17-10-2003
أكتب لك عقب قراءتي لرسالة البيت الخشبي.. فقد دفعتني قصة كفاح كاتبها وصراعه مع الحياة بلا سند حتي أصبح من الأثرياء, لأن أروي لك أنا أيضا قصة حياتي وكفاحي وهي مشابهة لقصة البيت الخشبي لكنها تختلف عنها في نهايتها.. ذلك أنني لم أمرض مرضا شديدا كما حدث لصاحب البيت الخشبي وإنما دفعت ثمن النجاح في اتجاه آخر من حياتي وسعادتي..
فلقد نشأت في بيت تبدو عليه آثار العز القديم, لكن واقع الحال يدرج أهله في عداد البسطاء.. فأنا أقيم مع أبي وأمي وأختين سواي في بيت صغير ملك لأبي وأخوته, أي أعمامي, وبابه من الخشب الثمين المحفور وفوقه تمثال صغير من الرخام لنسر أو صقر, وحين تفتحت للحياة أدركت أن أبي كان رجلا طيبا ومتدينا يعمل بالأجر في مصنع صغير لإنتاج احدي السلع الشعبية, يملكه أخوه أي عمي الأصغر من أبي. وحين تساءلت بعقلية الطفل, لماذا يملك عمي مصنعا ولا يملك أبي مثله؟ قيل لي إن عمي هذا ليس أخا شقيقا لأبي وأن أمه الزوجة الثانية لجدي قد ورثت عن أبيها بضعة أفدنة فباعت جزءا منها ومولت ابنها الذي عمل بالتجارة ثم أشتري هذا المصنع, واستقرت أحواله المادية في حين استمر أبي يكسب رزقه من شراء بعض البضائع من تجار الجملة وتوزيعها بالتريسكل علي التجار الصغار والمحال.., وحين ساءت صحته وعجز في بعض الأحيان عن قيادة التريسكل طلب منه عمي أن يعمل معه رئيسا للعمال وخصص له مرتبا عادلا يكفي للإنفاق علي أسرته في حدود الحياة البسيطة التي تعيشها.
وطوال طفولتي لم أسمع من أبي إلا الثناء علي أخيه الأصغر هذا والإشادة بكرمه معه وشهامته, فاحتل بذلك مكانة عالية في نفوسنا نحن الأبناء.. وبالفعل فلقد كان كثيرا ما يهدينا بعض الملابس في بداية الشتاء أو عند دخول المدارس أو في الأعياد, وكان حلم أبي بالنسبة لي أن أواصل تعليمي حتي أحصل علي شهادة الهندسة ثم أعمل كمهندس يشرف علي ماكينات المصنع الصغير, وبالفعل فلقد اجتهدت لتحقيق هذا الحلم وواصلت التعليم بلا عثرات حتي بلغت الثانوية العامة, فإذا بأبي يمرض مرضا شديدا ثم يرحل عن الحياة مودعا منا بالحسرة والدمع السخين, وأثر في موت أبي تأثيرا بالغا فتعثرت في امتحان الشهادة الثانوية.. وأردت أن أتقدم للإعادة في السنة التالية, لكن أمي انتحت بي جانبا وحدثتني عن ظروفنا وكيف أننا قد عشنا الشهور التي تلت وفاة أبي علي مساعدة شهرية محدودة خصصها لنا عمي, وليس من المعقول أن نظل نعتمد علي هذه المساعدة إلي ما لا نهاية, وحملنا ثقيل ولدينا فتاتان ستصلان ذات يوم إلي سن الزواج, وبالتالي فلابد لي من أن أتقدم لحمل مسئولية الأسرة والعمل لكي أكسب رزق أمي وأخوتي, ورأيت أحلامي تنهار أمام عيني.. لكني لم أستسلم للحزن والإحباط, وإنما قلت لأمي أنني سأحمل المسئولية كاملة بإذن الله.. وتوجهت إلي عمي وفاتحته فيما جئت من أجله, فأثني علي رجولتي وقرر تعييني عاملا علي احدي الماكينات بعد تدريبي لفترة قصيرة, لكني استأذنته في مخالفته في الرأي, وصرحت له بأنني لا أريد أن أعمل عاملا ميكانيكيا وإنما أريد أن أعمل مندوبا للمبيعات, أوزع منتجات المصنع علي التجار وأحصل علي مرتب صغير وعمولة بسيطة علي المبيعات, خاصة أن التريسكل القديم الذي كان يعمل عليه أبي مازال صالحا للاستخدام.. ووافق عمي علي ذلك, وبدأت عملي معه وأنا متحفز للنجاح فيه ومعرفة كل أسراره.. وأصبحت أبدأ يومي في الصباح الباكر بملء صندوق التريسكل بالبضائع ثم أتوجه إلي المنطقة التي حددها لي عمي, وأطوف علي التجار فأبيع لهذا التاجر بضائع بعشرين جنيها, ولهذا بثلاثين أو أربعين وهكذا, وأتناول غدائي وأنا أقود التريسكل وهو دائما سندوتش فول وآخر طعمية.. وأرجع عند الغروب فأورد لعمي حصيلة البيع وأسلم البضائع التي لم يتم تصريفها, وكان من النادر أن أرجع ببعضها, وأتسلم عمولتي وأرجع إلي البيت فأعطي أمي مصروف اليوم وأدخر جزءا من العمولة للمستقبل.
وبعد فترة ليست طويلة كنت قد أنشأت علاقات وثيقة مع عدد كبير من أصحاب المحال الصغيرة والتجار الذين أتردد عليهم.. وكنت أيضا قد أصبحت أكبر موزع فرد لإنتاج المصنع, وأرضيت أمي والأختين ولبيت لهن كل مطالبهن, وكانت دائما متواضعة كما كنت أيضا قد ادخرت مبلغا لا بأس به من المال يصلح لأن يكون نواة لتجارة صغيرة خاصة بي.. والحق أن ما فكرت فيه لم يغب عن تفكير عمي فلقد دأب علي أن يقول من حين لآخر انني تاجر شاطر والعبان لكني أمين أمانة مطلقة وأكره الحرام كراهية شديدة, ولسوف يجيء اليوم الذي أنفصل فيه عنه وأعمل منفردا.., لكني لم أرد تعجل الأمور واتجهت إلي هدفي بخطوات متأنية, فسألت عمي ذات يوم وأنا أحاسبه في المساء عما إذا كان يضيره لو اشتريت خلال توزيعي لإنتاجه صنفا من البضائع لا ينتجه المصنع من تاجر جملة ووزعته لحسابي الخاص مع انتاج مصنعه, فنظر إلي عمي طويلا وتردد في الاجابة, ثم قال لي في النهاية إنه لا يمانع في ذلك, بشرط ألا يؤثر علي عملي الأساسي, فشكرته كثيرا علي ذلك, وانطلقت إلي تنفيذ خطتي وأصبحت أوزع إلي جانب إنتاج عمي بضع سلع أخري لحسابي الخاص.. واشتريت حقيبة جلدية أخري لأضع فيها أثمان بضائعي الخاصة لكيلا تختلط بأثمان بضائع عمي, ونجحت التجربة نجاحا كبيرا, وباركت أمي نشاطي الخاص ودعت لي كثيرا بالفلاح والنجاح.. وحرصت في نفس الوقت علي تأكيد ألا أغضب عمي هذا في أي يوم من الأيام لأن له علينا فضلا لا ينسي, وأيدتها في ذلك بحماس..
وكبرت تجارتي الخاصة ولم يعد التريسكل يكفي لاستيعابها فاستأجرت مخزنا صغيرا بالقرب من بيتي وبدأت أخزن فيه البضائع التي اشتريتها من المصانع وتجار الجملة وأسحب منها حسب الطلب.. وأمضي وقتي كل مساء أمام باب المخزن أشرب الشاي واستقبل بعض الزبائن وأسلمهم مشترياتهم.
ثم اخترت بعين خبرت الحياة ومعادن الرجال شابا يتيما فقيرا كان يعرض علي من حين لآخر خدماته في حمل البضائع وإدخالها المخزن, وطلبت منه أن يعمل معي, وافتتحت عمله معي بأن حدثته طويلا عن الأمانة والقرش الحلال الذي يبارك الله فيه, والقرش الحرام الذي يلتهم ما قبله وما بعده, فأخرج من جيبه مصحفا صغيرا وأقسم عليه ألا يخونني في مليم واحد, ولو أتيحت له كل كنوز الدنيا, وقرأنا الفاتحة علي ذلك, وبدأ العمل معي واشتريت له تريسكلا آخر وكلفته بالمرور علي عدد من التجار خلال انشغالي بتوزيع انتاج عمي وانتاجي, وكررت معه تجربتي مع عمي فخصصت له مرتبا صغيرا ونسبة من العمولة سعد بها كثيرا وتحسنت صحته وأحواله.
وبعد قليل احتجت إلي مساعد ثالث فجاءني مساعدي بابن عمه ووجدته مثله خلقا وأمانة, فاشتريت له تريسكلا ثالثا, وبدأ هو أيضا يطوف علي عدد آخر من التجار في مناطق لم نكن نذهب إليها من قبل.
وكبرت تجارتي وأصبح عملي مع عمي عائقا لي عن التفرغ لتجارتي, لكني لم أجرؤ علي الانسحاب من العمل معه بالرغم مما يمثله لي من خسارة.., وشعر عمي بذكائه الذي رشحه للنجاح أنني أواصل العمل معه حياء منه وليس عن رغبة, فداعبني ذات يوم بأنني قد أصبحت شاهبندر تجار ملء الدنيا ولم يعد يليق بي أن أسرح كل يوم بالتريسكل10 ساعات متواصلة, ولهذا فهو يعفيني من العمل معه ابتداء من الغد فلم أشعر بنفسي إلا وأنا أنحني علي يده مقبلا وشاكرا وتفرغت لعملي الخاص.. واشتريت مكتبا وعدة مقاعد وضعتها في مدخل المخزن وأدخلت إليه تليفونا فوريا وأصبحت أمضي يومي كله فيه أستقبل العملاء وأتابع التوزيع وسداد الأثمان, وقد بارك الله سبحانه وتعالي في عملي بدعاء أمي والأختين لي. فزدت من عدد الموزعين, وتوسعت في تجارتي, وطمأنت أمي إلي أنني بحمد الله سأكون قادرا علي ستر الأختين وتزويجهما حين يجيء إليهما نصيبهما إن شاء الله.. وحرصت علي مودة عمي وزيارته من حين لآخر وطمأنته علي أحوالي المالية كلما سألني.. وفاء مني له وعرفانا بجميله..
ووجدت نفسي في السابعة والعشرين من عمري أدير تجارة ناجحة ويعمل معي5 أشخاص مخلصين اختبرتهم جميعا ووثقت فيهم, وقد اضفت إلي المخزن الذي بدأت به تجارتي مخزنا آخر في الجوار القريب وأملك سيارة نصف نقل كثيرا ما قدتها بنفسي لقضاء بعض أعمالي, وسيارة سوزوكي صغيرة, إلي جانب3 تريسكلات, وقد صححت أوضاعي من الناحية الرسمية فاستخرجت سجلا تجاريا, واشتركت في التأمينات الاجتماعية لي وللعاملين معي.. ولم يبق أمامي ما أتطلع إليه إلا الزواج وتكوين أسرة صغيرة, لكن كيف أتزوج وشقيقتاي قد بلغتا سن الشباب وتوقفتا باختيارهما عن التعليم بعد الثانوية العامة ولم تتزوجا بعد؟ وهكذا بدأت أتحدث مع أمي وأحثها علي السعي لتزويجهما ولم يخيب الله سبحانه وتعالي ظني, فلم يمض عامان حتي كانت الأختان قد استقرتا في بيتي زوجيهما وسعدنا بهما كل السعادة.. وقد أعانني الله سبحانه وتعالي علي تجهيزهما وارضائهما حتي جهرتا بالدعاء بأن يبارك الله لي في مالي وصحتي وعمري.
وتحدثت مع أمي في أمر زواجي وقد بلغت التاسعة والعشرين, فإذا بها تحسم الأمر بغير تردد وتقول لي إننا لن نحتاج إلي البحث عن عروس لأنها موجودة بالفعل, وهي صغري بنات عمي التي توقفت عن الدراسة هذا العام بعد رسوبها عامين متتاليين في الثانوية العامة, وأن عمي لابد أنه يتوقع مني أن أتقدم إليها.
وفكرت في الأمر طويلا لقد شغلتني معركة الحياة فلم التفت إلي شئون العاطفة ولم أعرف فتاة ولم أقترف حراما وليس لي مأرب معين فيمن أتزوجها, فلماذا لا تكون ابنة عمي هذه وهي مقبولة الشكل وبادية الطيبة هي من أتزوجها؟
شئ واحد خشيته هو أن يظن عمي أنني أتقدم إليها طامعا في ثروته, ومع ذلك فلقد تقدمت إليه بطلبي وفوجئت بالترحاب الحار وكأنما كان ينتظر بالفعل هذه الخطوة من جانبي منذ زمن طويل..
وتزوجت ابنة عمي.. وأعدت إعداد البيت القديم وتجديده ليليق بالعروس الشابة.
وكشفت لي الأيام أكثر وأكثر عن طيبة زوجتي هذه ووداعتها وحسن معاملتها لأمي وشقيقتي حين تزورانني, حتي ملكت قلوبهن جميعا وأنجبت منها ولدا وبنتا, وكانت بالنسبة لي فعلا قدم خير كما يقولون, فلقد تزوجتها وأنا مستور ماديا, فأصبحت بعد ارتباطي بها من الأثرياء, وتوسعت أعمالي حتي اشتريت منشأة صناعية صغيرة كانت معروضة للبيع في المزاد بسبب متأخرات الضرائب, وأدرتها بنشاطي المعهود وحماسي وأعدت تنظيمها وحللت كل مشاكلها فدارت عجلاتها بنجاح.. وتدفق الخير علي.. فاشتريت لنفسي أول سيارة خاصة بعد أن لامني الجميع لعدم امتلاكي سيارة لائقة..
وانتقلت بزوجتي والولدين وأمي من البيت القديم إلي شقة فاخرة في حي راق.., وسعيت إلي تحسين مظهري فاشتريت دستة بدل فاخرة و20 قميصا و5 أحذية و30 كرافت.
وحتي هذه اللحظة كانت صداقاتي محدودة ولا تتجاوز العاملين معي وبعض أبناء الحي القديم وبعض التجار.. فوجدت وجوها جديدة من أصحاب المناصب التي كنت أتهيبها في الشرطة والنيابة والحكومة والبنوك يسعدون بالتعرف علي.. وبدأت أدعي إلي أماكن لم أدخلها في حياتي من قبل وأظهر في مجتمعات لم أعهدها.. واعترف لك بأنني اهتززت لذلك بعض الشيء وسايرت الجو الجديد.. وقلت إن من حقي أن أكون كهؤلاء اللامعين, وشعرت باللوم لزوجتي لأنها لم تتغير مع تغير أحوالنا المادية ودخولنا عالم الأثرياء, فهي مازالت بلدية الطابع وملابسها تفصيل خياطة والدتها وكلما اشتريت لها فستانا غاليا دقت علي صدرها مستنكرة أن ترتدي مثل هذه الملابس الفاضحة! مع أنها ليست كذلك وكل ما جد عليها هو اتساع مساحة الذهب في ذراعيها فبعد أن كانت تضع في كل ذراع أسورتين أصبحتا4 ثم8 ثم12 أسورة كاملة يئن بها ذراعاها وتسمع لها شخللة مميزة.., مع إكثارها من الصلاة وقراءة القرآن والتصدق علي المساكين من مالها هي وليس من مالي, وكلما ازدادت علاقتي بمجتمع الأثرياء واللامعين, ازداد لومي الداخلي لزوجتي لإصرارها علي ألا تتطور مع تغير الأحوال.. وبدأت أحدثها في ذلك.
ثم بدأت أشكو منها لأمها وأبيها وأهلها, ثم بدأت أشكو منها لأصدقائي المقربين, بالرغم من تفانيها في خدمتي وخدمة أولادها ورعاية أمي العجوز, وقد انحصرت شكواي في أنها لا تتطور ومازالت بيتية الطابع ولا تصلح للظهور معي في المجتمعات, حتي ذكرتني أمي بفضل أبيها علينا وبطيبتها وحسن معاشرتها لي..
لكن لعن الله الشيطان فلقد كبرت المسألة في رأسي.. وأصبحت شغلي الشاغل.. حتي قلت لنفسي ذات يوم ولماذا لا أتزوج من فتاة أو سيدة جميلة من الطبقة الراقية, تعرف كيف تتكلم وكيف ترتدي ملابسها وكيف تتعامل مع المجتمعات اللامعة؟
ومع اني لم أكن لأقدم علي هذه الخطوة أبدا تجنبا لإيلام زوجتي وعمي فلقد بدأت ألمح إليها في حديثي مع زوجتي لكي تتحفز لإصلاح نفسها, فما أن أشرت إلي هذا الموضوع أول مرة حتي انفجرت في البكاء واستمرت تبكي حتي تشنجت وخشيت عليها.. وتأسفت لها وأكدت أنني لا يمكن أن أفعل ذلك أبدا.
والتزمت بالصمت بعد ذلك فلم أشر إلي هذا الموضوع ثانية, وهدأت خواطري بشأن الزوجة اللائقة بعض الشيء وإن لم تختف كلية من ذهني.
وانشغلت بعملي وتوسعاتي الجديدة في العمل وصداقاتي اللامعة, إلي أن عدت إلي البيت ذات مساء فوجدت أمي وابني وابنتي يبكون وفي حالة هلع شديدة, وسألت منزعجا عما حدث فأشاروا إلي غرفة نومي وهرولت إليها فوجدت زوجتي وحول فراشها طبيبان منهمكان في حقنها بالحقن وأنبوبة أكسوجين فوقها, وهي تشهق شهقات متلاحقة وتنظر إلي مستغيثة فانفجرت في البكاء واندفعت إليها لأحتضنها والطبيبان يحاولان اخراجي بالقوة من الغرفة.. وأنا أقاومهما بشراسة حتي استسلمت وانضممت إلي أمي وولدي, فلم يمض وقت طويل حتي خرج الطبيبان وعلي وجهيهما نتيجة مساعيهما لإنقاذها..
وأسودت الدنيا في وجهي.. زوجتي التي أخلصت لي الود وأحسنت عشرتي وكانت نبعا للحنان يفيض علي الجميع.. ينقضي أجلها هكذا بلا مقدمات وهي دون الأربعين من عمرها.. ياربي.. وماذا أفعل من بعدها.. ومن يعوض هذين الصبيين عن حنانها وعطفها ورعايتها لهما.
وعشت أياما كالحة السواد.. وبكيت كالطفل الصغير طويلا طويلا, حتي خيل إلي أنني ألمح في عيون بعض الأهل والأصدقاء عبارة صامتة تقول: أليست هذه التي تبكيها الآن بحرارة هي من كنت تنتقدها وتعيب عليها عدم تفرنجها وعدم مسايرتها لأوضاعك الجديدة!
ومضي عامان علي رحيل زوجتي أصبت خلالهما بنوبة قلبية من الاجهاد والحزن وعدم الترويح عن النفس.
ومع بداية العام الثالث بدأ الأهل يتحدثون عن ضرورة زواجي مرة أخري لإخراجي من حالة الكآبة التي أعيشها.. ولأنني لن أستغني عن وجود امرأة في حياتي وأنا مازلت دون الخمسين وأكره الحرام ولن أصبر علي نفسي.. وبعد قليل من الاستنكار والرفض من جانبي فوضتهم في البحث لي عن عروس..
وبعد فترة دعيت لرؤية عروس رأي الأصدقاء الذين رشحوها لي أنها تحقق لي كل مطالبي في الزوجة الجميلة الراقية التي تصلح للظهور معي في المجتمعات.
ورأيتها فانبهرت بجمالها وأناقتها ومظهرها الراقي ولباقتها في الحديث, وعلمت أنها مطلقة لديها ولد في سن العاشرة وسينتقل للإقامة مع أبيه بعد انتهاء فترة حضانته, وأنها من أسرة كبيرة مستورة لكنها ليست ثرية بمعني الكلمة.
ووافقت عليها بلا تردد, وبدأنا الحديث في الإجراءات مع عمها وخالها وأمها وعمتها, والأول لواء متقاعد في الجيش والثاني لواء متقاعد في الشرطة, وفوجئت بالأرقام الفلكية التي يطلبونها, وتحركت في وساوس التاجر القديم الذي يحرص علي ألا يستدرجه أحد إلي ما يضره, وأردت أن أحسم الأمر من بدايته حتي ولو تخليت عن الفكرة كلها, فقلت للحاضرين إنني لا أقدر ابنتهم بمال, لكن كل شيء بالأصول.. ولسوف أدفع كذا مهرا وكذا شبكة وكذا مؤخرا, وكان ذلك يمثل بالضبط ثلث ما طلبوه من مبالغ, فإن قبلتم بذلك فسأكون سعيدا.. وإن رفضتم فكل شيء نصيب وسكت عازفا عن أي مساومة, وفوجئت بهم يقبلون ويرحبون بعد مشاورات قصيرة بينهم واشتريت شقة جديدة للعروس بالقرب من مسكني وتركت ابني وأبنتي في رعاية أمي, وتركت هي ابنها لأبيه وتزوجنا!
واكتشفت أن للزواج مباهج لم تكن تخطر لي علي بال.. ومتعا كنت أحسبها من ضرب الخيال.. حتي لقد قلت لنفسي ولأصدقائي أنني لم أتزوج من قبل وإنما تزوجت وعرفت الزواج الحقيقي الآن, وانشغلت بزوجتي الجديدة ومطالبها ونزهاتها وسهراتها حتي قلت ساعات وجودي في عملي عن ذي قبل.. فهي تصحو من نومها في الظهر وتستغرق ساعتين ما بين الحمام وماكياجها واختيار ملابسها, ثم تطلب مني الخروج لتناول طعام الغداء في الخارج والاستمتاع بجلسة هادئة في مكان مفتوح وترجع إلي البيت فتعود للنوم ساعتين أو ثلاثا ثم تنهض وتستغرق ساعة في ماكياجها وتسريح شعرها, ثم تطلب مني النزول في منتصف الليل إلي أي مكان يسهر حتي الثالثة أو الرابعة صباحا, كل يوم, وهكذا ولقد بهرت بهذه الحياة في البداية, لكني لم ألبث أن شعرت بالضياع وبأنني غائب علي الدوام عن عملي.. كما أنني مللت طعام المطاعم والأندية.. فسألتها لماذا لا تعد لي وجبة الافطار في الصباح وتكتفي فقط بشرب عصير البرتقال وتطلب مني أن أفعل مثلها,.. ففوجئت بها تطلب مني تعيين سفرجي ليقدم لي الإفطار في الصباح لأنها لا تستطيع أن تفعل أي شيء بعد الاستيقاط من النوم, وسألتها وماذا عن الطعام البيتي الذي أشتهيه؟! فإذا بها تستنكر مجرد تفكيري في أنها يمكن أن تقف في المطبخ ساعتين أو ثلاثا لكي تعد لنا وجبة طعام.. ذلك أن هذه هي مهمة الخدم وليست مهمة الزوجات الراقيات مثلها..
وتذكرت زوجتي الراحلة الوديعة التي ظلت16 عاما تطهو لي طعامي وتتفنن فيه وترفض أن تساعدها شغالة في أعمال البيت والمطبخ لكي تقوم بكل شيء بنفسها.
باختصار وجدت نفسي أعيش في فندق وليس في بيت, وإذا أردت الاستمرار فعلي الخضوع لكل ما تطلبه أو الانفصال عنها, ولأنني كما قلت لك لا أصبر علي نفسي وأكره الحرام فلقد اضطررت للسكوت أملا في تحسن الأحوال مع الزمن.
لكن الأحوال لم تتحسن بل ازدادت سوءا, فلقد كنت أعطي زوجتي الراحلة مبلغا شهريا للانفاق علي البيت فكان يكفيها ويفيض منه, ولما تزوجت ثانية أعطيت زوجتي نفس المبلغ مع مراعاة أننا شخصان فقط ولسنا خمسة كما كان الحال في الماضي فإذا بها تستنكره بشدة وتطلب خمسة أضعافه لأن هذا هو الحد الأدني لمستوي الحياة الذي تقبل به.
وأعطيتها نصف ما طلبت ورجوتها أن تجرب فقط, ولسوف أدفع ما تريد إذا احتاجت إلي مال لاستكمال الشهر, وقبلت وبعد قليل طلبت مني ان اشتري لها سيارة فاشتريت لها باسمها سيارة متوسطة الثمن, قبلتها دون كلمة شكر واحدة لأنها لا تليق بها.. ثم اتخذت الأمور مجري آخر فلقد طلبت ان نشتري شاليها أو فيللا في أحد مصايف الساحل الشمالي لنقضي فيها الصيف, ووافقت واشتريت شاليها جميلا, وابلغتها بالخبر وأنا أتوقع ان تتهلل فرحا, فاذا بها تثور علي ثورة هائلة لأنه شاليه وليس فيللا وهي ليست أقل من ابنة خالتها التي اشتري زوجها فيللا في أفخم المصايف وكتبها باسمها!
واشتبكت معها في نقاش عنيف تطاولت خلاله علي ثم هجرت البيت الي بيت أمها وسعي العم والخال للتوفيق بيننا, فاذا بهما يحملان لي هذه الشروط العجيبة: أولا: تسجيل شقة الزوجية والشاليه باسمها.
وثانيا: ان اشتري لها وباسمها ايضا سيارة بي إم دبليو مع ترك السيارة الأولي لها لتتصرف فيها كيف تشاء, وأن أعين لها سائقا لقضاء مشاويرها الخاصة.
ثالثا: أن أقدم لها هدية صلح من الألماس لاتقل عن50 ألف جنيه.
ومرة أخري تذكرت زوجتي الراحلة الطيبة التي كانت تستكثر علي نفسها ان أشتري لها أسورتين من الذهب كلما فتح الله علي برزق جديد, وتسألني وهي تتردد بين الرضا والاستنكار حاوديهم فين دول وذراعي مليان من خيرك!
وطلبت من العم والخال ان يرتبا لي جلسة معها لأسمع منها هذه الشروط مباشرة, وعقدت الجلسة في بيت أمها وفي حضور العم والخال وبعض الأقارب, وسألتها عما تريد متوقعا ان تخجل من تكرار هذه المطالب المادية الكريهة, فاذا بها تكررها باصرار وحين سألتها عما يدفعني للاستجابة لهذه المطالب وماهو المقابل العظيم الذي سأحصل عليه لقاء ذلك؟!, أجابت في كبرياء: ان المقابل هو أن تقبل بالاستمرار معي كزوجة وهذا في حد ذاته أكبر مقابل!
ولست أعرف كيف تمكنت من ضبط أعصابي وعدم الانفجار فيها..
وانصرفت واعدا بالتفكير في الأمر, وهي تشعر بالنصر ـ وبأن المسألة ليست سوي مسألة أيام ثم أرضخ لكي ارجع للنهل من ينبوع جمالها وفنونها الأنثوية التي كانت تجهلها زوجتي الراحلة رحمها الله.. لكني تذكرت التريسكل ياسيدي وطوافي به من الساعة الثامنة صباحا حتي السادسة أو السابعة مساء, وعودتي الي المصنع مجهد الساقين والجسم لأحاسب عمي وأحصل علي عمولتي فلا تزيد علي جنيهين أو ثلاثة في أحسن الأحوال, وتساءلت: هل من العدل ان اعطي ثمرة شقائي وكفاحي لامرأة لا تعرف من الزواج إلا علاقة الرجل بالمرأة.. وأين هو السكن معها وأين راحة القلب والأمان مع زوجة لا تخفي نيتها المكشوفة في استغلالي؟!.
وقررت أن أنشغل عنها بعملي وأمي وولدي الذين شغلت عنهم بالفعل خلال الفترة الماضية وواصلت عملي وحياتي وكل يوم يمضي يضعف تأثير هذه السيدة علي أكثر من ذي قبل, ومضي شهران وشعر أهلها بالقلق فجاءتني منهم إشارات عن الاستعداد للتنازل عن بعض المطالب وليس عنها كلها.. فلم أرد بأكثر من أنني مازلت أفكر.
ولقد حمدت الله الآن علي ماكرهته في البداية.. فلقد كنت راغبا في الإنجاب منها لكنها رفضت ذلك بإصرار بدعوي انها لم تعد تطيق رعاية الأطفال الصغار, كما أن الحمل والانجاب يفسدان قوامها ولهذا فهي لم تنجب سوي مرة واحدة؟
فبماذا تنصحني ياأخي.. هل تري لي أن أعود اليها ببعض شروطها وليس بكلها؟
أم تري لي أن أصمد علي موقفي حتي ترضخ هي لأول مرة وترجع إلي بلا شروط؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
لا أري لك هذا ولاذاك, وانما أري لك أن تكتفي من التجربة أو من المغامرة, بمعني أصح بما مضي منها, وأن تطوي صفحتها نهائيا.. وترجع الي حياتك ونفسك وعملك وجذورك العائلية التي باركت نجاحك العملي وتوفيقك في الحياة..
فأنت لم تتزوج ثانية بعد رحيل زوجتك الطيبة الوديعة يرحمها الله علي عكس ماظننت أنت في فورة انبهارك بمباهج الزواج الثاني في البداية, وإنما خضت مغامرة محفوفة بالمخاطر لاكتشاف العالم الراقي الذي تمنيت ان تعرفه وان تعيش تجربته, وعتبت علي زوجتك الراحلة عجزها عن مسايرتك في اقتحام هذا العالم..
ولا عجب في ذلك لأن الزواج ليس عشقا لمفاتن الأنثي ولا هو مجرد إطفاء لنار الرغبة لدي الرجل والمرأة.. أو انبهار مؤقت ببعض الفنون الأنثوية, وانما هو وكما يقول لنا الشيخ محمد الغزالي رحمه الله إقامة بيت علي السكينة والآداب الاجتماعية في إطار من الايمان بالله والعيش وفقا لتعاليمه وهدايته.
فأين ذلك من حياتك مع زوجتك الثانية؟
لقد قيل للرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه: أي حال نتخذ؟
فقال: لسانا ذاكرا وقلبا خاشعا وزوجة صالحة تعين أحدكم علي دينه.
فهل أعانتك زوجتك هذه علي دينك, وحققت لك السكن والمودة والرحمة, فانطلقت تواصل رسالتك في الحياة مزودا بهذا الزاد العاطفي والانساني العظيم؟
إنك تعيش, حالة ابتزاز مادي متصلة منذ زواجك منها وأنبهارك بجمالها ورقيها وفنونها الأنثوية, وسواء رجعت اليك بنصف الـشروط أو بغير أية شروط, فلن تعرف حياتك معها السكينة ولا الهدوء ولا الأمان أبدا.. وانما ستظل تدبر وتخطط لاستنزافك ماديا بوسيلة أو بأخري حتي تحقق اهدافها لديك, وهي تحقيق أكبر قدر ممكن من المنافع المادية من ورائك.. وقبل ان تهدأ فورة انبهارك الحسي بها.. وحتي لو رجعت اليك دون شروط وخسرت معركة فإنها لن تخسر الحرب وسيكون لديها المزيد والمزيد من فنون الأغراء والضغط والاغواء والهجر والحرمان, من نبعها الي ان تضعف وتستسلم وتستجيب.. وبالتالي فلسوف تظل حياتك معها تتأرجح دائما بين المتعة اللاذعة والألم القاتل, والعقلاء من البشر لا يقبلون مثل هذه الحياة الزوجية المتراوحة دائما بين المتعة والألم.. ويقولون ان مثل هذه الحياة ومهما تكن مغرياتها تستنفد الطاقة النفسية والعصبية للرجل وتورده موارد التهلكة علي طول المدي لأنها من سمات العشق المضطرب, وليست من سمات الزواج الذي هو المودة والسكينة والرحمة ولقد كان الأديب الايرلندي العظيم برنارد شو يقول:
ـ تعرف انك عاشق حين تبدأ في التصرف ضد مصلحتك!
وأنت منذ تزوجت هذه السيدة وأنت تتصرف ضد مصلحتك ولصالحها علي طول الخط.. لكن ذلك لا يعني ابدا أنك لا تستطيع الاستغناء عنها والنجاة من هذه المغامرة قبل ان يتفاقم الخطر, وتغير هي استراتيجيتها وترجع اليك بنية الحمل والإنجاب منك لكي تحكم سيطرتها عليك إلي الأبد.
فنية الاستغلال واضحة وعلنية لديها منذ البداية, وهي تنظر اليك, وعفوا لهذا التعبير, نظرة دونية وتري ان مجرد استمتاعك بجمالها تنازل عظيم منها لابد ان تدفع ثمنه غاليا وراضخا.
وليس هذا من الزواج الذي شرعه الله لنا في شيء, وانما هو أمر آخر لا داعي للاشارة اليه رعاية للحرمات, فلعلك الآن تتذكر العبارة الصامتة التي خيل اليك انك رأيتها في عيون بعض المقربين عند رحيل الزوجة الطيبة المتدينة ولعلك قد لمحت الآن في عيونك أنت عبارة أخري مماثلة تسألك: أعرفت الآن أي نوع من الزوجات الفضليات كانت زوجتك الأولي ؟
فاذا سألتني الرأي بعد كل ذلك, قلت لك إنك مازلت حتي الآن, وبالرغم من بعض الخسائر المالية.. تقف علي شاطيء الأمان, وتستطيع ان تتخلص من هذه التجربة كلها ومن المخاطر التي تتهددك بالعودة الي جذورك العائلية ووسطك الأسري والاجتماعي الذي نشأت فيه وتشربت منه قيم الكفاح والأمانة والعمل والمسئولية الأسرية وبر الوالدين والإخوة, وتبحث عن نصفك الآخر في هذا الوسط الذي تنتمي اليه ويعتز بك, وتعتبر تجربة زواجك الثاني هذه ابحارا مؤقتا في بحر متلاطم الأمواج, لم تلبث ان عدت منه سالما إلي شاطيء الاستقرار والحياة الطبيعية, وقديما قال بعض الحكماء: نهاية مؤلمة أفضل كثيرا من ألم بلا نهاية.
مدونة بريد الجمعة مدونة إجتماعية ترصد أحوال الشارع المصرى والوطن العربى مدونة تتناول قصص, ومشكلات حقيقية للوطن العربى مثل: (ظاهرة العنوسة, الخيانة الزوجية, الخلافات الزوجية, التفكك الأسرى, الطلاق وآثاره السلبية على الأبناء, الحب من طرف واحد, مرض التوحد, الإبتلاءات من فقر ومرض وكيفية مواجهة الإنسان لها) ثم يعرض الموقع فى أخر كل موضوع رأى المحرر فى التغلب على هذه المحن
الأربعاء، ١ مارس ٢٠٠٠
العبـــارة الصامتــة!
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق