الأربعاء، ١ مارس ٢٠٠٠

الشجرة الوارفة‏!‏

09-05-2003
أقرأ بابك منذ سنوات طويلة‏..‏ وقد شجعتني عدة رسائل علي أن أكتب إليك لأنفس عما في صدري‏,‏ فأنا سيدة في السابعة والثلاثين من عمري‏,‏ ومن أسرة محترمة تقدر العلم وتعتبره ثروتها الحقيقية في الحياة‏,‏ وقد نشأت بين أبي الذي يعمل في التربية والتعليم ووالدتي ربة البيت الطيبة الحازمة الحنون التي تزوجت وهي صبية صغيرة‏..‏ وبعد أن أنجبت أبناءها الأربعة قررت أن تستكمل تعليمها ونهضت بهمتها العالية لتحصيل الدروس معنا‏..‏ وللمذاكرة لنا‏,‏ ثم تدخل الامتحان من منازلهم وتنجح وتنافسنا في النجاح والتفوق‏,‏ وقد التحقت أنا بكلية الطب وأحببت دراستي وسعيت للتفوق بها‏,‏ حتي أصبحت من أوائل دفعتي طوال فترة الدراسة‏,‏ ولم يعفني التفوق أنا وأختي في دراستنا من الالتزام بالنظام الحديدي الذي وضعته لنا أمي‏,‏ فقد علمتنا كل شئون البيت والمطبخ‏,‏ وحددت لكل منا أن تكون مسئولة في أحد أيام الأسبوع عن المطبخ‏..‏ وفي يوم آخر عن ترتيب البيت بالكامل‏,‏ ولو كان امتحاننا في اليوم التالي‏,‏ ومع اننا قد ضقنا في البداية بهذا الالتزام الصارم‏,‏ خاصة أن صديقاتنا وزميلاتنا اللاتي نعرفهن لم يكن يقمن بأي شئ من ذلك في بيوتهن فإننا عرفنا لها قيمة هذا الفضل العظيم‏,‏ خاصة بعد أن تزوجنا وأصبحت لنا أسر وبيوت‏.‏

وفي عامي الثالث بالكلية أعجبت بزميل يكبرني بثلاث سنوات يتسم بالهدوء وقوة الشخصية والاتزان ويعتز بنفسه وبعائلته‏,‏ بالرغم من بساطتها ويفخر بأبيه الذي كان يعمل بالسكة الحديد وأحسن تربيته‏..‏ وبعد فترة فاتحني بإعجابه بي وسعدت جدا بمبادلته لي مشاعري‏,‏ وعدت فرحة لأمي لأبلغها بما حدث‏,‏ فعبرت عن قلقها لظروفه الاجتماعية وخشيتها علينا من أن نكرر قصة كفاحها المريرة في الحياة‏,‏ لكني طمأنتها إلي أن المستقبل سيكون أفضل من الماضي بإذن الله‏..‏ وبذلت جهدا أكبر في الدراسة لأقنعها بأن لاشئ يمكن أن يؤثر علي دراستي وبعد تخرج حبيبي جاء إلينا مع والده واتفقنا علي إتمام الخطبة بدبلتين فقط‏.‏
وفي هذه السنة مرضت أمي وتم تشخيص مرضها علي أنه أورام حميدة‏,‏ وتم استئصال الرحم لها‏,‏ ونظرا لأن جدتي كانت قد عانت من قبل المرض اللعين‏,‏ فلقد نصحنا الأطباء بإجراء فحوص الكشف المبكر عن الأورام وأجريناها لأمي ففوجئنا بوجود تغير في خلايا الثدي‏,‏ وتم إجراء جراحة استئصال له بأكمله‏..‏ وبدأت أمي تحاول التأقلم مع حياتها الجديدة لكن شيئا كان قد انكسر في روحها‏..‏ وشعرت بالحزن من أجلها‏,‏ فقد عاشت عمرها كله مكافحة مناضلة وفي تحد مستمر مع الزمن وتتحمل العبء الأكبر في تربيتنا‏,‏ وقد خرجت للعمل بعد أن حصلت علي شهادتها الجامعية لتحقق ذاتها‏,‏ وبدأت تغير ديكور البيت وتحقق للأسرة كل ما تمنته لها خطوة بعد أخري‏,‏ فما أن تخطت مصاعب الحياة وبدأت شجرتها الوارفة تثمر ثمارها الطيبة حتي انكسرت بالمرض‏.‏

ورحت أخفف عنها وأبشرها بأجرها العظيم عند ربها‏..‏ وأصبحت المسئولة عن الفحص الدوري لها‏,‏ ثم تخرجت في كليتي وعينت معيدة بها وبدأنا نجهز لزواجي بأبسط الإمكانات‏..‏ وكانت الخطبة قد استمرت ثلاث سنوات دون تقدم يذكر في التوفير‏,‏ بالرغم من بذل خطيبي كل جهده في ذلك‏,‏ فقامت والدتي بتجهيز أشيائي الخاصة‏..‏ وأهداني زوج خالتي شقة لكي أقيم فيها مؤقتا إلي أن تتحسن أحوالنا لأن كل ما يملكه خطيبي لا يكفي للحصول علي شقة في العشوائيات‏,‏ وتم تجهيز الشقة المهداة لنا بأبسط وأجمل أثاث في نظري‏..‏ وقامت أمي الحبيبة بتفصيل فستان الزفاف لي وحصلت أنا وصديقة لي علي إجازة أسبوع من عملنا وقمنا بتطريزه فأصبح فائق الروعة والجمال‏.‏
وتم الزواج ووجدت زوجي انسانا مهذبا حلو العشرة وهادئ الطباع‏,‏ ويبذل كل ما في وسعه لإسعادي‏.‏

لكني وجدت الحياة التي تبدأ من الصفر صعبة للغاية وتحتاج إلي كفاح وصبر‏..‏ ولم أعرف أنني كنت أعيش في رفاهية في بيت أبي وأمي‏,‏ إلا حين أصبحت مسئولة عن بيت لا دخل له إلا مرتباتنا الضئيلة‏..‏ ومع ذلك فلقد كانت الحياة سعيدة بالحب والتعاطف برغم صعوبتها‏..‏ وكلما زرت أسرتي كل أسبوع احتفلت بي أمي وكأني قادمة إليها من البادية‏..‏ وأعدت لنا أفخر الطعام وأشهاه‏,‏ ورقدت إلي جواري في الفراش تسألني عن أحوالي‏,‏ فأؤكد لها أنني أسعد إنسانة في الدنيا‏..‏ فتنظر إلي آثار الإجهاد في وجهي‏..‏ ويظهر عليها الإشفاق وتروي لي كل أحداث الأسبوع حتي استغرق في النوم إلي جوارها وأنا أشعر بالأمان والراحة‏.‏
وبدأت أحضر لدراسة الماجستير وأنجبت أولي بناتي وحصلت أنا وزوجي علي الدرجة العلمية وعينت مدرسا مساعدا بكلية الطب‏,‏ وعين زوجي بوزارة الصحة‏.‏

وكان أخوتي قد تخرجوا جميعا في كلياتهم وتزوجوا وسافروا إلي إحدي الدول العربية للعمل‏,‏ فكانت أمي تزورهم بانتظام وتقضي لدي كل منهم عدة أشهر‏..‏ وهي سعيدة بالتنقل بين فروع شجرتها المثمرة‏,‏ وأصبحت هي المسئولة عن متطلباتهم في مصر‏..‏ كما كانت طوال عمرها المسئولة عنها وهم صغار‏,‏ فهي التي توفر السكن اللازم لهم وتشرف علي تشطيبه وتشتري الأرض لمن أراد والصيدلية‏..‏ وتضع نقودهم بالبنك‏,‏ وبفضلها بعد الله سبحانه وتعالي حفظت لهم مالهم‏,‏ وراحت في نفس الوقت تبحث لي ولزوجي عن فرصة عمل مناسبة لتخصصاتنا في الخارج‏,‏ بعد أن ازدادت علينا مطالب الحياة‏,‏ وحين تأخرت الفرصة أقنعت أخوتي بإرسال مبلغ لي كسلفة لدفع مقدم شقة وعلينا أنا وزوجي سداد أقساطها‏,‏ وأقنعت زوجي بقبول المبلغ وهي تحدثه عن أهمية أن يعين القادرون من الأخوة بقية أخوتهم الذين لم ينالوا حظهم بعد من الاستقرار المادي‏,‏ فيردوا لهم دينهم في أوقات اليسر إلخ‏..‏ وما أن قبل زوجي ذلك حتي كان أخي قد وفر لنا فرصة عمل بأحد المستوصفات في بلد مجاور‏,‏ وسافرت أنا وزوجي إليه لمدة عامين ونصف العام‏..‏ ورزقنا الله خلال هذه الفترة بابنتي الثانية‏..‏ واستطعت إحضار أمي لتقيم معي بعض الوقت كما كان أخوتي يفعلون معها وسعدت بها كل السعادة‏..‏ وكعادتها في الاهتمام بكل أمورنا فلقد اشترت لنا أمي شقة جميلة وقامت بتشطيبها‏,‏ وتركت زوجي يواصل عمله في الدولة المجاورة ورجعت إلي مصر وأقمت في الشقة الجديدة وبدأت أعد للدكتوراه ولم أوفق في أول امتحان لها‏,‏ وفوجئت بأنني حامل للمرة الثالثة‏.‏

ويبدو أنني قد تملكني بعض الضيق من تحملي لمسئولية البيت والأطفال والدراسة وحدي وتساءلت لماذا لا أحصل علي شئ في الحياة بسهولة أبدا‏..‏ فأراد الله سبحانه وتعالي أن ينبهني من غفوتي‏..‏ فإذا بي وأنا في الشهر السادس من الحمل أحس بشئ في صدري‏,‏ فانقبض قلبي وكتمت الخبر عن أمي‏,‏ وذهبت للمستشفي الذي أعمل به وأخذوا مني عينة وهم يطمئنونني لكن النتيجة جاءت مخيبة للآمال‏..‏ وتصورت أمي أنني مرهقة من أثر الدراسة للدكتوراه وفشلي في امتحانها الأول‏,‏ فراحت تهدئني وتشجعني لكني صارحتها بنتيجة العينة وليتني ما فعلت‏..‏ فلقد انهارت أمي الحبيبة وحزنت حزنا شديدا حتي بدأت الأورام تنشط في جسمها من جديد‏,‏ ونحن مشغولون بدوامة مرضي‏.‏
ودار جدال طويل بين الأطباء حول مصير حملي وهل يتم إنزاله علي الفور لأن هرمونات الحمل قد تساعد علي انتشار المرض‏..‏ أم هل يتم الانتظار عليه‏,‏ وبذل أصدقائي في العمل ورئيس قسمي وأساتذتي جهودهم معي لإخراجي من الرعب الذي كان يملأني‏..‏ ووقف زوجي وحبيبي إلي جواري وأعطاني المزيد من الحب والحنان‏,‏ وقد ضاعف المرض من حبه لي عشرات الأضعاف‏,‏ وبعد استشارة أطباء فرنسا بالفاكس‏,‏ اتفقت آراء الأطباء مع رد الأطباء الفرنسيين علي استمرار الحمل حتي الأسبوع السادس والثلاثين‏,‏ وجاءت هدية السماء بعد تحليل الورم‏,‏ حيث تبين أنه لا يتأثر بهرمونات الحمل‏,‏ وجاءت جائزة السماء بأن أنجبت طفلا جميلا معافي بالرغم من نزوله مبكرا عن موعده بعد إجراء عملية الاستئصال‏,‏ وحمدت الله كثيرا علي ذلك ودخلت امتحان الدكتوراه للمرة الثالثة ونجحت بفضل الله وفضل أساتذتي جزاهم الله عني خيرا وأكملت العلاج‏.‏

وفي هذا الوقت تنبهت إلي أن أمي قد بدأت تشعر بآلام في العظام والصدر فأجرينا لها التحاليل والفحوص وفوجئت بانتشار المرض مرة أخري‏,‏ وشعرت شعورا قاتلا بالذنب تجاهها لأنني السبب في مرضها‏..‏ وفي بعث النشاط فيه حين صدمتها بمرضي وحزنت من أجلي‏.‏
وبدأت معها مشوارا طويلا من العلاج‏..‏ وأنا أشعر بآلامها هذه المرة أكثر من أي وقت سابق بعد أن تجرعت عذاب نفس هذا العلاج من قبل‏,‏ واصطحب أخي الأكبر أمي إلي فرنسا وعرضها علي الأطباء هناك وأعدوا خريطة العلاج لتنفذها في مصر‏.‏
وبدأت حالتها تتحسن تارة‏..‏ وتسوء أخري‏.‏

وكان زوجي قد طلب مني أكثر من مرة أن ألحق به للعمل معه في نفس المكان بعد أن ضاق بوحدته هناك‏,‏ فترددت بين البقاء إلي جوار أمي والاستجابة لنداء زوجي‏,‏ وعلمت أمي بالأمر‏..‏ فراحت تحثني علي انتهاز الفرصة للعمل وجمع الشمل وتؤكد لي أنها قد أصبحت بخير وأن شقيقي سينهي عمله في الخارج ويرجع للإقامة بالقرب منها‏..‏ ولست أدري هل اقتنعت بما قالته لي أم أنني أردت الاقتناع به لكي ألحق بزوجي‏,‏ وعلي أية حال فقد سافرت إليه‏,‏ وبرغم سعادتي باجتماع شمل أسرتي الصغيرة فإن حالتي النفسية ساءت إلي درجة اللجوء للعلاج النفسي‏,‏ وساعد علي ذلك أن أخي تأخر في العودة وخلت الدنيا علي أمي وكل أبنائها خارج مصر‏,‏ وليس إلي جوارها سوي والدي وأخوتها‏.‏
ثم عادت أختي في إجازة وتابعت معها خريطة العلاج‏..‏ ورحت أنا وأخوتي نتصل بالأطباء في مصر وفرنسا للمشورة‏..‏ وجاء أخي الآخر فاصطحب أمنا إلي فرنسا من جديد لاستشارة الأطباء لكن المرض إزداد انتشارا ولم يعد يستجيب للعلاج‏.‏

ورجعت أمي لمصر ودخلت العناية المركزة فعدت إلي مصر لزيارتها‏,‏ وبعد فترة تحسنت حالتها فاتفقت مع أخوتي علي أن نتناوب العودة لمصر لرعاية أمنا كل شهرين مرة‏,‏ بحيث لاندعها وحدها أبدا‏,‏ ورجعت إلي زوجي وأولادي علي أن يحل دوري معها بعد شهرين‏,‏ ورجع أخي الأكبر لمصر وسافرت أختي الصغري لزوجها وأولادها‏..‏ ثم تدهورت حالتها فجأة ودخلت المستشفي وأبلغني زملائي أن حالتها خطيرة‏..‏ فبدأت الاستعداد للعودة لمصر وحجزت للسفر ثالث يوم لدخولها المستشفي‏..‏ وقبل موعد الطائرة عاد زوجي إلي البيت وبغير أن ينطق بكلمة واحدة قرأت في عينيه الخبر‏,‏ وأدركت أن أمي التي كرست حياتها كلها لنا من البداية للنهاية قد رحلت عن الحياة وهرولت عائدة لمصر فلحقت بموكبها الأخير وهو في المسجد رحمها الله‏.‏ وركبت إلي جوارها في العربة وأنا أبكي وأدعو لها بالرحمة والمغفرة وأطلب منها أن تسامحني علي تقصيري في حقها‏..‏ وخذلاني لها‏..‏ وبعدي عنها وهي في لحظاتها الأخيرة‏..‏ فلقد ظننت أن العمر سيطول بها إلي أن أرجع إليها‏..‏ ولم أعرف أنني لن أراها مرة أخري‏..‏ ورحت أقارن بين عطائي القليل لها وعطائها الغامر لي ولاخوتي‏,‏ فأجد التقصير من جانبي‏,‏ وأجد العطاء الدافق طوال العمر من جانبها‏..‏ وأشعر بالأسي من أجلها‏,‏ ولقد مرت شهور وشهور علي رحيلها عن الحياة ومازال إحساسي بالذنب تجاهها يؤرقني‏,‏ ليس فقط لتقصيري في حقها وإنما أيضا لشعوري بمسئوليتي عن تجدد مرضها‏..‏ لقد كتبت لك رسالتي هذه لعل نفسي ترتاح قليلا بالاعتراف‏,‏ أو لعلي أجد عندك بعض ما يريحني‏.‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏
مهما قدمنا لآبائنا وأمهاتنا فلسوف نشعر دائما عند رحيلهم عن الحياة وغيابهم الأبدي عنا بالحسرة‏,‏ لأننا لم نقدم لهم أكثر مما سمحت به ظروفنا‏,‏ ولسوف نشعر دائما بأننا كنا نستطيع أن نفعل لهم الكثير والكثير فلم نقدم لهم إلا أقل القليل‏,‏ وتختلط لدينا مشاعر الحزن عليهم بمشاعر الذنب تجاههم‏..‏ ومشاعر الاحساس بفقدان النصير من بعدهم‏..‏ وتتفاعل في أعماقنا كل هذه المشاعر فنجلد النفس بها لفترة من الزمن إلي أن تهدأ الأحزان‏..‏ وتندمل الجراح تدريجيا‏,‏ أنه احساس حارق يلسع من يكابده عند فرقة الأعزاء ولا يكاد يخلو منه ابن بار أو ابنة بارة تجاه أبويهما عند رحيلهما أو رحيل أحدهما عن الحياة‏,‏ وهو علامة صحة لأن الأجساد الحية وحدها هي التي تستشعر الألم في حين تنجو منه الأجساد الهامدة‏,‏ فلا تشعر به ولا تكابده‏...‏ وكذلك الحال مع الضمائر‏.‏ فإذا كانت حية فلسوف تستشعر الألم في مثل هذا الموقف‏,‏ ولسوف يشعر أصحابها بأن كل عطاء قدموه للأب أوالأم قبل رحيلهما عن الحياة هو‏,‏ دون ما يستحقه كل منهما منهم‏..‏ غير أننا نعرف علي الناحية الأخري أن عطاء الأم الحنون والأب الرحيم لابنائهما لايمكن أن يكافئه عطاء من جانب الأبناء ولو بذلوا أرواحهم في سبيلهما‏..‏ ولقد جاء في الأثر أن رجلا قد روي للرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه أنه قد أبر أباه وأمه وأحسن رعايتهما‏..‏ فهل أدي إليهما بذلك حقهما عليه؟ فأجابه الرسول صلوات الله وسلامه بما معناه‏:‏ ولا حتي بعضه‏!‏

ولهذا فلسوف نظل نشعر دوما ببعض التقصير تجاه آبائنا وأمهاتنا حتي ولو كنا قد تركنا كل أعراض الدنيا وجلسنا تحت أقدامهم لنكون رهن اشارتهم‏.‏
ولا عجب في ذلك ياسيدتي فبحر البر بلا شطآن‏,‏ وليس علينا في النهاية سوي أن نجتهد لأداء حقوق الأعزاء علينا قدر الجهد والاستطاعة‏..‏ وألا نؤجل واجبا إنسانيا تجاههم اعتمادا علي اطمئنان الغافلين بأنهم سيكونون في الجوار دائما لكي نعوض ما فاتنا من حقهم علينا في أي وقت‏.‏

فإذا كنت تستشعرين بعض التقصير تجاه والدتك الراحلة فلأن لك ضميرا حيا يستصغر كل عطاء قدمته لها‏,‏ غير أنك لم تقصري في الحقيقة في أداء واجبك الانساني تجاهها‏,‏ ولا اخوتك قد قصروا أيضا في ذلك‏..‏ فلقد أسعدتم قلبها كثيرا بوفائكم لها وبركم بها‏,‏ ونجاحكم في الحياة واستقراركم في بيوتكم الصغيرة‏..‏ واشعرتموها أن شجرتها الوارفة التي ظللتكم بالحب والحزم والرعاية قد أثمرت أجود الثمر‏,‏ وكانت زياراتها لبيوتكم في الغربة تتويجا لكفاحها في تنشئتكم علي الأخلاق الحميدة والقيم الدينية والأخلاقية وحثكم علي النجاح والتفوق وتحقيق أهدافكم في الحياة‏,‏ ثم كان تكاتفكم معها في فترة مرضها وتناوبكم رعايتها والاهتمام بأمرها حصادا طيبا لغرسها الطاهر فيكم وكفاحها الشريف في الحياة من أجلكم‏,‏ فاصطحبها أخواك واحدا بعد الآخر إلي فرنسا للعلاج‏..‏ وتجمعتم حولها في مرضها أكثر من مرة قبل أن تتفقوا علي تناوب العودة لمصر لرعايتها والبقاء إلي جوارها إلي أن يرجع الآخر ويتسلم الراية من أخيه أو أخته‏,‏ وليس في ذلك تقصير في حقها‏..‏ وإنما هي محاولة لتحقيق العدل بين حقها عليكم وحقوق أزواجكم وزوجاتكم وأبنائكم الذين يقيمون خارج مصر عليكم‏.‏
فأما إحساسك بالمسئولية عن تجدد مرضها بعد أن علمت منك بمرضك واشتد بها الأسي عليك‏,‏ فليس له ما يبرره أيضا‏,‏ فتجدد المرض ـ كما لابد انك تعرفين ـ أقدار مقدورة لاحيلة لأحد فيها ولا لوم لأحد عليها‏..‏ ولقد كانت له كذلك أسبابه العضوية التي لم تكن تحت سيطرتك أو سيطرة أحد غيرك‏.‏

فتخلصي من إحساسك بالذنب تجاهها وتقصيرك في حقها‏..‏ لكيلا تستسلمي للاكتئاب وجلد النفس بلا طائل‏,‏ وأكثري من الدعاء وقراءة القرآن لها والتصدق علي روحها‏.‏
وكرري رسالتها في الحياة مع أبنائك فكوني لهم الشجرة الوارفة التي يستظلون بها من هجير الحياة وتحميهم من صواعق القضاء كما كانت أمكم بالنسبة لكم‏..‏ وحافظي علي علاقات التراحم السائدة بينك وبين اخوتك‏..‏ واستوصي خيرا بوالدك الذي أصبح وحيدا من بعد أمكم‏..‏

ففي ذلك كله ما يسعد روحها الخيرة وهي في العالم الأفضل‏,‏ ويحيي ذكراها في نفوسكم دوما ويؤكد للجميع أن غرسها الطاهر مازال يؤتي ثماره الطيبة جيلا بعد جيل إن شاء الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق