21-02-2003
أرجو أن أذكرك بنفسي.. فأنا صاحبة رسالة الأيام السعيدة التي نشرت منذ أربع سنوات.. وكنت أشكو لك فيها قسوة أبي وإهانته الدائمة لي, علي الرغم من أنني وحيدته وتقصيره في الإنفاق علي.. وضربه المستمر لي حتي اضطررت لدخول المستشفي عدة مرات من جراء ضربه لي.. ورويت لك في رسالتي كيف تحملت أمي كل هذه الصعاب وخرجت إلي العمل لكي تعينني وتعين نفسها علي استكمال مشوار الحياة وتصل بي إلي بر الأمان.. وقبل أن تنتهي دراستي الجامعية طردني أبي أنا وأمي حتي يتسني له الزواج وإنجاب الطفل الذكر الذي كثيرا ما حلم به.. وعاقبني من أجله علي مجيئي للحياة فتاة ولست ولدا.. ولقد طلبت منك في رسالتي تلك أن تجد لأمي زوجا يكون لي أبا بديلا للأب الذي عشت عمري كله دون أن أجده أو أتذوق حنانه ذات يوم, وكم كان ردك علي جميلا وتفاءلت به في حياتي.. وإن كانت الظروف لم تسعدني بإيجاد هذا الأب البديل, لكني تأقلمت مع حياتي وفوضت أمري إلي الله عز وجل ومضت بي الحياة.. ومنذ ثلاث سنوات وكانت قد مضي أحد عشر عاما منذ طردنا أبي وابتعد عنا نهائيا.. شعرت باشتياق شديد إليه.. وأصبح شغلي الشاغل هو أن أراه عن قرب أو أطمئن عليه بالرغم من أنه قد نسيني تماما كأنني لم أكن ابنته.
وكم بت من ليال عديدة وأنا أناجيه وأتمني رؤيته وأشعر بالرثاء لنفسي حين أراني غير عزيزة عليه ولا يشتاق إلي, وفكرت طويلا في السعي إليه والالتقاء به, لكن خوفي منه ومن قسوته دفعاني لأن أذهب إليه في مكان عمله لأراه من بعيد ودون أن يراني.. وفعلت ذلك أكثر من مرة.. ودمعت عيناي وأنا أدعو الله أن يغرس في قلبه الشوق إلي فيحن إلي رؤيتي ويطلب مقابلتي ولو لمرة واحدة لكي أشعر بذاتي وبعزتي وبنوتي له, ودون أن يكلفه ذلك شيئا ماديا.. فالابنة ياسيدي تحتاج إلي أبيها معنويا ونفسيا وإنسانيا وعاطفيا, وليس ماديا فقط, كما يتصور البعض, لكن الله سبحانه وتعالي لم يستجب لدعائي بهذا الشأن أبدا وطال انتظاري لمجئ أي إشارة من جانب أبي بلا جدوي, فإذا بشوقي الشديد إليه ينقلب إلي نوبة غضب عارمة حتي دعوت الله ألا ألقاه بعد ذلك أبدا إلا أمام الله العادل ليأخذ لي منه حقي.
وبعد إجازة عيد الأضحي منذ ثلاث سنوات رجعت إلي العمل فإذا بجرس التليفون يرن.. ويحمل لي نبأ وفاة أبي بعد معاناة من المرض, وأبلغني من نقل الخبر إلي أن أبي كان في أيامه الأخيرة يتذكرني كثيرا ويطلب أن يراني, لكني كنت في زيارة لأحد أخوالي بالاسكندرية لعدة أيام فلم يجدني أحد من أهل أبي في العمل.
يا ربي لقد تحققت الأمنية الحسيرة التي تمنيتها طوال إحد عشر عاما وطلب أبي أن يراني كما تمنيت.. لكن أحدا لم يستطع أن يتوصل إلي لإبلاغي بدعوته لي..
وشاءت إرادة الله أن يرحل أبي عن الحياة وهو يحلم بلقاء ابنته التي ابتعد عنها11 سنة كاملة.. وأنا أحلم في نفس الوقت بأن أراه وأشعر بأبوته وسافرت مع أمي وأخوالي إلي بلدة أبي للعزاء فيه, وذهلنا لحرارة الترحاب الذي استقبلنا به أنا وأمي من كل أهل أبي.. حتي تجددت الأحزان وسال الدمع.. وجاء كل الأقارب ليشهدوا أمام الله بأن أبي قد اعترف بخطئه في حق أمي وحقي أمامهم, وأنه روي لهم نادما كيف أذاقنا العذاب سنوات طوالا وقصر في الإنفاق علي, وكيف جري وراء وهم إنجاب الطفل الذكر لكي يحمل اسمه, وأقر حين علم بأنني قد حصلت علي الماجستير وبدأت الإعداد للدكتوراه بأنني أفضل من ألف ولد, كما اعترف بأن كل ما جمعه من مال مقابل حرماني من الإنفاق علي طعامي وشرابي وملبسي وتعليمي قد ضاع سدي في محاولات إنجاب الطفل الذي لم يرزق به, وبعد أن فشلت آخر محاولة للإنجاب عن طريق طفل الأنابيب, مرض حزنا وقهرا فإذا بزوجته تتركه لأهله في أيامه الأخيرة.. لأنها لا تصبر علي رعايته في مرضه.. فيمضي أيامه الأخيرة نادما علي ظلمه لأمي وابتعاده عني وحرمانه لي من حنانه ورعايته وماله سنوات طويلة.
واستعدت كل ذلك في خاطري وأنا أقف أمام قبره.. فانهرت باكية وتمنيت لو كان قد عرف كل ذلك قبل فوات الأوان لكي يعوضني عن كل ما مضي.. ولكي أعيش تحت أقدامه كخادمة له في مرضه.. لكن ارادة الله قد نفذت وانتقل أبي إلي جوار ربه, ودعوت الله أن يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأن يسكنه رياض جنته.
ورجعت إلي حياتي وعملي.. ومضت الأيام وتحسنت أحوالنا كثيرا بعد الحرمان والمعاناة.. وانتقلت أنا وأمي إلي مسكن جديد جميل.. وتقدمت في عملي وفي دراستي للدكتوراه حتي أصبحت الآن علي أبواب مناقشة رسالتي الجامعية..
وأكتب إليك رسالتي هذه لكي أقول لكل أب إن من واجبه أن يرعي أبناءه بغض النظر عن أي خلافات بينه وبين أمهم لكي ينشأوا بين أحضانه.. ويتعمق حبه في قلوبهم حتي إذا جاء الأجل دعا له أبناؤه من أعماق القلوب بالرحمة والمغفرة, ويتذكروه دائما بالخير والحب, كما أكتب رسالتي هذه تعليقا علي بعض الرسائل التي نشرت أخيرا في هذا الباب لأبناء يشكون انصراف آبائهم عنهم سنوات طويلة.. حتي تسممت مشاعر هؤلاء الأبناء تجاههم, ولكي أقول لهؤلاء الأبناء إنه بالرغم من كل ما تشعرون به من قسوة الحرمان وبعد الأب عنكم, فلا تغلقوا الأبواب نهائيا في وجوه هؤلاء الآباء إذا سعوا إليكم في أي مرحلة من العمر أو أبدوا أي بادرة ندم علي موقفهم السابق منكم, وإنما انتهزوا الفرصة فلقد يكونون قد أفاقوا من غيهم كما أفاق أبي في أيامه الأخيرة.. ولأن الفرصة إذا ضاعت قد لا تتكرر ويرحل الآباء عن الحياة وتظل المرارة في القلوب إلي الأبد.
كما أرجو من بعض الآباء الذين لم ينجبوا غير الإناث أن يدركوا أن بناتهم لم يخلقن أنفسهن بأيديهن وإنما هي إرادة الله وعليهم تقبلها والاعتزاز بها, فالابنة هي دائما سر الأب والأم وهي الحنان كله والعطاء كله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ولكاتبه هذه الرسالة أقول:
من يرحمه ربه.. فإنه يرفع الغشاوة عن عينيه ويرده إلي جادة الحق والعدل.. وفي العمر متسع لإصلاح الأخطاء ورد الحقوق واستبراء الذمة.. أما الحسرة الحقيقية فهي ألا يفيق المرء من غيه ويندم علي ماكان من أمره إلا وهو يتسمع أنغام الرحيل ويتحسس حفيف ملاك الموت وهو يحوم حوله.. فيتمني لو كان الله سبحانه وتعالي قد وهبه قطعة أخري من الحياة علي حد التعبير المؤلم الذي أطلقه الأديب الكولومبي العظيم جارسيا ماركيز في رسالته الوداعية عقب علمه بمرضه الخطير, لكي يصحح الأخطاء ويتبرأ من كل الخطايا.. ويحقق العدل المهدر من حياته الشخصية..
ولأنها أمنية مستحيلة في أغلب الأحوال.. فإن الوقت لايسعف صاحبه لكي يفعل شيئا من ذلك.. ويرحل عن الحياة مثقلا بالخوف من عقاب السماء وعذاب الضمير ولوم النفس.
والأجدي دائما هو أن يرعي الإنسان حدود ربه في رحلته مع الحياة.. وأن يتوقف كل حين ليراجع حياته وأعماله.. ويعترف بأخطائه ويعتذر عنها ويبادر بإصلاحها وفي العمر بقية لمثل ذلك.. وبذلك تكون له أكثر من حياة.. ويتعلم علي الدوام من أخطائه في حيواته السابقة ويستفيد بدروسها ويحسن استثمار الفرصة المتاحة له من العمر, ويزداد مع تكرار التوقف والمراجعة وتصفية الأخطاء أولا بأول خبره بالتعامل السليم مع الحياة في تجربته الجديدة معها كل حين, حتي ليكاد بهذه المراجعة يحقق الحلم الذي صاغه أحد الأدباء حين قال إنه ينبغي للانسان أن يحيا حياته مرتين.. فيتعلم في المرة الأولي من التجربة والخطأ.. ويستفيد في الثانية بدروس تجربته الأولي في التعامل علي نحو أفضل مع البشر والحياة.
وإني لأعجب يا آنستي لما يمثله والدك الراحل من نموذج غريب لبعض الآباء الذين يختارون لأنفسهم بإرادتهم ألا يكون لحياتهم أي معني أو أثر إيجابي أو قيمة في حياة أبنائهم, حتي إذا حانت لحظة رحيلهم لم يشعر الأبناء بأية خسارة حقيقية لغيابهم عن مسرح الحياة, فإن كان ثمة حزن في مثل تلك المناسبة فهو علي أنهم لم يكونوا آباء صالحين لهم, وقد كان بمقدورهم أن يفعلوا ذلك.. وليس علي أشخاصهم أو علي فراقهم للأسف!
كما أعجب أيضا لمن يختارون لأنفسهم أن يكونوا كمن قال عنهم أمير الشعراء أحمد شوقي:
إنما الميت من مشي
ميت الخير والخبر
من إذا عاش لم يفد
وإذا مات لم يضر
فأي هوان يرتضيه المرء لنفسه حين يختار بإرادته أن يستوي وجوده علي قيد الحياة مع غيابه عنها بالنسبة لأبنائه وأعزائه وأقرب الناس إليه, فلا يفيدهم سعيه علي ظهر الأرض.. ولا يضرهم استقراره تحت الثري..
وماذا يفيد الندم الحسير في اللحظات الأخيرة علي ظلم ذوي القربي والتقصير في حقوقهم وإعناتهم.. بعد فوات الأوان..
إن رسالتك يا آنستي تحمل لنا الكثير والكثير من المعاني والدلالات وأجراس الإنذار لمن يكررون خطيئة محاسبة الأبناء علي جنسهم الذي جاءوا به إلي الحياة, وخطايا ظلم شركاء الحياة بلا ذنب جنوه, وكبائر التخلي عن الأبناء الذين يحتاجون إلي عطف الآباء ورعايتهم وحمايتهم.. وجرائم مباعدتهم وحرمانهم من حقوقهم المشروعة علي آبائهم.. فعسي أن يتفهم مغزاها بعض السادرين في غيهم قبل أن يفوت أوان إصلاح الأوضاع.
وعسي أن تعوضك السماء عن كل ما حرمت منه وأن يرعي الله سبحانه وتعالي خطواتك في الحياة ويقودك بإذن الله إلي النجاح والسعادة والأمان.
مدونة بريد الجمعة مدونة إجتماعية ترصد أحوال الشارع المصرى والوطن العربى مدونة تتناول قصص, ومشكلات حقيقية للوطن العربى مثل: (ظاهرة العنوسة, الخيانة الزوجية, الخلافات الزوجية, التفكك الأسرى, الطلاق وآثاره السلبية على الأبناء, الحب من طرف واحد, مرض التوحد, الإبتلاءات من فقر ومرض وكيفية مواجهة الإنسان لها) ثم يعرض الموقع فى أخر كل موضوع رأى المحرر فى التغلب على هذه المحن
الأربعاء، ١ مارس ٢٠٠٠
الأمنية المستحيلة!
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق