الأربعاء، ١ مارس ٢٠٠٠

نـداء الرحيــل‏!‏

02-05-2003
أكتب لك هذه الرسالة بعد أن هدأت نفسي قليلا‏..‏ فأنا كاتب الرسالة التي نشرتها بعنوان كومة الندم‏,‏ ورويت لك فيها أنني شاب أعمل بإحدي الدول العربية‏,‏ وأنني كنت قبل عدة سنوات أذهب إلي شقة شقيقي الذي كان يعمل بالخارج وقتها لاتفقدها واطمئن عليها من حين لآخر فرأيت في شرفة المسكن المواجه لها فتاة لفتت نظري بشدة بسماحة وجهها ورقتها‏,‏ وانني تبادلت معها النظرات طويلا ثم التقيت بها‏..‏ وفتنت بصفاء روحها وطيبتها وملائكيتها واعتزمت التقدم إليها بمجرد أن أستطيع تدبير تكاليف الزواج‏,‏ ثم جاءتني الفرصة للعمل في دولة عربية فسافرت إليها ورجعت في أول إجازة وزرت شقة شقيقي الذي كان قد رجع من عمله بالخارج واستقر فيها‏..‏ وتطلعت إلي شرفة فتاة القلب لأراها وأترقب أول فرصة للالتقاء بها وتجديد عهدي معها فلاحظت أن الشقة مغلقة ومهجورة وسألت البواب فأفادني بأن الأسرة قد أغلقت الشقة منذ فترة طويلة وانتقلت إلي بلدتها بالصعيد‏..‏ وانقطع الاتصال بيني وبين فتاتي عند هذا الحد وفشلت في الاهتداء إلي عنوانها أو إلي أي وسيلة للاتصال بها وانتهت إجازتي فعدت إلي مقر عملي وبعد عامين رجعت إلي مصر‏..‏ لأقف بجوار أبي الذي فاجأه المرض اللعين ورحت أصاحبه إلي العلاج المرهق في المعهد‏..‏ فإذا بي التقي فيه بفتاتي تنتظر دورها لأخذ جلسات العلاج نفسه‏..‏

والتقت عيوننا وانفطر قلبي لمرضها لكني رأيت أن روحها عالية وايمانها كبير وابتسامتها الطيبة كما هي‏,‏ وعرفت منها أنها قد تباعدت عني بعد اكتشافها مرضها‏..‏ وعادت العلاقة الانسانية بيننا ورحل أبي عن الحياة يرحمه الله‏..‏ وبعد فترة أخري دخلت فتاتي المعهد لاشتداد المرض عليها‏..‏ وزرتها فيه كثيرا‏..‏ وسمحت لي والدتها بزيارتها لكي أخفف عنها وارفع معنوياتها‏..‏ وانتهت إجازتي فعدت إلي مقر عملي وأنا حائر هل أقدم علي الارتباط بهذه الفتاة المحكوم بأقدارها‏..‏ أم هل اتجه اتجاها آخر‏,‏ وكتبت لك رسالتي الأولي لأستشيرك فكان جوهر ردك انني كنت أستطيع أن أسعد قلب هذه الفتاة وأن أدخل البهجة علي أيامها الحزينة لو كنت قد صارحت والدتها برغبتي في خطبتها حين تسمح بذلك ظروفها الصحية في المستقبل فأشعرها بذلك بالجدارة وبأنها فتاة جميلة مرغوبة كغيرها من الفتيات وأن هناك من يسعد بالارتباط بها‏,‏ فتزداد أسباب تعلقها بالحياة‏..‏ وقدرتها علي مقاومة المرض‏,‏ وقلت لي وأنت تحاذر ألا تجرح مشاعر هذه الفتاة أو أهلها أنني لم أكن لأخسر الكثير لو فعلت ذلك‏..‏ بل كنت لأربح راحة الضمير وبهجة إسعاد فتاة صغيرة حزينة وسألتني في نهاية ردك هل فهمت الرسالة التي بثثتها لي بين السطور‏.‏ والتي لم ترد التصريح بها رعاية للمشاعر؟

وأنا أكتب إليك الآن لأقول لك إنني تلقيت الرسالة وفهمت مغزاها واقتنعت بها واتصلت بفتاتي في اليوم التالي لنشر القصة مباشرة لأبشرها بقرب موعد عودتي إلي مصر فردت علي والدتها‏..‏ وقدمت لها نفسي‏..‏ فسألتني من أنا؟‏..‏ فطلبت منها أن تعطيني فتاتي لأحدثها وستعرف هي علي الفور من أنا ففوجئت بها ترفع صوتها منادية ابنتها‏:‏ يافلانة تعالي كلمي فلان ثم تكرر نفس العبارة عدة مرات في هيسترية شديدة‏..‏ فتجاوبها أصوات بكاء وعويل شديدين من جوارها‏..‏ ففقدت أعصابي ولم أعرف ماذا أفعل‏..‏ ثم جاءتني أختها وقالت لي البقاء لله‏..‏ فلقد رحلت فتاتي عن الحياة في اليوم السابق‏..‏ أي في نفس اليوم الذي نشرت فيه قصتي معها‏,‏ ياربي‏..‏ لقد رحلت عن الحياة قبل أن تتم عامها الخامس والعشرين ولم يمهلني القدر لكي أسعد قلبها باعلان خطبتنا‏..‏ أو أبشرها بقرب عودتي إليها ورجعت إلي رسائلها أعيد قراءتها مرارا وتكرارا وإلي صورها أعيد تأملها طويلا‏,‏ وتذكرت آخر لقاء معها في المعهد وهي تقول لي إنها تشعر أن هذه المرة ستكون المرة الأخيرة التي أراها فيها وتطلب مني ألا أنساها رحمها الله رحمة واسعة وجعل آلامها ومرضها في ميزانها يوم العرض العظيم وأبدلها خيرا مما تركت‏.‏

لقد كتبت لك هذه الرسالة لكي أقول لك إنني لم أتقاعس عن أداء واجب انساني فرضته علي الظروف‏,‏ ذلك أن كل أفراد أسرتها كانوا يعلمون برغبتي فيها وارتباطي بها‏,‏ ولقد تحدثت مع شقيقها وكانت تلتقي بي بعلمه لأنه شاب فاضل يتفهم الظروف جيدا‏,‏ وقد اتصل بي ثالث يوم بعد رحيلها وعزاني فيها وعزيته في أخته‏..‏ وأنا واثق من أن فتاتي قد رحلت عن الحياة وهي تعلم برغبتي فيها وأملي في السعادة معها‏..‏ ولم يبق إلا أن أقدم عزائي فيها لوالدتها وأخوتها وادعو لهم الله جميعا أن يعينهم علي فراقها‏..‏ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
ما أسرع ما تجري أمور الحياة في بعض الأحيان فإن كان ثمة ما يقال في مثل هذه الظروف المؤلمة فلعله أن نتعلم ألا نؤجل رغباتنا الخيرة اعتمادا علي أن في الوقت متسعا لتنفيذها أو الاعلان عنها في أي مرحلة‏..‏ غير أن الأعمال بالنيات في النهاية ياصديقي ولاشك في أنك قد فزت بأجر النية الطيبة بمجرد اعتزامك إسعاد قلب هذه الفتاة وشد أزرها في محنتها يرحمها الله‏..‏ ولاينقص منه شيئا ان لم يمهلك القدر لتحويل النية الخيرة إلي فعل ذلك أن الانسان إذا هم بفعل الخير وحالت بينه وبين تنفيذه الظروف كتبت له عند ربه حسنة‏,‏ وإذا هم بارتكاب السيئة وحالت بينه وبين ارتكابها الحوائل لم تكتب عليه سيئة برغم انعقاد نيته عليه‏,‏ وهذا من رحمة الله الرؤوف الرحيم بعباده‏..‏ فارض عن نفسك ياصديقي‏,‏ فإنك لم تتقاعس بالفعل عن أداء واجب انساني كانت تطالبك به الظروف المحزنة وحافظ علي صلتك الانسانية بشقيق فتاتك الراحلة وأسرتها الفاضلة‏..‏ إكراما لذكري العزيزة الراحلة‏..‏ وإعلاء لهذه المشاعر النبيلة ولاشك في أن السماء سوف تعوضك عمن فقدت خيرا عميما‏..‏ وتعوض أسرتها عن فقدها خير الجزاء في قادم الأيام بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق