السبت، ١ أبريل ٢٠٠٠

الذكريـــات المريـــرة‏!‏

12-03-2004
قرأت رسالة ماكينة الخياطة للطبيب الذي يروي قصة كفاحه في الحياة حتي استطاع أن يكمل تعليمه ويصنع نجاحه بمساعدة رجل فاضل‏,‏ كان يرسل اليه علي غير سابق معرفة مبلغا شهريا خلال دراسته للطب‏..‏ إلي أن استطاع أن يعتمد علي نفسه ويكسب رزقه من تفصيل البنطلونات للطلبة علي ماكينة خياطة في غرفته بالمدينة الجامعية‏..‏ وكيف يبحث الآن عن هذا الرجل الكريم ليرد له أو إلي أي فرد من أسرته دينه عليه‏.‏ ولقد حسمت هذه الرسالة ترددي في أن أكتب لك بالرغم من مراودة الفكرة لي منذ فترة طويلة‏..‏ ففي قصتي مع الحياة أنا أيضا ما قد يفيد بعض القراء‏..‏
وأبدأ من البداية فأقول لك إنني نشأت ابنا وحيدا لأب يعمل موظفا حكوميا‏..‏ وأم لا تعي الذاكرة منها إلا أطيافا غائمة‏..‏ لأنها رحلت عن الحياة وأنا في السادسة من عمري‏,‏ وعشت وحيدا مع أبي الطيب‏..‏ يرعاني ويهتم بأمري ويصاحبني في أوقات المذاكرة‏,‏ ويصطحبني معه في زياراته لشقيقه‏..‏ وشقيقته أو أصدقائه‏..‏ ولا يطمئن إلا إذا كنت أمام ناظريه‏..‏ فحتي حين يذهب إلي المقهي ليلعب الطاولة مع بعض أصدقائه كان يجلسني إلي جواره‏.‏

وهكذا عشنا معا صديقين متلازمين حتي بلغت سن الثالثة عشرة‏,‏ وعدت من المدرسة ذات يوم فوجدت مسكننا يعج بالرجال والسيدات‏..‏ ومن بينهن عمتي التي استقبلتني بالبكاء‏..‏ واحتضنتني وأبلغتني أن أبي قد توفاه الله فجأة وهو جالس إلي مكتبه في عمله‏..‏ وأنني الآن قد صرت رجلا وطالبتني بألا أبكي‏..‏ وأن أقف بين الرجال لتلقي العزاء في أبي‏..‏ وبالفعل فإنني لم أبك حين عرفت بما حدث‏,‏ وانما أصابني الذهول‏..‏ وراح جسمي ينتفض لا إراديا طوال اليوم واستضافتني عمتي في بيتها لفترة نعمت خلالها بعطفها علي وحنانها‏..‏ ثم قيل لي إنني يجب أن أنتقل للإقامة في بيت عمي‏,‏ لأن زوج عمتي يتضرر من وجودي بين بنتيه اللتين تكبرانني ببضع سنوات‏,‏ وانتقلت إلي بيت عمي الذي تولي الوصاية علي‏..‏ وكان أبي قد ترك لي معاشا ضئيلا لا يتجاوز‏11‏ جنيها ونصيبا علي المشاع في فدان من الأرض كان قد ورثه مع عمتي وعمي‏,‏ وفي بيت عمي هذا أدركت معني اليتم الحقيقي وافتقاد النصير‏,‏ فلقد واجهني من اليوم الأول بأنه لا مكان لي للمبيت سوي الأرض في غرفة ابنيه‏,‏ لأن الفراش لا يتسع لغيرهما‏..‏ والغرفة الأخري مخصصة لبنتيه‏,‏ فلم أعترض لكن ليالي الشتاء القاسية كانت تشق علي فطلبت منه أن يشتري لي مرتبة صغيرة أنام عليها‏,‏ فرفض بحجة أن الحالة لا تسمح بذلك‏,‏ وشيئا فشيئا وجدتني أتحول تدريجيا إلي خادم للأسرة وليس عضوا فيها من دمها ولحمها‏..‏ فزوجة عمي تنتظر عودتي من المدرسة لتكلفني بأعمال البيت وشراء الخضار وكي ملابس ابني عمي وابنتيه‏..‏ وغسل الأطباق‏,‏ ناهيك عن يوم التنظيف الاسبوعي الذي يتعين علي فيه أن أمسح تحت اشرافها الشقة كلها‏,‏ وابناؤها يتسلون بمشاهدة التليفزيون‏..‏ فإذا خلوت من كل الواجبات وبدأت أذاكر دروسي في الصالة لم أسلم من لومها لي لإسرافي في استخدام الكهرباء‏,‏ وشكواها من فاتورتها‏..‏ فاختلس ساعة للمذاكرة علي الأكثر وأسرع بإطفاء النور‏..‏ وقد تقطع علي مذاكرتي بتكليفي بالخروج لشراء شيء للبيت أو للأولاد‏.‏

أما عمي فقد رفض أن يعطيني مصروفا يوميا أو اسبوعيا‏,‏ بحجة أنني أتناول الطعام والشراب في البيت‏..‏ في حين كان أبناؤه جميعا يحصلون علي مصروفهم وينفقونه علي شراء الحلوي والأشياء الصغيرة‏..‏ وحتي الحلاقة كان يرفض أن يعطيني أجرتها‏..‏ ولما طال شعري كثيرا وأصبح منظري منفرا أحضر شفرة حلاقة وطلب مني أن أحلق لنفسي مستعينا بوضع الشفرة علي حد المشط وتمريره فوق شعري‏..‏ ولم أجد مفرا من أن أفعل ذلك‏..‏ أما الكتب والكراريس فلقد قال لي صراحة إن معاشي ونصيبي من الأرض لا يكفيان لطعامي وشرابي‏,‏ وعلي أن أتصرف في بقية احتياجاتي‏,‏ فكنت أجمع الكشاكيل القديمة لابني عمي وأنزع منها الصفحات البيضاء وأصنع منها كراسات‏..‏ وأستعير الكتب من زملائي‏..‏ وأعرض خدماتي يوم الجمعة كل أسبوع علي محال المكوجية والبقالة والفاكهة لأعمل لديها مقابل‏5‏ قروش‏..‏ بل لقد عملت في محل لتصليح الأحذية أربع جمع مقابل اصلاح حذائي المخروق بالمجان‏..‏
ناهيك عن أنني أمضيت السنوات الثلاث الأولي من إقامتي عند عمي دون شراء أية قطعة ملابس حتي صغرت علي ملابسي بشكل فاضح‏,‏ لأن الشاب ينمو جسمه بسرعة خلال هذه المرحلة‏..,‏ ورجوت عمي مرارا أن يشتري لي بنطلونا وقميصا مناسبين لطولي وحجمي دون جدوي‏,‏ وزاد الطين بلة أن جسمي ابنيه بالرغم من أن أحدهما يماثلني في السن والآخر يصغرني بسنة‏,‏ ضئيلان بحيث لا أستطيع الاستفادة من ملابسهما القديمة‏,‏ وحين أصبح منظري مثيرا للرثاء توجهت إلي عمتي وشكوت لها حالي‏,‏ فبكت وقدمت لي جنيهين هما كل ما تستطيع مساعدتي به‏,‏ فأخذتهما وتوجهت إلي سوق الكانتو واشتريت بهما بنطلونا وقميصا من مخلفات المعسكرات‏,‏ ومضت بي الحياة علي هذا النحو‏..‏ وزاد من معاناتي أنني لم أتعثر دراسيا في حين كان ابنا عمي ينجحان سنة ويرسبان أخري‏..,‏ وبدلا من أن يعترف لي عمي وزوجته باجتهادي برغم ظروفي القاسية ازدادا نفورا مني حتي لم يعد أحدهما يطيق النظر في وجهي‏.‏

