27-06-2003
أنا شاب في السادسة والعشرين من عمري أعاني مشكلة تؤرقني بشدة, وكم رغبت في الكتابة إليك عنها لألتمس منك النصح والإرشاد, ولكنني كنت أتكاسل أو أجبن, إلي أن قرأت رسالة الأبواب المغلقة للفتاة التي أغلقت قلبها دون أبيها لتركه لها بعد طلاقه من أمها دون أن يتحمل أي مسئولية عن تربيتها إلي أن أصبحت تبخل عليه الآن حتي بمشاعر الكراهية, وتتمني موته لتستريح من تأنيب الضمير لها بسبب مشاعرها العدائية تجاه أبيها, كما قرأت ردك عليها وتوقفت كثيرا عند الجملة التي تقول فيها إن هذا القدر الهائل من مشاعر الكراهية التي تحملها لأبيها يحول بينها وبين السلام النفسي والتواصل السليم مع الحياة والحق أن مشكلتي مختلفة بعض الشيء عن مشكلتها ولا تقارن بما حدث مع هذه الفتاة, ولكن نتائجها بداخلي اتخذت نفس الاتجاه الذي أثمرته مشكلتها في نفسها. فأنا من أسرة من الأسر التي يطلق عليها المجتمع أنها راقية اجتماعيا وماديا أيضا, وبرغم هذا الرقي الاجتماعي والعلمي والمادي فإنك لا تشعر بذلك إذا اقتربت من أبي بشدة, فهو أب غليظ القلب مع أبنائه, وخاصة معي أنا الابن الاكبر, ومنذ طفولتي المبكرة وأنا أعاني قسوته الشديدة علي بحجة تعليمي وتربيتي, حيث ربيت علي الضرب والإهانة الشديدة لأنني ضعيف في تحصيلي الدراسي ولا أركز, والحق أنني فعلا في مراحل الدراسة الأولي كنت شارد الذهن دائما ولا أدري لذلك سببا, وفي المرحلة الابتدائية كان أبي يجلس معي يوميا بالساعات المتصلة يذاكر لي, والحق أنه هو الذي كان يذاكر ولست أنا, فنادرا ما كنت أفهم أو أستوعب ما يقوله, وبالطبع كانت كل ليلة تنتهي نهاية درامية مأساوية بعلقة ساخنة وأنام ليلتي باكيا من شدة ما ألم بي, وفي أحيان كثيرة كانت أمي تتدخل لفض النزاع, ولكن أبي لم يكن ليتوقف إلا عندما يحس بالتعب من كثرة ما استخدم يديه ورجليه ورأسه وحذاءه في ضربي وركلي ولطمي بشدة في كل أنحاء جسدي الصغير, وبعد أن أكون أنا أيضا قد بح صوتي من البكاء وعلي وشك الإغماء وكل ذلك لما لا ذنب لي فيه من عدم القدرة علي الاستيعاب أو التركيز وأنا طفل في أولي مراحل التعليم وقليل الحيلة, وهكذا كانت المأساة تتكرر يوميا ليس فقط بسبب عدم الأستيعاب أو التحصيل الدراسي ولكن لأي خطأ يحدث يكون نتيجته كسر كوب أو تلف أي جزء من أثاث البيت فأمسيت ليالي كلها سوداء مظلمة حتي تمنيت الموت وأنا طفل صغير, وكان مما ضاعف من عذابي أننا كنا في غربة وفي بلد ليست هناك لغة للحوار فيه مع أهله, فقد كانت دائما هناك فجوة كبيرة بيني وبين زملائي وأقراني في المدرسة من أهل البلد, ووسط هذه الظروف كان أبي وأمي يعملان في الغربة علي فترتين صباحية ومسائية, وأنا وأخي محبوسان دائما لا نخرج إلا للمدرسة أو في أوقات قليلة مع أبي وأمي للتسوق, وطبعا كل ما كان يهم أبي هو إطعامنا فقط أما المشاعر والصداقة فهي الرفاهية بعينها, فلا مزاح ولا ضحك وإنما هم وغم وسخرية لا أول لها ولا آخر, فمزاحه معنا هو سخريته منا وانتقاصه لنا, وكم حاولت معه أمي أن يعدل من طباعه ويجعلها أكثر لينا ولكن دون فائدة, فلا رأي يعلو رأيه كبرا لأن الجميع من وجهة نظره لا خبرة لهم بالحياة ولا يفقهون شيئا, وفي هذا الجو المشحون بالقسوة والغرور أصبحت أقسو أنا بدوري علي أخي الصغير رغم حبي له, ولم تكن تسنح لي فرصة للشجار معه إلا وأذقته ما أذاقني أبي من الضرب والإهانة.
وقد استمر أبي في إيذائه لي بدنيا ونفسيا حتي دخلت الكلية وهي كلية عملية محترمة لكنها لم تكن علي هواه, وبالتالي سنحت له الفرصة لإشعاري بالفشل وأثر ذلك كثيرا علي مستواي في الكلية فكنت أنجح بصعوبة بعد أن أصبحت أكره المذاكرة بشدة لأنها تذكرني بأبي, وبرغم ذلك فقد كنت أغالب نفسي أحيانا وأتفوق في بعض سنوات الدراسة سواء قبل الجامعة أو بعدها. وحين كنت طفلا أبيت كل ليلة باكيا بعد أن يقسو علي أبي, كنت أستيقظ في اليوم التالي وأقابل أبي ببراءة الأطفال وقد نسيت قسوته علي وشدته معي وربما ضحكت في وجهه ببراءة وهكذا استمرت سياسة الضرب من أبي والصفح والنسيان مني لسنوات حتي بدأت نفسي تتغير تدريجيا تجاهه وبدأت أحمل له في داخلي بذور الكراهية خصوصا بعد أن بدأت تتشكل ملامح شخصيتي وهي الجبن والخوف والانطواء وعدم القدرة علي مواجهة الناس, وأصبحت لا أطيق ضعفي وهواني وذلي, كما أصبحت أسيرا لأحلام اليقظة وأحيانا أسيرا لأفكار إجرامية ملكت علي عقلي, ولم أعد أطيق أن يأمرني أبي بفعل شيء وبالرغم من أن أبي قد امتنع منذ فترة عن إيذائي بدنيا إلا أنه لم يكن يتورع عن أيذائي نفسيا وربما أمام أصدقائي أيضا.
والآن فقد تخرجت في كليتي وعملت بإحدي شركات القطاع الخاص, وأريد الزواج من فتاة أحبها وهي علي خلق ودين ومن أسرة محترمة, وقد حدثت أمي عنها فطلبت مني أن أنتظر قليلا حتي تفاتح أبي في هذا الموضوع, وتسأل عن الفتاة وكانت النتيجة في مصلحة الفتاة فهي حقا فتاة طيبة وعلي خلق ودين ومن أسرة محترمة وطيبة وشهادتها الجامعية تقارب شهادتي ومن نفس بلدي, ولكني للأسف لن أتزوجها, هل تعرف لماذا؟ لأن أسرتها أقل من أسرتي اجتماعيا وماديا, فهل أترك فتاة يميل إليها قلبي وشهد الجميع لها ولأسرتها بالدين والخلق لأن أهلها ليسوا من أصحاب الألقاب اللامعة؟
وكيف يتحقق هذا السلام النفسي الذي تتحدث عنه وكيف أتواصل مع الحياة بطريقة سليمة ؟ وكيف أغالب نفسي تجاه هذا الشعور المؤسف تجاهه.؟
وهل أتخلي عن هذه الفتاة وأضيف إلي نفسي محنة جديدة؟ أم استمسك بها حتي ترضي أمي ويرضي أبي؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
أخطأ والدك بلاشك في قسوته عليك في طفولتك وصباك وبواكير شبابك.. وفي اعتماده لسياسة القسوة المفرطة معك والإيذاء البدني والمعنوي لك بلا تبصر ولا أعتدال لكن أخطاء الآباء في تعاملهم مع أبنائهم تتفاوت درجاتها وتختلف دوافعها في كثير من الأحيان, وهناك فوارق كبيرة بين خطأ ينبع من الاهتمام الشديد بأمر الأبناء مع سوء اختيار الوسيلة للتعبير عن هذا الاهتمام, وبين خطأ يصدر عن الاستهتار بحقوق الأبناء علي الأب.. أو النكوص عن القيام بالواجب الإنساني تجاههم كما هو الحال في ظروف كاتبة رسالة الأبواب المغلقة التي تخلي والدها عن مسئوليته عنها منذ الصغر, فحفر في أعماقها أثرا لم تستطع الأيام محوه.
فإذا كان الأب قد تحمل مسئولياته الإنسانية والأدبية عن أبنائه بشرف ولم ينكص عن أداء الواجب الإنساني تجاههم.. لكنه أخطأ الوسيلة فلقد يشفع له ذلك في التسامح مع خطئه.. والتجاوز عنه, حتي ولو ترسبت في النفس بعض المرارة من أثر ذكريات الليالي المظلمة في الطفولة والصبا, والقسوة المفرطة مع الأبناء أمر مرفوض تربويا ودينيا وإنسانيا وبكل المعايير, وهي نوع من التعسف في استخدام السلطة الأبوية علي الأبناء, يذكرنا بما حذر منه المفكر الفرنسي الكبير مونتسكيو, بقوله: عبرة أزلية أن كل رجل يحوز سلطة مطلقة يميل إلي التعسف فيها, ومع أنه يتحدث في ذلك, عن السلطة بمفهومها السياسي, إلا أن العبارة تنطبق كذلك علي العلاقات الإنسانية وعلي علاقة الآباء بالأبناء أيضا, ذلك أن الأب إنما يملك في الحقيقة سلطة مطلقة علي أبنائه الصغار الضعفاء الذين يخضعون لولايته ويعيشون في كنفه ويعتمدون عليه في حياتهم, وليس هناك من عاصم يحميهم من هذا الميل شبه الغريزي للتعسف في استخدام مثل هذه السلطة المطلقة معهم سوي ما غرسه الله سبحانه وتعالي في قلوب الآباء من الرحمة بأبنائهم.. وما حثنا عليه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه من الرفق بالضعفاء, منبها أن الله سبحانه وتعالي يحب الرفق في الأمر كله, ويكفي دليلا علي سوء عاقبة القسوة في التعامل مع الأبناء ما تقوله أنت نفسك من أن معالم شخصيتك قد تشكلت بسبب قسوة الأب عليك فاتسمت بالجبن والخوف والانطواء والعجز عن مواجهة الناس, بل وما تقوله أنت كذلك من أنك قد اكتسبت ـ كرد فعل لهذه القسوة ـ شيئآ من السادية في تعاملك مع شقيقك الأصغر, فرحت تنفس فيه بعض ما كابدته من عنف أبيك وقسوته وإيذائه لك, غير أن كل ذلك قد انطوت صفحته من حياتك الآن ولم يعد يبرر لك أن تحمل لأبيك وأنت في سن الشباب مثل هذه المشاعر الكريهة, ولا أن تجافيه وتقاطعه إنسانيا كما تفعل حاليا, فلقد أنقضت مرحلة الإيذاء البدني وذكرياتها المريرة.. ولم يعد والدك يستحق منك الآن سوي التجاوز عن أخطائه القديمة وتأويلها برغبته الصادقة في تنشئتك التنشئة القويمة وحمايتك من الفشل الدراسي والتعثر, حتي ولو كان قد أخطأ التعبير عن هذه الرغبة. وكثيرون من الناجحين في الحياة تعرضوا في طفولتهم وصباهم لصور مماثلة من هذه القسوة, فلم يسمحوا لها بعد أن شبوا عن الطوق وأدركوا حقائق الحياة, بأن تفسد عليهم مشاعرهم تجاه آبائهم, وإنما تجاوزوا مراراتهم وحققوا نجاحهم في الحياة وأقاموا أسرهم الصغيرة فنشأوا أبناءهم علي الحب والعطف والتراحم.. وحموهم مما تعرضوا هم له في طفولتهم وصباهم, وقال قائلهم: ليس في صدري لمن أحبني سوي الحب.. ولمن آذاني سوي الإشفاق!
وأتبعوا نهج الأمبراطور الروماني الحكيم مرقس أورليوس الذي قال: خير وسيلة للأنتقام ممن أساءوا إلينا هو ألا نصبح مثلهم! فافعل أنت أيضا ذلك أيها الشاب.. وطهر قلبك وصدرك من المشاعر السلبية تجاه أبيك طلبا للسلام النفسي والتواصل السليم مع الحياة.. وتخلص من بصمات القسوة القديمة علي شخصيتك فاعرف كيف تدافع عن اختياراتك في الحياة وكيف تقنع بها من يختلفون معك في الرأي حولها فإذا كنت مقتنعا حقا بصلاحية الفتاة التي تحبها فثابر علي إقناع أبويك بها إلي أن يتبصرا وجهة نظرك ويتنازلا عن اعتراضهما عليها.. ولن يتحقق لك ذلك إلا إذا تطهرت أولا من مشاعرك الكريهة تجاه أبيك التي تحول بينك وبين التواصل معه.. ومع الحياة بصفة عامة بشكل سليم.
مدونة بريد الجمعة مدونة إجتماعية ترصد أحوال الشارع المصرى والوطن العربى مدونة تتناول قصص, ومشكلات حقيقية للوطن العربى مثل: (ظاهرة العنوسة, الخيانة الزوجية, الخلافات الزوجية, التفكك الأسرى, الطلاق وآثاره السلبية على الأبناء, الحب من طرف واحد, مرض التوحد, الإبتلاءات من فقر ومرض وكيفية مواجهة الإنسان لها) ثم يعرض الموقع فى أخر كل موضوع رأى المحرر فى التغلب على هذه المحن
الأربعاء، ١ مارس ٢٠٠٠
الليالي المظلمة!
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق