السبت، ١ أبريل ٢٠٠٠

رحلة الأيام

30-01-2004
أنا رجل من الخامسة والأربعين من العمر‏,‏ نشأت في أسرة متوسطة بين أمي التي نهضت بمسئوليتي بعد وفاة أبي وأنا طفل صغير‏,‏ وثلاث شقيقات ولقد مضت بنا رحلة الأيام وتخرجت في كلية العلوم وبدأت اخطط لحياتي ولتحقيق نجاحي في الحياة العملية‏..‏ فكان أول ما فعلت هو أن تزوجت من فتاة من أسرة ثرية تكبرني بخمس سنوات‏,‏ تعرفت عليها خلال دراستي الجامعية لأنها كانت كثيرة الرسوب حتي ادركتها وهي لم تتخرج بعد‏..‏ وشعرت بأن زواجي منها سيفتح لي أبواب النجاح والثراء‏,‏ وبالفعل فقد كان اهلها كرماء معي وعرضوا علي وظيفة ذات مرتب عال لكني اعتذرت كيلا أكون تحت وصايتهم‏,‏ وعملت في إحدي الهيئات وبدأت أتطلع لممارسة العمل التجاري الحر إلي جانب الوظيفة‏,‏ وجمعت مبلغا مقبولا من المال يمكن أن يصلح كبداية للعمل‏,‏ كان حصيلة ما ادخرته واقترضته من أمي‏.‏ كما حصلت علي جزء منه من زوجتي‏,‏ ثم قدمته إلي شخص كان يمارس التجارة وكان يهتم بأمري ويمد لي يد العون‏,‏ فرحب بمشاركتي له بهذا المبلغ البسيط وأفسح لي المجال للعمل معه وتعلم أسرار التجارة والسوق‏.‏
وواصلت العمل معه أو من خلاله بحماس شديد‏,‏ ونفذت بعض العمليات التجارية لحسابي الخاص‏..‏ فبدأت احوالي المادية في التحسن‏.‏

وعاما بعد عام أصبح هذا النشاط التجاري هو عملي الأساسي‏..‏ وتفرغت له وحققت نجاحا ماديا كبيرا‏,‏ فاشتريت لنفسي سيارة بدلا من اعتمادي علي سيارة زوجتي‏,‏ واشتريت لنفسي شقة ممتازة بدلا من الإقامة في شقة زوجتي وانتقلت إليها مع ابنتي وزوجتي‏.‏
وأغراني النجاح والطموح فأردت أن تكون لي شركتي الخاصة‏,‏ وأن اتوقف عن العمل تحت مظلة شركة ذلك الإنسان الذي مد لي يد العون في البداية‏,‏ ونفذت قراري برغم محاولته اثنائي عنه‏,‏ وأسست شركتي وجاء وقت الانفصال عن شريكي القديم فتركته وأخذت معي معظم أعمال الشركة القديمة‏..‏ ولم أتأثر برجائه الحار لي أن اترك له بعض هذه الأعمال كيلا تتعثر أعماله هو بعد انفصالي عنه‏,‏ وانتابني الجحود تجاهه بشكل غريب‏,‏ ولم اشعر بأي تعاطف معه‏..‏ حتي وهو يودعني نادبا وقائلا‏:‏ حسبي الله ونعم الوكيل‏!.‏

وبدأت العمل في شركتي الخاصة بحذر ولازمني التوفيق فتوسعت في أعمالها شيئا فشيئا‏,‏ حتي افتتحت فرعا آخر لها‏,‏ وتدفق الربح علي فشعرت بأنني قد ملكت الدنيا وما عليها‏..‏ ولاحظت خلال ذلك أنني قد أصبحت عدوانيا وسليط اللسان بشكل غريب‏,‏ وأنه لا يكاد ينجو من لساني أحد ابتداء من زوجتي إلي موظفي الشركة‏.‏ كأني لا أطيق نجاحي وأريد أن أعبر عنه بالعدوان علي الآخرين‏..‏
ولم لا أفعل وقد أصبحت ثريا ولدي الخدم والحشم وفيلا وسيارات‏..‏ إلخ وفي غمرة نجاحي هذا فوجئت بابنتي الكبري تشكو من آلام لا تحتمل‏,‏ وهرولت بها إلي الطبيب فبدأنا دورة الفحوص والأشعات التي انتهت بالحقيقة المرة وهي إصابة ابنتي الحبيبة بالمرض العضال‏.‏

واجريت لها جراحة عاجلة واصطحبتها بعد الجراحة إلي الخارج لإجراء فحوص جديدة‏,‏ فتبين منها للأسف أن المرض مازال كامنا في جسمها‏,‏ وخضعت الابنة للعلاج الرهيب‏,‏ وعشت أسود أيام حياتي وأنا اري أثر هذا العلاج القاسي علي ابنتي وهيئتها‏,‏ ثم ادركتها رحمة الله سريعا فأراحتها من عذابها‏..‏ ورحلت عن الحياة وتركتني أتساءل ما قيمة أي شيء في الحياة إذا حرم الإنسان من أحب البشر إليه؟‏..‏ وماذا صنع لي المال الذي كدحت طوال السنين لجمعه‏..‏ هل حمي ابنتي من المرض؟‏..‏ هل خفف عنها الألم؟ هل أبعد عنها شبح القضاء المحتوم؟‏..‏
وبعد فترة اكتئاب شديد عدت للعمل من جديد وشغلت نفسي به ودفنت احزاني فيه‏..‏ وأصبحت اقضي معظم ساعات اليوم في مكتبي حتي بدأت جراحي تندمل تدريجيا‏..‏ وبدأت الأحزان تهدأ وإن كانت لا تموت‏,‏ ومضي عامان علي غياب ابنتي الكبري ثم لاحظت فجأة أن زوجتي وابنتي الأخري تخرجان معا في المساء كثيرا وتترددان علي عيادات الأطباء‏,‏ مرة بدعوي فحص الأم‏,‏ ومرة بدعوي فحص الابنة‏,‏ كما لاحظت علامات الإعياء علي وجه ابنتي‏,‏ وأحسست بشيء يجري في السر ولا أعلم به‏.‏ وسألت زوجتي عما يجري فإذا بها بعد تردد طويل تصارحني بأن ابنتنا الأخري قد أصيبت بنفس المرض العضال الذي أودي بحياة اختها‏,‏ وتقول لي‏:‏ إنها حاولت بقدر الإمكان تأجيل علمي بالخبر إشفاقا علي‏,‏ ولم اسمع بقية كلماتها لأني سقطت مغشيا علي ونقلت إلي المستشفي‏.‏

وفي المستشفي زارني كثيرون‏..‏ وفوجئت بزيارة شريكي القديم لي وكانت أول مرة آراه فيها منذ عشر سنوات‏,‏ وتوجست لحظات من أن يكون قد جاء شامتا في‏,‏ لكني لاحظت صفاء نيته‏,‏ كما لاحظت أيضا سوء أحواله المادية من مظهره وحديثه‏,‏ وبعد حديث المجاملة المألوف‏..‏ وجدتني فجأة أطلب منه السماح والعفو عما فعلت معه‏..‏ وعن مقاطعتي له طوال السنوات السابقة ونسياني أو جحودي لفضله علي في بداية حياتي‏,‏ وإذا بالرجل يقول لي في سماحة إنه قد فوض أمره إلي الله فيما حدث بيننا منذ زمن طويل‏,‏ وأن كل شئ نصيب‏..‏ والأرزاق دائما بيد الله وحده‏,‏ وشعرت بالارتياح بعض الشئ بعد أن تركني‏..‏ وغادرت المستشفي بعد بضعة أيام واصطحبت زوجتي وابنتي في رحلة إلي الخارج لإجراء المزيد من الفحوص والتحليلات‏.‏
ولكن الخوف استقر في أعماقي وأصبحت كثير البكاء‏..‏ ودائم التفكير في حال شريكي السابق وأطلب من الله العلي القدير أن يسامحني كل من ظلمته خلال رحلة العمل والطموح في مال أو في قول‏,‏ وأن يدعو الله وتدعو أنت وقراؤك لابنتي الكبري بالرحمة وللصغري بالشفاء والنجاة من الوحش الذي يترصدها‏.‏

إنني أخرج زكاتي كاملة وأتصدق كثيرا‏,‏ وأعول بعض الأيتام‏,‏ وأرجو أن يشفع ذلك لابنتي في مرضها ولي في محنتي‏,‏ كما أرجو أيضا أن تسامحني زوجتي من كل ما بدر مني تجاهها خلال رحلة العمر فهل يتقبل الله سبحانه وتعالي مني؟‏..‏
وهل هناك ما أستطيع أن أفعله لكي يعفو الله سبحانه وتعالي عني‏,‏ ويترفق بي‏..‏ وابنتي؟‏.

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
نعم يا سيدي هناك ما تستطيع أن تفعله أكثر مما فعلت قربي إلي الله سبحانه وتعالي‏,‏ عسي أن يحفظ عليك ابنتك‏,‏ ويخفف عنك أحزانك وآلامك ويحقق لك السعادة والطمأنينة في الدنيا والآخرة‏..‏ تستطيع أن تعين شريكك القديم علي تحسين أحواله المادية التي تدهورت بانسحابك من عملكما المشترك مستوليا علي معظم أعمال الشركة القديمة‏,‏ وتاركا إياه للتعثر ومواجهة الصعاب‏..‏ فتستطيع إن شئت أن تعينه علي النهوض مرة أخري‏,‏ كما أعانك هو في بداية حياتك العملية‏,‏ وتستطيع أن تشاركه بجزء من مالك فتوفر له فرص الكسب والعمل واستعادة النشاط دون أن تخسر شيئا‏..‏ أو دون أن تخسر الشئ الكثير في أسوأ الأحوال‏,‏ وها قد علمتك رحلة الأيام بالدروس المؤلمة أنه لا قيمة للمال في حد ذاته إذا كان الإنسان مؤرق الضمير معذبا‏,‏ ولا أمان للأيام إن لم يتسلح المرء لها بالعدل مع الجميع‏..‏ واجتناب الظلم وإيلام الآخرين والعدوان علي حقوقهم‏,‏ وبالأعمال الصالحات التي يرجو بها المرء وجه ربه ويتشفع بها لديه في أن تحميه من غوائل الأيام‏.‏
لقد وضعت أقدامك علي هذا الطريق بعد رحيل ابنتك الغالية رحمها الله وعوضها عن شبابها في جنات النعيم إن شاء الله‏..,‏ ولم يبق إلا أن تواصله حتي النهاية بإذن الله مرددا قول الخليفة المعتصم في مرضه الأخير‏:‏ اللهم أنك تعلم أنني أخافك من قبلي ولا أخافك من قبلك‏,‏ وأرجوك من قبلك ولا أرجوك من قبلي‏.‏

كما تستطيع أيضا أن تراجع مشوار حياتك العملية وتتحري أن كان ثمة من ظلمته أو بخست حقه أو أسأت إليه عامدا متعمدا فتصلح ما فعلت‏,‏ وترد الحقوق لأصحابها ولو بطريق غير مباشر كنوع من التعويض والتكفير عن نثار الطريق الذي أصاب بعض العيون بالأذي خلال انطلاق جواد الطموح الجامح إلي أهدافه‏.‏ إننا جميعا نحتاج إلي هذه الوقفة مع النفس من حين لآخر‏,‏ لكي ننقي الثوب من أدرانه السابقة‏,‏ ونواصل الرحلة بضمير غير مثقل بالذنوب‏,‏ وأنه لتشتد حاجتنا إلي مثل هذه المراجعة كلما كابدنا أحزان الحياة وآلامها‏,‏ وكلما تعاملنا مع همومها الحقيقية‏.‏
أما ابنتك الصغري فلسوف يحفظها الله سبحانه وتعالي عليك بقدرته وهو جل شأنه من أمره بين الكاف والنون‏..‏ وأما زوجتك وشريكة رحلتك فلقد سامحتك بالفعل علي كل ما بدر منك تجاهها‏,‏ لأن الألم مطهر للنفوس الخيرة‏,‏ ولقد كابدت محنة الثكل أعانها الله علي تحملها ورفع بها من درجاتها فليس لأي شئ آخر قيمة تستحق أن تحزن من أجلها‏,‏ وأما رحلة الأيام فستمضي بك وبأسرتك في أمان وسلام بإذن الله ولسوف تسعد باكتمال شفاء ابنتك الغالية واستوائها يوما بعد يوم وردة زاهية تنجب لك الأحفاد وتملأ حياتك بعطر الحب ودفء القلوب إن شاء الله‏.‏

فواصل الطريق الذي بدأته ياسيدي‏,‏ واسترجع دائما الدعاء الذي قيل إن بعض الصحابة قد سمع رجلا غريبا يردده في المسجد النبوي‏,‏ ووصفوه للرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه‏,‏ فقال ما معناه‏:‏ هذا أخي جبريل‏..,‏ وهو‏:‏ اللهم اغفر لي مامضي من ذنوبي‏..‏ واعصمني فيما بقي لي من عمري‏,‏ وارزقني أعمالا زاكية ترضي بها عني‏.‏
وما أحوجنا جميعا إلي ترديد هذا الدعاء كل حين وإلي العمل به‏!‏
المزيد ....

أيـام مســــــــروقة‏!‏

06-02-2004
أنا شاب في الرابعة والعشرين من عمري‏,‏ نشأت في أسرة بسيطة واقتضت ظروفي العائلية والمادية أن اخرج للعمل منذ سن الثامنة‏..‏ فعملت كل صيف في إحدي المهن كصبي‏,‏ لكي أستطيع مواصلة تعليمي‏..‏ وعملت في بعض السنوات خلال الدراسة فكنت أغادر المدرسة إلي العمل مباشرة ولا أرجع إلي البيت إلا في العاشرة مساء‏,‏ لكي أزدرد بعض الطعام وأنام كالقتيل‏.‏
وظل الحال علي هذا النحو حتي عملت منذ عدة سنوات في شركة تجارية صغيرة‏,‏ وبدأت فيها من البداية صغيرا‏..‏ ثم تقدمت وازداد اعتماد صاحب العمل علي تدريجيا حتي أصبحت بمثابة نائبه أو وكيله في أداء الأعمال التجارية التي يكلفني بها‏..‏ ثم رحل صاحب العمل عن الحياة منذ عامين فجأة‏,‏ وترك كل شيء في يدي‏..‏ وحزنت علي رحيله حزنا شديدا‏..‏ ووجدت أنني استطيع إذا أردت أن أخفي بعض الأموال التي لايعلم أحد عنها شيئا سواي‏,‏ وأن أظهر البعض الآخر‏..‏ لكني خشيت الله سبحانه وتعالي وقررت ألأ اخون الأمانة وألا أمد يدي إلي حرام‏.‏

وبعد انتهاء المراسم الحزينة بأيام ذهبت إلي بيت صاحب العمل والتقيت بأرملته وقدمت لها كل ما لدي من مال وأوراق ومستندات تخص العمل‏,‏ ومن بينها كمبيالات علي بعض العملاء‏..‏
وشكرتني السيدة كثيرا وامتدحت أمانتي وطلبت مني الاستمرار في العمل واعتبار نفسي المسئول عنه‏,‏ ومداومة الاتصال بها وزيارتها كل يوم لإبلاغها بنتائج العمل ومشاكله‏..‏ ورحبت بذلك‏,‏ وعدت لمواصلة عملي وقد أصبحت المسئول الأول عنه‏..‏ ووفقني الله في الحفاظ علي عجلة العمل دائرة‏,‏ وفي تحصيل بعض الديون من بعض العملاء‏,‏ وفي تصريف بعض البضائع الراكدة منذ فترة‏..‏ واطلعت ارملة صاحب العمل علي كل ذلك فسعدت به كثيرا وأثنت علي همتي ودعت لي بالخير‏,‏ وابتهاجا بهذه الاخبار السعيدة دعتني لتناول الغداء معها ومع أطفالها يوم الجمعة التالي‏,‏ وذهبت إليها في الموعد المحدد‏,‏ فشممت رائحة البخور المعطرة تفوح من الشقة‏..‏ ودخلت فوجدتها في أبهي صورة‏,‏ واستقبلتني بابتسامة ساحرة‏,‏ وقدمت لي عصير البرتقال‏,‏ وجلسنا في الانتريه بعض الوقت نتحدث ونتسامر ونداعب أطفالها الذين يمرحون حولنا‏,‏ ثم انتقلنا إلي مائدة الغداء التي أعدتها السيدة التي تدير شئون البيت‏,‏ واستمتعنا بأكلة شهية وتواصل الحديث بيننا علي المائدة بلا انقطاع‏,‏ وكادت الجلسة تمضي عادية لولا شيء واحد أعطاني مؤشرا مهما‏..‏ فلقد أمسكت السيدة بقطعة من اللحم ووضعتها بيدها في فمي‏..‏
وابتسمت‏..‏ فرددت علي ابتسامتها بمثلها‏,‏ وأدركت أو تأكدت مما كنت أشك فيه قبل أسابيع‏,‏ وهو أن هذه السيدة تفكر في كرجل‏..‏ وليس فقط كمدير لعملها التجاري‏,‏ وسعدت بذلك في قريرة نفسي‏,‏ لكني لم أقدم علي أية خطوة علي طريق الاقتراب منها لعلمي أنها تكبرني بثلاثة عشر عاما‏,‏ ولخوفي من أن يسئ البعض‏,‏ خاصة أقاربها وأقارب زوجها الظن بي ويتصوروا انني طامع في مالها‏,‏ كما أن أبي وأمي لن يرحبا أبدا بزواجي من أرملة تكبرني في السن وذات أبناء ولو كانت من اغني الأغنياء‏.‏
وهكذا واصلت العمل والدراسة وكنت قد بلغت السنة النهائية من دراستي الجامعية‏..‏ وانشغلت بالمذاكرة والامتحانات‏,‏ فتخلفت عن زيارة صاحبة العمل عدة مرات‏,‏ واعتذرت لها بمشاغلي‏,‏ وظهرت النتيجة وحصلت علي شهادتي ففوجئت بها تقدم لي ساعة ثمينة هدية النجاح وتدعوني من جديد للغداء‏,‏ وتكرر ما حدث في الدعوة السابقة‏..‏ لكن شيئا جديدا قد طرأ‏,‏ هو أنها دخلت الحمام وتركتني وحيدا في الانتريه لفترة طويلة‏,‏ فجاءت السيدة التي تعمل لديها بالشاي ووضعته أمامي ثم نظرت إلي نظرة معبرة وسألتني بطريقة مباشرة‏:‏ لماذا لاتطلب يد السيدة فلانة؟‏!..‏ وهي الجمال كله والأدب كله والأخلاق كلها‏,‏ وذهلت لما سمعت وترددت في الإجابة‏,‏ ثم قلت لها انني شاب عمري‏24‏ سنة وخريج جديد لم يحصل علي عمل رسمي بعد‏,‏ وظروفي المادية سيئة‏,‏ فبأي شيء أتقدم لمثل السيدة فلانة؟‏..‏

فرمقني بنظرة جانبية وقالت‏:‏ بشبابك‏..‏ ومستقبلك‏..‏ وأمانتك‏!‏ تتقدم ولا تحمل هم الأعباء المادية لأننا لن نكلفك شيئا‏.‏ أو دعني اتحدث باسمك حين تخرج السيدة من الحمام وأعلنها برغبتك فيها‏!.‏
وسكت موافقا‏,‏ وجاءت السيدة فقابلتها مديرة البيت بزغرودة‏,‏ واعلنتها ان هذا الشاب الخجول يطلب يدها علي سنة الله ورسوله‏,‏ لكنه يخشي ألا تقبلي به لظروفه‏..‏ فأشادت السيدة بأخلاقي وكيف أنها لا تقدر بمال الأرض وأعلنت موافقتها علي الفور‏..‏

وبدأنا بعد ذلك الحديث في التفاصيل وحددنا موعدا لعقد القران بعد أيام‏,‏ وطلبت منها شيئا واحدا هو أن نتكتم هذا الزواج عن أهلي‏,‏ لأن أبي وامي لن يوافقا عليه ولن يدعاني لحال سبيلي إذا علما به‏.‏
وطلبت هي أن نتكتم الزواج عن أهل زوجها الراحل لكليلا يثيروا لها المتاعب خاصة بالنسبة لأولادها‏,‏ واتفقنا علي ألا يعلم به إلا أخوتها ووالدتها‏..‏

وبدأت حياتي الزوجية معها‏..‏ وغرقت في طوفان عاطفتها وشوقها‏,‏ وأصبحت أتناول الغداء معها كل يوم وأرجع للعمل وأعود إليها في المساء لقضاء السهرة‏,‏ وارجع للبيت في منتصف الليل واعتذر لأمي وأبي بالعمل‏,‏ أو أزعم لأمي أنني سأتسلم بضاعة طوال الليل‏,‏ وأقضي الليل مع زوجتي‏..‏
وبالرغم من المجهود الذي ابذله في العمل فلقد تحسنت صحتي‏..‏ وازداد وزني‏..‏ بفضل التغذية الجيدة والسعادة‏,‏ فأنا أحب زوجتي وحريص عليها وهي تحبني حبا كبيرا وتعتبرني هدية السماء لها‏,‏ وانا سعيد معها وأتفجر حماسا للعمل‏..‏ وأصبحت احصل علي نسبة‏5%‏ من أرباحه إلي جانب مرتبي مقابل إدارتي له‏..‏ وجرت النقود في يدي وأصبح يتوافر لدي لأول مرة أكثر من احتياجاتي‏,‏ واعطيت أمي مائتي جنيه هدية لها فسعدت بها كثيرا‏..‏ شيء واحد فقط ينغص علي هذه السعادة هو خوفي من أن يعلم أبي وأمي بزواجي من السيدة التي ادير تجارتها‏,‏ خاصة أمي‏..‏ لأن أبي يمكن بعد ثورته الأولي وسخطه أن أتفاهم معه‏,‏ أما أمي فلن يهدأ لها بال إذا علمت إلا بعد أن ترغمني علي طلاقها‏,‏ وترك العمل معها وتحرم علي رؤيتها‏,‏ لأنها كأي أم تريد لابنها ان يتزوج فتاة بكرا وأصغر منه‏,‏ وليست ارملة تكبره بـ‏13‏ عاما ولديها ثلاثة أبناء‏..‏ وأنا أعرف عن نفسي أنني لن اتحمل غضب أمي علي‏,‏ اذا غضبت وافكر في اليوم الذي ستنفجر فيه المشكلة وادعو الله أن يبعده إلي أقصي حد ممكن‏..‏ وأن يؤجل المتاعب لأجل بعيد‏.‏

ولكن الي متي سأظل خائفا اتلفت حولي كالمشبوه وأنا أتسلل إلي بيت زوجتي‏..‏ أو أغادره في الليل؟
وماذا تقترح علي أن أفعل لأتخلص من هذا الخوف الثقيل علما بأنني قد كتبت لزوجتي مؤخر صداق كبيرا لا استطيع الوفاء به‏,‏ كما لا استطيع تحمل بقية اعباء الطلاق الذي لا ارغب فيه؟‏!‏

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
ماذا فعلت بنفسك أيها الشاب؟
لقد تزوجت زواجا محكوما عليه بأن يكون مؤقتا‏,‏ وان ينتهي مخلفا وراءه جراحا علي الجانبين طال المدي أو قصر‏,‏ إن لم يكن بسبب زوال غشاوة الرغبة والشوق والاندفاع إلي الارتواء العاطفي بعد حين‏,‏ فلقد يجئ الانهيار لأسباب خارجية لا يمكن تفاديها إلي الأبد‏,‏ كثورة الأهل علي هذا الزواج غير المتكافئ من كل الوجوه‏,‏ خاصة أهل الزوج الراحل الذين سيتشككون بالضرورة‏,‏ ولهم بعض العذر في ذلك‏,‏ في دوافعك المادية للارتباط بهذه السيدة‏,‏ وسيتهمونك بالطمع في ثروة الأرملة وابنائها‏,‏ وقد ينهضون لمنازعة زوجتك في حضانة الأبناء وحق الوصاية عليهم بعد ظهور رجل غريب في حياة أمهم يخشي منه علي ثروة الأبناء ومستقبلهم‏,‏ خاصة وهو ليس رجلا متوسط العمر مستقرا ماديا وناضجا ويبحث عن الأمان والاستقرار‏,‏ وإنما شاب طموح يصغر زوجته بـ‏13‏ عاما‏,‏ فماذا تفعل زوجتك إذا خيرت بين حضانة ابنائها والوصاية عليهم‏..‏ وبين التخلي عن هذا الزواج الذي لا تستطيع الدفاع عنه أو تبريره أمام أهل زوجها الراحل؟‏.‏

هل تراها تضحي بأبنائها من أجلك؟
ان الجواب معروف‏,‏ولا يحتاج إلي بيان‏..‏ لهذا فإن زواجك هذا هو مهلة مسروقة من الزمن قد تكون لعدة أسابيع وقد تطول بالشهور والسنوات‏,‏ لكنه في كل الأحوال سوف تمارس قوانين الحياة الطبيعية تأثيرها علي كل الأطراف في الوقت المناسب فتكتشف أنت بعد الري والشبع والارتواء انك قد تسرعت في الزواج من هذه السيدة التي تكبرك كثيرا في العمر ومثقلة بأعباء الأبناء‏,‏ وتكتشف هي أنها قد خرجت علي المألوف وتجاهلت الاعتبارات العائلية والاجتماعية العديدة‏..‏ فأساءت الي نفسها وعرضت ابناءها لخطر انتقال حضانتهم والوصاية عليهم لغيرها‏..‏ فتندم علي انسياقها وراء مشاعرها المحرومة عقب وفاة زوجها وتتمني لو لم تكن قد ضعفت أمام نداء الرغبة علي هذا النحو‏.‏

علي أية حال فإن بعض الحقيقة خير من أي زيف‏,‏ كما يقولون‏,‏ ولا مفر إذا اردت أن تتخلص من الخوف والإحساس الباطني ـ بأنك ترتكب خطأ لا تستطيع مواجهة الآخرين به ـ من مواجهة الحقائق بدلا من الهروب منها وتحمل تبعات المواجهة بشجاعة أيا كانت النتائج‏,‏ فابدأ بأبيك وصارحه بما فعلت وتحمل ثورته وغضبه‏..‏ ثم اطلب منه النصيحة فيما تفعل‏..‏ وكن أمينا معه في الحديث عن نفسك ومشاعرك وطموحك وحقيقة رغبتك في هذه السيدة‏..‏ وتدبرا معا اذا تقبل ابوك حقيقة زواجك كيفية تخفيف وطأة القصة علي والدتك‏..‏ واصمد للأعاصير والعواصف والرعود والبروق المتوقعة‏..‏ فإذا نجحت في الصمود لهذه الأهوال‏,‏ فمن يدري ربما تكون الاستثناء من القاعدة وينجح زواجك ويطول عمره بعض الوقت‏..‏ قبل أن ينفجر من ناحية الزوجة ومنازعات أهل زوجها معها‏..‏
وفي كل الأحوال فإنك ايها الشاب كما قلت لك في البداية راكب قطار سيصل إلي محطته الأخيرة طال الوقت أو قصر‏,‏ ولو كنت من أهل الحكمة لبادرت أنت علي الفور بتصحيح هذا الوضع الذي يخالف قوانين الحياة بدلا من انتظار انهياره المحتوم‏,‏ وتفاهمت مع زوجتك وديا علي الانفصال بلا تبعات مادية مراعاة لظروفك وسابق خدمتك لها‏,‏ ثم انسحبت من العمل معها وبحثت عن مستقبلك في طريق آخر بلا اجتراء علي مخالفة المألوف‏..‏ ولا تحد لقوانين الحياة الطبيعية‏.‏
المزيد ....

الخروج من الشرنقة

20-02-2004
هل تذكرني؟ إنني صاحب رسالة الحب الزائفالتي تفضلت بنشرها في يونيو عام‏2000,‏ وشكوت لك فيها من أمي ورفضها القاطع لزواجي من أي فتاة أو سيدة‏,‏ لأني ابنها الوحيد الذي ترتبط به وتعتمد عليه خاصة بعد زواج شقيقاتي‏,‏ وحكيت كيف كانت كلما هممت بخطبة فتاة تمرض أو تتمارض وتلازم الفراش‏,‏ ويبدو كما لو أنها علي وشك أن تلفظ أنفاسها الأخيرة‏,‏ فنضطر لتأجيل الخطبة وأتفرغ لملازمتها ورعايتها الي أن يمضي موعد الخطبة‏..‏ فتسترد علي الفور دماء الصحة والعافية وتنهض من فراش المرض وهي في قمة السعادة‏..‏ كما رويت لك كيف تأجلت آخر خطبة لي عدة مرات لنفس السبب‏,‏ حتي ضاق بنا أهل الفتاة واعتذروا عن إتمام الارتباط‏,‏ إلي أن يئست تماما من أن أجد حلا لمشكلتي فكففت عن محاولة الزواج بعد أن أصبحت لي سمعة غير مستحبة في بيوت العائلات الكريمة من جراء ما حدث في محاولات الخطبة العديدة السابقة‏,‏ وأذكر أنك بعد أن حللت موقف أمي مني ووصفت حبها لي بأنه حب زائف‏,‏ لأنه حب أناني لا يضع سعادة الابن المحبوب في الاعتبار‏,‏ وأن كل ما يهدف اليه هو استمرار الاستئثار به وتملكه دون بقية النساء‏..‏ قلت لي إنه لا مفر من أن تسعي الي الارتباط بفتاة مناسبة في سرية تامة بعيدا عن والدتك لكيلا تفسد عليك المشروع ثم تتزوج وتضع والدتك أمام الأمر الواقع وتتحمل صواعقها وعواصفها وحمم براكينها الي أن تخمد النار وتسلم بما حدث‏,‏ مع تأكيدك لي بضرورة الفصل بين أمي وزوجتي في المسكن‏...‏ لكيلا يحدث الاشتباك المتوقع بينهما‏,‏ وبعد نشر الرسالة ساءت حالتي النفسية للغاية وانقطعت عن زيارة الاصدقاء أو استقبالهم وأصبحت أخرج بعد صلاة الفجر الي عملي وأعود إلي البيت في المساء منهكا فأجد أمي تتفجر شبابا وحيوية تتحدث في التليفون مع إحدي بناتها وتطلق ضحكاتها العالية‏..‏ فأدخل غرفة نومي محسورا ولطبيعة عملي فلقد كنت أسافر الي عاصمة المحافظة التي تقع فيها مدينتي عدة مرات كل اسبوع وأتردد علي مسجد قريب من العمل لأصلي فيه‏,‏ وفي هذا المسجد رأيت رجلا سمح الوجه وقورا‏,‏ لاحظت أنه ينظر الي ويراقبني‏,‏ ربما لأنني وجه غريب يظهر في المسجد فتبادلنا النظرات والابتسامات والتحية ثم حدث في أحد الأيام وكنا نستعد لأداء صلاة المغرب‏..‏ أن سمعت صوت سقوط جسم علي الأرض في أحد أركان المسجد‏,‏ ورأيت المصلين يهرولون ناحيته فهرولت معهم‏..‏ فوجدت هذا الرجل وقد أصيب بأزمة صحية مفاجئة‏,‏ فقد معها توازنه وساعدناه علي النهوض فطلب
مني أنا بالذات أن أوصله إلي بيته القريب‏,‏ ففعلت وأحضرت له طبيبا وصرفت الدواء من الصيدلية ومكثت معه حتي صلاة العشاء وودعته بعد الاطمئنان عليه وهو يشكرني بحرارة ورجعت إلي مديتني الصغيرة‏.‏

وبعد أسبوع لاحظت أنه لم يظهر بعد في المسجد منذ ذلك اليوم‏,‏ فتوجهت إلي بيته للسؤال عنه‏,‏ وطرقت الباب ففتحته لي فتاة شابة فارتبكت لأني لم أر من قبل أحدا معه في بيته وكنت أظنه أرمل وحيدا وهممت بالرجوع لكنه ناداني من الداخل ورحب بي‏,‏ وفسر لي وحدته في المرة السابقة بأن زوجته وبناته الأربع كن حين رجعت معه الي بيته يحضرن درسا دينيا لداعية مشهورة واستشعارا مني بحرج الموقف حاولت الانصراف بعد فترة قصيرة‏,‏ لكنه أصر علي أن أبقي معه حتي نتناول معا طعام العشاء‏..‏ وعرفت منه أنه رجل بالمعاش عمل مديرا بوظيفة سيادية كبري‏,‏ وطلب مني أن أحكي له قصتي لأنه يلاحظ نظرة حزن غريبة في عيني‏,‏ فوجدتني أروي له كل شئ بصراحة تامة‏,‏ وأحكي له مالم أصرح به لانسان قبله‏,‏ فربت علي كتفي وطلب مني الصبر علي والدتي والدعاء لها بالهداية‏,‏ ثم سألني‏:‏ مارأيك في ابنتي الكبري التي فتحت لك الباب‏..‏ هل تراها مناسبة لك‏,‏ فأجابته علي الفور بالإيجاب‏,‏ ولم أفكر في أن أطلب مهلة للتروي والتفكير في الأمر‏,‏ فشجعه ذلك علي أن يدعوها ويبلغها أن هذا الشاب الطيب يطلب يدك

فماذا تقولين؟ وخفق قلبي خوفا من الحرج وفوجئت بها توافق حتي بعد إطلاعها علي جميع الظروف التي تحيط بي‏,‏ وطلب مني الرجل ألا أبوح بما حدث لأحد إلا من اثق به ثقة كاملة حتي لايتسرب الخبر الي والدتي‏,‏ وبالفعل لم ابح لأحد بسري سوي خالي وزوج إحدي شقيقاتي‏,‏ وخلال ذلك خطرت لوالد فتاتي فكرة كان لها أثر السحر في إتمام الارتباط‏,‏ فقد اقترح علي إرسال أمي لأداء العمرة عارضا ان يتكفل هو بنفقاتها كاملة‏,‏ وخلال غيابها فيها يتم عقد القران والزفاف والانتقال الي بيت الزوجية في بلدتي‏..‏ وترجع أمي من عمرتها فتجدني زوجا ورب أسرة مع حرصي علي مراعاتها ورعايتها وتحملها خلال فترة الثورة الأولي‏,‏ ونفذنا الفكرة بالفعل‏..‏ ورحبت امي بها ولم تسألني عن مصدر النقود التي دفعتها للعمرة‏,‏ ولعلها اعتبرتها آخر مدخراتي التي كنت قد ادخرتها للزواج‏,‏ واطمأنت بذلك الي اني لن اتمكن من الزواج ذات يوم‏,‏ وسافرت والدتي الي العمرة ورجعت واستقبلتني بالقبلات ثم عرفت بما تم في غيابها‏,‏ ولك ان تتخيل ماحدث وماجري بعد ذلك‏,‏ وكيف بعد ان بح صوتها من الصراخ والعويل هاجمتها جميع امراض الأرض حتي عجزت عن الحركة ولازمت الفراش؟ وتفرغت أنا وزوجتي لخدمتها ورعايتها وتمريضها‏,‏ وصرنا ننام علي الأرض بجوار فراشها لنجيب نداءها في أية لحظة‏,‏ ونصحبها الي الأطباء لعلاج أمراض لاندري عنها شيئا‏,‏ وهكذا طوال ثلاثة أشهر كاملة‏..‏ فاذا استأذناها في العودة لبيت الزوجية في مساء أحد الأيام لكي نبدل ملابسنا ونرتب أمورنا‏..‏ واذنت لنا علي مضض لم نكن نستقر في البيت ساعة حتي يلاحقنا الجيران بالتليفون‏:‏ عودوا والدتك تموت‏!‏

فنرجع مهرولين‏..‏ ونجدها في نفس الحال‏..‏ ونسلم أمرنا الي الله‏..‏ وهكذا عشت شهور الزواج الأولي كلها في جو الإرهاب المعنوي هذا‏..‏ والويل لزوجتي اذا ارتدت فستانا نظيفا في البيت‏,‏ والويل لي ولها اذا تبادلنا الحديث امامها بكلمة‏,‏ لأن الكلام ينبغي له ألا يوجه إلا لها هي‏,‏ واخيرا ظهرت بارقة امل في ان تخفف امي من موقفها هذا من زواجنا‏,‏ فلقد تحركت ثمرة الحب في أحشاء زوجتي‏,‏ وأملنا ان تسعد امي بالخبر وابلغتها به امام خالي‏,‏ فلم أنس تعبير وجهها حين سمعته ولا كيف اسود وجهها واظلم كانما قد أبلغتها بأسوأ خبر في الوجود‏,‏ وانقضت من شهور الحمل ثلاثة أشهر وزوجتي برغم كل شيء دائمة الابتسام في وجه أمي وحريصة علي خدمتها وتجاهل إساءاتها‏..‏ ثم خرجت ذات يوم لأصلي العصر في المسجد القريب ورجعت فوجدت زوجتي مستلقية علي الأرض والدم يغرق فستانها وامي تحاول مساعدتها علي النهوض‏,‏ وسمعت روايتين تفسيرا لماحدث‏,‏ الأولي من أمي وتقول ان زوجتي داخت من الحمل وسقطت علي الكرسي ثم علي الأرض‏,‏ والثانية من زوجتي علي انفراد وتقول ان أمي ألقت علي الأرض عامدة قشر الموز وبعض الزيت لكي تتزحلق عليها‏,‏ وانها جمعت قشر الموز من الأرض ومسحت الزيت قبل وصولي بدقائق‏,‏ ثم تظاهرت بمساعدتها علي النهوض وطلبت زوجتي أن تذهب الي بيت أهلها لتستريح فترة تسترد خلالها عافيتها بعد ان فقدت جنينها فوافقتها علي ذلك‏.‏

وشفيت امي من كل امراضها بقدرة قادر بمجرد ان رحلت زوجتي الي بيت أهلها‏..‏ وتحركت في البيت وتزينت وارتدت اجمل ملابسها البيتية وغطت الابتسامة وجهها‏,‏ وبعد أسابيع اخري حملت زوجتي من جديد‏..‏ فحرصنا علي تكتم الخبر عن أمي هذه المرة‏,‏ فلم تعلم به إلا بعد ان لاحظت انتفاخ بطن زوجتي‏,‏ ولم تعلق سوي بالسباب واللعنات‏..‏ ثم بدأ مسلسل الأمراض والأزمات الصحية‏..‏ فحرصت علي إبعاد زوجتي عن أمي بقية شهور الحمل‏,‏ وتحملت انا كل العبء وحدي في رعايتها‏,‏ وحين جاء موعد الولادة نقلت أمي الي المستشفي لاشتداد الأزمة عليها وحرت في رعايتها ورعاية زوجتي التي علي وشك الوضع‏,‏ واستعرت سيارة صهري لأتنقل بين الاثنتين‏,‏ ووضعت زوجتي طفلا وطفلة فرحت بهما فرحة طاغية‏,‏ وهرولت لأطمئن علي أمي التي دخلت العناية المركزة‏,‏ فوجدتها قد تحسنت وغادرت العناية‏,‏ ولم تسألني عن زوجتي ولا عن مولودها‏,‏ وأرادتني ان ابقي إلي جوارها ليل نهار وأدع زوجتي لنفسها‏.‏
ومضت الأيام بطيئة وكئيبة ورجعت أمي لبيتها وزوجتي لبيت اهلها لفترة ثم إلي بيت الزوجية‏,‏ ولم استطع أن احتضن طفلي وطفلتي واداعبهما طوال شهرين سوي مرة أو مرتين لأنه مطلوب مني ألا اتحرك بعيدا عن امي خطوة واحدة‏..‏ وطوال ذلك لم تسألني هي ولو من باب المجاملة هل وضعت زوجتك أم لا‏..‏ وماذا انجبت طفلا أم طفلة؟‏!.‏

وبعد عدة أسابيع انشغلت بعض الشيء بالطفلين وبزوجتي‏,‏ ودخلت أمي المستشفي لإجراء جراحة دقيقة فسلمت زوجتي طفليها لأهلها ونهضت لخدمة أمي في المستشفي ثم في البيت‏,‏ فما أن عادت اليه حتي شكت أمي لشقيقاتي من زوجتي ومن إهمالها لها وتأخيرها مواعيد الدواء‏..‏ الخ‏,‏ وإذا بشقيقاتي يتأثرن بهذه الادعاءات ويقاطعنني ويقاطعن زوجتي‏,‏ وعبثا حاولت مصالحتهن وارضاءهن لكيلا يقطعن صلة الرحم معي ومع الطفلين اللذين بلغ عمرهما عشرة شهور ويعيشان كالمنبوذين من أهلي‏,‏ فلا يفرح بهما احد ولا يداعبهما أحد‏,‏ و قالت لي اختي الصغري انهن يعرفن جيدا ان امي تظلم زوجتي فيما تدعيه عليها‏,‏ لكنهن لا يردن إغضابها ولا عصيان اوامرها لهن بمقاطعتنا فسلمت امري إلي الله‏..‏ وكلما اشتد حولنا الحصار والمقاطعة ازددت انا وزوجتي اقترابا والتصاقا وحاول كل منا تعويض الآخر عما ينقصه من عطف وحنان‏.‏
والآن يا سيدي فإني في حيرة من أمري‏,‏ فلقد حاولت مجددا الاتصال بشقيقاتي أو زيارتهن فواصلن مقاطعتي‏,‏ ما عدا ازواجهن الذين يقدرون ظروفي‏..‏ فماذا أفعل لكي اصون صلة الرحم التي قطعتها شقيقاتي‏..‏ ولكيلا ينشأ اطفالي منبوذين بلا أهل؟

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
كل ما تعانيه الآن هو من جراء تجرؤك علي الخروج من الشرنقة التي أرادت لك والدتك ان تحيا فيها محنطا إلي ما لا نهاية‏,‏ غير أنه لم يكن هناك مفر من هذا الخروج لتعيش حياة طبيعية‏..‏ وتنعم بالزواج والإنجاب وممارسة إحساس الأبوة وإحساس المسئولية عن أسرة صغيرة يسودها العطف والحنان‏,‏ فتحمل اقدارك يا صديقي وواصل حياتك‏..‏ وأرض بما تدفعه من ثمن لامتلاكك لزمام أمرك من جديد‏..‏ واختيارك للحياة السوية ضد رغبة أقرب الناس إليك‏.‏ والحق انه لم يعد بمقدورك ان تفعل أكثر مما فعلت للحفاظ علي صلة الرحم بينك وبين شقيقاتك‏,‏ فان كان ثمة ما تستطيع أن تضيفه إلي جهودك السابقة لرأب الصدع‏,‏ فهو فقط أن تتعالي علي جرح مقاطعة شقيقاتك لك‏,‏ وتتعامل معه بروح الفهم والتسامح‏,‏ لأنك تدرك جيدا انه ليس موقفا نابعا منهن‏,‏ وانما هو خنوع للأم وخضوع لرغبتها في مقاطعتهن لك‏,‏ ومداراة لها‏,‏ محاولة لتجنب إغضابها إشفاقا عليها مما تعتبره هي هزيمة لها في صراع الاستئثار بك دون غيرها من النساء‏.‏
وفهم كل شيء يؤدي إلي التسامح مع كل شيء كما يقولون‏.‏ ولهذا فلقد تستطيع إبلاغ شقيقاتك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة‏.‏ انك تتفهم موقفهن‏,‏ بل وتلتمس لهن بعض العذر في الضغوط التي تمارسها عليهن أمهن‏,‏ وتدرك انه لايعبر عن حقيقة مشاعرهن تجاهك‏,‏ وتنتظر في صبر ان تنكسر القيود التي تحول بينهن وبينك‏,‏ وسواء تحقق ذلك في المدي القريب أو البعيد‏,‏ فلسوف تظل دائما الأخ المخلص المحب لهن‏..‏ والحاضر دوما حين يحتجن اليك‏.‏

اما شقيقاتك فاني اذكرهن بانه لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق‏,‏ وان قطع صلة الرحم من اكبر الكبائر‏,‏ وانهن يستطعن ان يعفين أنفسهن من وزرها دون التعرض لغضب الأم بالتحايل علي أوامرها‏,‏ والتواد عن بعد مع شقيقهن ولو سرا في بيوت بعض الأهل من حين لآخر‏,‏ أو في المناسبات أو عبر الأزواج أو بأي وسيلة للاتصال‏,‏ مع الالتزام بأوامر الأم بعدم زيارة بيته أو استقبال زوجته في بيوتهن إلي أن يغير الله من حال إلي حال‏.‏
أما والدتك فإني اعجب كيف لم يرق قلبها لهذين الطفلين اللذين جاءا إلي الحياة منذ عشرة شهور فلم تطلب رؤيتهما ولم تشعر بأي رغبة في ذلك حتي الآن؟

لقد حدث في كثير من القصص المماثلة ان كان مرأي الحفيد من الابن أو الابنة الخارجة علي طاعة الأهل لأول مرة بعد سنوات المقاطعة‏..‏ أثر السحر في إذابة جليد الجفاء والخصام بين الأبوين وبين الأبناء‏.‏
وكثيرا ما نصحت بعض من استشاروني في قصص مماثلة بأن يحملوا أطفالهم الرضع ويتوجهوا بهم إلي الأب الغاضب أو الأم الغضبي‏,‏ ويطرق أحدهم باب الشقة رافعا طفله بين يديه كأنما يحتمي به مما ينتظره فما ان يفتح الباب‏,‏ حتي يضع طفله بين يدي امه أو ابيه‏,‏ ويقول له انه يتقبل منه كل عقاب لكن هذا الطفل البرئ لاذنب له فيما فعل وهو يحتاج إلي جده وجدته كما يحتاجان اليه‏..‏ فهل يرفضانه؟

فتكون الاستجابة في معظم الحالات‏,‏ ان لم يكن في كلها‏,‏ هي الترحيب والدموع والاحضان والتجاوز عن الأخطاء وفتح صفحة جديدة في علاقة الطرفين‏.‏
فتري هل لو نفذت هذه النصيحة يمكن ان يكون لها بعض الأثر في تغيير مشاعر والدتك الصخرية تجاه طفليك؟ الحق انني لست علي ثقة من ذلك لكنه لابأس من التجربة ولو من باب استنفاد آخر الوسائل اذ لعل وعسي الله الذي ألان الحديد لعبده ونبيه داود عليه السلام‏,‏ يلين قلب والدتك لهما‏..‏ ولو انصفت لفعلت ولما حكمت علي نفسها بالحرمان من حفيدين جديدين يمكن أن يضيئا حياتها الخاوية ولو ادركت والدتك ان عاطفة الابن تجاه أمه لاتتعارض ابدا مع عاطفته تجاه زوجته واطفاله لما وضعت نفسها كطرف نقيض مع زوجتك وطفليك ولما اتخذت هذا الموقف المتعسف من زواجك منذ البداية‏.‏

فمكانة الأم سامية وراسخة في عمق اعماق القلوب حتي ولو لم يع البعض ذلك بوضوح واثرها في وجدان الانسان مما لا يمحوه‏,‏ الزمن‏,‏ فكيف تنزل بعض الأمهات عن هذه المكانة العليا الي محاربة طواحين الهواء والتنافس والتجاذب مع شريكة الحياة حول الابن المحبوب؟
لقد تذكرت وانا أقرأ رسالتك ماكان يحدث في الصين في الأزمان القديمة‏,‏ حين كانت العادة ان يعتزل الشاب الحياة فترة طويلة اذا مات احد ابويه وخاصة أمه‏,‏ فيترك كل متاع الدنيا ويتردد علي قبرها كل يوم ويمضي النهار الطويل الي جواره يتأمل في الحياة والموت‏,‏ ويشعر بأنه يؤدي بذلك واجبا تجاه امه أو يكفر عن تقصير سابق في حقها عليه‏.‏

وحين ماتت والدة حكيم الصين كونفوشيوس وكان في الرابعة والعشرين من عمره وزوجا وأبا ظل يتردد علي قبرها‏27‏ شهرا انصرف خلالها عن زوجته‏,‏ وانتهي به الأمر الي طلاقها بعد‏4‏ سنوات فقط من الزواج بسبب حزنه علي امه وإهماله لزوجته‏..‏ واختصر احد المؤرخين القصة في عبارة تقول‏:‏ ماتت امه فطلق زوجته‏!‏
فهل تدرك بعض الأمهات قيمتهن الحقيقية‏..‏؟ وهل يترفعن عن التناحر مع زوجات الأبناء حول مكانتهن في قلوب الأبناء‏.‏؟
المزيد ....

ماكينــة الخياطــة‏!‏

27-02-2004
هل تذكر هذه الرسالة القصيرة المرفق صورتها والتي نشرتها لي في بريد الأهرام منذ‏22‏ عاما؟ لقد كنت وقتها طالبا بالسنة الثانية بطب الأزهر‏,‏ وشكوت لك من أن المدينة الجامعية رفضت قبولي بحجة أنني لم أكن مقيما بها في السنة الأولي‏,‏ في حين أن إمكاناتي لا تسمح لي بالسكن خارجها لأن نصيبي من معاش أبي لا يزيد علي‏12‏ جنيها واخوتي مثقلون بأعبائهم‏.‏

لقد كان هذا حالي بالفعل‏,‏ فلقد نشأت في أسرة بسيطة مكونة من‏3‏ أشقاء وشقيقتين وكنت الابن قبل الأخير لأبي ـ الذي حرمت منه وأنا في التاسعة من عمري ثم من أمي التي لحقت به بعد‏25‏ يوما كأنما لم تحتمل الحياة من بعده‏..‏ ونشأت في رعاية اخوتي إلي أن حصلت علي الثانوية العامة‏,‏ وجئت من مدينتي بالوجه البحري إلي القاهرة الواسعة لألتحق بطب الأزهر‏..‏ وأقمت أول سنة دراسية مع بعض أبناء بلدتي ثم تفرقوا‏,‏ فتقدمت للمدينة الجامعية للإقامة بها‏,‏ ورفضتني إدارة المدينة للسبب الذي أشرت إليه‏,‏ ولم أجد امامي سوي بابك فشكوت لك ونشرت الشكوي‏,‏ وللأسف لم تستجب إدارة الجامعة لرجائي‏..‏ لكن الرسالة بالرغم من ذلك لم تذهب سدي‏,‏ فقد حققت أثرا آخر لم يخطر في فكري وكان له أثر باهر في حياتي ومستقبلي‏,‏ فلقد تلقيت عقب نشرها خطابا من أحد قراء بريد الأهرام الأفاضل كان يعمل وقتها في الإمارات العربية‏,‏ يقول لي فيها‏:‏ إنه أخ مصري لي يعمل بالإمارات وأنه تأثر كثيرا بحالتي‏,‏ ويرجوني أن أقبل منه هذا المبلغ البسيط وهو شيك بمائة جنيه مرسل علي بنك القاهرة فرع الأزهر كما يرجوني أن ألجأ إليه كلما احتجت إلي شيء إذ إننا جميعا اخوة‏,‏ ولقد رزقه الله الر
زق الوفير‏,‏ ثم يخيرني بعد ذلك بين أن يرسل إلي كل عدة شهور مبلغ مائتي جنيه لنفقات الدراسة والكتب‏,‏ أو ان يرسل إلي مبلغا شهريا منتظما قدره ثلاثون جنيها إلي أن انتهي من دراستي‏.‏

فشعرت بأن الله سبحانه وتعالي قد ارسل إلي ملاكا من السماء يأخذ بيدي ويعينني علي تحقيق أحلامي واحلام اسرتي‏,‏ وكتبت إليه أشكره وأدعو له بالخير والصحة والسعادة‏,‏ وابلغه أنني أفضل أسلوب المساعدة الشهرية لكي اضمن موردا يعينني علي الاستمرار في الدراسة‏.‏

وبالفعل بدأ الرجل الفاضل يرسل إلي كل شهر حوالة بمبلغ ثلاثين جنيها بانتظام‏..‏ ويكتب إلي من حين إلي آخر رسائل يشجعني فيها علي الاجتهاد والصبر علي ظروفي‏..‏ ويحرص فيها حرصا شديدا علي ألا يجرح مشاعري أو يشعرني بفضله علي‏..‏ فالتهمت دروسي التهاما لكيلا اتأخر في التخرج ونجحت بفضل هذه المساعدة الكريمة وانتقلت إلي السنة الثالثة ثم الرابعة‏..‏ وفي هذه السنة شعرت بأنني قد اثقلت علي الرجل كثيرا‏,‏ خاصة أنني كنت قد تحدثت عنه إلي زملائي بالكلية فكتب بعضهم إليه يطلبون مساعدته لسوء أحوالهم‏..‏ فلم يخذلهم وارسل إليهم بالفعل مساعدات مشابهة دون أن يشير إلي ذلك في خطاباته إلي‏,‏ وشعرت أنا بالحرج وبأنني قد ورطته في المزيد من الأعباء وكنت قد نجحت في الالتحاق بالمدينة الجامعية‏,‏ فقر قراري علي شيء عزمت علي تنفيذه‏,‏ ولقد نسيت أن اقول لك إنني خلال دراستي في المرحلة الإعدادية والمرحلة الثانوية كنت أعمل في ورشة للخياطة لكي اساعد أسرتي علي اعباء الحياة‏,‏ فتعلمت وأجدت خياطة ملابس الرجال والنساء علي السواء فاشتريت بمدخراتي القليلة من مساعدات الرجل الفاضل ماكينة خياطة واحضرتها إلي غرفتي بالمدينة الجامعية التي يشاركني فيها ثلاثة زملاء آ
خرين‏..‏ وبدأت اعمل عليها وأفصل البنطلونات لزملائي في الكلية وفي الجامعة وبأجور متهاودة‏,‏ وسبحان الله انني لم اتسبب بالرغم من ذلك في أي ازعاج لزملائي في الغرفة‏..‏ وانهم لم يتضرروا من عملي علي الماكينة وسطهم‏,‏ ولم يشك أحدهم مني لإدارة المدينة‏..‏ بل كانوا أول زبائني وجلبوا لي زملاء لهم لأفصل لهم البنطلونات واغراهم بذلك حسن التفصيل من ناحية‏..‏ ورخص الأجرة من ناحية أخري‏,‏ بل إن المشرفين علي المدينة الجامعية أنفسهم لم يتوانوا عن تشجيعي علي الاستمرار تقديرا لظروفي‏,‏ بعد أن تأكدوا أنني لا أسبب إزعاجا لأحد‏,‏ ونظرت بعد بدء ممارستي للتفصيل بشهر فوجدت في يدي مبلغا يكفي لمطالب حياتي ودراستي‏..‏ وشعرت بأن الوقت قد حان لكي أطلب من الرجل الفاضل أن يتوقف عن إرسال المبلغ الشهري الي بعد ان أصبحت قادرا علي توفير نفقاتي من عائد عملي الي جانب نصيبي من معاش ابي‏..‏ فكتبت إليه أشكره علي ما فعل معي‏..‏ وأرجو أن يعتبر إجمالي المبلغ الذي تلقيته منه دينا علي أسدده إليه حين استطيع ذلك‏,‏ وأؤكد له أنني لن انسي ما حييت ما كان له من فضل في استمراري في الدراسة وفي حياتي‏.‏

واستجاب الرجل لطلبي‏..‏ ولعله وجه مساعدته لي لطالب آخر أكثر حاجة‏,‏ ومضت الأيام وأنا أدرس الطب واستذكر دروسي وأخيط البنطلونات والملابس حتي تخرجت‏..‏ وعملت‏..‏ وبدأت مشوار الحياة العملية‏..‏ وتوقفت عن الخياطة لكي أتمكن من الاستمرار في دراساتي العليا واستقرت أحوالي المادية‏..‏ وتزوجت وأنجبت ورويت لزوجتي ثم أولادي بعد ذلك قصة هذا الرجل الذي مد لي يد المساعدة في أشد فترات حياتي ضيقا‏..‏ وسافرت للعمل في السعودية حيث أقيم الآن‏,‏ وأنعم الله علي بالرزق‏,‏ ورضيت عن نفسي وعن حياتي غير أنه يشغلني الآن شئ شديد الأهمية بالنسبة لي هو‏:‏ أين هذا الرجل الفاضل الكريم الذي أعانني في شدتي منذ‏22‏ عاما؟‏..‏ وكيف أصل إليه‏..‏ ورد بعض دينه علي‏,‏ أنني مهما فعلت فلن استطيع أن أوفيه حقه‏,‏ لكني أريد أن أقدم إليه أو الي أي انسان ينتمي له أو يمت اليه بصلة قرابة جزءا مما أنعم الله به علي وأريد أن أتكفل باستضافته هو ومن معه في السعودية وبجميع نفقات الحج له ولمن يشاء من اسرته‏,‏ فهل تساعدني في العثور عليه وتحقيق هذا الحلم الجديد لي‏,‏ كما ساهم بريد الاهرام من قبل في تحقيق حلمي القديم بالاستمرار في الدراسة‏..‏ لقد كتبت اليك اسمه‏..‏ واسم الشركة التي كان يعمل بها بالإمارات وهي ليونار إلكترو واسمي ورقم تليفوني لتتفضل بالاتصال بي اذا توصلت الي شئ وشكرا لك مقدما‏..‏ وشكرا لكل من يبذر بذور الخير والعطف والنماء في الارض الطيبة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
يا إلهي‏..‏ ما أسرع ما تجري أمور الحياة‏!‏ فلكأني أكاد أتذكرك وأتذكر رسالتك القصيرة التي كان لها هذا الأثر في حياتك‏!‏
فأما الرجل الكريم فهو يعرف نفسه ولعله يتذكرك فيمن يتذكر ممن مد اليهم يد العون ذات يوم‏,‏ ولعله يتفضل بالكتابة الي أو الاتصال بي ليعطيني عنوانه أو رقم تليفونه لأرسله اليك‏,‏ فتتواصل معه من جديد وتعبر له عن عرفانك بجميله وامتنانك له؟

أن كثيرين يتحرجون من الاشارة الي ما قدمت ايديهم وماتلقوا الشكر عليه‏,‏ لكن العرفان علي الناحية الأخري فضيلة من أقدس الفضائل‏,‏ والشكر علي المنة والاقرار بفضل صاحبها من سمات الأصلاء والأوفياء‏.‏
ولقد حدث أن أصر بعض أهل الفضل علي تكريم شيخ جليل بالرغم من تحرجه من هذا التكريم‏,‏ وتباري الحاضرون في الإشادة بفضله وعلمه وصلاحه ومواقفه الكريمة‏,‏ ثم طلبوا منه أن يلقي كلمة فنهض محرجا وقال‏:‏ جاء في الأثر‏:‏ احثوا في وجوه المداحين التراب‏!‏وسكت للحظات‏,‏ بهت خلالها الحاضرون واستشعروا الحرج ثم قال‏:‏ غير أنه جاء في الأثر أيضا‏:‏ أن المؤمن اذا مدح في وجهه ربا الايمان في قلبه‏,‏ وبهذا المعني فإني اتقبل تكريمكم وأشكركم عليه وأذكركم بما قاله ابن عطاء الله السكندري من انه‏:‏ من مدحك فانما مدح مواهب الله فيك‏..‏ فالشكر لمن وهب وليس لمن وهب له فانفرجت اسارير الحاضرين‏..‏ وصفقوا بحرارة للشيخ الجليل‏.‏

وهذا صحيح‏..‏ فالإنسان اذا استشعر حسن ظن الآخرين به وإشادتهم به‏,‏ أحب ان يستزيد من الفضائل والأعمال التي استوجبت مدحه والإقرار بفضله وهذا هو المقصود بزيادة الإيمان في قلبه‏.‏
كما أنها حقيقة نفسية اكدها علم النفس الحديث بعد‏1400‏ سنة حين قال علماء النفس إن الانسان يميل دائما لأن يكون عند حسن ظن الآخرين به‏..‏ وإنك اذا أشعرت إنسانا ما بأنه أمين وأهل للثقة وعلي خلق كريم ويستحق الإعجاب‏,‏ فانه قد يراجع نفسه عدة مرات قبل أن يقترف ما يخدش هذه الصورة المثالية لديك‏..‏ ولقد يتوقف تدريجيا عما يتناقض معها من سلوكيات علي مدي الأيام‏..‏ حتي يصير بالفعل أمينا وأهلا للثقة‏.‏

ولأن الشكر هو الحفاظ للنعم‏,‏ فإنك تسعي للتواصل مع هذا الرجل الفاضل الذي أعانك علي أمرك في أشد فترات حياتك احتياجا للمساعدة‏,‏ وبمنطق مدح المؤمن في وجهه ينبغي له هو أن يتقبل شكرك وعرفانك ومحاولتك لرد بعض دينه اليه‏..‏ فلا يتواري وراء ستار التحرج والخجل‏,‏ ولا يبخل عليك بهذا الفضل الجديد ان شاء الله‏,‏ خاصة أنك انسان تستحق الإشادة والإعجاب لكفاحك الشريف في الحياة ولتعففك عن الاستنامة الي الاعتماد علي مساعدته الشهرية الي ما لا نهاية‏,‏ فلقد سعيت الي الرزق الشريف وانت طالب طب مثقل بأعباء الدراسة والحياة‏..‏ ونجحت في الاعتماد علي نفسك والاستغناء عن مساعدته في الوقت المناسب‏..‏ واحسب ان اللحظة التي كتبت اليه فيها تشكره علي فضله وتطلب منه التوقف عن إرسال المساعدة الشهرية كانت لحظة فارقة في حياتك وانها قد عمقت احترام هذا الرجل لك ولكفاحك واشعرته بأنه قد وجه مساعدته لمن كان يستحقها بالفعل‏,‏ غير أنك تستطيع ان تعبر عن عرفانك له بطريق آخر الي جانب استضافته هو أو بعض أفراد اسرته ودعوته للحج علي نفقتك‏,‏و لعلك تكون قد بدأت هذا الطريق تلقائيا منذ أن استقرت احوالك وأجزل الله سبحانه وتعالي لك العطاء وهو أن تكرر سيرة هذا الرجل معك في محنتك السابقة‏,‏ مع طالب آخر أو أكثر فتعينه علي أمره‏..‏ كما أعانك هو من قبل علي أمرك وتعيد اليه الأمل في الحياة والمستقبل‏..‏ كما أحيا هذا الأمل في قلبك فهكذا يتواصل غرس بذور الخير والحب والنماء الي ما لا نهاية‏.‏

وهكذا تتأكد بفضل الفضلاء من امثال هذا الرجل وأمثالك خيرية الحياة‏.‏
أنني أترقب أن يكتب ألي هذا الرجل الفاضل أو يتصل بي‏,‏ وأرجو أن أتمكن من تحقيق التواصل بينكما خلال وقت قريب بإذن الله‏.‏
المزيد ....

الحلــم المتأخــر

05-03-2004
قرأت رسالة الخروج من الشرنقة للشاب الذي يشكو من محاولات والدته السابقة لإفساد أي مشروع زواج يقدم عليه‏..‏ ثم من محاولاتها بعد أن تزوج للاستئثار به دون زوجته‏,‏ ومحاولتها إجهاضها بعد أن حملت‏,‏ إلي آخر ما جاء في رسالته‏..‏ وقد دفعتني هذه الرسالة لأن أروي لك قصتي عسي أن تستفيد بها بعض الأمهات اللاتي يحتجن إلي النصيحة‏,‏ فأنا سيدة تزوجت من محاسب عمل لفترة طويلة بالخارج‏..‏ وصاحبته في مقر عمله بضع سنوات في البداية‏,‏ ثم حين تقدم الأبناء في مراحل الدراسة استقر رأينا علي أن أرجع بهم إلي مصر ليواصلوا دراستهم وأتفرغ لرعايتهم‏..‏ علي أن يأتي زوجي إلينا كل ستة أشهر‏,‏ ويقضي معنا شهر الإجازة الصيفية‏..‏ أو نذهب إليه نحن فيها‏..‏
واستقرت حياتنا علي هذا النحو‏..‏ وارتبطت خلال هذه الفترة بابني الاثنين ارتباطا شديدا حيث أصبحت بمثابة الأب والأم والمرشد والصديق لهما‏,‏ ولأنني قوية الشخصية بطبعي فلقد فرضت عليهما سيطرتي الكاملة‏..‏ بحيث لا يخطوان خطوة دون استشارتي وقبولي‏..‏ وإذا غضبت علي أحد منهما أنزوي خجلا وراح يستعطفني أن أسامحه وأعفو عنه‏,‏ أما زوجي فكان قد استسلم لسيطرتي عليه منذ البداية‏..‏ وراح يستجيب لكل طلباتي المادية والعائلية‏..‏ ورحت أنا أنفق ببذخ علي نفسي وبيتي وأشتري أشياء ربما لا أحتاج إليها‏,‏ لكني أتلذذ بعملية الشراء نفسها‏,‏ وأشعر بالفخر وأنا عائدة من الشارع محملة بأكياس الحقائب الجلدية والأحذية والملابس والاكسسوارات‏,‏ وتسعدني تعليقات الجارات والصديقات علي كثرة مشترياتي‏..‏

وواصل الابنان دراستهما إلي المرحلة الجامعية‏..‏ وتخرج الأبن الأكبر‏..‏ وكالعادة أحب ابنة الجيران وأراد أن يتزوجها وفاتحني في ذلك فرفضتها علي الفور لأنها من أسرة عادية وليست ثرية‏,‏ ولم اقتنع بما قاله لي من أنه يحبها ولن يجد سعادته إلا معها‏,‏ لأنني لا أعترف بالحب ولا أومن به‏..‏ وأؤمن فقط بأن الزواج لابد أن يكون متكافئا بين الطرفين في المال‏..‏ وحبذا لو كانت العروس أكثر ثراء لكي تشتري أثاثا فاخرا وتسهم بدخلها في نفقات الحياة‏..‏
ولم يقتنع ابني برأيي‏..‏ وصدمت لمخالفته لي لأول مرة‏..‏ لكني لم أستسلم للغضب حين ألح علي بالموافقة علي اختياره ومساعدته علي خطبة فتاته‏,‏ وقررت أن أتبع معه طريقة أخري‏,‏ فأقنعت أباه بأن نسايره ونتظاهر بالموافقة علي اختياره‏,‏ ثم أقوم أنا بطريقتي الخاصة بتدمير هذه العلاقةوإنهائها‏..‏ وفعلنا ذلك وسعد ابني كثيرا بتغير موقفي وصحبناه إلي بيت أسرة الفتاة لقراءة الفاتحة وتقديم الدبلة ـ وتظاهرت بالفرح والابتهاج بخطبة ابني‏.‏

ومن الأيام التالية علي الفور بدأت في التخطيط لإفشال هذه الخطبة‏..‏ وكان سلاحي هو الاستعلاء والتكبر علي أسرة الفتاة‏,‏ وانتهاز كل فرصة لإشعارها بتكبري عليها وبالفارق الاجتماعي والمادي بيننا وبينها‏..‏ وافتعال المشاكل معها‏..‏ ومحاولة الإيقاع بين ابني وفتاته‏,‏ لكنهما صمدا للعجب أمام كل هذه المحاولات وازدادا تمسكا ببعضهما بعضا‏..‏ فلم أجد في النهاية من وسيلة لتشويهها هي وأسرتها سوي الادعاء بأنهم طامعون في مالنا لأنهم فقراء‏.‏ ورحت أردد هذا الكلام في كل مكان لكي يصل إلي أسرة الفتاة‏..‏ وعاتبني بعض الأهل علي ذلك فلم أستجب لهم‏..‏ وواصلت حملتي علي أسرة الفتاة‏..‏ حتي حققت أغراضها وشعر والدها بجرح كرامته‏,‏ وتحدث إلي ابني أكثر من مرة‏..‏ وعاتبني ابني‏,‏ فأنكرت‏,‏ ولم يتحمل والدها الإهانة فبادر هو بفسخ الخطبة وحبس ابنته في البيت ومنع ابني من زيارتها أو الاتصال بها‏..‏ وشعرت أنا بالزهو والانتصار‏..‏ وتظاهرت بالأسف لفشل الخطبة‏,‏ ووعدت ابني بأن أرشح له من هي أفضل منها‏..‏ ولم يرق قلبي له وأنا أراه حزينا مكتئبا ويشعر بالإهانة‏,‏ وأنزوي ابني في غرفته لا يغادرها إلا إلي العمل‏,‏ وتوقف عن الكلام معي ومع أبيه‏..‏ ولم يعد يتحدث مع أحد سوي شقيقه الذي يصغره بعامين‏,‏ وبعد عدة شهور تزوجت الفتاة بإلحاح من أبويها من شاب مناسب وانتقلت إلي مسكن الزوجية‏,‏ وعلم ابني بذلك فازداد صمتا وانطواء وبعدا عنا‏,‏ وبعد شهور أخري فوجئنا به يجمع ملابسه وأشياءه الخاصة‏,‏ ويقول لنا إنه قد تعاقد للعمل في احدي الدول العربية وسيسافر إليها الليلة‏!‏

ودهشنا كيف لم يبلغنا بذلك من قبل‏,‏ وسألناه عن عنوان عمله ومسكنه في البلد العربي فأجاب باقتضاب بأنه لا يعرفهما بعد‏,‏ وأن مندوبا من الشركة سينتظره في المطار وينقله إلي استراحة الشركة‏..‏ ثم يستقر بعد ذلك في مسكن‏..,‏ إذن كيف نتصل بك‏..‏ ومتي ستتصل بنا لتطمئننا عليك؟ فيجيب بأنه سيتصل بشقيقه ويبلغه بكل شيء‏..‏ وسافر وأنا في شدة الضيق والعصبية والغم‏..‏ فلقد خرج عن نطاقي نهائيا‏,‏ وأصبح يفكر ويخطط ويتصرف وحده‏.‏
وانتظرت أن يتصل بنا بعد وصوله إلي مقر عمله‏..‏ فلم يتصل‏,‏ وعلمت أنه يتصل بشقيقه علي التليفون المحمول من حين لآخر‏,‏ ويطمئنه علي أخباره‏,‏ لكنه لايسأل عن أبيه وأمه خلال الاتصال‏,‏ ولا يعطي أخاه عنوانه أو رقم تليفونه لكيلا نعرفه منه‏..‏ ولكي يكون صادقا أقسم لنا أنه لا يعرفهما ومضت بنا الأيام‏..‏ وجاء اليوم الذي فاتحني فيه ابني الأصغر برغبته في الزواج‏..‏ ورحبت بذلك ووعدته بأن أختار له عروسا ممتازة له‏..‏ ولأنه قد تعلم من درس تجربة أخيه فلم يعارض وإنما استسلم لكل رغباتي ووافق علي الفتاة التي اخترتها له وقبل بكل ما أمليته عليه من خطوات وشروط‏..,‏ وأبدي أهل الفتاة قدرا كبيرا من المرونة فلم يتمسكوا بشيء اعترضت عليه أو رفضته‏..‏ وكأنما قد خبروا قدرتي علي الهدم والتدمير فخشوا أن استخدمها معهم‏.‏

وتم زواج ابني الأصغر تحت إشرافي ووفقا لشروطي‏..‏ وإبني يستجيب لكل ما أقرره طلبا للسلام‏,‏ وامتثلت زوجته لأوامري في كل شيء حتي مواعيد حضورها مع ابني للزيارة كما أردتها‏..‏ ولأوامري لها بعدم زيارة أهلهاإلا مرة واحدة لبضع ساعات كل شهر‏,‏ وبدا أن الجميع سعداء وراضون بسيطرتي وأوامري‏..‏ لكني فوجئت بعد عدة شهور بابني الأصغر يبلغني بأنه سيسافر بعد غد إلي البلد العربي الذي يعمل به شقيقه‏,‏ لأنه تعاقد للعمل بإحدي الشركات هناك بمساعدة أخيه‏,‏ وأنه سيقيم معه لفترة في البداية‏,‏ ثم يتخذ لنفسه مسكنا مستقلا ويستدعي زوجته بعد أن تضع حملها خلال أسابيع‏!‏ يا ربي متي حدث كل ذلك؟ ولماذا لم تبلغني به في حينه‏,‏ ولماذا أفاجأ دائما بنبأ رحيل ابني قبل موعد الطائرة بساعات؟ وبغير أن يجيب أدركت أنا أنه قد عمل بوصية شقيقه الأكبر له‏,‏ بأن يتكتم نية السفر عني وعن أبيه لكيلا أعترض أو أثير له المشاكل أو أضيع عليه الفرصة‏,‏ كما أضعت علي ابني الأكبر حلمه بالزواج من فتاته‏.‏ وثرت ثورة هائلة وصببت جام غضبي علي رأس ابني وزوجته التي اتهمتها باللؤم والخبث وسوء الطوية والتخطيط لانتزاع ابني من أمامي‏,‏ وانهلت باتهاماتي علي أهلها وأسرتها‏..‏ حتي زوجي لم ينج مني بالرغم من قسمه لي بأنه لم يعرف بالخبر إلا مني‏.‏

وتحمل الجميع ثورتي لكن زوجة ابني بكت طويلا وشعرت بالمهانة وأقسمت ألا تدخل لي بيتا مرة ثانية‏,‏ فلم أتوان عن طردها من البيت أمام زوجها‏,‏ وسافر ابني وهو ممرور مني لإهانتي له ولزوجته ومنعتني كبريائي من أن أطلب منه أن يتصل بنا للاطمئنان عليه وابلاغنا برقم تليفونه‏..‏ وآثرت الاستعلاء علي إظهار أي ضعف أمومي تجاهه‏.‏
ومضت الأيام والأسابيع وهو لايتصل بنا‏..‏ وتصورته وهو يروي لشقيقه في الغربة ما فعلته معه‏..‏ ويشتركان معا في مهاجمتي وانتقادي فامتلأت نفسي سخطا وغضبا‏,‏ وقررت أن أتحدي الضعف وأثبت للجميع أنني لم أخسر شيئا‏..‏ وانما الخاسر هما ابناي‏..‏ فنهرت زوجي حين اتهمني بتطفيش الابنين والقسوة عليهما حتي ابتعدا عنا‏..‏ وطلبت منه ألا يعود للحديث في هذا الموضوع مرة أخري‏,‏ وبدأت أكثر من الخروج وحدي أو مع زوجي في زيارات عائلية واجتماعية وإلي النادي‏..‏ وفرضت علي زوجي أن نسافر في رحلات سياحية إلي أجمل الأماكن في مصر من شرم الشيخ إلي الغردقة إلي الأقصر وأسوان وأنفقت بجنون‏..‏ وغيرت سيارة زوجي التي أقودها نيابة عنه‏,‏ وجددت أثاث الشقة واندمجت في شلة صديقات جدد بالنادي‏,‏ وأصبحنا نقضي وقت الضحي والظهيرة معا ثلاث مرات اسبوعيا بالنادي‏..‏ وبدوت أمام الجميع دائما سيدة قوية وميسورة الحال وسعيدة بحياتها وزوجها ويعمل أبناؤها بالخارج‏,‏ وخلال ذلك ترامت إلي أنباء غريبة‏..‏ فلقد سمعت أن الفتاة التي كان ابني الأكبر يريد أن يتزوجها قد فشلت في حياتها الزوجية التي فرضت عليها وطلقت من زوجها ومعها طفلة في الرابعة من عمرها وليس في ذلك شئ عجيب في
حد ذاته‏..‏ أما العجيب حقا فهو أن ابني قد علم بوسيلة أو بأخري بطلاقها‏,‏ فاتصل بأهلها وسأل عن موعد انتهاء العدة واتصل بالفتاة‏..‏ وفي الموعد المناسب جاء لمصر وتقدم لأهلها وحده دون أي فرد من عائلته وقبل به أهلها علي هذا النحو لسابق تجربتهم معي‏,‏ وعقد قرانه عليها‏..‏ وعاد من حيث جاء‏,‏ ولم يقض في مصر سوي‏48‏ ساعة‏,‏ لم يتصل خلالها بنا ولم يزرنا‏..‏ وبعد أسبوعين سافرت إليه فتاته القديمة مع طفلتها وبدآ حياتهما الزوجية التي تأخرت خمس سنوات بسببي‏!‏
وشعرت بغصة شديدة في حلقي ومرارة أشد في قلبي‏..‏

إلي هذا الحد نسي ابني الأكبر أمه وأباه‏..‏ وكره أن يراهما أو يتحدث إليهما‏,‏ وما ذنب أبيه وهو كما يعرف عنه مغلوب علي أمره معي‏,‏ ولم يرد له ما حدث‏,‏ ألم يشعر بالشوق إلي أبيه بعد ثلاث سنوات من الغياب‏.‏
لقد علم والده بما جري بعد عدة أسابيع فحزن حزنا شديدا واشتدت عليه وطأة المرض حتي لازم الفراش‏,‏ ولم يعد قادرا علي مغادرته إلا إلي الحمام وبصعوبة شديدة‏,‏ ووجدت نفسي أقضي معظم أوقاتي إلي جواره أرعاه وأحاول تعويضه عما جنيته عليه‏,‏ وفي هذه الفترة بدأت ولأول مرة في حياتي الاقتراب من الله‏,‏ فانتظمت في الصلاة ولم أكن أواظب عليها من قبل‏..‏ وبدأت أقرأ القرآن كل يوم لمدة نصف ساعة‏..‏ وأستمع إلي إذاعة القرآن الكريم التي لايسمع زوجي سواها‏,‏ وكنت أضيق بها من قبل‏..‏ وبدأت أشياء كثيرة داخلي تتغير‏..‏ فندمت علي تكبري علي الآخرين وغروري واحتقاري للضعفاء والبسطاء‏,‏ وعلي بعدي عن الله في معظم سنوات عمري‏,‏ وأسفت أشد الأسف علي ما فعلت بأسرة فتاة ابني الأكبر وادعاءاتي عليها وعلي ابنتها بالباطل‏,‏ وعلي تدبيري لإفشال خطبته لها وقسوتي علي ابني الأصغر وزوجته‏,‏ ونظرت في المرآة فوجدت الجمال الذي كنت أتيه خيلاء وغرورا به قد بدا يذبل‏,‏ والقوة التي اعتززت بها تتحول إلي ضعف ووحدة‏..‏ وأيام وليال موحشة وكئيبة لايزورنا خلالها أحد ولا يسأل عنا أحد حتي أقرب الناس إلينا وهما ابناي‏..‏ انني نادمة علي كل ما فعلت وأريد أن يعرف ابناي ذلك وأن
يتصلا بأبيهما المريض الذي يبكي كل يوم وهو يتحدث عنهما ويتشوق إليهما‏,‏ ولن أفرض نفسي عليهما إذا أرادا ألايتكلما معي‏..‏ لأن المهم هو أن يتحدثا إلي أبيهما ويعيدا إليه البسمة والأمل في الحياة‏..‏ فهل يفعلان وهل تكتب لهما كلمة تناشدهما فيها أن يفعلا ويعفوا عما سلف ويفتحا معي ومع أبيهما صفحة جديدة خالية من المرارات؟

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏
النجاح الحقيقي لأي أم حكيمة هو أن تملك أبناءها بالحب والعطف والفهم‏,‏ والعطاء المستمر لهم من ينبوع الحنان الدافق في أعماقها من البداية للنهاية‏,‏ وفي مقابل هذا العطاء الدائم يرتبط الأبناء بالأمهات والآباء ارتباطا أبديا يسري في شرايينهم‏..‏ فتقطر حبا وعطفا وبرا ووفاء للأبوين‏,‏ أما امتلاك الأبناء بالتسلط وقهر إرادتهم وفرض رغائبنا وأفكارنا نحن عليهم دون تبصر أو مراعاة لرغباتهم وارادتهم واستقلاليتهم‏..‏ فهو نجاح مزيف ومؤقت‏,‏ إذ لا يلبث أن ينكشف عن فشل تام في إنشاء العلاقة السوية العميقة مع الأبناء‏..‏ ولايلبث أن ينكشف عن بركان من التمرد والنفور والعدوانية تجاه الأم المسيطرة أو الأب المسيطر‏,‏ بمجرد أن يملك الأبناء مقاديرهم ويستطيعوا الاستغناء عن الاعتماد علي الأبوين في متطلبات حياتهم‏..‏ بل إن بعضهم قد يبدأ هذا التمرد وهو مازال معتمدا علي أبويه من الناحية المادية‏..‏ معتمدا علي قدرته علي ابتزازهما والحصول علي ما يريد منهما‏..‏
ولأن الأمر كذلك فلقد عجبت وأنا أقرأ في رسالتك إنك قد شعرت بالزهو والانتصار حين نجحت في تدمير خطبة ابنك الأكبر وحرمانه من حلمه بالزواج منها‏,‏ لغير شئ سوي أنه قد اختار لنفسه بدلا من أن يواصل الاعتماد عليك في اختيارات الحياة‏,‏ كما كان الحال وهو فتي‏,‏ وبدعوي أن الفتاة من أسرة عادية وليست ثرية‏..‏ وكان عجبي لإحساس الانتصار في حرمان ابن طيب لم تبدر منه أية بادرة سوء تجاه أبويه من حبه وحلمه في الزواج والسعادة حتي ولو كان أبواه غير مقتنعين تماما بأنه قد اختار الأفضل لنفسه‏,‏ فلقد كان من حقه أن يحقق أحلامه ويخوض تجربته مادام الاختيار في النهاية في الإطار العام المقبول وليس في الفتاة أو في أسرتها مثالب واضحة تدين اختياره؟

إن بعض مواقف الحياة قد تجرفنا‏,‏ إن لم نتنبه لذلك ـ إلي تحديات مع أقرب البشر إلينا يكون انتصارنا فيها أكثر إيلاما لنا في الحقيقة من هزيمتنا‏,‏ لأننا لاننتصر فيها للأسف إلا علي فلذات الأكباد‏,‏ ولأننا نتجرع مرارة هزيمتهم قبل أن يتجرعوها‏,‏ كما أن الانتصار الحقيقي هو الذي يتحقق علي أهواء النفس وأنانيتها وميلها الغريزي للتسلط علي الأحباء‏,‏ وليس علي ثمرات القلب وأحلامهم البسيطة‏.‏
لقد فاتتك يا سيدتي أشياء كثيرة خلال رحلة الحياة‏,‏ ولقد تفكرت طويلا في أسباب ذلك فلم أجد تفسيرا له سوي في اعترافك ببعدك معظم سنوات الرحلة عن الله سبحانه وتعالي‏,‏ واعتزازك بأعراض الدنيا الزائلة‏,‏ وتكبرك وغرورك بمالك وجمالك وسطوتك علي زوجك وابنيك‏.‏

والحكمة القديمة تقول إن الاستبداد هو الأب الشرعي للمقاومة‏..‏ ولهذا فلقد شق عليك ابنك الأكبر عصا الطاعة وابتعد عنك وعن أبيه لإحساسه بالقهر معك وإيمانه بمسئوليتك عن تدمير خطبته السابقة وحرمانه من السعادة مع فتاته‏,‏ وتلاه ابنك الأصغر لإهانتك له ولزوجته واستبدادك بهما معا‏,‏ وفرضك عليهما أسلوب حياتهما ومواعيد زيارتهما لك ولأهل الزوجة وغير ذلك من أمور الحياة‏..‏
ولاعجب في ذلك فالكأس الممتلئة تفيض بما فيها فجأة ودون سابق إنذار‏.‏

انني لا أقر مقاطعة ابنيك لك ولأبيهما بالرغم من تفهمي لأسبابها والتماسي لبعض العذر لهما فيما فعلاه‏...‏ لأن هذه القطيعة التامة هي في النهاية جنوح عن جادة الرحمة والعدل‏,‏ يوقعهما في إثم عقوق الوالدين‏,‏ وهو إثم لو تعلمون عظيم‏..‏ ولقد كان في مقدور الابن الأكبر أن يبقي علي شعرة معاوية مع أبويه مهما كانت مرارته من أمه‏,‏ وأن يطلعهما علي عنوانه ووسيلة الاتصال به‏,‏ ويعفي ضميره من الإحساس بالذنب بالكتابة إليهما كل حين أو الاتصال بهما كل فترة‏,‏ ودون أن يسمح بما يخشاه من محاولتك استعادة السيطرة أوإملاء إرادتك عليه‏..‏ وبذلك يدفع عن نفسه وزر العقوق والإحساس بالذنب‏..‏ ويحتفظ باستقلاليته كما يشاء‏,‏ خاصة أنه قد تحرر بالفعل من قيود الأم الحديدية وحقق حلمه المتأخر بالزواج من فتاته‏..‏ فلماذا يفسد سعادته بتحمل وزر قطع صلة الرحم مع أبويه؟
أما بالنسبة لابنك الأصغر‏..‏ فلقد مضت شهور منذ سافر غاضبا شاعرا بالإهانة لنفسه وزوجته‏..‏ فلماذا لم تسعي أنت للإصلاح بينك وبين زوجته قبل أن تلحق به في الغربة‏..‏ ولماذا لم تحصلي منها علي عنوانه أو عنوان ابنك الأكبر‏,‏ لقد فاتك ذلك أيضا ضمن ما فاتك خلال انغماسك في تحدي مشاعر الأمومة وإنكار الضعف ومحاولة التظاهر بأنك لم تخسري شيئا‏..‏ وعلي أية حال فإن الزمن خير دواء للجراح‏..‏ ولابد أن تكون نفس ابنك قد برأت الآن من المرارة والغضب‏..‏ وأصبح مستعدا نفسيا للتجاوز عما حدث‏..‏ كما أنني أحسب أن ابنك الأكبر وقد حقق لنفسه ما أراده ما عاد يسعده أن يصم نفسه بقطيعة أبويه وعقوقهما‏..‏

والمشكلة فقط هي فيمن يبدأ الخطوة الأولي‏..‏ غير أن المنطق يقول إن هذه الخطوة لابد أن تجئ من الابنين لسبب بسيط‏,‏ هو أنهما يعرفان كيف يتصلان بأبويهما ــ في حين يعجز الأبوان عن القيام بمثل هذا الاتصال‏..‏ وإني علي ثقة من أنهما سوف يتجاوزان عما جري‏,‏ ويحرران نفسيهما من وزر العقوق وقطع الرحم‏..‏ ويفتحان صفحة جديدة مع أبويهما خالية من المرارات والأحزان‏.‏
فكل شئ إلي زوال‏.‏ ولا يبقي إلا العمل الصالح‏,‏ ولا معني لأي نجاح يحققه الإنسان وهو محروم من الأهل والأحباب والمشاعر الأبوية والإنسانية الصادقة‏.‏

ولقد روي الأديب والمفكر الفرنسي أندريه مالرو في مذكراته أنه في نهاية حوار طويل في أواخر الحرب العالمية الثانية بين الزعيم السوفيتي ستالين والزعيم الفرنسي ديجول عمن سوف ينتصر في الحرب قال ستالين‏:‏
ــ في نهاية الأمر لاينتصر إلا الموت‏!‏

فإذا كان الأمر كذلك‏,‏ فلماذا نبدد فرصة العمر القصيرة في القطيعة والخصام واجترار المرارات؟
المزيد ....

الذكريـــات المريـــرة‏!‏

12-03-2004
قرأت رسالة ماكينة الخياطة للطبيب الذي يروي قصة كفاحه في الحياة حتي استطاع أن يكمل تعليمه ويصنع نجاحه بمساعدة رجل فاضل‏,‏ كان يرسل اليه علي غير سابق معرفة مبلغا شهريا خلال دراسته للطب‏..‏ إلي أن استطاع أن يعتمد علي نفسه ويكسب رزقه من تفصيل البنطلونات للطلبة علي ماكينة خياطة في غرفته بالمدينة الجامعية‏..‏ وكيف يبحث الآن عن هذا الرجل الكريم ليرد له أو إلي أي فرد من أسرته دينه عليه‏.‏ ولقد حسمت هذه الرسالة ترددي في أن أكتب لك بالرغم من مراودة الفكرة لي منذ فترة طويلة‏..‏ ففي قصتي مع الحياة أنا أيضا ما قد يفيد بعض القراء‏..‏
وأبدأ من البداية فأقول لك إنني نشأت ابنا وحيدا لأب يعمل موظفا حكوميا‏..‏ وأم لا تعي الذاكرة منها إلا أطيافا غائمة‏..‏ لأنها رحلت عن الحياة وأنا في السادسة من عمري‏,‏ وعشت وحيدا مع أبي الطيب‏..‏ يرعاني ويهتم بأمري ويصاحبني في أوقات المذاكرة‏,‏ ويصطحبني معه في زياراته لشقيقه‏..‏ وشقيقته أو أصدقائه‏..‏ ولا يطمئن إلا إذا كنت أمام ناظريه‏..‏ فحتي حين يذهب إلي المقهي ليلعب الطاولة مع بعض أصدقائه كان يجلسني إلي جواره‏.‏

وهكذا عشنا معا صديقين متلازمين حتي بلغت سن الثالثة عشرة‏,‏ وعدت من المدرسة ذات يوم فوجدت مسكننا يعج بالرجال والسيدات‏..‏ ومن بينهن عمتي التي استقبلتني بالبكاء‏..‏ واحتضنتني وأبلغتني أن أبي قد توفاه الله فجأة وهو جالس إلي مكتبه في عمله‏..‏ وأنني الآن قد صرت رجلا وطالبتني بألا أبكي‏..‏ وأن أقف بين الرجال لتلقي العزاء في أبي‏..‏ وبالفعل فإنني لم أبك حين عرفت بما حدث‏,‏ وانما أصابني الذهول‏..‏ وراح جسمي ينتفض لا إراديا طوال اليوم واستضافتني عمتي في بيتها لفترة نعمت خلالها بعطفها علي وحنانها‏..‏ ثم قيل لي إنني يجب أن أنتقل للإقامة في بيت عمي‏,‏ لأن زوج عمتي يتضرر من وجودي بين بنتيه اللتين تكبرانني ببضع سنوات‏,‏ وانتقلت إلي بيت عمي الذي تولي الوصاية علي‏..‏ وكان أبي قد ترك لي معاشا ضئيلا لا يتجاوز‏11‏ جنيها ونصيبا علي المشاع في فدان من الأرض كان قد ورثه مع عمتي وعمي‏,‏ وفي بيت عمي هذا أدركت معني اليتم الحقيقي وافتقاد النصير‏,‏ فلقد واجهني من اليوم الأول بأنه لا مكان لي للمبيت سوي الأرض في غرفة ابنيه‏,‏ لأن الفراش لا يتسع لغيرهما‏..‏ والغرفة الأخري مخصصة لبنتيه‏,‏ فلم أعترض لكن ليالي الشتاء القاسية كانت تشق علي فطلبت منه أن يشتري لي مرتبة صغيرة أنام عليها‏,‏ فرفض بحجة أن الحالة لا تسمح بذلك‏,‏ وشيئا فشيئا وجدتني أتحول تدريجيا إلي خادم للأسرة وليس عضوا فيها من دمها ولحمها‏..‏ فزوجة عمي تنتظر عودتي من المدرسة لتكلفني بأعمال البيت وشراء الخضار وكي ملابس ابني عمي وابنتيه‏..‏ وغسل الأطباق‏,‏ ناهيك عن يوم التنظيف الاسبوعي الذي يتعين علي فيه أن أمسح تحت اشرافها الشقة كلها‏,‏ وابناؤها يتسلون بمشاهدة التليفزيون‏..‏ فإذا خلوت من كل الواجبات وبدأت أذاكر دروسي في الصالة لم أسلم من لومها لي لإسرافي في استخدام الكهرباء‏,‏ وشكواها من فاتورتها‏..‏ فاختلس ساعة للمذاكرة علي الأكثر وأسرع بإطفاء النور‏..‏ وقد تقطع علي مذاكرتي بتكليفي بالخروج لشراء شيء للبيت أو للأولاد‏.‏

أما عمي فقد رفض أن يعطيني مصروفا يوميا أو اسبوعيا‏,‏ بحجة أنني أتناول الطعام والشراب في البيت‏..‏ في حين كان أبناؤه جميعا يحصلون علي مصروفهم وينفقونه علي شراء الحلوي والأشياء الصغيرة‏..‏ وحتي الحلاقة كان يرفض أن يعطيني أجرتها‏..‏ ولما طال شعري كثيرا وأصبح منظري منفرا أحضر شفرة حلاقة وطلب مني أن أحلق لنفسي مستعينا بوضع الشفرة علي حد المشط وتمريره فوق شعري‏..‏ ولم أجد مفرا من أن أفعل ذلك‏..‏ أما الكتب والكراريس فلقد قال لي صراحة إن معاشي ونصيبي من الأرض لا يكفيان لطعامي وشرابي‏,‏ وعلي أن أتصرف في بقية احتياجاتي‏,‏ فكنت أجمع الكشاكيل القديمة لابني عمي وأنزع منها الصفحات البيضاء وأصنع منها كراسات‏..‏ وأستعير الكتب من زملائي‏..‏ وأعرض خدماتي يوم الجمعة كل أسبوع علي محال المكوجية والبقالة والفاكهة لأعمل لديها مقابل‏5‏ قروش‏..‏ بل لقد عملت في محل لتصليح الأحذية أربع جمع مقابل اصلاح حذائي المخروق بالمجان‏..‏
ناهيك عن أنني أمضيت السنوات الثلاث الأولي من إقامتي عند عمي دون شراء أية قطعة ملابس حتي صغرت علي ملابسي بشكل فاضح‏,‏ لأن الشاب ينمو جسمه بسرعة خلال هذه المرحلة‏..,‏ ورجوت عمي مرارا أن يشتري لي بنطلونا وقميصا مناسبين لطولي وحجمي دون جدوي‏,‏ وزاد الطين بلة أن جسمي ابنيه بالرغم من أن أحدهما يماثلني في السن والآخر يصغرني بسنة‏,‏ ضئيلان بحيث لا أستطيع الاستفادة من ملابسهما القديمة‏,‏ وحين أصبح منظري مثيرا للرثاء توجهت إلي عمتي وشكوت لها حالي‏,‏ فبكت وقدمت لي جنيهين هما كل ما تستطيع مساعدتي به‏,‏ فأخذتهما وتوجهت إلي سوق الكانتو واشتريت بهما بنطلونا وقميصا من مخلفات المعسكرات‏,‏ ومضت بي الحياة علي هذا النحو‏..‏ وزاد من معاناتي أنني لم أتعثر دراسيا في حين كان ابنا عمي ينجحان سنة ويرسبان أخري‏..,‏ وبدلا من أن يعترف لي عمي وزوجته باجتهادي برغم ظروفي القاسية ازدادا نفورا مني حتي لم يعد أحدهما يطيق النظر في وجهي‏.‏

وجاءت اللحظة الفاصلة حين عدت ذات يوم من مدرستي فوجدت عمي وزوجته وأبناءه علي هيئة مجلس للعائلة يتناقشون بصخب وعمي ثائر لكثرة المصروفات وزوجته تدافع عن نفسها‏,‏ بأنها تفعل المستحيل لتدبير معيشة الأسرة بأقل التكاليف‏,‏ لكن ابن أخيك يسرق الطعام من المطبخ في الليل‏..‏ ويأكل كثيرا‏..‏ ولو لم يكن يفعل ذلك لما نما جسمه علي هذا النحو الهائل‏!‏
ياربي‏..‏ أسرق الطعام؟ إنني أحافظ علي صلاتي منذ كنت في السابعة من عمري وأصوم رمضان وصيام التطوع وكثيرا ما صمت يومي الاثنين والخميس‏,‏ وكثيرا ما اكتفيت بوجبة واحدة وتغاضيت عن تفضيل زوجة عمي لأبنائها بأطايب الطعام والقائها لي ببقاياه‏..,‏ وكثيرا ما تحلب ريقي وهي تجمع أبناءها في غرفة الأولاد في المساء ليتناولوا عشاء خاصا‏,‏ وأنا جائع في الصالة ولا يفكر أحد في دعوتي للانضمام إليهم‏..‏ وبعد ذلك أتهم بسرقة الطعام‏,‏ كان هذا آخر احتمالي فانهرت باكيا‏,‏ وقلت لعمي وللجميع إنني تحملت الذل صابرا في هذا البيت مراعاة لظروفي ويتمي‏,‏ لكن أن يصل الأمر إلي حد هذا الاتهام المقزز فلا‏..‏ ولسوف أغادر البيت وأرجع إلي شقة أبي وأواجه حياتي معتمدا علي نفسي وأريد منه أن يعطيني معاشي كل شهر لأدفع إيجار الشقة وتكاليف الحياة‏.‏

وجمعت ما تبقي لي من هلاهيل وكتبي ومددت يدي إلي عمي وكنا في منتصف الشهر طالبا نصف المعاش‏,‏ وبعد عذاب قبل بمغادرتي لمسكنه‏,‏ لكنه رفض أن يعطيني معاشي كاملا وهو‏11‏ جنيها‏,‏ وقال لي إنه سيخصم منه ثلاثة جنيهات كل شهر مقابل نفقاتي الاضافية خلال إقامتي لديه‏!‏
ولم أجد مفرا من القبول‏..‏ وأخذت مفتاح شقة أبي‏..‏ وتوجهت إلي صاحبة البيت التي تقيم في الدور الثاني منه‏,‏ وكنت أمر عليها من حين لآخر وأشرب لديها الشاي وتعطف علي‏,‏ فرويت لها ما حدث وقلت لها إنني سأعيش وحدي في الشقة بغير مورد سوي ثمانية جنيهات سأدفع لها منها أربعة مقابل الايجار وأعيش بالباقي‏,‏ وسأعمل لأغطي بقية نفقاتي‏,‏ فبكت وترحمت علي أمي وأبي وطلبت ألا أدفع لها الإيجار إلي حين تتحسن أحوالي وأصبح قادرا علي ذلك‏.‏

ووحيدا تماما من الأهل والأقارب واجهت الحياة في هذه الشقة الصغيرة‏..‏ وشعرت برغم قلة الدخل وجفاف الحياة بالأمان والاستقرار‏,‏ وحصلت علي الثانوية العامة بمجموع كبير يؤهلني للالتحاق بكلية الهندسة‏..‏ وسعدت بذلك‏..‏ وخلت نفسي من الشماتة لنجاح ابن عمي بمجموع ضعيف لا يؤهله إلا للالتحاق بأحد المعاهد‏..‏
وتفضل عمي‏,‏ الذي كان يراوغني كل شهر في دفع المعاش وأطارده عدة مرات حتي يدفع‏,‏ بزيارتي في مسكني زيارة خطيرة لينصحني من أجل مصلحتي بالاكتفاء بهذا القدر من التعليم والبحث عن وظيفة كتابية‏..‏ أو الالتحاق بأي معهد لمدة سنتين والعمل‏,‏ وشكرت له حرصه علي مصلحتي وأكدت له أنني سأفعل ما فيه صالحي بإذن الله‏.‏

وفي اليوم التالي قدمت أوراقي لمكتب التنسيق وحددت رغبتي الأولي وهي كلية الهندسة‏.‏ وقبلت بها‏..‏ ولن أروي لك عما تكبدته من عناء وحرمان وكفاح خلال دراستي للهندسة مستعينا بالعمل في المساء في مكتب هندسي‏..‏ وفي هذا المكتب نشأت صداقة حميمة بيني وبين زميلين بنفس الكلية والمكتب أصبحنا بفضلها أخوة مخلصين وتعاهدنا علي أن يساعد أحدنا الآخر إذا حقق نجاحا يسمح له بذلك‏.‏
وحصلت علي بكالوريوس الهندسة بتقدير جيد جدا‏,‏ وعينت معيدا بنفس الكلية وبدأت التحضير للماجستير في حين رفض صديقاي العمل في مصر‏..‏ وسافرا لاستكمال دراستهما العليا والعمل في أمريكا‏.‏

وفي غمرة سعادتي بتوفيق الله سبحانه وتعالي لي وشكري له علي أن أعانني علي تحمل ظروفي حتي وصلت إلي بر الأمان‏,‏ زارني عمي لا ليهنئني بالنجاح والتعيين‏,‏ وانما ليطلب مني أن أرد له الجميل بخطبة ابنته الكبري التي صادفها حظ عاثر في زواجها وطلقت من زوجها ولديها طفلة في الثالثة من عمرها‏..‏ مؤكدا لي أن هذا هو واجبي نحوه وابتسمت رغما عني وقلت له انني اعتبر ابنته أختا لي ولا أستطيع التفكير فيها أبدا كأنثي‏..‏ لهذا فاني أشكره علي حسن ظنه بي واعتذر عن هذا الشرف الذي لا أستحقه‏..‏ وعبثا حاول إقناعي فوجدني صامدا لا أتغير فغادرني ناقما علي جحودي‏!‏
وحصلت علي الماجستير وبدأ صديقاي المقيمان في أمريكا يكتبان إلي طالبين مني اللحاق بهما‏..‏ وأرشداني إلي جامعة قريبة من مقرهما لأكتب لها طالبا منحة دراسية لدراسة الدكتوراه فيها‏..‏ فكتبت إليها وفوجئت بقبولها لي فاعددت أوراقي للسفر وسافرت واجتمع شملنا من جديدا وأقمت معهما في شقتهما‏..‏ والتحقت بالجامعة‏,‏ وتوالت الأحداث سريعة بعد ذلك‏,‏ فحصلت علي الدكتوراه‏,‏ وألح علي صديقاي بالبقاء في أمريكا والعمل في احدي جامعاتها وقلبت الفكرة في رأسي فتساءلت‏:‏ لمن أعود في مصر وليس لي فيها أب ولا أم ولا أخ‏..‏ ولا عم ولا خال‏,‏ ولماذا لا أستمر هنا بضع سنوات حتي إذا ثقلت علي الغربة رجعت إلي بلدي في أي مرحلة من العمر؟

وهكذا راسلت بعض الجامعات فتلقيت عرضا بتعييني أستاذا بجامعة أخري بنفس المدينة‏,‏ واستمرت بذلك صحبتنا نحن الثلاثة‏..,‏ وبعد أن استقرت أحوالنا بحثنا عن أقرب مسجد لمدينتنا لكي نؤدي فيه صلوات الجمعة بعد أن كنا نؤديها في بيت أحد المصريين المهاجرين‏,‏ واهتدينا إلي مسجد علي بعد‏40‏ كيلو مترا من مدينتنا‏,‏ فأصبح قبلتنا وواحتنا‏,‏ نتوجه إليه يوم الجمعة وفي الأعياد والمناسبات‏..‏ ونطهو الطعام في رمضان في مسكننا ونحمله إليه لنتناول افطارنا مع رواده‏,‏ وجمعتنا صداقة متينة بإمام المسجد وهو مصري مهاجر منذ‏30‏ عاما ومثقف ويجيد الانجليزية‏,‏ وفي احدي جلسات الصفاء معه رويت له ذكرياتي المريرة في بيت عمي ويتمي وقلة حيلتي وهواني علي الناس‏..‏ فربت علي كتفي وقال لي إنه لا بأس بأن أتذكر ذلك من حين لآخر لكي أدرك نعمة الله التي أسبغها علي الآن وأقدرها حق قدرها‏,‏ ولكن بشرط ألا تفسد علي هذه الذكريات صفاء نفسي أو تدفعني لكراهية رموز هذه الذكريات ومحاولة الانتقام منهم‏.‏
والحق إن هذه الكلمات قد أثرت في كثيرا‏..‏ وغالبت نفسي لكيلا تحمل الحقد أو الكراهية لأحد مهما فعل بي في الماضي‏,‏ بل إنني سامحت عمي وزوجته وأبناءه فيما فعلوه معي‏,‏ ولقد تزوجت بواسطة هذا الشيخ الفاضل من فتاة مصرية طيبة متدينة أرشدني إليها الشيخ‏,‏ ورجعت إلي مصر بعد أن وفقت أوضاعي في أمريكا‏..‏ ومع كليتي السابقة في مصر ودفعت راضيا الغرامة التي يدفعها من لا يعود للكلية بعد الحصول علي الدكتوراه‏,‏ وزرت أهل هذه الفتاة في بلدة صغيرة بجوار طنطا‏..‏ وقدمت نفسي لوالدها بأنني من طرف الشيخ فلان في أمريكا‏..‏ فرحب بي وكان علي علم بمقدمي ودخلت الفتاة تحمل صينية الشاي فوقع القبول في قلبي من أول وهلة‏.‏

والآن فلقد مضت سبع سنوات علي زواجي أنجبت خلالها ولدين‏..‏ وأحيا حياة سعيدة مع زوجتي الطيبة القنوع‏..‏ وطفلاي يملآن حياتي بهجة وسرورا ونعيش في بيت صغير جميل له حديقة اشتريته بالتقسيط‏,‏ وأركب سيارة فارهة وأخواي اللذان عوضني بهما ربي عن وحدتي قد تزوجا وأنجبا وأصبحنا عصبة عائلية واحدة نلتقي عائليا بانتظام‏,‏ ولقد رجعت إلي مصر خلال هذه الفترة عدة مرات وأقيم كل مرة في شقة أبي القديمة التي جددتها وأعدت تأثيثها‏..‏ وأحرص علي زيارة صاحبة البيت الطيبة وتقديم الهدايا لها‏..‏ ولقد رفعت بمبادرة مني ايجار الشقة من‏4‏ جنيهات الي‏40‏ جنيها وأدفع لها الإيجار لمدة سنة مقدما‏.‏
وأزور عمي وزوجته وابناءه حاملا لهم جميعا الملابس والهدايا وأرقب فرحتهم بها وأراهم جميعا يتهللون لرؤيتي‏,‏ وأري ابناء عمي الذين لم يسمحوا لي بالاقتراب منهم أو صداقتهم يتوددون الي‏,‏ فتطوف بي الذكريات المريرة لكني أسارع بنفضها من رأسي لكيلا تفسد علي استمتاعي باللحظة‏.‏

وفي كل مرة انفح عمي مبلغا محترما من المال ليستعين به علي زواج ابنائه‏..‏ فيرفع يديه بالدعاء لي كما تركت له نصيبي من الأرض‏,‏ أما عمتي الطيبة‏,‏ فقد رحلت عن الدنيا‏,‏ وأنا مازلت ألاطم أمواج الحياة خلال دراستي للهندسة‏..‏ وكم تمنيت لو كانت قد عاشت حتي تراني‏,‏ وقد صنعت نجاحي واصبحت قادرا علي إعالة نفسي وأسرتي‏,‏ غير أنني أعوض غيابها ببر ابنائها وزيارتهم حين أجيء الي مصر وتقديم الهدايا والمنح المالية لهم‏..‏
وأريد أن أقول في النهاية لمن يواجهون ظروفا صعبة في حياتهم انه بالايمان والصبر والجلد والكفاح وانتظار الفرج لابد أن يعبروا هذه الظروف أويتخففوا منها‏..‏ وأن المهم دائما هو ألا يحمل الانسان مشاعر الحقد والكراهية لأحد حتي ولو كان ممن أساءوا اليه أو قسوا عليه خلال ضعفه‏..‏

ويكفي ان يمضي الانسان نحو اهدافه في الحياة لا ينشغل بغيرها فيعينه ذلك علي النجاح وتحقيق الأحلام مهما تكن‏,‏ ذكريات الماضي مريرة‏..‏ أو مؤلمة‏.‏
وهذا ما فعلته وهذا ما أردت ان اضعه تحت أنظار قرائك لعلهم يجدون فيه بعض مايستفيدون به ـ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
خير ما ننتقم به ممن أساءوا الينا وظلمونا ونفروا منا ونحن في ضعفنا وشدة حاجتنا إلي العون والمساندة‏,‏ هو أن نصنع حياتنا بغير الاعتماد عليهم ونحقق اهدافنا ونجاحنا معتمدين علي أنفسنا‏,‏ حتي ليشعروا بالندم علي أنهم لم يشاركوا ولو بالكلمة الطيبة فيما حققناه من نجاح‏..‏ ولم يكن لهم أي فضل فيما أصبنا من توفيق‏,‏ ولم يعد يحق لهم ان يعتزوا بدورهم في مساندتنا‏..‏ وأن يشاركونا بعض ثمراته‏.‏
والحق أن من أهم العوامل المساعدة علي النجاح وتحقيق الأهداف‏,‏ الي جانب الايمان بالله سبحانه وتعالي‏,‏ والصبر والجلد والكفاح الشريف‏,‏ ألا يبدد الانسان بعض طاقته النفسية في بغض من أساءوا اليه والانشغال بالتفكير في رد الاساءة إليهم‏,‏ او اجترار المرارات التي تجرعها منهم‏..‏

فكل ذلك يخصم من تركيز الانسان علي أهدافه في الحياة‏..‏ ويضعف من قدراته علي النجاح ويسمم روحه وافكاره حتي اذا حقق لنفسه كل أو معظم ما أراده لها لم يجد نفسه سعيدا بما حقق‏,‏ لأن مراراته القديمة قد انعكست علي الأشياء من حوله وأفسدت عليه قدرته علي الابتهاج بالحياة‏,‏ لهذا قال أحد الحكماء إن الحقد هو ثروة الحاقدين‏,‏ التي لا يجنون سواها‏,‏ في حين يجني المترفعون عنه والمتسامحون مع البشر والحياة بصفة عامة ثمار التوفيق في الدنيا ورحيق صفاء النفوس‏,‏ وكان العادل العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدعو ربه بقوله‏:‏ رب قدرني علي من ظلمني لأجعل عفوي عنه شكرا لقدرتي عليه‏..‏ وأي شكر لما أنعم الله سبحانه وتعالي عليك أعظم من أن تبر عمك الذي ظلمك وقتر عليك ولم يترفق بك وأنت في ضعفك ويتمك وقلة حيلتك؟
وأي شكر له سبحانه وتعالي أجل من أن تكون يدك وأنت من كنت المنبوذ منهم هي العليا فوق ايديهم جميعا‏..‏ حتي ليتهللوا لرؤيتك ويخطبوا ودك‏,‏ وقد كانوا من قبل لايسمحون لك بالاقتراب منهم؟

لقد صنعت حياتك بيدك ومعتمدا علي نفسك بلا أي معين أو نصير سوي الله سبحانه وتعالي الذي لا يضيع أجر الصابرين‏,‏ فكنت كمن وصفه الشاعر القديم الطغرائي بقوله‏:‏
وإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعول في الدنيا علي رجل‏!‏

وشققت طريقك وسط الصخور فذكرتنا بما قاله نابليون بونابرت ذات يوم أنه تستطيع بالإبرة أن تحفر بئرا بشرط الجلد والمثابرة وطول النفس‏.‏
لقد كنت تستطيع ان تجفو عمك وزوجته وابناءه الي الأبد وتقطع مابينك وبينهم‏,‏ ولربما أيدك في ذلك بعض من يعرفون تاريخهم معك أو لم يستنكروه‏,‏ لكن أصحاب النفوس الكبيرة لايفعلون ذلك‏,‏ ولا يقطعون رحم من قطع رحمهم أو أساء اليهم‏..‏ ويتذكرون دائما الحديث الشريف الذي يقول‏:‏ ليس الواصل المكافيء بمعني انه ليس من يصل رحم من قطع رحمه أو باعده‏,‏ كمن لا يصل إلا رحم من يصله فيكافئه علي الوصل بالوصل‏,‏ ويطلبون لأنفسهم دائما أجر الواصل لأنه أكبر واعظم‏,‏ كما أن كل اناء ينضح بما فيه في النهاية‏..‏ ومن كان إناؤه ممتلئا بالشهد الصافي لا ينضح إلا العفو والخير والعطاء‏,‏ ومن كان إناؤه ممتلئا بالحقد والبغض والكراهية لا ينضح إلا السم الزعاف‏.‏

فهنيئا لك ياصديقي ما أصبت من توفيق في الحياة بكفاحك الشريف وصبرك علي المكاره‏..‏ وثقتك في قدراتك‏,‏ وصفاء نفسك وخلوها من الأحقاد والمرارات‏..‏ وشكرا لك علي هذه الرسالة المفيدة‏.‏
المزيد ....

العطر الفواح

19-03-2004
أنا طبيب اعمل مدرسا مساعدا بقسم الجراحة في احدي الوحدات التخصصية بواحدة من أقدم جامعات مصر‏,‏ وقد دفعني للكتابة إليك بطل هذه القصة‏,‏ الذي لم ار مثيلا له في إخلاصه لعمله ورعايته لحدود ربه في التعامل مع مرضاه ومع مرءوسيه وتلاميذه ومع الجميع‏.‏
فلقد عين هذا الاستاذ معيدا ثم مدرسا مساعدا في نفس القسم‏,‏ ويذكر من زاملوه في هذه الفترة أنه كان شعلة من النشاط والاخلاص الي جانب الالتزام الديني والأخلاقي الكاملين فاذا به يكتشف انه قد أصيب بالمرض الخطير في تجويف البلعوم الأنفي وفي الغدد الليمفاوية‏,‏ ولقد جاء اكتشاف المرض بمحض الصدفة‏..‏ فبدأ رحلة العلاج الكيماوي والإشعاعي وتحمل صابرا تأثيرات العلاج علي الصحة العامة والتركيز والحالة النفسية مع إدراكه جيدا كطبيب ان النتائج في مثل حالته ليست مطمئنة‏,‏ ولم ييأس الاستاذ لحظة واحدة من أمل الشفاء واعتمد في مقاومته للمرض علي شيئين‏:‏ العلاج الذي يصفه المتخصصون‏,‏ والدعاء والابتهال الي الله ومناجاته طلبا للشفاء‏,‏ فكان يناجي ربه قائلا‏:‏ رب ان كنت قد وقفت يوما الي جانب مريض فقير وساعدته فاعف عني برحمتك وساعدني ولقد كانت حياته حافلة بمساعدة المرضي البسطاء ورعايتهم وحسن معاملتهم حتي يلهجوا بالدعاء له كلما رأوه‏..‏ وتغمره السعادة وينشرح صدره ويبش في وجوههم كلما رآهم‏.‏

وفي شدة معاناته للمرض والألم أكمل دراسته للدكتوراه‏,‏ ونوقشت رسالته في يوم مشهود ونال درجته العلمية متفوقا علي كل الأقران وقاهرا اليأس والقنوط‏..‏ ثم استجاب الله لدعائه ودعاء مرضاه ومحبيه واسرته‏,‏ فشفي بإذن الله من مرضه تماما ولم يؤكد له الأطباء المعالجون ذلك إلا بعد ان كرروا الفحوص والاشعات واثبتت كلها شفاءه‏..‏ فزفوا اليه البشري وقالوا له إنه قد أصبح انسانا طبيعيا ويستطيع ان يعمل اي ساعات عمل يريدها وان يسافر الي اي مكان لانه قد اصبح صحيح الجسم باذن الله‏,‏ فسافر الي مكة للعمل كاستشاري باحد المستشفيات وواصل اجتهاده حتي اصبح رئيسا لقسمه في هذا المستشفي‏,‏ وحرص خلاله علي السفر دوريا الي الخارج لإجراء مسح لحالته المرضية فيتأكد له كل مرة شفاؤه التام فيرجع من الخارج الي الكعبة ليؤدي العمرة ويطيل الصلاة شكرا لربه وعرفانا‏,‏ ويقضي الرجل في غربته عشر سنوات ادي خلالها فريضة الحج عشر مرات وقام بعدد كبير من العمرات شكرا لربه علي ان من عليه بالشفاء والصحة ويرجع في النهاية الي قسمه في مصر‏,‏ فيقدم لمن يتعاملون معه من المرضي او الأطباء الصغار او اعضاء هيئة التمريض مثالا نادرا للعمل الذي يرعي صاحبه حدود الله في حياته ومثالا اكثر ندرة للتواضع الجم والرحمة بالمرضي ومن هم أقل منه‏..‏ ويجمع الممرضين والممرضات العاملين بالقسم ويقول لهم إن من يحافظ منهم علي المال العام‏,‏ ويرعي حق المريض ويعتبره وديعة لديه يحاسبه الله عنها سبحانه وتعالي‏..‏ فإنه يضع التراب الذي يدوس عليه فوق رأسه وينحني له شكرا وتقديرا‏,‏ ومازال هذا الاستاذ ينشر حوله الخير والعطف والخوف من الله سبحانه وتعالي ويهتم بكل شئون المرضي بنفسه‏..‏ ويحرص علي تدفئة غرفتهم في الشتاء القارس‏,‏ ويراقب بنفسه نظافتها وحالة الأسرة فيها واعمال الكهرباء والسباكة‏,‏ بغير ان يكلف احدا من صغار الأطباء بالقيام بذلك نيابة عنه ـ كما انه يشجع الأطباء الشبان ويساعدهم بجدية علي تقديم رسائلهم العلمية ويعتبر طلبة الكلية ابناءه‏.‏

وكلما عاتبه بعض زملائه الكبار علي إرهاقه لنفسه بالعمل وقيامه بما يستطيع غيره من صغار الأطباء القيام به نيابة عنه‏..‏ أجابه بالاجابة الدائمة التي تكشف عمق تدينه فيقول‏:‏ أفلا اكون عبدا شكورا ذلك انه يعتبر كل مايقوم به من عمل ومايقدمه للمرضي والطلبة وصغار الأطباء قربي الي الله وشكرا له علي ان انعم عليه بالشفاء من مرضه الخطير‏.‏
هذا هو استاذي الذي اردت ان اكتب لك قصته مع الشفاء والأمل وصالح الأعمال‏..‏ عسي ان يستفيد بها قراء بريد الجمعة‏..‏ فهل تراني محقا في ذلك؟

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
كان الكاتب المسرحي تيرانس راتيجان يقول‏:‏ في العالم ظلام كثير‏,‏ لهذا فإنه يرحب بأية شمعة ولو كانت صغيرة‏!‏
والشمعة التي رويت لنا قصة صاحبها ليست صغيرة بكل التأكيد‏,‏ لأنها تبدد مساحة كبيرة من ظلام اليأس والقنوط‏,‏ وتنشر الخير والرحمة والعطف حولها‏,‏ وتؤكد خيرية الحياة‏,‏ وقدرة كل إنسان لو أراد علي ان يجود ـ كما يقول الشاعر أمادو نرفو ـ بشيء ما مهما كان صغيرا قد تكون ابتسامة وقد تكون يدا تربت علي آلام الآخرين‏,‏ وقد تكون كلمة تقوي عزمهم‏.‏

واستاذك الذي رويت لنا قصته مع المرض والأمل والشفاء ورعاية حدود ربه في عمله‏,‏ تقدم لنا مثالا يرفع المعنويات‏,‏ ويذكرنا بألا نيأس أبدا من رحمة الله‏,‏ مهما تكثف الظلام حولنا‏,‏وان نؤمن دائما بأن في الغد دائما متسعا لكل شيء‏..‏ وان التعلق الأبدي بالأمل في رحمة الله لابد ان يكشف الضر ذات يوم عن المهمومين كما كشفه سبحانه وتعالي عن عبده أيوب عليه السلام‏,‏ وحين تلقي البشري في امره الإلهي له‏:‏ اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فضرب أيوب الأرض برجله فنبعت له عينان‏,‏ شرب من إحداهما واغتسل من الأخري‏,‏ فذهب بلاؤه بإذن الله‏,‏ وماكل وسائل العلاج برغم ضرورتها سوي أسباب علينا اتخاذها ترقبا لهذا الأمر الإلهي ومادعاء المبتلين وابتهالهم لربهم ومناجاتهم له إلا استنزال أو استعجال لهذا الأمر‏.‏
ولقد من الله سبحانه وتعالي علي استاذك بالشفاء استجابة لدعائه ودعاء محبيه ومرضاه البسطاء‏,‏ فأحسن شكر نعمة ربه عليه بالاستمرار في نهجه العادل في العمل وفي رحمته بالمرضي ورفقه بتلاميذه‏,‏ وحرصه علي رعاية حدود ربه في عمله‏,‏ فهنيئا له كشف الضر عنه‏..‏ وعقبي لمن ينتظر‏.‏

وسلاما وأمانا علي من يرعون حدود الله في حياتهم‏.‏
فيكونون كالعطر الفواح‏..‏ ينفث الجمال‏..‏ ويطرد العطن من اي مكان يوجدون فيه‏.‏
المزيد ....

الإحساس المرير‏!‏

26-03-2004
أنا سيدة في الثانية والثلاثين من عمري نشأت في أسرة متوسطة الحال بين أب يكافح لتعليم ابنائه الخمسة‏,‏ وأم ربة بيت طيبة‏,‏ وتركز كل جهدها علي ان يخرج الابناء إلي الحياة متمتعين بالخلق الكريم والأدب الحميد‏.‏ ولقد حقق الله سبحانه وتعالي لأبوينا مرادهما‏,‏ فتعلمنا كلنا وحصلنا علي شهاداتنا‏,‏ واحسب أننا قد تسلحنا جميعا بالأخلاق الحميدة‏,‏ وبعد انتهاء دراستي وفقني الله إلي عمل مناسب‏..‏ ومضت ثلاث سنوات لم يتقدم لي خلالها أحد بالرغم من جمالي المتوسط‏..‏ إلي أن جاء يوم دعتني فيه احدي زميلاتي بالعمل لحضور عيد ميلاد ابنها‏..‏ واستأذنت أمي في الذهاب إليه فأذنت لي وفي الحفل ووسط مرح الأطفال لاحظت ان هناك شابا لايكاد يرفع عينيه عني‏,‏ وانه يحدق في باهتمام‏,‏ وبعد يومين من الحفل التقيت بزميلتي هذه فاذا بها تبادرني بتسليمي ورقة صغيرة مكتوبا عليها اسم شخص وبياناته وعنوانه ومكان عمله‏..‏ الخ‏,‏ وسألتها عما يعني ذلك؟ فقالت ان هذه هي بيانات الشاب الذي كان يحدق فيك طوال الحفل‏,‏ وصارحتني بأنها كانت قد دعته خصيصا لكي يراني‏,‏ عسي أن ألقي القبول لديه فيتقدم الي اسرتي‏..‏ وطلبت مني أن أكلف أبي بالسؤال عنه اعتمادا علي هذه البيانات‏.‏
وعدت إلي البيت سعيدة وأبلغت امي بما حدث فدعت لي بالخير‏..‏ وقام أبي بالسؤال عن الشاب فجاءت النتائج طيبة للغاية‏,‏ وتمت الخطبة واستمرت‏4‏ أشهر كانت من أسعد أيام حياتي‏,‏ واكتشفت في خطيبي الكثير من المزايا وأولاها الأخلاق النادرة والبر بأبويه والعطف علي اخوته‏,‏ فانعكس كل ذلك علي علاقتي بأسرته التي أحببتها وأحبتني حبا جما‏,‏ خاصة والدته حيث عاملتني كابنة مدللة لها وتزوجنا في شقة مناسبة وعشت مع زوجي أسعد أيام عمري‏,‏ وأحسست دائما بأنني فرد من أفراد اسرته‏,‏ وبعد خمسة أشهر من الزواج حدث أن زارتني والدة زوجي وسألتني برقة شديدة عما إذا كنت حاملا أم لا فأجبتها بالنفي‏,‏ فطيبت خاطري وعرضت علي أن تصحبني إلي طبيب متخصص فلم امانع‏,‏ وبدأت رحلة العذاب من تحاليل وأشعة وعلاج‏,‏ ثم علمت والدتي بالأمر فاقترحت أن يعرض زوجي نفسه كذلك علي طبيب عسي ان يكون الأمر مرتبطا به‏,‏ ففعل وأكدت النتائج انه سليم تماما وقادر علي الإنجاب وواصلت انا علاجي حتي وصلت الي المرحلة الأخيرة منه فإذا بي اصدم صدمة العمر بأني اعاني من عيب خلقي يستحيل معه أن أحمل‏..‏ وانهرت باكية وحزينة‏,‏ ولم يخفف عني بعض آلامي سوي زوجي ووالدته الحنون واسرته التي لم تتغير علاقتها بي علي الإطلاق بعد معرفة هذه الحقيقة المؤلمة‏.‏
وبرغم سعادة زوجي معي فلقد وجدت نفسي بعد فترة أحس احساسا مؤلما بالذنب تجاهه‏,‏ خاصة انني اعرف عنه حبه الشديد للأطفال‏..‏ أما هو فقد ازداد حبا لي وتعلقا بي وراح يواسيني ويطلب مني الرضا بقضاء الله وقدره‏,‏ وعدم الاعتراض علي مشيئته‏,‏ غير أنه بعد فترة أخري اشتد علي الاحساس بأني قد أجرمت في حقه واني أظلمه بحرمانه من الإنجاب فعرضت عليه الانفصال لكي يتزوج من أخري وينجب ويري اطفالا‏,‏ فرفض هذه الفكرة رفضا قاطعا‏,‏ ورفضتها بأشد منه والدته الطيبة فعرضت عليه ان يتزوج مع استمراري في عصمته وعلي ان اعيش معه ومع زوجته في نفس الشقة‏,‏ وأكون خادمة له ولزوجته واولاده منها الذين سيكونون بالتالي ابنائي‏,‏ فرفض ذلك بإصرار وطلب مني أن نحيا حياتنا كما ارادها لنا الله‏,‏ وقال لي إنه يجد في ابناء إخوته ما يحتاج اليه من ممارسة احساس الابوة ولا يحتاج الي خوض تجارب لايضمن نتائجها‏,‏ وفي هذه الاثناء رحل والد زوجي عن الحياة يرحمه الله‏,‏ فانتقلت للإقامة مع والدة زوجي لفترة العزاء ثم فترة طويلة بعدها‏..‏ فعرضت عليها خلال ذلك ان يتزوج ابنها في شقتي‏..‏ وان استمر أنا في الاقامة معها علي أن يزورني زوجي في بيتها من حين لآخر‏,‏ فرفضت لكنها وبعد إلحاح شديد مني قبلت ان تعرض عليه الفكرة بحياد ودون أن تؤيدها أو ترفضها‏,‏ وعرضتها عليه‏,‏ فرفض أيضاوأخيرا خطر في ذهني ان أسئ معاملته لكي يملني ويطلقني‏,‏ وحاولت ذلك بالفعل فلم احسن التمثيل وابتسم بعد ان عرف مقصدي‏..‏ في حين إنهرت أنا باكية واعترفت له بأنني احبه وأتعذب من أجله‏..‏ ولا أطيق الحياة بدونه‏,‏ لكن ماذا أفعل وقد شاءت إرادة الله ألا استطيع الإنجاب له‏..‏ فبماذا تنصحني ان افعل ياسيدي؟

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏
إلحاحك علي زوجك بأن يتزوج عليك لكي ينجب قد يعكس إحساسا مريرا بالذنب تجاهه لما تتصورينه من مسئوليتك عن حرمانه من الأطفال‏,‏ لكنه يعكس علي جانب آخر احساسا اخر أشد ايلاما بالخوف من المستقبل والتحسب الزائد لأن يجئ يوم ينصرف فيه زوجك عنك الي زوجة أخري‏,‏ ولا غرابة في ذلك لأن الخوف القوي المسيطر لديك من فقد زوجك بسبب عجزك عن الإنجاب له قد ترجمه عقلك الباطن الذي يضيق بهذا الخوف‏,‏ إلي ما يسميه علماء النفس برد الفعل العكسي للأشياء‏..‏ وهي حيلة من الحيل النفسية التي يلجأ اليها العقل الباطن للدفاع عن النفس والتخفف من الآلام‏,‏ كأن يشتد حزن الانسان مثلا لضياع فرصة ثمينة كان يتطلع اليها بلهف‏,‏ ويضيق عقله الباطن بهذا الحزن فيترجمه برد الفعل العكسي إلي محاولة التهوين من قيمة هذه الفرصة نفسها‏..‏ والزعم بأنها ما كانت لتضيف اليه شيئا‏,‏ وبدلا من ان يعبر الانسان عن الحزن لضياعها نجده ينطق بعبارات تزعم للنفس ان ضياعها أفضل من مجيئها‏,‏ وأنه الآن اسعد حالا منه لو كان قد فاز بها‏..‏ إلخ‏.‏
ولأنك تضيقين في أعماقك بخوفك الشديد من فقد زوجك ذات يوم‏,‏ فلقد عبرت عن هذا الخوف القاهر برد الفعل العكسي في مبادرتك انت علي طريقة الهجوم خير وسيلة للدفاع‏,‏ باقتراح الانفصال عن زوجك‏,‏ فلما رفضه الرجل النبيل تعددت اقتراحاتك عليه بالزواج من أخري للإنجاب وتوالت التيسيرات والتسهيلات التي تقدمينها له لكي يقبل بها‏.‏

ولست اعني بذلك أنك لست صادقة في هذه العروض العديدة التي تقدمينها لزوجك‏,‏ فالحق انها عروض صادقة وتعكس روحا مضحية وبعيدة عن الأنانية‏,‏ وانما اقصد فقط أن الخوف الكامن في أعماقك من المستقبل هو المحرك الأساسي لها وبغير وعي منك‏,‏ فثقي في نفسك ياسيدتي وفي جدارتك بان يكتفي بك زوجك ويسعد بك ومعك دون أطفال‏,‏ وتخلصي من هذا الخوف القاهر الذي يكبل إرادتك ويحرمك من الاستمتاع بالأوقات الخالية من الأكدار‏..‏ وتخلصي قبل كل ذلك وبعده من الإحساس القاتل بالذنب تجاه زوجك‏,‏ لأن الانسان لايلام علي أمر قد قدر عليه‏,‏ ولم تكن له فيه حيلة‏,‏ كما أن الرجل يعفيك من كل مسئولية عن حرمانه من الأطفال‏,‏ ويرضي بأقداره ويطالبك بالرضا بها فاقبلي عافية وعيشي حياتك معه في سلام‏,‏ ولا تتعجلي الهموم والأكدار‏..‏ ولا تستدعيها الي حياتك قبل موعدها المقدور في عالم الغيب‏,‏ وتعاملي مع الأمر علي طريقة الصوفية الذين يقولون درءا للهموم واتقاء للتحسب الزائد للمستقبل لك الساعة التي انت فيها‏..‏ ولو اردت التخفيف عنك أكثر من ذلك لقلت لك إن تقدير الأسوأ يحرر الانسان من الخوف الشديد مادام قد عرف اقصي ما يمكن ان تنتهي اليه الأمور وتهيأ نفسيا للتعامل معه أو القبول به‏,‏ وأسوأ العواقب في مثل ظروفك هذه هو ان يجئ يوم بعد عدة اعوام أو أكثر ويشعر زوجك بحاجة ملحة عليه في الإنجاب فيتزوج بمشورتك وموافقتك من أخري‏,‏ فما الجديد اذن في الأمر وقد تحسبنا له منذ البداية وطالبناه به فرفضه من قبل حبا وإكراما لنا؟

ان مشكلتك الحقيقية هي أن زوجك قد تقبل أقداره ورضي بها‏,‏ في حين أنك أنت التي لم تتقبلي في أعماقك بعد أقدارك ولم ترضي عنها‏,‏ لهذا فهو يعيش في سلام نفسي معك‏..‏ وانت تحترقين بالإحساس بالذنب تارة وبالخوف من فقد زوجك تارة أخري‏..‏ وبتقديم اقتراحات الزواج اليه إبراء للذمة من ذنبه تارة ثالثة‏..‏ فتقبلي أقدارك أولا ياسيدتي‏,‏ ولسوف تتغير اشياء كثيرة في حياتك وشخصيتك وعلاقتك بزوجك الي الأفضل‏,‏ ولقد كان القطب الصوفي ابوبكر الشبلي يقول من توكل علي الله رضي بفعله وكان الامام حسن بن علي رضي الله عنهما يقول من رضي بحسن اختيار الله له لم يعدل به شيئا‏.‏
فارضي بما إختاره لك ربك‏..‏ ولسوف تتحسن الأحوال كثيرا بإذن الله‏.‏
المزيد ....

الانسحاب الثاني‏!‏

02-04-2004
أكتب رسالتي هذه ردا ونصحا لطرفي رسالة الطريق المنحدر التي نشرتها بـ بريد الجمعة وسيتضح لك ولهما أن قصتي بدأت حيث انتهي طريقي المنحدر‏,‏ والذي بدأ بعودتي للعمل في نفس المستشفي الذي بدأت فيه حياتي العملية كطبيب بعد نحو ثماني سنوات من التنقل للخدمة بأكثر من مستشفي حسب ما تقتضيه وظيفتي وتخصصي‏,‏ فكان أن التقيت ثانية بالفتاة التي أحببتها في بداية حياتي العملية ومنعتني ظروف لا ذنب لي أو لها فيها من الارتباط بها‏,‏ وكانت تلك مشيئة الله‏,‏ إذ كيف لطبيب مبتدئ لايملك سوي مرتبه أن يتقدم لفتاة أعلي منه ماديا واجتماعيا؟ وكيف لشاب في بدء حياته أن ينجح في الارتباط بتلك الفتاة‏,‏ وقد شاء قدرها أن تترمل وهي لم تبلغ بعد الثالثة والعشرين‏,‏ وصار لديها ولدان صغيران‏,‏ وهو لايملك أي خبرة في الحياة ولا يملك أسباب القيام بأعباء أسرة كتلك أو أن يعولها؟‏!‏ فكان انسحابي المخجل رغما عني‏,‏ وبرغم حبي الشديد لها‏,‏ وكذلك برغم إيماني بضرورة وجودي إلي جانبها‏,‏ وقد آثرت أن أفسح المجال لمن يقدر ولمن يستحق‏,‏ هكذا تصورت وقتها وهكذا قررت استكمال حياتي بعيدا عنها‏,‏ وقد شاء الله عز وجل أن يرزقني بمن ترتضيني زوجا‏,‏ وجعل لي معها السكن والمودة فسارت بي الحياة بعد ذلك زوجاوأبا ورزقتي الله من فضله النجاح في العمل والشهرة في مجالي كطبيب‏,‏ حتي صارت لي عيادتي الخاصة والتي أضحت قبلة لكثير من المرضي سواء من مصر أو خارجها‏,‏ وأراد الله من فضله وبمشيئته أن أكون سببا في شفاء الكثيرين منهم‏..‏ وكانت تلك نعمة من الله من نعم كثيرة أفاض بها علي عز وجل وهي لاتعد ولا تحصي‏..‏

وبعودتي للخدمة بالمستشفي الذي بدأت به حياتي العملية وبعد بعثة بالخارج التقيت بها ثانية‏,‏ فإذا بها قد ازدادت جمالا وتألقا وقد تزوجت ثانية بعد ترملها وبعد انسحابي من حياتها‏,‏ إلا أنني قرأت في عينيها نظرة العتاب واللوم خاصة بعد أن علمت ممن حولها بمشكلاتها مع زوجها‏.‏
وهنا بدأ الشيطان وساوسه فصور لي ضرورة رفع هذا العتاب‏,‏ وأن أشرح لها ما حال بيني وبين ارتباطي بها في الماضي‏,‏ وأنني وإن كنت فيما سبق لم أستطع الوقوف بجانبها في معترك الحياة‏.‏ فإني أستطيع الآن وبما صار لي من مكانة علمية ومادية مساندتها ودعمها‏..‏ ومن هنا بدأ طريقي المنحدر والذي بالطبع لم يكن يبدو لي كذلك‏,‏ بل بدا طريقا نحو القمة وسلما إلي السماء‏,‏ وحاولت أن أفتح حوارا معها بشتي الطرق حتي نجحت‏,‏ ثم صار ذلك الحوار أحاديث طويلة حتي تقبلت عذري وتفهمت أسباب انسحابي من حياتها في الماضي‏,‏ ولم أكتف بذلك وإنما سولت لي نفسي أن أمارس معها دور الفارس النبيل الذي جاء علي حصانه الأبيض لينتشلها من متاعبها الحالية مع زوجها ومع الحياة كلها‏,‏ ويقف بجوارها‏.‏ فكان أن انفجر بركان الحب القديم في قلبي وقلبها وتجاوز هذا الانفجار حدود وضعنا الاجتماعي كزوج لأخري وكزوجة لآخر‏,‏ وكان عذرنا اننا نحاول تصحيح ماكان من قبل وإعادة المياه إلي مجاريها‏,‏ ودعني أعترف بكل مرارة وندم لعلي أكفر عن نفسي ما لن أغفره لها‏..‏ ذلك أني لم أكتف بذلك وإنما رحت أضغط عليها وأمارس معها كل الحيل التي تجعلها تميل نحوي وترفض حياتها مع زوجها متعللا أمام ن
فسي كذبا وافتراء بأنها لا تجد مع زوجها السعادة أو الحب الذي تستحقه حتي خضعت المسكينة وصارت لقاءاتنا هي محور حياتي‏,‏ وأهملت أسرتي وعيادتي وأنا في كل ذلك أمضي كالأعمي ناسيا لربي وفضله علي‏,‏ قاتلا لضميري‏..‏ وهكذا سقطت أنا وأسقطتها معي حتي صرت سلواها الوحيدة وأملها الوحيد‏,‏ ولك أن تتخيل ما كانت تفعله هذه الكلمات وهي تلقي همسا في أذني بل ويزيد عليها أنني رجلها الوحيد‏,‏ وهي التي كانت لي ذات يوم أملا بعيدا وحلما نائيا‏,‏ فإذا بها بين يدي وأمام عيني وأكثر من ذلك‏!!‏
وهنا كان لابد ــ من رحمة الله ــ أن تدركنا حتي لانتمادي أكثر في الخطأ والخطيئة وأن يجئ العقاب الإلهي الذي استحقه كل الاستحقاق ومن حيث لم أحتسب أو أتوقع‏..‏ وجاء هذا العقاب منا نحن الاثنين‏,‏ ولم يأت من غيرنا‏..‏ وبدأ بوقفة مريرة أمام نفسي وضميري‏,‏ رأيتني فيها لا أملك ما يستر خطيئتي ولايبرر فعلتي‏..‏ وإذا بزلزال عنيف يطبق السماء فوق رأسي ويضيق الأرض علي بما رحبت‏..‏ فكيف فعلت ذلك وتماديت فيه؟ وكيف غاصت أقدامي في هذا الوحل وأنا الذي أنعم ربي علي بما لا يعد ولا يحصي من النعم؟‏..‏ وكيف أوقعت بتلك المسكينة حتي سقطت معي؟‏!..‏ لايمكن أن أصف في سطور ما أنا فيه سوي أنني لا أحيا إلا بمرارة الاحساس بالذنب والشعور القاتل بالندم‏,‏ ويعلو أنيني أمام ربي في جوف الليل لعله يتقبل توبتي‏..‏ وإذا بي وأمام هذا الاستيقاظ المتأخر لضميري أجدني مضطرا للانسحاب مرة أخري من حياتها ودون أية مقدمات‏,‏ وألم المعصية يعتصرني‏..‏ وإذا بي وبفعلتي وأفعالي هذه أدمر حياتها وهي حبي الوحيد‏,‏ وينتهي بها الحال للطلاق والعودة لمعاناة ويلات الحياة وحيدة ضائعة حتي فقدت صوابها‏,‏ وحاولت الانتقام مني بفضح علاقتنا أمام زوجتي حتي في أدني تفاصيلها المخزية
‏,‏ ولكن انتقامها جاء متأخرا فقد انفصلت عن زوجتي لأنني لم أحتمل استكمال الحياة مع من لم أر منها إلا كل خير‏,‏ فكان انتقامها مجرد تأكيد لهذا الانفصال‏.‏ فكيف انتهي بنا الحال إلي هذا وقد ابتدأ بمجرد اعتقاد موهوم بأنني الصدر الحنون أو الأمل المفقود الذي يمكن أن يخفف عن إنسانة ما متاعبها في الحياة‏..‏ إنني الآن علي مشارف الأربعين من العمر‏,‏ وأشعر بأنني في نهاية العمر‏..‏ لا أري أملا أو غاية سوي عفو الله ومغفرته‏..‏ وقد أرسلت لك هذه الرسالة معترفا بكل أخطائي ومدركا تمام الإدراك أنني استحق ما أنا فيه‏,‏ بل وأراه قليلا‏,‏ ولكن الأهم والذي أرجوه هو أن تكون نصحا لكل من يقرأها لكي يحذر الوقوع والانحدار إلي ما انحدرت إليه‏,‏ ولكيلا ينتهي به الحال لما انتهي بي وبها‏,‏ وقد أرسلتها أيضا كحلقة صغيرة‏,‏ وأرجو السماح والعفو من كل من آذيتهم وتسببت في إيلامهم‏..‏
وأخيرا فإني أدعو الله القادر العظيم عز وجل أن يقبل توبتي وهو القائل سبحانه وتعالي‏:‏ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون‏..‏
صدق الله العظيم

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
لو تحدث أحد ساعات طويلة عن عواقب الاستجابة لهوي النفس والانحراف عن الطريق القويم‏,‏ لما استطاع أن يقنع سامعية بأبلغ مما تفعل رسالتك هذه‏!.‏ فهي تقدم لنا نموذجا مثاليا لتبعات الضعف الأخلاقي والجري وراء الأوهام والانخداع بدعاوي الحب القديم الذي انتفض فجأة كالمارد بعد سنوات طويلة من آخر لقاء‏..‏ وغير ذلك من الترهات التي يخدع بها نفسه من يضيق بالحياة العائلية الهادئة والمحترمة‏,‏ ويتوق إلي تجربة الإثارة والمغامرة والمتعة اللاذعة‏,‏ وكلها بطبيعتها مؤقتة وقصيرة الأمد مهما طالت‏..‏ولهذا قالت شاعرة أمريكية‏:‏ متعة الحب تدوم لحظة‏..‏ وشجن الحب يدوم إلي الأبد‏!‏ أي تبعاته وعواقبه‏.‏
ولنراجع معا ما حققته مغامرتك الخطيرة بإحياء العلاقة القديمة التي كانت بينك وبين سيدة لم تستطع أن ترتبط بها في بداية شبابك لأسباب مادية واجتماعية؟

لقد رأيت في عينيها كما تقول نظرة العتاب لخذلانك السابق لها وانسحابك من حياتها‏,‏ مما أدي بها بعد فترة للزواج من غيرك والشقاء في زواجها‏,‏ فقررت أن تشرح لها أسبابك‏..‏ ثم انتقلت من رفع العتاب وشرح الأسباب إلي مداعبة مشاعرها العاطفية القديمة ومحاولة إحيائها حتي استجابت لك‏,‏ فخطت بذلك خطوة واسعة علي الطريق المنحدر إياه‏..‏ ولم تكتف بذلك وإنما واصلت فحيحك وهمسك المسموم لها حتي تمادت معك في نفس الطريق الذي تقود كل خطوة عليه إلي نقطة أبعد عن الطريق القويم‏,‏ حتي وصلتما معا إلي السفح‏.‏ وحينئذ فقط استشعرت الندم علي ماكان من أمركما معا وأحسست بالذنب والإثم فانسحبت للمرة الثانية من حياتها‏,‏ وعاودت خذلانها من جديد بعد أن كانت حياتها قد تأثرت تأثرا مدمرا بعلاقتها بك‏..‏ فطلقت بعد انسحابك من زوجها‏,‏ وامتد الأثر المدمر إلي حياتك العائلية كذلك فتهدمت أسرتك الصغيرة وطلقت أنت زوجتك‏.‏
فأي ثمن باهظ لمتعة عابرة‏..‏ وإثارة موقوتة‏..‏ ومغامرة محفوفة من قبل البداية بالمخاطر؟

ولماذا وقد خلا الطريق أمامك بطلاقها من زوجها وطلاقك من زوجتك ـ التي لم تر معها باعترافك إلا كل جميل ـ لم تفكر في تصحيح الوضع الخاطئ وتعويض تلك السيدة عما خسرته بالزواج منها‏,‏ وهي التي كانت ــ كما تقول ــ حلمك القديم؟
قد تعلل ذلك بأن العلاقة بينكما قد خسرت بعد انسحابك الثاني من حياتها‏,‏ وأن مشاعرها تجاهك قد تحولت إلي العداء لك حتي رغبت في الانتقام منك بالاساءة إليك لدي زوجتك‏,‏ لكن انتقامها جاء متأخرا لأنك كنت قد طلقت زوجتك‏.‏

وقد تشعر بأنك قد أدركت بالتجربة أن ماكنت تعتقد أنه حب العمر الذي حرمت من جني ثماره في بداية الشباب‏..‏ قد تكشف لك عن وهم لا يصمد لاختبارات الحياة فعزفت عن الارتباط بصاحبته‏..‏ وقد يكون هذا السبب أو ذاك صحيحا في بعض جوانبه‏..‏ لكن هناك سببا آخر خفيا‏..‏ هو الدافع الحقيقي لك للانصراف عن فكرة الارتباط بها الآن‏.‏ إنه دافع باطني يمور في داخلك‏,‏ قد تخجل من الاعتراف به حتي لنفسك‏,‏ ذلك انك لاتثق في أعماقك في أخلاقيات هذه السيدة التي مضت معك في الطريق المنحدر حتي الهاوية وهي زوجة لرجل آخر‏,‏ ولا تأتمنها علي عرضك وشرفك واسمك‏.‏
فإذا أردت تصويرا صادقا لنوع العلاقة التي كانت بينكما حتي في أوج اشتعال الحب بينكما لما وجدت أبلغ مما صاغه الروائي الفرنسي لاكلو في روايته علاقات خطرة واصفا به علاقة مركيزة فاجرة بعشيق لها يشاركها التآمر علي مركيز شاب كان عاشقا سابقا لها وخانها‏,‏ فقال‏:‏

مثلهما مثل لصين يعملان معا‏,‏ يجمعهما تقدير متبادل من أحدهما للآخر في عمله‏,‏ لكنه تقدير لايرقي أبدا ولن يرقي ذات يوم إلي حد الثقة‏!‏
وهكذا كان الحال بينك وبين تلك السيدة خلال العلاقة وبعدها‏,‏ وهكذا هو الحال في معظم العلاقات الآثمة المشابهة التي تخون فيها زوجة وأم زوجها بدعوي الحب والضعف العاطفي‏..‏ كما أنه أيضا الدرس الحقيقي لقصتك هذه التي ترغب في أن تكون نصحا للآخرين‏.‏

إن لكل شئ ثمنا في الحياة‏..‏ للمتعة والتحلل من القيود الأخلاقية ثمن‏..‏ ولرد النفس عن أهوائها وإلزامها بالطريق القويم ثمن كذلك‏..‏ وكل إنسان يجني في النهاية ثمرة ما غرس‏..‏
إنني أرجو في النهاية أن يكون ندمك صادقا وحقيقيا‏,‏ وأن تتطهر روحك من إثم هذه العلاقة ــ السابقة‏,‏ وأن تحاول تحجيم خسائرك فيها بمحاولة السعي للإصلاح بينك وبين زوجتك السابقة‏,‏ وإعادة شملكما وأطفالكما معا‏..‏ كما أرجو أن تكثر من الاستغفار وتدعو الله كثيرا أن يغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏,‏ وإثم تخبيب امرأة علي زوجها كما جاء في مضمون الحديث الشريف الذي يقول ليس منا من خبب امرأة علي زوجها أي أفسدها عليه حتي ضاقت بالعيش معه ورغبت في هجره‏.‏

والله سبحانه وتعالي في النهاية هو غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو وإليه المصير صدق الله العظيم الآية‏3/‏ غافر‏.‏
المزيد ....

الأشواك الدامية‏!‏

09-04-2004
بعد أن قرأت رسالة الحلم المتأخر ومن قبلها الخروج من الشرنقة‏..‏ والتي وضح فيهما دور الأم المتسلطة علي ابنها ومحاربتها لفكرة زواجه‏,‏ خطر لي أن أعرض عليك نوعا آخر من التسلط‏..‏ هو تسلط الأبناء‏,‏ وأزواج الأبناء‏..‏ وأرجو أن تصدقني في كل كلمة أقولها‏,‏ لأنه ليس هناك ما يدعوني للكذب‏..‏ فأنا طبيبة من أسرة عريقة من ناحية التعليم والمركز الاجتماعي والمادي والأصل‏,‏ وفوق كل هذا وأهم منه السيرة الحسنة‏..‏ ولحسن حظي تزوجت من قريب لي‏,‏ فعشت معه بنفس الأخلاق والمباديء التي صحبتها معي من بيت والدي‏,‏ وأنجبنا ولدا وبنتا‏,‏ تربيا علي شاكلتنا‏,‏ ودارت الأيام دورتها‏,‏ وسافر ابني مهاجرا‏..‏ ثم توفي زوجي رحمه الله‏,‏ وعشت مع ابنتي‏,‏ وكان يتقدم لها الكثيرون‏..‏ ولكنها كانت دائمة الرفض لفرص كثيرة ترضيني كأم ولم أضغط عليها مطلقا‏,‏ إلي أن حدث وتعلقت بأحدهم‏..‏ وحكت لي عنه وعن عائلته ما أسعدني‏,‏ ورحبت به مبدئيا‏,‏ إلي أن بدأنا التعارف أكثر‏..‏ فوجدت كل الظروف غير مشجعة علي الإطلاق‏,‏ فالأسرة مفككة إلي أبعد الحدود ولا أحد يحترم الآخر‏,‏ وأشياء أخري كثيرة‏,‏ ودون الدخول في التفاصيل‏,‏ فقد كنا نتفوق عليهم في كل شيء‏,‏ كل شيء‏..‏ وكلما اقتربنا عائليا أكثر‏,‏ اكتشفت اتساع الهوة بيننا‏..‏ ولست أحب أن أذكر تفاصيل دعت كل من عرف بجزء بسيط منها لأن يستنكر هذا الزواج‏..‏ فرفضت الموافقة عليه‏,‏ لكن ابنتي وقفت مني موقفا عدائيا‏,‏ بدعوي أن الانسان لا شأن له بعائلته لأنه لم يخترها‏,‏ وإنما هي مفروضة عليه‏,‏ وعندما قلت لها إن كل هذا ينعكس علي الانسان بعد ذلك‏,‏ رفضت الاقتناع بمنطقي وداومت علي اتصالها بهذا الشخص‏,‏ وتمسكت به لأقصي درجة‏,‏ إلي أن قالت لي ذات يوم إنني لا أريدها أن تتزوج لأني أخاف الوحدة‏,‏ وأريدها أن تظل بجانبي‏..‏ ففوجئت بكلامها‏..‏ ولا أدري من أين أتتها هذه الفكرة‏,‏ برغم أنني كنت موافقة قبل ذلك علي أشخاص آخرين‏,‏ وكان منهم من سيأخذها للخارج معه‏..‏ لم أكن في حياتي بهذه الأنانية التي تصورني بها‏..‏ وبعد هذه الطعنة‏,‏ راحت تشير أكثر من مرة إلي أنها بالغة‏,‏ وهو الآخر مثلها‏,‏ ويستطيعان الزواج بنفسيهما‏,‏ وخفت عليها وعلي نفسي من الفضيحة‏,‏ وتعجبت كيف انحدرت ابنتي إلي هذا المستوي في التفكير‏..‏ فوجدت نفسي مرغمة علي الموافقة علي الخطبة‏..‏ وتكرر من أهل العريس المزيد من التصرفات غير المحتملة‏,‏ بعد أن وجدوا أننا قد قبلنا بالخطبة‏,‏ كل
ذلك وابنتي راضية وسعيدة‏,‏ ووقفت أمام فرحتها‏,‏ وراجعت نفسي‏..‏ لماذا أريد أن أكسر قلبها كما يقولون‏..‏ وقررت أن أتناسي كل شيء وأتجاهل ما فعله أهله‏,‏ وقلت لنفسي أليس من الجائز أنني إذا عاملت هذا الشخص كابن لي فقد يثمر هذا معه؟ وأكسبه إبنا لي وأسعد ابنتي؟ وأقسم لك بأنني كنت صادقة في نيتي هذه‏..‏ وقررت أن أقف معهما‏,‏ وأساعدهما قدر استطاعتي‏..‏ لعلهما يقدران لي هذا تقديرا معنويا‏,‏ بمعني أن أتمتع بحبهما ومشاركتهما فرحتهما‏..‏ وبدأت أشترك معهما إلي حد ما في مشاهدة الأثاث وباقي المستلزمات‏..‏ وكنت أرحب بخطيبها عند قدومه للبيت لبعض الوقت‏,‏ ثم أتركهما يتحدثان معا‏,‏ ولكني لاحظت أن نزولي معهما وجلوسي معهما يضايقهما وأنهما يتعمدان أن يتهامسا في وجودي‏,‏ وأنا انسانة حساسة‏..‏ لاأتحمل شعوري بأنني غير مرغوب في وجودي‏..‏ فبعد أيام قليلة أخذت أعتذر عن عدم الخروج معهما لانشغالي في عملي‏,‏ وعند حضوره للبيت‏,‏ بانشغالي في أعمال المنزل‏.‏ أو متابعة التليفزيون في حجرة أخري‏,‏ كما لاحظت أيضا أن هذا الشخص سريع الغضب ومعظم وقته غاضب‏..‏ لا أدري لماذا أو من من؟‏!..‏ وابنتي تمضي الساعات في محاولة استرضائه‏..‏ ووجدت أن هذه طريقته للضغط عليها حتي تنفذ رغباته‏..‏ كما أنه يكرر الكلام والآراء التي أقولها بأسلوب مختلف‏,‏ مع استعمال نفس الكلمات‏,‏ ولكن بما يجعلني دائما متهمة بأني قلت كذا وكذا‏..‏

كما أنه لاشيء يعجبه أبدا‏,‏ إلا الذي يختاره هو‏..‏ وبرغم كل هذه العيوب التي عايشتها بنفسي‏..‏ لم أر ابنتي معترضة علي أي شيء‏..‏ وبالتالي لم يكن باستطاعتي أن أعترض‏..‏ ولكني أصبت بحالة من الإحباط‏,‏ فقد لاحظت أن ابنتي ألغت شخصيتها تماما‏,‏ وأصبحت تعيش في فلكه ولا تفهم ولا تعي إلا ما يقول‏..‏ وما يقول هذا هو دائما الصواب لأنه لايخطيء أبدا‏..‏
ومرت الأيام‏,‏ وجاء وقت الزواج وتصورت أن ما كان منه من عيوب ربما كان سببه مشاكله العائلية الكثيرة‏,‏ ومنها تخلي أهله عنه تماما‏,‏ وعدم مساعدتهم له‏,‏ وأن استقراره بعد الزواج سيحسن نفسيته‏,‏ إذ إن فترة الخطبة أحيانا تكون ممتلئة بالمشاكل لأسباب مختلفة‏..‏

ويوم الزواج‏,‏ احتضنته وقبلته‏,‏ وقلت له لقد أصبحت ابنا لي بالفعل‏,‏ وكنت صادقة في ذلك تماما‏..‏ وتناسيت كل ما كان منه ومن ابنتي ومن أهله‏,‏ وقررت أن أبدأ معهما من جديد‏,‏ فابنتي كانت تدافع عن حبها‏,‏ برغم العنف والقسوة التي دافعت بها‏..‏ وانتظرت أن يقدرا لي وقوفي بجانبهما‏..‏ ومحاولة مساعدتهما قدر استطاعتي‏,‏ دون أن أشير اطلاقا إلي أي ناحية مادية‏,‏ وأنه هو شخصيا سيقدر لي أنني قبلت به برغم ما بدر من أهله‏..‏ ولكن‏,‏ بعد الزواج‏,‏ فوجئت بأسلوب التعامل معي‏..‏ فلقد أخذا في التباعد عني‏..‏ ووضعا حدودا للصلة بينهما وبيني‏..‏ مع أنني تعمدت ألا أذهب لزيارتهما بعد الزواج كما تفعل الأم‏..‏ حتي لا أسبب لهما حرجا‏,‏ لأني أحسست بقلب الأم وشعور المرأة‏..‏ بأن هناك شيئا ما‏..‏ وانتظرت من ابنتي أن تفصح عنه‏..‏ فلم تتكلم‏,‏ وأشرت من بعيد جدا لهذا الموضوع بعد نحو اسبوعين أو أكثر‏,‏ فكذبت علي‏,‏ ولم أكرر السؤال مرة أخري‏..‏ وبعد فترة قصيرة‏..‏ علمت من مصدر بعيد بأنني كنت محقة في شعوري‏.‏ وبعد رجوعهما من شهر العسل‏,‏ كنت أعد لهما الطعام وأرسله‏..‏ كما تفعل كل أم مع ابنتها العروس‏,‏ وأطلبهما مرة واحدة كل يوم أو يومين تليفونيا‏,‏ ولمدة دقائق‏..‏ لأني أعلم أنهما مشغولان بحياتهما الجديدة‏,‏ فإذا بابنتي تقول لي‏:‏ لابد ان تبحثي عن شيء تشغلين نفسك به سوانا‏!‏ ثم كرر زوجها نفس الكلمات بعدها بيوم أو اثنين‏,‏ وصدمت صدمة عنيفة لأنني لم أثقل عليهما‏,‏ ولم أدخل بيتهما‏,‏ ثم أنني امرأة عاملة وليس لدي وقت طويل من الفراغ‏..‏ ولم أتدخل أو أوجه أي سؤال شخصي لهما‏,‏ ومن يومها‏,‏ وحتي الآن‏..‏ مر أكثر من سنة ونصف السنة‏..‏ لم أرفع السماعة لأطلبهما‏..‏ بل أنتظر حتي تطلبني ابنتي‏..‏ ولا أذهب لزيارتها إلا كل شهرين أو أكثر‏..‏ أو قل في المناسبات فقط‏..‏ وهما لا يأتيان لزيارتي إلا بعد أن أطلب ذلك أكثر من مرة‏,‏ وإذا جاءت ابنتي وحدها‏,‏ لابد أن يكون عندهما مشوار مهم‏..‏ أو زيارة‏..‏ أو أي حجة بحيث يمر عليها بعد حضورها بدقائق لتنزل معه‏,‏ ولأن عمله قريب من منزلي‏,‏ فقد طلبت منه مرتين متباعدتين أن يحضرها معه‏..‏ ثم يمر عليها بعد عمله‏..‏ ولكنه يرد علي في كل مرة‏:‏ أنها مشغولة‏..‏ برغم أنها لا تعمل‏..‏ وأنا الآن لم أعد أطلب هذه الزيارات‏..‏ التي كنت أحس أنها مرغمة عليها‏..‏ وأصبحت الآن لا تأتي لزيارتي بالشهر‏..‏ برغم أن المسافة بيننا نحو ربع الساعة‏.‏ أما سياسة الرفض‏,‏ فهذا موضوع آخر‏..‏ فأي طعام أعده لهما‏..‏ فهو لا يحبه‏..‏ وهو لا يعجبه‏..‏ برغم أننا عائلة مشهورة بإجادتنا للمطبخ‏,‏ أما الملابس‏..‏ والهدايا‏..‏ وما يخص البيت‏..‏ فكل هذا أيضا لايعجبه‏..‏ إذ أن له ذوقه الخاص‏!!‏

والمشكلة الأكبر‏..‏ هي آرائي‏..‏ حتي وإن كانت في المواضيع العامة التي لا تمسه من قريب أو بعيد‏..‏ فهي دائما خطأ‏..‏ وهو متحفز دائما‏,‏ ودائم الهجوم والمهاجمة‏..‏ وبالتالي‏,,‏ لا يمكن لابنتي أن تسألني عن شيء لئلا يغضب‏,‏ وإذا احتاجت لنصيحة في أي شأن من شئون البيت‏,‏ كان عليها أن تسأل صديقاتها أو حماتها‏,‏ وأعرف بذلك‏..‏ وأحس بالانقباض في صدري‏,‏ وبالمرارة في حلقي‏,‏ لماذا كل هذا الجفاء؟ ماذا فعلت؟‏..‏ هل هكذا تكون البنت مع أمها؟‏..‏ لقد كانت علاقتي بأمي مختلفة تماما‏..‏ فقد كانت هي مرجعي في كل شيء حتي أواخر أيامها‏..‏ لكن ابنتي تتعمد أن تشعرني بالتجاهل‏..‏ وأن تنقل إلي الإحساس بأنني غير موجودة‏.‏
وبعد سنة من الزواج‏,‏ حملت ابنتي‏.‏ وكان حملها بالنسبة لي فرحة‏..‏ إذ إنني سأكون جدة للمرة الأولي‏..‏ وهنا‏..‏ قلت لنفسي‏,‏ ربما يغير هذا الحفيد ما في نفسيهما‏..‏ ربما نشترك معا في حبه ورعايته مما يقربنا بعضنا بعضا أكثر‏,‏ وقد عايشت فرحة أمي بميلاد ابني‏..‏ أول حفيد لها‏,‏ وعايشت الكثير من صديقاتي وأقاربي‏..‏ عندما صرن جدات‏..‏

ولكن‏,‏ بدأت الحرب ضدي من اتجاه آخر‏..‏ فأنا ليست لي خبرة أو فهم في أي أمر يخص الطفل‏..‏ ولا أعرف ماذا يلبس‏..‏ أو ماذا يأكل أو كيف يتربي‏..‏ وليس من حقي الاشتراك في اختيار أي شيء يخصه؟‏..‏ ثم أنهما يفكران من الآن فيمن يتولي رعايته إذا احتاجا مثلا للخروج متجهين بفكرهما إلي الأصدقاء‏,‏ متناسين وجودي تماما‏..‏ يبدو أنني لا أؤتمن علي ابنهما‏..‏ وقد أذهلني هذا التفكير‏..‏ لقد كنت في سنهما يوما ما‏..‏ ولم آمن اطلاقا علي أولادي إلا وهم في حضن أمي‏..‏ ولكنه نفس أسلوب الهجوم والتجاهل‏,‏ أو التلطيش‏..‏ الذي اعتاداه معي‏..‏ فما من مرة التقينا معا إلا وهوجمت خلالها‏..‏ وسمعت ما لا يرضيني‏..‏ أما آخر صيحة هذه الأيام‏..‏ وهي التي يرددها بكثرة‏..‏ فهي أنني لم أعرف كيف أربي ابنتي؟‏..‏ هل تعرف لماذا؟‏..‏ لقد كنت أجهز لها طعام الإفطار أيام أجازتها قبل أن أنزل إلي عملي‏..‏ وكان الواجب أن أتركها سواء تناولت افطارها أم لا‏..‏ كما تربي هو‏..‏ أما أيام الدراسة‏..‏ فلأن اليوم الدراسي طويل‏..‏ فقد كنت حريصة علي أن تشرب كوبا من اللبن قبل أن تنزل إلي المدرسة‏..‏ وهذه أيضا غلطة كبيرة‏..‏ لماذا أطلب منها أن تشرب اللبن؟‏..‏ من أجل الكالسيوم؟‏..‏ أنه موجود في أشياء أخري‏..‏ وهو يحدثني في هذا وأنا طبيبة‏..‏ أعرف أكثر منه ما ينفع وما هو ضروري‏..‏ لكن طبعا‏..‏ لا أحد يفهم غيره‏..‏ أنا أعرف سبب مهاجمته لأسلوبي الخاطيء في التربية في هذا التوقيت‏..‏ فهو يريد أن يقول لي لا تتدخلي في تربية ابني القادم‏..‏ وأنا أفهم هذا جيدا‏..‏ واستوعبه‏..‏ واعتزمه‏..‏ بل أعد نفسي له‏..‏ وكلما تمر الأيام‏,‏ تزداد الفجوة‏,‏ وتتسع الهوة حتي اسودت الدنيا كلها في عيني‏..‏ وصارت نفسي حزينة‏..‏ لم يعد شيء يفرحني‏..‏ هل هذا مصيري بعد أن أمضيت عمري كله الانسانة المحترمة العاقلة‏,‏ سواء في بيت أبي أو زوجي أو بين أقاربي وزملائي؟‏..‏

لقد أصاباني بحالة شديدة من اليأس والإحباط‏..‏ برغم أنني أفهم كل دوافعه‏..‏ وأعرف أن كل هذه عقد نقص‏..‏ وأنه يفرغ في كل طاقاته المكبوتة وكراهيته لظروفه التي لست المسئولة عنها‏..‏ لقد أخذا علي عاتقهما أن يحولا كل سبب للفرحة في حياتي‏.‏ إلي حزن وكآبة‏..‏ فإلي متي سيظل زوج ابنتي يصارع‏..‏ ما الذي يريد أن يثبته لي؟‏..‏ وحتي متي ينتقم من كل ظروفه في شخصي؟‏..‏
إنني أنظر حولي‏..‏ فلا أجد أمهات كثيرات يهتممن بأبنائهن‏..‏ وأري أبناء يتمنون لو كان لديهم من يهتم بأمرهم‏..‏ وأنا شخصيا سمعت هذا أكثر من مرة‏..‏ فكنت أفهم أن يقدر هو هذا الاهتمام الذي حرم منه شخصيا‏,‏ أما الذي يحزنني بالأكثر‏..‏ فهو موقف ابنتي‏..‏ وكيف أنها لا تستطيع التمييز ولا تذكر لأبيها وأمها أي شيء جيد فعلاه معها؟‏..‏ هل هي عقدة عند بعض الناس‏,‏ أن يتذكروا فقط بعض الهفوات‏..‏ وألا يرد إلي ذهنهم أبدا التضحيات الكثيرة؟‏.‏ إن شريط الذكريات يمر أمامي‏..‏ كيف تعبت معهم؟ كيف أنني لم أقصر أبدا في حقهم؟‏..‏ ولم أهملهم ولم أتركهم للشغالة أو للشارع‏..‏ مواقف كثيرة جدا تدور في مخيلتي‏..‏ أري نفسي فيها أما محبة‏..‏ مضحية‏..‏ وأسأل نفسي‏..‏ لماذا لا تسأل ابنتي نفسها‏..‏ هل كانت ستصير كما هي الآن لو لم أكن قد أحسنت تربيتها؟
لقد أطلت عليك سيدي‏..‏ فأرجو المعذرة‏..‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏
يجب أن نوطن أنفسنا علي عدم التأثر بجلافة بعض من تفرض علينا ظروفنا التعامل معهم والتسليم بوجودهم في دائرة تعاملاتنا الانسانية‏,‏ إذ إننا مادمنا قد خبرناهم وعرفنا طبيعتهم البرية وادركنا جيدا أنها لن تتغير أو تتبدل‏,‏ فانه لا يكون من الحكمة أن نتعذب إلي ما لا نهاية بغلظتهم وفظاظتهم وجفائهم غير المبرر‏..‏ وإنما علينا أن نقصر تعاملاتنا معهم علي أضيق الحدود‏,‏ ونتفادي بقدر الإمكان أشواكهم التي تدمينا‏,‏ كما تدمي أشواك القنفذ من يربت علي ظهره غافلا عن أذاها‏,‏ أو كسب مشاعرهم أو إقناعهم بحسن نياتنا‏,‏ لأننا لن ننجح في ذلك ولن نسلم من جرحهم لمشاعرنا بتصرفاتهم الفظة وكلماتهم الدامية‏.‏
وكل ذلك ينطبق علي زوج ابنتك الذي لم يغفر لك قط سابق اعتراضك عليه كمرشح للارتباط بابنتك‏.‏ ومازال يجتر مراراته ضدك بسبب هذا الموقف‏,‏ وبسبب ما يتوهمه من رغبتك في التدخل في حياة زوجته أو السيطرة عليها‏,‏ ولو أنصف لتعامل مع سابق تحفظك عليه بتسامح أكبر‏..‏ وبفهم أعمق لدوافعك كأم تطلب لابنتها دائما الأفضل والأرفع‏..‏ وقد تصيب أو تخطيء في تقديرها لكنه يشفع لها دائما حسن النية والرغبة الصادقة في إسعاد ابنتها‏,‏ وما أكثر الأزواج الذين اعترضت عليهم أم الزوجة في البداية وتفهموا دوافعها وكسبوا حبها وثقتها وفتحوا لها قلوبهم بعد حين‏,‏ وما أكثر الأزواج أيضا الذين صدقت فيهم فراسة الأم‏,‏ واقتنعت الابنة بصواب حكمها عليهم بعد فوات الأوان‏..,‏ لهذا فلقد كان من واجب زوج ابنتك أن يقنعك بحسن معاملته لك وحثه لزوجته علي أن تصلك وتقترب منك وتستعين بك علي مواجهة أعباء الحياة‏,‏ بخطأ تقديرك السابق له‏..‏ لا أن يؤكده لك بجفائه وغلظته ونفوره وتحريضه لزوجته علي تحجيم علاقتها بأمها في أضيق الحدود‏.‏

أما ابنتك فاني أنصحك بألا تستجدي مشاعرها وبألا تظهري دائما بمظهر المتلهفة عليها التي تخطب ودها علي الدوام‏..‏ وبأن تتماسكي بعض الشيء في التعامل معها‏,‏ ذلك أن إلحاحنا بالحب والاهتمام علي بعض الأشخاص‏,‏ إن لم يصادف أهل الفضل الذين يفهمون حقائق الحياة حق فهمها‏,‏ فانه يثير فيهم البطر والنفور منا‏..‏ بدلا من أن يجتذبهم إلينا‏..‏ تماما كالدنيا التي يقول بعض الصالحين انك إذا أقبلت عليها أدبرت عنك‏,‏ وإذا ادبرت عنها أقبلت عليك‏,‏ وإن كنت لا أغفر لها تحفظها معك‏..‏ وبرود مشاعرها تجاهك‏,‏ وإبعادها لك عن حياتها حتي لتستشير الأغراب في أمرها‏..‏ ولا تلجأ إلي أمها التي ينبغي أن تكون سندها الأول في الحياة‏.‏
ولقد ذكرتني رسالتك هذه بأبيات من الشعر لشاعر عربي قديم يشكو جفاء ابنه له حتي ليتمني عليه أن يعامله كما يعامل الجار جاره إن عز عليه أن يعامله كأب‏,‏ فيقول‏:‏

تخاف الردي نفسي عليك وانها
لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن في الغاية التي
إليها مدي ما كنت فيك أومل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة
كأنك أنت المنعم المتطول
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي
كما يفعل الجار المجاور تفعل

وفي عبارة كأنك انت المنعم المتطول وصف لحالة بعض الأبناء الذين يسيئون فهم عطاء الآباء والأمهات النفسي لهم ويضيقون به أو يتلقونه كارهين‏,‏ وكأنهم هم المنعمون علي آبائهم وأمهاتهم بقبوله وليس العكس‏!‏ مع أن اهتمام الآباء والأمهات بأبنائهم مهما بلغوا من العمر عطاء وتكريم متجددان لهم‏..‏ والمثل العربي القديم يقول لا يأبي الكرامة إلا لئيم والمقصود بكلمة الكرامة هو التكريم والإعزاز والتقدير‏.‏
فهوني علي نفسك يا سيدتي ولا تحزني لما تشهدينه من تلميحات جارحة عن تربية الأطفال‏,‏ وليسعد كل انسان بما يعتقده في نفسه وفي الآخرين‏..‏ ووالله الذي لا إله سواه أنك لو كنت أما مشغولة بنفسها وعملها وحياتها عن ابنتها المتزوجة لجأرت هي بالشكوي من إهمال أمها وشح عطائها الأمومي لها‏,‏ ولأيدها زوجها في شكواها هذه ورسخها في نفسها‏,‏ لكن هكذا تمضي أمور الحياة في بعض الأحيان‏.‏ فاصبري وانتظري ولسوف تحتاج إليك ابنتك وزوجها وطفلهما المرتقب في قادم الأيام‏..‏ ولسوف يجيء يوم يرجوانك فيه أن ترعي طفلهما في غيابهما لكي يخفف الزوج عن أبويه في بعض الأحيان عبء رعايته‏,‏ أو لاضطرارهما للسفر أو غير ذلك من شواغل الحياة‏..‏ والمهم دائما هو ألا تستجدي المشاعر وألا تتلهفي علي تقديم العطاء‏,‏ بحيث يزهد فيه من يتلقاه أو يتقبله في أنفة وكبرياء وكأنه هو المنعم المتطول‏!‏
المزيد ....