الأربعاء، ١ مارس ٢٠٠٠

العســــــــل المــــــــر‏!‏

05-09-2003
لا أدري من أين أبدأ قصتي ولا كيف أنتهي؟
فأنا سيدة في الثلاثين من عمري ـ ولدت لأب أسود وجهه وركبه الحزن وبكي بالدمع‏,‏ بل وهجر ـ كما قيل لي ـ البيت لفترة حين عرف أنني بنت‏!‏ لأن البنت في عرفه مصيبة تحل فوق رأس الأب ومسئولية تطارده إلي نهاية العمر‏,‏ أما الولد فإنه سند للأب ويقوم بنفسه وربما بأبيه بعد حين‏!‏ ومع أن الله سبحانه وتعالي لم يحرم أبي من البنين ووهبه ولدين بعد مجيئي للحياة إلا أنه ظل يردد علي أسماعي دائما رأيه في البنات ومسئوليتهن‏,‏ ولم يكن يخفف عني ما أشعر به من ضيق من كثرة تكرار هذا الحديث الممل إلا أمي الطيبة الحنون‏..‏ التي كانت تحتويني وتحتوي الولدين كلما بطش الأب بنا أو انفجر في أحدنا‏..,‏ ولم تكن أمي تستطيع معارضة أبي في شيء لعلمها بشراسة طباعه‏..‏ وبأنه لا يطيق أي معارضة‏,‏ فكانت تكتفي بتعويضنا عن قسوة أبينا علينا بفيض حنانها الغامر‏..‏ وتداعب كلا منا بوجهها المشرق وابتسامتها العذبة حتي يخرج من حالة الضيق والغضب ويواصل الصبر علي قسوة الأب‏..‏

وبالرغم من طاعتي الكاملة له في كل ما يقول أو يطلب مني‏,‏ فلن أستطيع أن أحصي عدد المشكلات التي أثارها معي علي مر السنين من سن الطفولة البريئة إلي سن الصبا والشباب‏..‏ ولقد كافحت كفاح الأبطال لكي أستمر في التعليم علي غير إرادته‏,‏ إلي أن وصلت إلي المرحلة الثانوية‏,‏ ونجح أبي في إرغامي علي التوقف عن الدراسة وحرماني من التعليم‏,‏ بدعوي أنني قد صرت فتاة كبيرة ولا يصح أن أخرج كل يوم لأتعرض للفتنة وعبث الشباب‏,‏ ومن واجبي أن أقر في البيت لأساعد أمي وأخدم أخوتي وأبي وأنتظر ابن الحلال حين يجيء في الموعد المقدور‏,‏ ولقد امتثلت في النهاية لإرادة أبي وصبرت علي أقداري‏..‏ وتقدم لي أكثر من خاطب رفضهم أبي ولا معقب علي ارادته لأنه يريد عريسا ميسورا ماديا ومن أسرة كبيرة‏..‏ ثم تقدم لي قريب من العائلة فرفضته علي الفور لما أعلمه عنه من حدة الطبع وقسوة التعامل مع الآخرين وقطعه لصلة رحمه‏..‏ لكن أبي رحب به ربما لأنه قد رأي فيه صورة أخري منه‏,‏ وطالبني بقبوله بإصرار‏..‏ ورفض دموعي وتوسلاتي له أن يرحمني ويعفيني من الارتباط بمن أشعر بالنفور منه‏,‏ ولم يأبه لاعتراضي‏,‏ ولم تفلح أمي المسالمة الحنون في زحزحته عن رأيه‏,‏ وحدد موعد الخطبة فقبلت كارهة وأنا أمني نفسي بأن تنتهي الخطبة بالفشل بعد فترة‏,‏ وراهنت في ذلك علي حدة طبع خطيبي وحدة طبع أبي وتوقعت أن يصطدما بعد قليل وينتهي الأمر بفسخ الارتباط‏..‏ لكن خطيبي فاجأنا قبل موعد الخطبة بأيام بإصراره علي تحويلها إلي عقد قران‏..‏ وصرخت وبكيت فلم يستمع لي أحد وانتهي الأمر بعقد قراني عليه‏..‏ فاستسلمت لقدري ورضيت بالأمر الواقع‏,‏ وبدأت أتأقلم مع ظروفي فعاملت خطيبي بما يرضي الله بل ووقفت إلي جانبه في بعض أزماته المادية‏,‏ لكن الأيام مضت وفي كل يوم يتكشف لنا المزيد من عيوبه‏..‏ إلي أن ضقت بها وبه فطلبت منه الطلاق وأيدتني أمي وأخوتي وكل أهلي في ذلك‏,‏ في حين وقف أبي من الأمر موقفا سلبيا بالرغم من أنه المسئول الأول عن ارتباطي بهذا الشاب‏.‏ ورفض خطيبي طلاقي بإصرار ونازعني لإرغامي علي إتمام الزواج ورفض كل الوساطات‏..‏ وأعلن أنه لن يطلقني وسيتركني معلقة كالبيت الموقوف إلي ما شاء الله‏..‏ وكلما توجهت إلي أبي بالرجاء باكية أن يساعدني في التخلص من الارتباط الذي أرغمني عليه لم يفعل شيئا ولم يقدم علي أي خطوة‏..‏ وبعد عذاب استمر‏4‏ سنوات كاملة طلقني خطيبي وتنفست الصعداء‏..‏ وشعرت بعدها بشعور غريب ضد كل الرجال و
علي رأسهم أبي‏,‏ وكرهت الارتباط بأي إنسان آخر‏,‏ وبعد أكثر من سنة تقدم لي شاب كان قد رآني عند بعض أقاربي وأعجب بي‏,‏ فرفضته في البداية تأثرا بحالتي النفسية ضد الرجال بعد ما عانيته من أبي وخطيبي السابق‏..‏ ثم هدأت نفسي قليلا بعد أن سمعت ثناء طويلا علي خلقه وتدينه ولين طباعه ووافقت علي أن أراه قبل أن أعلن رأيي النهائي في مشروع الخطبة‏..‏ وشجعني علي اتخاذ هذه الخطوة أنه لم يأت إلي عن طريق أبي‏,‏ وبالتالي فربما يكون إنسانا مختلفا عنه‏!,‏ وقابلته وأنا متحفزة للرفض أكثر مني للقبول‏..‏ فإذا بي أشعر ومنذ اللحظة الأولي التي وقع عليه فيها بصري بارتياح غريب له‏..‏ وإذا بالسكينة تحل علي نفسي‏,‏ فأعلنت موافقتي عليه بعد هذا اللقاء بالرغم من قلة إمكانياته‏..‏ وتمت الخطبة وأنا سعيدة هذه المرة باختياري لمن سوف أشاركه حياته‏..‏ ولم يسعد ذلك بالطبع أبي الذي استاء من فرحتي خلال الخطبة وتبادلي الأحاديث الباسمة مع خطيبي ومداعبتي له واستجابتي لمداعباته‏..‏ فعقد العزم علي أن يحول حياة هذا الخطيب السعيد إلي جحيم‏!‏ وبالفعل بدأ والدي في مطالبته كل يوم بمطلب جديد يتعذر عليه تحقيقه‏..‏ وبدأ يسيء معاملته‏..‏ ويضيق عليه ويتجهم في وجهه‏,‏ وخطيبي صابر ومتمسك بي إلي النهاية‏..,‏ وكان من نتيجة تعنت أبي معه وكثرة مطالبه منه أن عجزنا عن إتمام الزفاف بعد عامين من الخطبة كما كنا نخطط لذلك‏..‏ وطالت خطبتي له أكثر من ثلاث سنوات بغير أن يلوح أي أمل في قرب الوصال‏..‏ وكانت لخطيبي شقة في احدي المدن الجديدة القريبة من القاهرة شقي طويلا لإعدادها للزواج بما يليق بحبه لي‏..‏ فإذا بأبي يطالبه بالتخلص من هذه الشقة وتوفير شقة أخري قريبة من مسكنه‏..‏

وكاد خطيبي ينهار أمام هذه المعضلة الجديدة التي وضعها أبي في طريقه لكنه تماسك‏..‏ وسعي لبيع شقته التي تعب كثيرا في تجهيزها‏,‏ والحصول علي مسكن آخر قريب‏,‏ وبعد عناء مرير تمكن من بيع الشقة بخسارة كبيرة‏,‏ وإحضار المسكن المطلوب ولم تبق هناك حجة جديدة لتأجيل الزواج‏..‏ وقبل تحديد موعد الزفاف بفترة قصيرة توفيت أمي رحمها الله فجأة وبغير مرض سابق‏..‏ فتزلزل كياني وغرقت في الحزن والكآبة‏,‏ وخفف عني وجود خطيبي إلي جواري الكثير من أحزاني وشجوني‏,‏ وساعدني بحنانه الذي لم أجده لدي أبي علي الخروج من دائرة الأحزان‏,‏ وأخيرا تم تحديد موعد الزواج وآن لخطيبي الذي ظل يموت كل يوم طوال‏4‏ سنوات ليلبي طلبات أبي ويسعدني ويرضيني أن يهدأ ويستريح‏,‏ وتم عقد القران والزفاف‏..‏ وانتقلنا إلي عش الزوجية وانفردنا ببعضنا البعض فيه لأول مرة‏,‏ وتنفست بعمق شديد وأنا أقول لنفسي إن سنوات الشقاء والعذاب قد انتهت إلي الأبد وبدأت الآن سنوات السعادة والحب الخالص والعطف المتبادل‏..‏
وخيل إلي أيضا أن زوجي يفكر في نفس الشيء ويقول لنفسه إنه أخيرا قد آن له أن يهدأ ويستريح ويجني العسل إلي جوار من أحبها وأحبته وتحمل من أجلها الكثير‏.‏

لكني فوجئت وبعد ثلاث ساعات فقط من السعادة الزوجية‏,‏ بزوجي وحبيبي يشكو من ألم شديد في صدره وذراعه اليسري‏..‏ ففزعت بشدة وحاولت أن أدلك له صدره وذراعه‏..‏ فلم يخف الألم‏..‏ وأحضرت له قرص أسبرين ابتلعها فلم يتغير الحال‏,‏ وظل حبيبي يتأوه ويتألم طوال الليل وما أن طلع النهار حتي ارتديت ملابسي وساعدت زوجي علي ارتداء ملابسه واصطحبته إلي الطبيب‏,‏ بالرغم من معارضته وإشفاقه علي من الخروج من منزل الزوجية وأنا عروس جديدة‏,‏ وفحصه الطبيب وكتب له العلاج وعدنا إلي البيت‏,‏ وتناول الدواء فلم تتحسن حالته وظل يعاني من الألم الشديد في صدره وذراعه‏,‏ فذهبنا إلي طبيب ثان‏..‏ ثم ثالث‏..‏ ثم رابع‏..‏ وحبيبي لا يتحسن وإنما تسوء حالته يوما بعد يوم وتشتد آلامه إلي حد البكاء فينظر إلي من بين دموعه ويقول بصوت ضعيف‏:‏ مالحقتيش تفرحي‏..‏ يا غلبانة‏!‏
فتنفجر دموعي وأقبل يديه ورأسه‏,‏ وأقول له إنه سيشفي وستطول أفراحنا حتي نهاية العمر إن شاء الله‏.‏

إلي أن شخص الأطباء الحالة التشخيص السليم وبدأوا العلاج الصحيح لكن قضاء الله كان قد سبق كل شيء ولفظ حبيبي أنفاسه الأخيرة بين يدي بعد عشرة أيام فقط من زفافنا‏.‏ وصعدت روحه الطاهرة إلي السماء وتركني وحيدة أرتدي السواد في شهر عسلي المر‏,‏ وأشعر بوحشة شديدة حتي وأنا بين أخوتي وأهلي‏..‏ فلقد ملأ حبيبي كل كياني بالحب ثم هجرني فجأة وتركني للأحزان‏..‏
لقد ظننت أن الله سبحانه وتعالي قد عوضني عن شقائي وحرماني وتعاستي الطويلة بهذا الزوج الطيب الحنون المحب‏..‏ فإذا بكل شيء يتبدد فجأة في الهواء بعد‏10‏ أيام من الزواج‏..‏ إنني لا أدري ماذا أقول‏..‏ ولا أريد أن أقول ما يغضب الله سبحانه وتعالي‏,‏ لكني أتساءل فقط أليست للأحزان نهاية في حياتي‏,‏ أنني أدعو الله لزوجي الحبيب كل لحظة بالرحمة والمغفرة وأرجو منك ومن قرائك الأعزاء أن يدعوا الله له أن يبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه وأن يعوضه عن كل ما حرم منه من سعادة وأمان في جنة الخلد إن شاء الله‏..‏ كما أرجو منك ومنهم أيضا أن يدعوا لي الله أن يعينني علي تحمل بلائي والصبر عليه وأن يعوضني عن زوجي الحبيب خيرا في الدار الآخرة بإذن الله‏..‏ وعفوا إذا كنت قد أثقلت عليك بأحزاني‏,‏ خفف الله عنا وعنكم جميعا كل الأحزان‏.‏ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏
لابد للأحزان من نهاية يا سيدتي مهما أشتد الظلام وتكثفت الغيوم‏.‏ بل إننا لنتعلق بالأمل كلما ثقلت علينا الأحزان في أن يكون اشتداد المحنة بشيرا بقرب انفراجها‏..‏ تماما كما تحلك ظلمة الليل قبيل انبلاج الفجر‏.‏ وكلما ضاقت صدورنا بما تكابده من شقاء سرينا عن أنفسنا بالتفكر في جوائز السماء التي تنتظر الممتثلين لأقدارهم‏,‏ وفي التعويض الإلهي الذي يترقبه الصابرون علي بلائهم‏..,‏ وفي السعادة المؤجلة التي يدخرها لنا الله سبحانه وتعالي بعد أن استوفينا ضريبة الشقاء كاملة وحان دورنا لأن نتطلع في صبر وأمل إلي رحمة الله‏.‏ بل إن المرء ليتمادي أكثر من ذلك فيرجو ربه أن يكون ما قد ألم به من عناء واختبارات نوعا من الألطاف الإلهية التي يقول عنها أهل الحق إنها ذلك التدبير الإلهي الذي قد يأتينا أحيانا بما نكره ليحقق لنا فيما بعد أعظم ما نحب‏..‏ ويقولون أيضا إن في حياة كل منا لمحات ونفحات من مثل هذه المواقف التي بكينا أمامها‏,‏ ثم لم نلبث أن سعدنا بما أمطرته علينا السماء بعدها من عطايا وانزاحت عنا الأحزان السابقة إلي الأبد‏..‏
لقد كان الأديب الفرنسي فيكتور هوجو من كبار المبتلين في حياته الشخصية حيث فقد بعض بنيه وقال عن نفسه إنه نبي الألم‏.‏ وبالرغم من ذلك لم يفقد حماسه للحياة وقال‏:‏ ما الحزن إلا مقدمة للسرور‏!‏

وقال أيضا‏:‏ تسلح بالشجاعة لأحزان الحياة الكبيرة‏,‏ وبالصبر لأحزانها الصغيرة وأد عملك علي خير ما يرام ثم اذهب لتنام واثقا من أن الله لا ينام‏.‏
أما الإمام أبو حامد الغزالي فقد قال في كتابه الشهير إحياء علوم الدين‏:‏ اعلم أن أجر الصابرين فيما يصابون به أكبر من النعمة عليهم فيما يعافون منه

ولاشك في أنك تحتاجين إلي كل من الشجاعة والصبر لمواجهة هذه المحنة المؤلمة التي اقتحمت عليك حياتك علي غير توقع‏,‏ وزاد من إيلامها لك أنها جاءتك وأنت تتهيئين لجني ثمار الصبر الطويل علي التعاسة والشقاء‏..,‏ وتستعدين لارتشاف رحيق الحب والسعادة والأمان مع من جاهد جهاد الأبطال ليبني بك ويطمئن إلي جوارك‏,‏ فإذا بأقداره الحزينة تفاجئه وهو في غمرة السرور‏,‏ فتحيل رحيق العسل الحلو إلي عسل شديد المرارة‏..‏ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏
لقد قال امام المتقين علي بي أبي طالب‏:‏ ما من مصيبة إلا وأري فيها ثلاث فوائد‏,‏ أولاها أنها لم تكن في ديني‏,‏ وثانيتها أنها لم تكن أكبر من ذلك‏,‏ وثالثتها أنني أصبر عليها فأؤجر‏.‏

فأما الأجر فمضمون لك بإذن الله‏..‏ جزاء وفاقا لإيمانك بربك ورضائك بقضائه وقدره واحتسابك شريك السعادة الخاطفة‏,‏ عند خالقه‏,‏ وأما الدعاء له بخير الجزاء وحسن القبول عند ربه فمن أعماق القلب والوجدان مع صادق الأمنيات لك بأن يعينك ربك علي تجاوز المحنة‏..‏ والصمود لأحزانها‏..‏ والتطلع بحق إلي تعويض السماء العادل لك عن كل ما عانيت من شقاء وابتلاء وأحزان إن شاء الله‏.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق