نهائيا‏..‏ شعرت باشتياق شديد إليه‏..‏ وأصبح شغلي الشاغل هو أن أراه عن قرب أو أطمئن عليه بالرغم من أنه قد نسيني تماما كأنني لم أكن ابنته‏.‏
وكم بت من ليال عديدة وأنا أناجيه وأتمني رؤيته وأشعر بالرثاء لنفسي حين أراني غير عزيزة عليه ولا يشتاق إلي‏,‏ وفكرت طويلا في السعي إليه والالتقاء به‏,‏ لكن خوفي منه ومن قسوته دفعاني لأن أذهب إليه في مكان عمله لأراه من بعيد ودون أن يراني‏..‏ وفعلت ذلك أكثر من مرة‏..‏ ودمعت عيناي وأنا أدعو الله أن يغرس في قلبه الشوق إلي فيحن إلي رؤيتي ويطلب مقابلتي ولو لمرة واحدة لكي أشعر بذاتي وبعزتي وبنوتي له‏,‏ ودون أن يكلفه ذلك شيئا ماديا‏..‏ فالابنة ياسيدي تحتاج إلي أبيها معنويا ونفسيا وإنسانيا وعاطفيا‏,‏ وليس ماديا فقط‏,‏ كما يتصور البعض‏,‏ لكن الله سبحانه وتعالي لم يستجب لدعائي بهذا الشأن أبدا وطال انتظاري لمجئ أي إشارة من جانب أبي بلا جدوي‏,‏ فإذا بشوقي الشديد إليه ينقلب إلي نوبة غضب عارمة حتي دعوت الله ألا ألقاه بعد ذلك أبدا إلا أمام الله العادل ليأخذ لي منه حقي‏.‏
وبعد إجازة عيد الأضحي منذ ثلاث سنوات رجعت إلي العمل فإذا بجرس التليفون يرن‏..‏ ويحمل لي نبأ وفاة أبي بعد معاناة من المرض‏,‏ وأبلغني من نقل الخبر إلي أن أبي كان في أيامه الأخيرة يتذكرني كثيرا ويطلب أن يراني‏,‏ لكني كنت في زيارة لأحد أخوالي بالاسكندرية لعدة أيام فلم يجدني أحد من أهل أبي في العمل‏.‏
يا ربي لقد تحققت الأمنية الحسيرة التي تمنيتها طوال إحد عشر عاما وطلب أبي أن يراني كما تمنيت‏..‏ لكن أحدا لم يستطع أن يتوصل إلي لإبلاغي بدعوته لي‏..‏
وشاءت إرادة الله أن يرحل أبي عن الحياة وهو يحلم بلقاء ابنته التي ابتعد عنها‏11‏ سنة كاملة‏..‏ وأنا أحلم في نفس الوقت بأن أراه وأشعر بأبوته وسافرت مع أمي وأخوالي إلي بلدة أبي للعزاء فيه‏,‏ وذهلنا لحرارة الترحاب الذي استقبلنا به أنا وأمي من كل أهل أبي‏..‏ حتي تجددت الأحزان وسال الدمع‏..‏ وجاء كل الأقارب ليشهدوا أمام الله بأن أبي قد اعترف بخطئه في حق أمي وحقي أمامهم‏,‏ وأنه روي لهم نادما كيف أذاقنا العذاب سنوات طوالا وقصر في الإنفاق علي‏,‏ وكيف جري وراء وهم إنجاب الطفل الذكر لكي يحمل اسمه‏,‏ وأقر حين علم بأنني قد حصلت علي الماجستير وبدأت الإعداد للدكتوراه بأنني أفضل من ألف ولد‏,‏ كما اعترف بأن كل ما جمعه من مال مقابل حرماني من الإنفاق علي طعامي وشرابي وملبسي وتعليمي قد ضاع سدي في محاولات إنجاب الطفل الذي لم يرزق به‏,‏ وبعد أن فشلت آخر محاولة للإنجاب عن طريق طفل الأنابيب‏,‏ مرض حزنا وقهرا فإذا بزوجته تتركه لأهله في أيامه الأخيرة‏..‏ لأنها لا تصبر علي رعايته في مرضه‏..‏ فيمضي أيامه الأخيرة نادما علي ظلمه لأمي وابتعاده عني وحرمانه لي من حنانه ورعايته وماله سنوات طويلة‏.‏
واستعدت كل ذلك في خاطري وأنا أقف أمام قبره‏..‏ فانهرت باكية وتمنيت لو كان قد عرف كل ذلك قبل فوات الأوان لكي يعوضني عن كل ما مضي‏..‏ ولكي أعيش تحت أقدامه كخادمة له في مرضه‏..‏ لكن ارادة الله قد نفذت وانتقل أبي إلي جوار ربه‏,‏ ودعوت الله أن يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأن يسكنه رياض جنته‏.‏
ورجعت إلي حياتي وعملي‏..‏ ومضت الأيام وتحسنت أحوالنا كثيرا بعد الحرمان والمعاناة‏..‏ وانتقلت أنا وأمي إلي مسكن جديد جميل‏..‏ وتقدمت في عملي وفي دراستي للدكتوراه حتي أصبحت الآن علي أبواب مناقشة رسالتي الجامعية‏..‏
وأكتب إليك رسالتي هذه لكي أقول لكل أب إن من واجبه أن يرعي أبناءه بغض النظر عن أي خلافات بينه وبين أمهم لكي ينشأوا بين أحضانه‏..‏ ويتعمق حبه في قلوبهم حتي إذا جاء الأجل دعا له أبناؤه من أعماق القلوب بالرحمة والمغفرة‏,‏ ويتذكروه دائما بالخير والحب‏,‏ كما أكتب رسالتي هذه تعليقا علي بعض الرسائل التي نشرت أخيرا في هذا الباب لأبناء يشكون انصراف آبائهم عنهم سنوات طويلة‏..‏ حتي تسممت مشاعر هؤلاء الأبناء تجاههم‏,‏ ولكي أقول لهؤلاء الأبناء إنه بالرغم من كل ما تشعرون به من قسوة الحرمان وبعد الأب عنكم‏,‏ فلا تغلقوا الأبواب نهائيا في وجوه هؤلاء الآباء إذا سعوا إليكم في أي مرحلة من العمر أو أبدوا أي بادرة ندم علي موقفهم السابق منكم‏,‏ وإنما انتهزوا الفرصة فلقد يكونون قد أفاقوا من غيهم كما أفاق أبي في أيامه الأخيرة‏..‏ ولأن الفرصة إذا ضاعت قد لا تتكرر ويرحل الآباء عن الحياة وتظل المرارة في القلوب إلي الأبد‏.‏
كما أرجو من بعض الآباء الذين لم ينجبوا غير الإناث أن يدركوا أن بناتهم لم يخلقن أنفسهن بأيديهن وإنما هي إرادة الله وعليهم تقبلها والاعتزاز بها‏,‏ فالابنة هي دائما سر الأب والأم وهي الحنان كله والعطاء كله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.

ولكاتبه هذه الرسالة أقول‏:‏
من يرحمه ربه‏..‏ فإنه يرفع الغشاوة عن عينيه ويرده إلي جادة الحق والعدل‏..‏ وفي العمر متسع لإصلاح الأخطاء ورد الحقوق واستبراء الذمة‏..‏ أما الحسرة الحقيقية فهي ألا يفيق المرء من غيه ويندم علي ماكان من أمره إلا وهو يتسمع أنغام الرحيل ويتحسس حفيف ملاك الموت وهو يحوم حوله‏..‏ فيتمني لو كان الله سبحانه وتعالي قد وهبه قطعة أخري من الحياة علي حد التعبير المؤلم الذي أطلقه الأديب الكولومبي العظيم جارسيا ماركيز في رسالته الوداعية عقب علمه بمرضه الخطير‏,‏ لكي يصحح الأخطاء ويتبرأ من كل الخطايا‏..‏ ويحقق العدل المهدر من حياته الشخصية‏..‏
ولأنها أمنية مستحيلة في أغلب الأحوال‏..‏ فإن الوقت لايسعف صاحبه لكي يفعل شيئا من ذلك‏..‏ ويرحل عن الحياة مثقلا بالخوف من عقاب السماء وعذاب الضمير ولوم النفس‏.‏
والأجدي دائما هو أن يرعي الإنسان حدود ربه في رحلته مع الحياة‏..‏ وأن يتوقف كل حين ليراجع حياته وأعماله‏..‏ ويعترف بأخطائه ويعتذر عنها ويبادر بإصلاحها وفي العمر بقية لمثل ذلك‏..‏ وبذلك تكون له أكثر من حياة‏..‏ ويتعلم علي الدوام من أخطائه في حيواته السابقة ويستفيد بدروسها ويحسن استثمار الفرصة المتاحة له من العمر‏,‏ ويزداد مع تكرار التوقف والمراجعة وتصفية الأخطاء أولا بأول خبره بالتعامل السليم مع الحياة في تجربته الجديدة معها كل حين‏,‏ حتي ليكاد بهذه المراجعة يحقق الحلم الذي صاغه أحد الأدباء حين قال إنه ينبغي للانسان أن يحيا حياته مرتين‏..‏ فيتعلم في المرة الأولي من التجربة والخطأ‏..‏ ويستفيد في الثانية بدروس تجربته الأولي في التعامل علي نحو أفضل مع البشر والحياة‏.‏
وإني لأعجب يا آنستي لما يمثله والدك الراحل من نموذج غريب لبعض الآباء الذين يختارون لأنفسهم بإرادتهم ألا يكون لحياتهم أي معني أو أثر إيجابي أو قيمة في حياة أبنائهم‏,‏ حتي إذا حانت لحظة رحيلهم لم يشعر الأبناء بأية خسارة حقيقية لغيابهم عن مسرح الحياة‏,‏ فإن كان ثمة حزن في مثل تلك المناسبة فهو علي أنهم لم يكونوا آباء صالحين لهم‏,‏ وقد كان بمقدورهم أن يفعلوا ذلك‏..‏ وليس علي أشخاصهم أو علي فراقهم للأسف‏!‏
كما أعجب أيضا لمن يختارون لأنفسهم أن يكونوا كمن قال عنهم أمير الشعراء أحمد شوقي‏:‏
إنما الميت من مشي
ميت الخير والخبر
من إذا عاش لم يفد
وإذا مات لم يضر
فأي هوان يرتضيه المرء لنفسه حين يختار بإرادته أن يستوي وجوده علي قيد الحياة مع غيابه عنها بالنسبة لأبنائه وأعزائه وأقرب الناس إليه‏,‏ فلا يفيدهم سعيه علي ظهر الأرض‏..‏ ولا يضرهم استقراره تحت الثري‏..‏
وماذا يفيد الندم الحسير في اللحظات الأخيرة علي ظلم ذوي القربي والتقصير في حقوقهم وإعناتهم‏..‏ بعد فوات الأوان‏..‏
إن رسالتك يا آنستي تحمل لنا الكثير والكثير من المعاني والدلالات وأجراس الإنذار لمن يكررون خطيئة محاسبة الأبناء علي جنسهم الذي جاءوا به إلي الحياة‏,‏ وخطايا ظلم شركاء الحياة بلا ذنب جنوه‏,‏ وكبائر التخلي عن الأبناء الذين يحتاجون إلي عطف الآباء ورعايتهم وحمايتهم‏..‏ وجرائم مباعدتهم وحرمانهم من حقوقهم المشروعة علي آبائهم‏..‏ فعسي أن يتفهم مغزاها بعض السادرين في غيهم قبل أن يفوت أوان إصلاح الأوضاع‏.‏
وعسي أن تعوضك السماء عن كل ما حرمت منه وأن يرعي الله سبحانه وتعالي خطواتك في الحياة ويقودك بإذن الله إلي النجاح والسعادة والأمان‏.‏
المزيد ....

موعــد القطــــار‏!‏

28-02-2003
أكتب إليك وفاء لعهد قطعته علي نفسي أن أروي لك قصتي حين يلوح لي أول شعاع من الضوء‏,‏ فأنا شاب في الثانية والثلاثين من العمر‏,‏ نشأت في أسرة طيبة بين أب حازم وأم ربة بيت وأختين تصغرانني‏..‏ ولقد مضت طفولتي طبيعية وسعيدة إلا من بعض الفترات التي كان أبي يعاقبني فيها بقسوة علي هفوات الطفولة‏..‏ ويبرر شدته معي بأنني الولد الوحيد وينبغي أن أكون المثل الأعلي للأختين‏..‏ ولهذا السبب لم يكن يقبل مني أي تهاون أو خروج عن القواعد المرعية‏..‏ وفي هذا الجو الصارم نشأت‏..‏ وأنهيت دراستي الثانوية والتحقت بالجامعة‏..‏ وخلال السنة الأخيرة‏,‏ اقتربت من زميلة لي‏..‏ لفتت نظري بدماثة طبعها وهدوئها وجمالها المريح‏,‏ وشيئا فشيئا تقاربنا‏..‏ وتعاهدنا علي الزواج بعد التخرج‏..‏ وصارحتني فتاتي منذ البداية بكل شيء عنها‏,‏ فعرفت أن والدها تاجر صغير مثقل بالأبناء ودخله لا يكاد يفي باحتياجات الأسرة إلا بصعوبة شديدة‏,‏ وعرفت هي أن والدي مدير عام بإحدي الهيئات ويعتمد في حياته علي الأرض الزراعية التي ورثها عن أبيه‏,‏ وأنه الآمر الناهي في حياة أسرته‏..‏ وتخوفت فتاتي كثيرا من ألا تلقي القبول منه بسبب بساطة حالها بالمقارنة بأسرتي‏,‏ لكنني طمأنتها إلي أنه ـ بالرغم من شدته البادية ـ رجل طيب ويرغب في سعادتي‏..‏

وأنهيت دراستي‏,‏ وكلفني أبي ببعض الأعمال في أرضه الزراعية إلي حين إيجاد عمل لي‏,‏ ونجح بعد عام من تخرجي في تعييني بوظيفة في نفس المصلحة التي يعمل بها‏,‏ وبدأت أفكر في مفاتحته في أمر فتاتي التي أرغب في الارتباط بها‏..‏ وقبل أن أفعل فوجئت به يطرح علي فكرة خطبة ابنة ابن عمه الذي يتولي رعاية مصالحه في الأرض الزراعية والبلدة ويملك ثلاثين فدانا وراح أبي يعدد لي مزايا هذا الاختيار الحكيم من وجهة نظره‏..‏ وكيف أنه سيحقق المصلحة للجميع‏,‏ فالعروس طالبة بالثانوية العامة وجميلة ومن أسرة عريقة ووالدها ثري ومحترم‏,‏ وسوف يوثق هذا الزواج روابطه بأبي فيزداد إخلاصا في رعاية مصالحنا بالبلدة‏..‏ إلخ‏,‏ وانعقد لساني فلم أستطع النطق بكلمة واحدة‏..‏ وأعتبر أبي صمتي هذا قبولا فمضي في تنفيذها ووجدت الأمور تزداد تعقيدا‏..‏ فصارحت أمي بأنني أحب فتاة أخري وعاهدتها علي الزواج‏..‏ وتحدثت أمي مع أبي فانفجرت الزلازل والبراكين في حياتنا العائلية‏,‏ واستدعاني أبي وراح يستجوبني عن تاريخ هذه الجريمة‏,‏ ومتي بدأت وكيف جرؤت علي ارتكابها وأنا أجيب بصوت خائف ومتردد‏,‏ ثم انتقل بعد ذلك إلي السؤال عن الفتاة وأسرتها وأبيها ومستواها الاجتماعي والمادي‏,‏ وكلما أجبته علي سؤال اشتد حنقه حتي هم بأن يبطش بي لولا أن صرخت أمي وتدخلت بيني وبينه لأول مرة في حياتها قائلة له إنني قد صرت شابا ولا يجوز له أن يضربني كالأطفال‏..‏وشهدت أسرتنا أزمة عائلية عنيفة بين أبي وأمي‏,‏ وغضب أبي غضبا هائلا حتي أنه هجر البيت وانتقل للإقامة في البيت الريفي الصغير الذي يقع وسط أرضه‏,‏ ولم تنجح محاولاتنا لاستعطافه وإقناعه بالعودة إلا بعد أن قبلت يده ورأسه ووعدته بأن أفعل ما يريد ولو كنت به شقيا‏,‏ ورجع أبي إلي البيت لكنه رجع شخصا آخر متجهما وحزينا وصامتا علي الدوام‏,‏ وبعد عدة أسابيع أبلغني بأن أستعد للسفر معه إلي البلدة لخطبة ابنة قريبه فاسود وجهي‏..‏ والتزمت الصمت‏..‏ فسألني‏:‏ ألا ترغب حقا في الزواج منها‏!‏ فطفر الدمع من عيني ولم أتكلم‏..‏ فنظر إلي طويلا ثم قال لي‏:‏ إذن فافعل بحياتك ما تشاء‏,‏ ولكن لا تنتظر مني أية مساعدة في زواجك‏,‏ وقلت له إنني أقبل ألا يساعدني ماديا في الزواج مادام هذا هو قراره‏,‏ لكني أطمع في ألا يحرمني من شرف وجوده معي عند التقدم لأهل فتاتي‏,‏ وعند الزواج‏..‏ كما أطمع ألا يحرمني من وجود أمي والأختين معي في هذه المناسبة‏.‏

وانتظرت كلمته بقلب خافق فأجابني بأنه لن يمنع أمي وأختي من مصاحبتي إلي أهل الفتاة‏..‏ ولا من حضور الزواج لكنه لن يحضره هو ولن يشارك فيه‏!‏
وعبثا حاولت بعد ذلك يا سيدي أن أستعطفه لكي يغير رأيه أو يلين قلبه‏,‏ وفشلت محاولات أمي والأختين معه وكل أقاربه‏,‏ وزاد الموقف سوءا بتقدم شاب ملائم لفتاتي‏,‏ مما اضطرني للتحرك قبل فوات الأوان فاستجمعت أرادتي واصطحبت أمي والأختين إلي بيت الفتاة وطلبت يدها‏..‏ وصارحت والدها بكل شيء وبأني سأعتمد علي نفسي في الزواج‏,‏ ولن يساعدني أبي في شيء‏..‏ وتفهم الرجل الموقف لكنه رفض أن يقبل عقد القران في غير حضور أبي‏..‏

وبدأت معركة جديدة مع أبي لإقناعه بأن يظهر فقط لمدة نصف الساعة يوم عقد القران استكمالا للشكل الاجتماعي‏..‏ وبعد جهود مضنية وافق علي ذلك وباعت أمي بعض مصاغها لتساعدني بثمنه علي تكاليف الزواج‏,‏ وقدمت لي أختي الوسطي سلسلتها الذهبية وهي ترجو لي السعادة وقدمت أختي الصغري خاتمها وجنيها ذهبيا كانت قد حصلت عليه من أبي عند نجاحها في الإعدادية‏,‏ ورفضت في البداية أن آخذ ذهب الأختين شاكرا لهما مشاعرهما الصادقة لكنهما لم تتركاني إلا بعد أن أخذته وساعدني والد خطيبتي في استئجار شقة شعبية صغيرة بمنزل قديم بالقرب من متجره الصغير في حي الخليفة‏..‏ وبدأت حياتي الزوجية مع زوجتي ونهلت من نبع السعادة معها وتعزينا عن ضيق ذات اليد وتواضع الأثاث وبؤس الحال بالحب المتبادل بيننا والعطف‏.‏ وبعد شهر من الزواج اصطحبت زوجتي يوم الجمعة وذهبت إلي بيت أبي‏.‏ فصرخت أمي من الفرحة حين رأتني‏..‏ وفعلت نفس الشيء الشقيقتان‏..‏ أما أبي فقد مد لي ولزوجتي يده صامتا‏..‏ ثم دخل غرفة نومه وأغلقها عليه حتي غادرنا الشقة‏..‏ ولاحظت زوجتي في طريق العودة اكتئابي وحزني‏,‏ فهونت علي الأمر بابتسامتها الطيبة وقالت لي إن القلوب تلين ولو بعد حين‏..‏ ثم حملت زوجتي وكثرت مطالب الحياة‏,‏ فطفت علي المحلات التجارية الصغيرة المجاورة لمسكني أعرض علي أصحابها إمساك دفاترها وإجراء حساباتها وإنهاء مشاكلها مع الضرائب لقاء مبلغ بسيط‏,‏ وحصلت علي حصة في أحد المحلات مقابل ثلاثين جنيها في الشهر وأصبحت أخرج بعد الظهر إلي هذا المحل وأقوم بإعداد حساباته وأرجع إلي مسكني‏,‏ ووفقني الله في إنهاء مشكلة لصاحبه مع الضرائب فكافأني عليها بخمسين جنيها كانت بالنسبة لي بمثابة كنز هبط علي من السماء‏..‏ وفاجأ المخاض زوجتي فحملتها إلي المستشفي الحكومي ووضعت حملها بسلام وتشجعت بمجيء وليدي وأول حفيد لأبي‏,‏ فزرت والدي ودعوته لأن يشرف حفل السبوع المتواضع الذي سأقيمه له فرفض بإصرار مرة أخري‏..‏ فرجوته أن يسمح لأمي والأختين بحضوره ولم يعارض‏..‏ واحتفلنا بسبوع المولود‏,‏ وغصة في قلبي لغياب أبي‏..‏ وسألتني أمي مشفقة عما سأفعل في تكاليف المولود وثمن اللبن وأجر طبيب الأطفال وخلافه‏,‏ فطمأنتها إلي أن الله سبحانه وتعالي لا ينسي خلقه‏..‏ ولسوف يفتح لي من أبواب الرزق ما يعينني علي الوفاء بهذه الالتزامات‏..‏ وشكرتها بحرارة حين قدمت للمولود خمسين جنيها هي كل ما تملكه كنقوط له‏..‏ ودمعت عيناي والأختان تقدمان له مصرو
فهما الشهري كنقوط أيضا‏.‏ وكأن أبواب السماء كانت مفتوحة علي مصراعيها حين قلت لأمي ما قلته‏,‏ فبعد ميلاد طفلي بأسبوعين رفع التاجر الذي أمسك حساباته أجري إلي‏50‏ جنيها‏,‏ وحصلت بتوصية منه علي حصة أخري لدي تاجر صديق له بخمسين جنيها شهريا‏!‏
ومضت بنا الحياة وأبي مصر علي تجاهلي وعدم الترحيب بي إذا زرته في البيت‏..‏ وزوجتي تواصل التهوين علي ونصحي بالصبر عليه لأنه أبي مهما فعل‏!‏ لكن الحياة قاسية أكثر مما نعتقد في بعض الأحيان يا سيدي‏..‏ فلقد أبت أن تمضي بنا الأيام هادئة بالرغم من شظف العيش والحرمان‏..‏ فانهار جزء من البيت القديم المتهالك الذي أقيم فيه‏,‏ ولولا لطف الله لكنا بين الضحايا فغادرته مع زوجتي وطفلي‏,‏ وأقمت مع أسرة زوجتي في شقتهم المزدحمة بالأبناء‏..‏ ولم أفكر في اللجوء إلي مسكن أبي الواسع لعلمي بموقفه مني‏..,‏ وبعد معاناة شديدة لم أجد حلا لمشكلة السكن سوي أن أطلب نقلي إلي فرع الهيئة في أحد مراكز الصعيد علي أمل أن أجد سكنا بالإيجار هناك‏,‏ وسافرت إلي هناك وعملت في بلدة صغيرة ونجحت في العثور علي شقة بسيطة بالإيجار واستدعيت أسرتي وكررت في تلك البلدة ما فعلته في حي الخليفة‏..‏ وطفت علي التجار أعرض عليهم خدماتي كمحاسب وكاتب حسابات وخبير في الضرائب‏..‏ ونجحت بعد العناء في الحصول علي حصة واحدة لدي أحد تجار البلدة‏..‏

ولبعد المسافة وضيق ذات اليد وضرورة الادخار لسداد بعض الديون فلقد أمضيت ما يقرب من ثلاثة أعوام في هذه البلدة دون العودة إلي القاهرة وكنت خلال ذلك أواظب علي الاتصال بأمي والأختين تليفونيا‏..‏ وأكتب لهن الخطابات‏..‏ وأكتب لأبي أيضا كل اسبوعين رسالة فترد علي أمي والشقيقتان ولا يرد أبي أبدا‏.‏ ثم ارتفعت حرارتي وأصبت بالحمي وتضاربت التشخيصات بين الملاريا وغيرها وتدهورت صحتي‏..‏ ونصحني طبيب المستشفي باستشارة أحد كبار الأطباء في العاصمة‏..‏ ورأيتها فرصة لكي تزور زوجتي أهلها فاصطحبتها والطفل بالقطار إلي القاهرة‏..‏ ونزلنا في بيت أصهاري‏..‏ واستشرت الطبيب وكتب لي علاجا مختلفا‏,‏ واصطحبت زوجتي وطفلي وتوجهت إلي بيت أسرتي‏,‏ ولسوء الحظ كان المصعد معطلا فحملت طفلي علي صدري لأن زوجتي حامل ولا تستطيع حمله‏..‏ وصعدنا السلم ودققت الجرس وأنا ألهث والعرق يتفصد من جبيني وطفلي فوق ذراعي وفتح الباب‏,‏ فإذا بي أجدني أمام أبي وهو ينظر إلي في ذهول‏..‏ وينظر إلي الطفل الذي أحمله في استغراب‏..‏ وتجمد الموقف لحظات ثم قلت‏:‏ السلام عليك يا أبي‏!‏
فنظر إلي صامتا ثم قال‏:‏ ما هذا الشحوب في وجهك فأجبته‏:‏ أني مريض يا أبي وجئت لاستشارة الطبيب في القاهرة‏,‏ فمد ذراعيه وحمل عني الطفل وهو يتفحصه باهتمام شديد وجاءت أمي والأختان وصرخن حين رأينني ورأين الطفل وتخاطفنه وهو يضحك وينقل عينيه بينهن في سرور‏,‏ ولأول مرة منذ بضع سنوات أشعر بذوبان بعض الجليد بين أبي وبيني‏,‏ فلقد رحب بزوجتي ببعض الحرارة‏..‏ ولاعب الطفل ونظر متألما إلي ملابسي التي لم تتغير منذ أكثر من‏5‏ سنوات‏..‏ وسألني عن مرضي باهتمام وعن حياتي ودخلي‏..‏ وحين هممت بالانصراف انتحي بي جانبا ومد لي يده بمظروف به مبلغ كبير وهو يقول‏:‏ هذا للعلاج وللدواء ولشراء بعض الملابس‏,‏ فاعتذرت عن عدم أخذه منه وأصررت علي ذلك وقلت له إنني لا أريد منه سوي رضاه عني وعن زوجتي وحفيده وتمسكت برفض النقود شاكرا وقبلت يده وقبلت أمي وأختي وخرجنا وسافرنا إلي مقر عملي ولاحظت زوجتي بعد ذلك أن معنوياتي قد ارتفعت كثيرا‏..‏ وأن صحتي بدأت في التسحن تدريجيا وبعد ثلاثة أشهر ذهبت إلي عملي فقال لي رئيسي معاتبا‏:‏ هل هانت عليك عشرتنا هكذا سريعا‏,‏ واستفسرته عما يقول فأبلغني أنه قد صدر قرار بنقلي إلي القاهرة وأن هذا النقل بناء علي طلبي‏!‏
طلبي أنا؟ أنني لم أطلب نقلي للقاهرة‏..‏ وليس لي فيها سكن ولا أملك ما أوفر به مسكنا لي فيها فكيف أطلب نقلي؟
وعدت إلي البيت حزينا‏,‏ ورويت لزوجتي ما حدث وشاركتني همي بهذا القرار وأشارت علي بأن أتصل بأبي لكي يستخدم نفوذه بالمصلحة في إلغاء قرار النقل واتصلت به‏,‏ فإذا به يفاجئني بأنه هو الذي قدم لي طلب النقل باسمي‏..‏ وتابعه حتي تحقق‏..‏

فأجبته بأن هذا النقل كارثة بالنسبة لي لأنه ليس لي مسكن في القاهرة ولا أثاث بعد أن تخلصت منه بالبيع عند نقلي للصعيد‏,‏ ففوجئت به يقول‏:‏ بل لك سكن محترم وينتظرك عند العودة وطلب مني إبلاغه بموعد وصول القطار لكي ينتظرني‏.‏
وتوالت الأحداث بعد ذلك سريعا فلقد امتثلت للقرار وأخليت طرفي في العمل وبعت أثاثي القليل من جديد وحملت حقيبة ملابسنا وركبت القطار مع زوجتي وطفلي‏,‏ ووصل القطار إلي محطة القاهرة فوجدت في انتظاري أبي وأمي والشقيقتين‏..‏ واستقبلونا بالعناق الحار وركبنا سيارة الأسرة إلي البيت‏,‏ وتوقفت السيارة أمام عمارة في نفس الشارع ودعاني أبي للنزول ثم قادنا إلي شقة جميلة في الدور الثالث ودخلنا فوجدنا فيها كل شيء من الثلاجة إلي البوتاجاز إلي السخان إلي التليفزيون إلي حجرة السفرة إلي الأنتريه إلي غرفة النوم‏,‏ بل ووجدنا أيضا غرفة نوم اضافية فيها سرير صغير للطفل‏,‏ وأعطاني أبي فواتير الأجهزة والأثاث فإذا بها كلها مكتوبة باسمي‏..‏ وأعطاني عقد الشقة فإذا به أيضا مكتوب بأسمي‏,‏ ووقعه أبي نيابة عني‏..‏ فلم أستطع حبس دموعي‏,‏ وبكيت كما لم أبك في حياتي من قبل‏,‏ وشاركتني أمي والشقيقتان وزوجتي البكاء‏,‏ حتي نهرنا أبي ودعانا للذهاب إلي بيته لتناول الغداء‏,‏ وهكذا انزاحت الغمة التي خيمت علي حياتي طوال ما يقرب من ست سنوات‏..‏ وعدت إلي أحضان أبي وأمي وأخوتي‏..‏

وتزوجت أختي الوسطي وكلفني أبي بالكثير من المهام الخاصة بزواجها وأديتها بسعادة كبيرة ورددت لها الجميل الذي قدمته إلي في أصعب الأوقات‏,‏ فأعطيتها كل ما في يدي من نقود‏..‏ وأصبحنا نلتقي جميعا في بيت أبي يوم الجمعة علي مائدة الغداء‏,‏ ويمرح طفلي بين جديه وعمتيه وزوج عمته الصديق الجديد لي واحتلت زوجتي بطيبة قلبها ودماثة طبعها ولسانها الحلو مكانة غالية في قلب أبي وأمي والأختين‏,‏ وعاهدت أنا نفسي أن أمر كل يوم بعد عودتي من العمل علي بيت أبي لأطمئن عليه وعلي أمي وأختي الصغري قبل أن أذهب لبيتي‏,‏ وهذه الزيارة لا تستغرق أكثر من‏15‏ أو‏20‏ دقيقة لكنها تسعد قلب أمي‏,‏ وأختي وتسعد أبي وتشعره بأنني في خدمته في كل وقت وقد بدأ يعتمد علي في كثير من شئون الأرض الزراعية ويكلفني بالذهاب إليها كلما تطلب الأمر ذلك‏,‏ وقد أحيل إلي المعاش منذ فترة‏..‏ ولهذا فهو يأمر زوجتي بأن ترسل إليه حفيده كل صباح ليقضي عدة ساعات معه بدلا من التفكير في ادخاله الحضانة‏,‏ ويقضي أسعد أوقاته معه‏,‏ وزوجتي الآن علي وشك أن تضع حملها الثاني‏..‏
ولقد كتبت إليك رسالتي هذه لأني كثيرا ما قرأت لك في ردودك تنصح الأبناء والبنات بألا يخرجوا علي طاعة الأهل‏..‏ وأن يتمسكوا دائما بالأمل في نيل رضا أبويهم عن اختياراتهم في الحياة‏..‏ وأن يصبروا علي الآباء والأمهات الغاضبين إلي أن ترق لهم قلوبهم ويمنحوهم مباركتهم لاختياراتهم‏..‏ وبالاستمرار في الحرص علي مودة الأبوين واسترضائهم والالتزام بتعاليم ربهم في حسن مصاحبتهم في الدنيا معروفا‏..‏ مهما فعلوا ولقد فعلت كل ذلك يا سيدي إيمانا واحتسابا‏,‏ فرفع عني هذه الغمة وأعادني إلي أحضان أبي وأعاده إلي‏..‏ والفضل لله سبحانه وتعالي ولصبري علي أبي حتي صفت لي مشاعره‏..‏ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
ترقبت طوال قراءتي لرسالتك اللحظة التي سيرق لك فيها قلب والدك فيستعيدك إلي أحضانه‏..‏ ويعوضك عما كان من أمره معك‏,‏ ولم يساورني الشك أبدا في هذه الخاتمة السعيدة بالرغم من طول المعاناة والحرمان‏,‏ وأسبابي لذلك هي أنك وإن كنت قد آثرت أن تختار حياتك لنفسك خلافا لما أراده لك والدك إلا أنك لم تشق عليه عصا الطاعة‏..‏ ولم تمض إلي ما أردته لنفسك غير عابيء به أو بمشاعره‏,‏ وإنما حاولت جاهدا نيل رضاه واستأذنته في أن تمضي إلي ما اخترت لنفسك فأذن لك كارها‏,‏ وقبلت بتحمل تبعات اختيارك بلا شكوي ولا أنين‏,‏ وتحملت شظف العيش والحياة الجافة المحرومة مع زوجتك وطفلك ست سنوات طوال دون أن تفسد المرارة أو قسوة حياتك مشاعرك تجاه أبيك بل ودون أن تشعر بأي لوم له‏..‏ أو تقطع صلتك به أو تكف عن محاولة استرضائه ووصل رحمه وإحسان صحبته حتي وإن أبدي لك الجفاء المرة تلو المرة واستمسكت بالأمل في استعادة مودته ونيل صفحه إلي ما لا نهاية وأعانتك زوجتك الشابة بطيبة قلبها وسماحة‏,‏ نفسها وخلوها من المرارة علي ترطيب مشاعرك دوما تجاهه ولم تتشك من صعوبات الحياة أو تشعرك بظلمه لك وحرمانه إياك من طيبات الحياة التي يملك أن يتيحها لك‏..‏ وحثتك دائما علي أن تحفظ له وده كأب ولو باعدك أو قبض يده عنك فكان حالك في صبرك علي ظروفك القاسية كحال الرجال الذين يتحملون تبعات اختياراتهم في الحياة بشرف ولا يتهمون أحدا بالمسئولية عما يقاسون من عناء‏,‏ ويتعففون دائما عن الشكوي من سوء الحال خشية أن تقودهم الشكوي إلي اتهام أقدارهم مما يذكرنا بقول الشاعر القديم‏:‏

وقائلة ما بال لونك حائلا
فقلت لها خل الأمور كما هيا
إذا قلت عن زهد تمدحت خلتي
وإن قلت عن فقر شكوت الهيا

وبدلا من الشكوي والصراخ من ضيق الحال خرجت إلي الحياة تكافح في صبر لتكسب رزقك ورزق أسرتك الصغيرة‏..‏ وحين انهار منزلك القديم في الحي الشعبي لم ترفع الراية البيضاء وتستلم لظروفك‏,‏ وإنما طلبت نقلك إلي بلدة صغيرة بالجنوب علي أمل أن تكون الحياة بها أرفق بك من الحياة في العاصمة الملتهبة‏..‏ فكيف لا يرفع الله سبحانه وتعالي عنك غمتك وهو القائل جل وعلا إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا أي سيجعل لهم سبحانه وتعالي قبولا ومودة لدي الآخرين‏,‏ فإذا سألتني عن هذه الصالحات التي رشحتك لجائزة السماء لأجبتك علي الفور أنها كفاحك الشريف في الحياة لإعالة نفسك وزوجتك وطفلك‏,‏ وصبرك علي المكاره وخلوك من كل مرارة تجاه أبيك‏..‏ وحرصك الدءوب علي وصل رحمك به بالرغم من مباعدته لك
وفي الحديث الشريف ما معناه‏:‏ إن من الذنوب ذنوبا لا تكفرها الصلاة والصيام ويكفرها الغم بالعيال

فكيف إذن لا يراجع والدك موقفه منك وهو يراك تمضي في الحياة بصلابة الرجال وصبر المحتسبين ورضا القانعين بنصيبهم من الدنيا‏..‏
لقد أثبت له كل ما أراد أن يتحقق منه قبل أن يمنحك مباركته لاختيارك في الحياة‏,‏ فأثبت له أنك رجل قادر علي تحمل المسئولية ومتمسك بما اخترت لنفسك ولو تحملت في سبيل ذلك العناء والحرمان‏,‏ وراغب بصدق في الحياة العائلية الشريفة في ظلال تعاليم ربك ودينك‏,‏ وحريص علي البر بأبويك وأختيك ولو كنت في أسوأ الظروف‏,‏ فكيف لأب عاقل أن يحرم نفسه من ابن صالح مثلك؟

بل وكيف له أن يحرم نفسه من حفيد جميل أنعمت به عليه السماء ليؤنس شيخوخته ويجدد حياته‏..‏ ويجعل للأشياء معني جديدا ومختلفا‏,‏ لقد قلت مرارا أن الآباء والأمهات يسلمون في النهاية باختيارات الأبناء حتي ولو لم يسعدوا بها إذا لمسوا صدق تمسكهم بها وجديتهم فيها وإصرارهم اللانهائي عليها واستعدادهم للتضحية من أجلها وتحمل التبعات المترتبة عليها بشرف‏,‏ وها أنت أيها الشاب تؤكد لي من جديد صدق هذه النظرة‏..‏ حتي ولو كان والدك قد احتاج إلي ست سنوات طوال لكي يتأكد من جدية اختيارك لحياتك‏..‏ ورجولتك‏..‏ وكريم سجاياك وأخلاقياتك‏..‏ فهنيئا لك سعادتك بأسرتك الصغيرة وأسرتك الكبيرة‏..‏ وشكرا لك علي رسالتك الجميلة‏.‏
المزيد ....

النظرات الغريبة‏!‏

07-03-2003
أثارت رسالة الأمنية المستحيلة شجوني فرأيت أن أشركك معي في مشكلتي لعلي أجد لديك مايريح صدري ويساعدني علي اتخاذ القرار الصحيح‏,‏ فأنا طبيبة في التاسعة والثلاثين من عمري يشغل أبي وأمي منصبين مرموقين في المجتمع‏,‏ ولي أخ أكبر وأخت تصغرني‏..‏ وقد تمتعت بحياة مستقرة يرفرف عليها الحب في بيت أبي والتقيت وأنا في سنة الامتياز بطبيب كان وقتها مدرسا مساعدا‏,‏ وبالرغم من أنه قد تقدم إلي كثيرون من الزملاء فإنني وجدت قلبي يميل إلي هذا الطبيب بالذات‏..‏ وارتبطت به وتم زواجنا‏..‏ وطلب مني زوجي تأجيل دراساتي العليا لأنه يريدني إلي جواره عند سفره لنيل الدكتوراه‏..‏ فاستجبت له وسافرت معه وعشت معه أحلي سنوات عمري وكنت له كل شيء ـ الزوجة والمساعدة والسكرتيرة وعملت أيضا لأساعده براتبي علي ظروف الحياة في الغربة‏,‏ وأنجبت طفلة‏..‏ فبدأ مع ولادتها تغير زوجي بعض الشيء وأصبح يتسم بالحدة ويجرحني‏,‏ وعللت ذلك بضغوط الغربة وانشغاله بإنهاء رسالته‏..‏ وجاءت اللحظة الموعودة وحصل علي الدكتوراه وعدنا إلي مصر وزوجي يعدني بأن يعوضني عن جفاف الحياة خلال مرحلة الدكتوراه‏,‏ وأن نعيش معا حياة رغدة نتمتع خلالها بجني ثمار الشقاء وانتظرت هذه الحياة الرغدة فلم تأت وإنما بدأ زوجي يشعر بتميزه علي بدرجة الدكتوراه التي نالها‏,‏ فدفعني ذلك لأن أبدأ دراساتي العليا وحصلت علي الماجستير وبعدها علي الفور رزقت بطفلة ثانية‏..‏ وفوجئت بعدم مبادرة أحد من أهل زوجي بزيارتي للتهنئة بالمولودة‏,‏ وبدلا من ذلك اتصلت بي أخته تنعي لي حظ شقيقها الذي لا يطيق إنجاب البنات‏..‏ وشكوتها لزوجي فانهال علي سبا وتقريعا واتهمني بمحاولة التفريق بينه وبين أسرته‏.‏ومضت الأيام وأنا أحاول جاهدة أن أرضي زوجي لأنني أحبه بالرغم من كل عيوبه‏.‏ وهو يزداد عصبية يوما بعد يوم‏..‏ إلي أن حملت للمرة الثالثة وقررت هذه المرة ألا أتعجل معرفة نوع الجنين‏..‏ وأن أترك ذلك إلي موعده الطبيعي‏,‏ ولأمر ما اعتقدنا أنه لابد أن يكون ولدا هذه المرة فكان زوجي يذوب معي رقة وعذوبة‏..‏ وعشت أجمل فترات حملي إلي أن جاء يوم الولادة فإذا بها طفلة ثالثة فعرفت علي الفور أن طبول الحرب ستدق في حياتنا الزوجية‏..‏ وحدث ما توقعته‏..‏ وبدأ زوجي الذي أصبح شديد العصبية يفتعل المشاكل معي وأصبحت أبسط كلمة تصدر عني أو عن أحد من أهلي وأخوتي كافية لإثارة مشكلة كبري‏..‏ وامتنع زوجي عن زيارة أختي مهنئا حين أنجبت طفلا وبدأ يثير المشاكل مع أخي ا
لأكبر ثم مع والدتي ثم مع أبي وأنا حائرة بين الجميع أحاول ترضيتهم والتقريب بين وجهات النظر والحفاظ علي سفينة حياتي الزوجية طافية فوق الماء‏.‏
ومرض والدا زوجي فرعيتهما حق الرعاية حتي دعا لي والده دعاء صادقا قبل وفاته‏,‏ واعتقدت أن زوجي سيري الجانب المضيء في حياته وهو أن له أسرة تتمني رضاه‏..‏ لكنه لم يفعل وإنما حدث شيء أدركت معه أن شمس حياتنا معا تتجه إلي المغيب‏..‏ فلقد بدأ يشكو مني للجميع شكاوي ليست صحيحة ويروي عني أحداثا ليست حقيقية ويتهمني بإساءة معاملته وكأنما يرتب لادعاء أسباب قوية للانفصال بعيدة عن السبب الحقيقي الذي لا يريد التصريح به لأنه يعرضه للانتقاد وهو إنجاب الولد‏.‏ وبعد أن فضحني زوجي في كل مكان سلمت أمري فيه لله وأحتسبت حبي له عند ربي‏..‏

ولم يمض علي ذلك وقت طويل حتي اتصلت بي سيدة تبلغني بأن زوجي قد تزوج صديقتها التي تعمل سكرتيرة بأحد المستشفيات‏..‏ فطلبت من زوجي الطلاق وقلت له إنه لن يطول الوقت حتي يدرك حجم النعمة التي كانت بين يديه وتبطر عليها‏..‏ وحصلت علي الطلاق‏..‏ ولملمت شتات نفسي واحتضنت بناتي الثلاث وبدأت أواجه حياتي وأقداري‏..‏ وبعد عامين اتصلت أخت زوجي السابق علي غير عادتها ببناتي وبشرتهن بأن زوجة أبيهن حامل في ولد وأنه قريبا سوف يصبح لهن أخ ذكر‏..‏ وطلبت منهن إبلاغي بالخبر السعيد كي أستعد له بإعداد المغات‏!‏ وأبلغتني بناتي بما قالت عمتهن فشعرت بغصة شديدة في حلقي لنغمة الشماتة البادية في حديثها‏..‏ ورفعت رأسي إلي السماء شاكية‏,‏ ولم يقتصر الأمر علي ذلك وحده فلقد بدأ زوجي السابق حين يجيء لزيارة بناته يتحدث بلهجة المنتصر الذي أنصفه زمانه‏,‏ عن هذا الولد المنتظر وكيف ينبغي أن يجئن جميعا يوم الولادة لرؤية المولود السعيد إلخ‏..‏ وتحملت ذلك أيضا صابرة وفي الموعد المحدد أرسل زوجي السابق من يحضر بناته لرؤية المولود عند ولادته وذهبن إليه‏..‏ وفي المساء اتصل بي شقيق زوجي يطلب مني التوجه للمستشفي لاصطحاب البنات إلي البيت‏..‏ وبالرغم من أنني كنت أستطيع أن أطالبه بإعادتهن بنفس الطريقة التي أخذهن والدهن بها فإنني ذهبت للمستشفي‏..‏ فإذا بالجميع صامتون وينظرون لي نظرات غريبة‏..‏ فأخذت بناتي في صمت وانصرفت وركبنا سيارتي عائدين إلي البيت وفي الطريق سألتني ابنتي‏:‏ يعني أيه طفل مغولي يا ماما هل يعني ذلك أنه ليس مصريا‏!‏

فتوقفت بالسيارة علي الفور‏..‏ وأدركت سر صمت أهل زوجي ونظراتهم الغريبة لي حين دخلت عليهم في ممر المستشفي‏..‏ وبعد أن تمالكت نفسي عدت لقيادة السيارة إلي البيت وأنا أتعجب من تصاريف القدر‏,‏ هذا إذن هو المولود الذكر الذي باعنا وباع بناته من أجله‏!‏ وتوالت الأحداث بعد ذلك سريعة ومتلاحقة فلقد طلبت زوجة زوجي السابق منه أن يكتب كل ممتلكاته باسم مولودها لأنه أحوج من أخواته إلي المال وراحت تضغط عليه بشدة ليفعل ذلك وتتقدم إليه كل يوم بطلب جديد فلم يتحمل كل هذه الضغوط وارتفع ضغطه بشدة وأصيب بجلطة في المخ وغيبوبة‏..‏ ودعوت الله أن يفيق وأن ألتقي به لأعاتبه عما فعل بي ثم أسامحه‏..‏ فلم يتسع العمر لتحقيق هذه الأمنية ومات حبيب عمري وأول وآخر من نبض له قلبي قبل أن يحدث ذلك‏..‏ وتتابعت الأحداث فواصلت السكرتيرة الشابة إيجاد المشاكل وأعلنت أنها لا تريد رعاية هذا الطفل لظروفه الخاصة‏,‏ وراحت تعلل ظروف طفلها بكثرة تعرض والده للأشعة‏..‏ مع أن الله سبحانه وتعالي قد حمي بناته الثلاث من هذا الأثر‏..‏ كما راحت تتحدث أيضا عن أنه كان مريضا ولا يقوم بواجباته الزوجية كما ينبغي‏,‏ ولهذا فهي تريد أن تتزوج مرة أخري‏..‏ فتذكرت ما فعله سامحه الله حين اراد أن يمهد لزواجه منها من تشويه صورتي وإذاعة الافتراءات عني وأزددت تعجبا‏.‏
والآن يا سيدي فإني أريد أن أستشيرك في أمر مهم‏,‏ فلقد تزوجت السكرتيرة الشابة مرة ثانية وأصبحت إقامة طفلها موزعة بين بيوت أعمامه‏,‏ وحين يجيء لقضاء يوم أو يومين لدينا أجده في حالة يرثي لها‏,‏ فأهتم به أنا وبناتي حتي تعلقت به البنات كثيرا وتعلق هو بنا بشدة وأصبح موعد مغادرته بيتنا يبكيه بشدة‏..‏ وبناتي يطلبن مني الآن أن يعيش معنا أخوهن علي الدوام‏..‏ وأمي تقول لي أنه كنز يريد الله سبحانه وتعالي أن يفتحه في بيتي‏..‏ وتحذرني من رفض الهدية‏.‏ وأنا موزعة الفكر وحائرة‏,‏ فوجود الطفل يذكرني بغدر زوجي بي‏,‏ ولقد سامحته عن زواجه بغيري لكني لم أسامحه بعد علي الطريقة التي اتبعها في التمهيد له بالافتراء علي وتشويه صورتي ولن أسامحه إلا حين ألقاه أمام رب العرش العظيم‏..‏ فبماذا تنصحني؟

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏
يقول بعض أهل المعرفة إن الرغبة العارمة في الأشياء قد تبعدها عن المرء بدلا من أن تقربها منه‏,‏ وأن من واجب الإنسان أن يعتدل دائما في رغائبه وألا يغالي في التدبير لنيل ما يتطلع إليه لكيلا يجحد نعمة ربه عليه‏,‏ أو تغيب عنه الحقيقة الأزلية وهي أن ومن يتوكل علي الله فهو حسبه أي كافيه وحاميه وراعيه وناصره ومحقق أمنياته ورغائبه‏,‏ وليس أحدا سواه‏,‏ فإن كان له من حظه ما يرضيه سعد به وشكر ربه عليه‏,‏ وإن كان له من أقداره ما يترك مجالا للتمني صبر عليه ورضي به وأمل في تعويض ربه له‏..‏ بلا مغالاة في السخط والتمرد ولا في التدبير لتحقيق مايتطلع إليه‏,‏ ومتذكرا علي الدوام قول الحق سبحانه وتعالي لنبيه المصطفي صلوات الله وسلامه عليه واصبر لحكم ربك فانك بأعيننا إذ كيف لا يصبر علي حكم ربه وهو ليس حكم أحد آخر فيشق عليه احتماله‏,‏ وإنما هو كما يقول الإمام العارف ابن عطاء الله السكندري‏:‏ حكم سيدك القائم باحسانه إليك ويقول أيضا‏:‏ إن من حسن التدبير أن يسقط المرء التدبير مع خالقه ويرضي بأحكامه‏!‏
ثم ما هذا الذي استدعي من زوجك الراحل كل هذا التدبير والسخط والتمرد علي أقداره؟

هل انجاب ثلاث زهرات جميلات‏..‏ يشعن حولهن الحب والعطف والحنان ابتلاء يبرر له خيانة العهد‏..‏ والارتباط بأخري لكي ينجب منها الولد‏,‏ وهو الطبيب الذي يعرف أكثر من غيره أن نوع الجنين يحدده الأب بأكثر ما تفعل الأم‏,‏ ولو كان قد رضي عن حياته وعطايا السماء له لربما كان قد أنجبه من زوجته الأولي وأم بناته؟
ولأن القدر كما يقول لنا‏,‏ بن عطاء الله لا يجري حسب تدبيرك وإنما أكثر ما يكون ما لا تدبر وأقل ما يكون ما أنت له مدبر‏,‏ فقد شاءت ارادة السماء أن يكون الولد الذي تطلع إليه ودبر للفوز به هو مأساته‏..‏ والمعجل له بأقداره‏,‏ غفر الله له جحوده نعمة ربه وافتراءه علي زوجته الأولي بالباطل لكي يبرر لنفسه وللآخرين ما أقدم عليه‏..‏ والآن يا سيدتي فلقد دارت دورة الأيام وأصبح السؤال الذي تواجهينه الآن هو‏:‏ هل تستجيبين لرغبة بناتك في احتضان هذا الطفل المعذب وأيوائه وتنشئته بين أخواته وفي رعايتهن ورعايتك‏..‏ أم هل تستجيبين لمشاعرك الجريحة وترفضين هذا الطفل البريء لأنه يذكرك بغدر أبيه بك‏..‏ واساءته إليك وطعنته لقلبك الذي لم ينبض بالحب لغيره حتي الآن؟‏!‏

وجوابي علي هذا السؤال المحير هو أن هذا الطفل المعذب هو مسئولية أمه قبل أي طرف آخر‏,‏ وهي التي قبلت بأبيه زوجا لها وهي تعلم أنه زوج لأخري وأب لثلاث بنات صغيرات فإذا كانت قد تخلت عن مسئوليته خلال وقت قصير وتزوجت وانصرفت إلي حياتها الجديدة بلا تردد‏,‏ فإنه يصبح من بعدها مسئولية أعمامه وعماته الذين لم يبذلوا الجهد الكافي مع شقيقهم لكي يحفظ عليه زوجته الأولي وأسرته‏..‏ وربما يكونون قد أيدوه أو أيده بعضهم في موقفه منك بدليل موقف أخته الشامت منك عند حمل زوجته الجديدة وبشراها لبناتك بالاستعداد لاستقبال أخيهن الموعود‏.‏
وهذا هو الجانب المظلم من القصة‏..‏ أما إذا شئت أن تنظري إلي جانبها الآخر المضيء فلعلك ترينه في أن هذا الطفل المعذب بأقداره‏,‏ لم يجد بعد طول التدبير من أبيه الراحل وأعمامه وعماته ملاذا رحيما به وآمنا له إلا في كنفك وبين أحضانك وفي رعاية هؤلاء الزهرات الثلاث اللاتي تمرد أبوهن علي أقداره معهن‏,‏ وتطلع إلي الولد بعيدا عنهن‏,‏ فكأنما يرد الله سبحانه وتعالي إليك اعتبارك به‏..‏ وباحتياجه إليك وإلي أخواته ويمحو كل ما أفتراه عليك والده‏..‏ وهو إذن نصر من الله وفتح قريب‏,‏ وليس أي شيء آخر‏..‏ وتكريم من الله سبحانه وتعالي لك يشهد علي سماحتك وأصالتك وكريم خلقك وحسن رعايتك لبناتك وتنشئتك لهن علي الرحمة والعطف والقيم الدينية والأخلاقية‏,‏ بدليل عطفهن عليه وتحمسهن لضمه إلي أسرتكن وحرصهن علي الرفق به وصلة رحمه‏,‏ فإن اتسعت له رحمتك فلقد رحمت في النهاية أخا لبناتك لا يعلم إلا الله ما سوف يجزيك به عنه أنت وبناتك من خير وفضل عميم بإذن الله وعلي قدر الكرام تكون المكارم كما يقول لنا المتنبي‏.‏ وإن عجزت عن التجاوز عن مشاعرك الجريحة وما يذكرك به هذا الطفل المعذب من غدر أبيه وافترائه عليك‏..‏ فلا لوم عليك في الاعتذار عما تطالبك به
بناتك وتشجعك عليه والدتك الفاضلة‏,‏ إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏..‏ في النهاية‏..‏ ففكري في أمرك وافعلي ما تمليه عليك قيمك الدينية والأخلاقية وتسمح لك به طبيعتك بلا قهر ولا إلزام‏..‏ والله فعال لما يريد‏.‏
المزيد ....

الانتقـــام الشـــهي‏!‏

14-03-2003
كنت فتاة كغيري من الفتيات تنتظر اللحظة التي تتزوج فيها وتحيا في سعادة مع زوجها وتنجب الأطفال‏,‏ وتكتشف الجانب الآخر من الرجل‏..‏ وتقدم لي الطبيب والمحامي والمهندس والمدرس‏..‏ لكني اخترت الضابط لأني سعدت ببدلته الميري وأملت فيما تمثله في مخيلتي من رمز للرجولة‏..‏ وتزوجنا وبدأت المأساة منذ الليلة الأولي‏..‏ وظللت زوجة عذراء‏40‏ يوما‏..‏ وزوجي يتهمني بأنني لا أساعده‏,‏ وأنا حائرة في أمري‏..‏ ثم انتهي بنا الأمر إلي اللجوء إلي الطبيب لحل المشكلة‏..‏ ولم يغير ذلك من الأمر في شيء‏..‏ وبعد عدة شهور أخبرني زوجي أنه يائس من الحياة ولا يستطيع شيئا‏..‏ فاستسلمت لأقداري ومضت بنا الحياة وهو يحمل لي كل الحب والاحترام والتقدير والعرفان بالجميل‏..‏ ويقول لي إن الله قد ستره بي ويبكي‏..‏ وأنا أطمئنه إلي أنني سأقف إلي جواره طوال العمر‏,‏ لأن كلا منا هو نصيب الآخر من الدنيا‏..‏ ولابد أن نسعد بما اختارته لنا الأقدار‏..‏ وأفاض علي زوجي من حبه وحنانه‏..‏ ورضيت بذلك وسعدت به‏,‏ وبعد عام أنجبت طفلة جميلة سعدنا بها كثيرا وطار زوجي بها فرحا‏,‏ وقال إنها ستر من السماء له أمام الناس‏..‏ ومضت حياتنا بعد ذلك هادئة‏..‏ وبعد خمس سنوات أنجبت طفلة أخري وكرست حياتي لتربية الطفلتين عشرين سنة‏,‏ وهو يعدني من حين لآخر بأنه سوف يطلب العلاج لحالته‏..‏ وأنا لا أضغط عليه في هذا الأمر لكيلا أجرح مشاعره‏,‏ وكبرت الابنتان والتحقتا بالجامعة ولا أحد خارج نطاق زوجي وأنا يعرف عنا أي شيء سوي أننا زوجان متحابان ومتفاهمان‏..‏ وفجأة اكتشفت وبعد‏23‏ سنة من الزواج والكتمان أن زوجي الفارس الذي حفظت سره وراعيت مشاعره متزوج من أرملة من قريباته منذ ثلاثة أعوام‏..‏ وأن أهله جميعا يعرفون ذلك ويتكتمونه عني حرصا علي مشاعري ولكيلا أهدم أسرتي كما قالوا‏.‏

والأغرب من ذلك أن هذه السيدة كانت تزورني وهي زوجة لزوجي وأستقبلها بكل الترحاب باعتبارها احدي سيدات الأسرة‏,‏ وأرد لها الزيارات في بيتها وأمضي معها أنا وزوجي الوقت الطويل‏,‏ بل لقد حضرنا معا زفاف أحد الأقارب وجلسنا إلي مائدة واحدة مع زوجي‏,‏ وكل من في الحفل يعرف أنها زوجة ثانية له إلا صاحبة الحق الشرعي في أن تعرف ذلك من البداية وهو أنا‏!‏
وانفجرت براكين غضبي وثورتي حين علمت بكل ذلك وواجهته فلم يجد ما يدافع به عن نفسه سوي أنها غلبانة ومريضة‏,‏ وكأنه ـ سامحه الله ـ قد عف زوجته الأولي وأم أبنائه وبقي لديه ما يفيض به علي أخري‏,‏ وهرولت إلي المرأة الأخري أعاتبها علي عدوانها علي حقي وخداعها لي طوال السنوات الثلاث الماضية وأسألها لماذا فعلت ما فعلت‏..‏ وماذا أرادت من زوجي‏..‏ وهو كما تعرف وأعرف؟‏!‏ فأجابتني في هدوء أنها قد زهدت الزواج مع زوجها الراحل ولا تريد سوي رجل يؤنس حياتها ويدخل إليها ويخرج من بيتها‏..‏ وأنها تأمل في أن نكون أختين متحابتين بالرغم مما حدث‏!‏ وازدادت النار اشتعالا في جسدي‏..‏ وطلبت من زوجي أن يطلقها فرفض‏..‏ وطلبت منه أن يطلقني فأبي ذلك بإصرار‏,‏ وأراد أن يجمع بيننا ووقفت مذهولة أمام منطقه لتبرير ما فعل بي‏.‏ فلقد قال لي مدافعا عن نفسه إن الرجل الذي ينكسر أمام زوجته فإنه يكرهها ولابد له من أن يكسرها ذات يوم ويقوم بإذلالها بامرأة أخري‏!!‏

ولم أطق صبرا بعد أن سمعت ذلك وكررت عليه طلب الطلاق فرفض‏,‏ فقمت برفع قضية خلع ضده‏..‏ وما أن علم هو بنبأ القضية وجديتي فيها حتي سارع بتطليق الأرملة طلاقا بائنا‏,‏ وعاد إلي بيته وهو يطالبني بحسن رعايته لكيلا يفر مني مرة أخري‏!‏
واستقرت الأسرة من جديد وهدأت البنتان من الناحية النفسية‏.‏ لكني لم أهدأ بعد‏..‏ ولم يخمد لهيب ناري‏,‏ فأنا مصرة علي عقابه بالخلع أو الطلاق علي الإبراء‏..‏ وفي كل يوم وكل لحظة أفكر كيف فعل بي ذلك هو وأهله‏,‏ وكيف سمح لنفسه بأن يذلني بامرأة أخري ويكسرني علي هذا النحو‏..‏ انه رجل لا يستحق الرحمة فقد خدعني أنا وبناتي وأهلي مع أني كنت سترا عليه‏,‏ وتنازلت عن حقي الشرعي لديه طوال رحلة العمر‏..‏ إنني أرجوك ألا تطالبني بالتنازل عن الخلع أو الطلاق علي الإبراء لأني لن أفعل‏,‏ ولأني مصرة علي أن أعاقبه بأحدهما أولا‏,‏ فإذا عرف قدري بعد ذلك وشعر بأنه لا غني له عني فلسوف أعود إليه بعد أن أكون قد أخذت حقي منه‏,‏ ونصيحتي لكل فتاة ألا تتنازل عن حقوقها الشرعية لدي زوجها‏,‏وأن تعلم أن من لا يؤديها إليها قد يكون مريضا نفسيا‏,‏ وقد يبدأ انتقامه منها بعد فوات الأوان ـ كما فعل معي زوجي‏!‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏
أنت محقة في ثورة غضبك علي زوجك وانفجار براكينك ضده‏,‏ فلقد أساء إليك بالفعل حيث كان ينبغي له أن يحسن ويحفظ لك الجميل‏,‏ وطعن مشاعرك في الصميم ليس فقط بزواجه من أخري دون أن يصارحك بذلك من البداية ويخيرك بين الاستمرار معه أو الانفصال عنه‏,‏ وإنما أيضا بأن رضي لك الظهور بمظهر الزوجة المخدوعة التي يعلم كل من حولها بخديعتها ويشفقون عليها من اكتشافها‏,‏ وتمادي في هذا الخداع إلي حد اصطحابك لزيارة زوجته الأخري‏,‏ أو استزارتها في بيتك والجلوس معها إلي مائدة واحدة في حفل عام‏,‏ دون أن تعرفي حقيقة علاقته بها‏..‏ وفي ذلك قمة الخداع والإساءة لشريكة العمر أمام الآخرين‏.‏
لكن السؤال الذي يفرض نفسه بعد ذلك هو ماذا تستهدفين من الإصرار علي الانفصال عنه بالخلع أو الطلاق؟

هل ضاقت نفسك بعشرته نهائيا فلم تعودي قادرة علي احتمال الحياة معه يوما آخر بعد ما كان من أمره معك؟
لو كان الأمر كذلك لأصبح الانفصال عنه مفهوما أو مبررا‏,‏ لكنك تقولين أنك تصرين علي خلعه أو الطلاق منه لإشعاره بفداحة جرمه‏.‏ فإذا أحس بعد ذلك بحاجته إليك وبأنه لا غني له عنك فلسوف تعودين إليه وتستأنفين حياتك معه‏.‏ وبالتالي فهو انفصال لا مبرر له سوي العقاب والاستسلام لشهوة الانتقام علي طريقة الشاعر الإغريقي هوميروس حين قال‏:‏ الإنتقام أشهي من العسل‏!‏ ولو كان الأمر يتعلق بك وحدك لوافقتك علي ما تعتزمين‏..‏ بل ولربما طالبتك بأن يكون انفصالك عنه نهائيا وليس مؤقتا ولا محدد المدة‏,‏ لكن الأمر لا يتعلق بك وحدك وإنما أيضا بابنتين شابتين هدأت خواطرهما أخيرا بعد هذه العاصفة التي اجتاحت حياتهما‏..‏ ورجعتا للاطمئنان إلي يومهما وغدهما في ظلال أسرة مستقرة وبين أبوين‏,‏ يجمعهما سقف واحد‏.‏ فما معني تكدير صفوهما مرة أخري بهدم الأسرة وانفصال الأبوين وهما لا جريرة لهما فيما فعل أبوهما‏..‏ ولا ذنب لهما أيضا في أقداره التي دفعته للإقدام علي هذا الزواج الثاني لإيهام النفس والمحيطين به بجدارته بدليل قدرته علي الزواج من اثنتين وليس من واحدة فقط‏!‏

انها حيلة نفسية دفاعية‏..‏ مفهومة دوافعها ومبرراتها‏,‏ ولقد تدعو إلي الاشفاق عليه بأكثر مما تدعو للانتقام منه‏..‏ ذلك أن هاجس احتمال النجاح مع امرأة أخري قد يلاحق بعض المعذبين والمحكومين بأقدارهم فيوردهم موارد العناء‏,‏ ولقد انتصرت لكرامتك‏..‏ ورفع زوجك الراية البيضاء وطلق الأخري ورجع إليك نادما أو مهزوما حتي ولو كابر بطلب إحسان عشرته لكيلا يفر منك مرة أخري‏,‏ فلماذا تريدين استقضاء رطل اللحم منه كاملا كما أراد المرابي اليهودي شايلوك أن يفعل في مسرحية شكسبير الخالدة تاجر البندقية؟ انك كما فهمت من رسالتك في الحادية والخمسين من عمرك وليست لديك أية خطة لأن تبدئي حياتك من جديد بعد الانفصال‏,‏ وإصرارك علي الانفصال عن زوجك بالخلع أو الطلاق الآن ولفترة ما حتي ولو كان بهدف التأديب والتهذيب والإصلاح فإنه يحمل معه مخاطر غير محسوبة إذ يجعل عودة الأمان والاستقرار إلي حياتك وحياة ابنتيك رهينة بطرف آخر سواك‏,‏ هو زوجك فإن شعر بحاجته إليك عاد‏.‏ وإن تحقق لديه الأثر العكسي لإصرارك علي عقابه بعد استسلامه لك واصل حياته بعيدا عنك وعن ابنتيه‏..‏ وربما رجع إلي الأرملة التي تقبل بظروفه وترحب به فمن سيكون الخاسر في هذه الحالة إذن سوي ابنتيك؟

ومادمت لا تخططين سوي لعقابه وإشعاره بأهميتك في حياته وتعتزمين العودة إليه في النهاية أفلا يذكرنا ذلك بما يرويه الرواة عن الحوار الذي جري ذات يوم بين الإسكندر الأكبر ومعلمه الفيلسوف أرسطو قبل أن يبدأ حملته الكبري‏,‏ حين راح الإسكندر يحدثه عن طموحاته وأحلامه فسأله أرسطو عما يريد أن يفعل‏,‏ فأجابه بأنه يريد أن يستولي أولا علي كل المقاطعات والممالك اليونانية ويبسط سلطانه عليها
فسأله‏:‏ وماذا بعد ذلك؟

فأجاب‏:‏ أنطلق إلي الشرق فأخضع مصر والشام وفارس‏.‏ فسأله أرسطو‏:‏ وماذا بعد ذلك؟
فأجاب‏:‏ أنطلق إلي الهند والصين فاخضعهما‏.‏

فسأله‏:‏ وماذا بعد ذلك
فأجاب‏:‏ ارجع إلي بلدي وأهدأ واستريح‏!‏

فسأله أرسطو في هدوء‏:‏ وماذا يمنعك من أن تهدأ وتستريح من الآن؟
وبنفس هذا المنطق أتساءل‏:‏ ماذا يمنعك من أن تصبري علي نفسك حتي تهدأ خواطرك وتخمد نيرانك ثم تواصلي حياتك مع زوجك وابنتيك كما ارتضيتها طوال‏23‏ عاما بلا هدم للأسرة ولا قلاقل لحياة الأبناء‏.‏ إن علي زوجك خلال هذه الفترة أن يصبر عليك ويتحمل ما يمور في أعماقك من تفاعلات ضده‏..‏ وأن يبذل كل جهده لتقديم الترضية الكافية لك‏..‏ ولا داعي للطلاق بنية العودة إلي نفس الزوج بعد حين‏!‏
المزيد ....