وجاءت اللحظة الفاصلة حين عدت ذات يوم من مدرستي فوجدت عمي وزوجته وأبناءه علي هيئة مجلس للعائلة يتناقشون بصخب وعمي ثائر لكثرة المصروفات وزوجته تدافع عن نفسها‏,‏ بأنها تفعل المستحيل لتدبير معيشة الأسرة بأقل التكاليف‏,‏ لكن ابن أخيك يسرق الطعام من المطبخ في الليل‏..‏ ويأكل كثيرا‏..‏ ولو لم يكن يفعل ذلك لما نما جسمه علي هذا النحو الهائل‏!‏
ياربي‏..‏ أسرق الطعام؟ إنني أحافظ علي صلاتي منذ كنت في السابعة من عمري وأصوم رمضان وصيام التطوع وكثيرا ما صمت يومي الاثنين والخميس‏,‏ وكثيرا ما اكتفيت بوجبة واحدة وتغاضيت عن تفضيل زوجة عمي لأبنائها بأطايب الطعام والقائها لي ببقاياه‏..,‏ وكثيرا ما تحلب ريقي وهي تجمع أبناءها في غرفة الأولاد في المساء ليتناولوا عشاء خاصا‏,‏ وأنا جائع في الصالة ولا يفكر أحد في دعوتي للانضمام إليهم‏..‏ وبعد ذلك أتهم بسرقة الطعام‏,‏ كان هذا آخر احتمالي فانهرت باكيا‏,‏ وقلت لعمي وللجميع إنني تحملت الذل صابرا في هذا البيت مراعاة لظروفي ويتمي‏,‏ لكن أن يصل الأمر إلي حد هذا الاتهام المقزز فلا‏..‏ ولسوف أغادر البيت وأرجع إلي شقة أبي وأواجه حياتي معتمدا علي نفسي وأريد منه أن يعطيني معاشي كل شهر لأدفع إيجار الشقة وتكاليف الحياة‏.‏

وجمعت ما تبقي لي من هلاهيل وكتبي ومددت يدي إلي عمي وكنا في منتصف الشهر طالبا نصف المعاش‏,‏ وبعد عذاب قبل بمغادرتي لمسكنه‏,‏ لكنه رفض أن يعطيني معاشي كاملا وهو‏11‏ جنيها‏,‏ وقال لي إنه سيخصم منه ثلاثة جنيهات كل شهر مقابل نفقاتي الاضافية خلال إقامتي لديه‏!‏
ولم أجد مفرا من القبول‏..‏ وأخذت مفتاح شقة أبي‏..‏ وتوجهت إلي صاحبة البيت التي تقيم في الدور الثاني منه‏,‏ وكنت أمر عليها من حين لآخر وأشرب لديها الشاي وتعطف علي‏,‏ فرويت لها ما حدث وقلت لها إنني سأعيش وحدي في الشقة بغير مورد سوي ثمانية جنيهات سأدفع لها منها أربعة مقابل الايجار وأعيش بالباقي‏,‏ وسأعمل لأغطي بقية نفقاتي‏,‏ فبكت وترحمت علي أمي وأبي وطلبت ألا أدفع لها الإيجار إلي حين تتحسن أحوالي وأصبح قادرا علي ذلك‏.‏

ووحيدا تماما من الأهل والأقارب واجهت الحياة في هذه الشقة الصغيرة‏..‏ وشعرت برغم قلة الدخل وجفاف الحياة بالأمان والاستقرار‏,‏ وحصلت علي الثانوية العامة بمجموع كبير يؤهلني للالتحاق بكلية الهندسة‏..‏ وسعدت بذلك‏..‏ وخلت نفسي من الشماتة لنجاح ابن عمي بمجموع ضعيف لا يؤهله إلا للالتحاق بأحد المعاهد‏..‏
وتفضل عمي‏,‏ الذي كان يراوغني كل شهر في دفع المعاش وأطارده عدة مرات حتي يدفع‏,‏ بزيارتي في مسكني زيارة خطيرة لينصحني من أجل مصلحتي بالاكتفاء بهذا القدر من التعليم والبحث عن وظيفة كتابية‏..‏ أو الالتحاق بأي معهد لمدة سنتين والعمل‏,‏ وشكرت له حرصه علي مصلحتي وأكدت له أنني سأفعل ما فيه صالحي بإذن الله‏.‏

وفي اليوم التالي قدمت أوراقي لمكتب التنسيق وحددت رغبتي الأولي وهي كلية الهندسة‏.‏ وقبلت بها‏..‏ ولن أروي لك عما تكبدته من عناء وحرمان وكفاح خلال دراستي للهندسة مستعينا بالعمل في المساء في مكتب هندسي‏..‏ وفي هذا المكتب نشأت صداقة حميمة بيني وبين زميلين بنفس الكلية والمكتب أصبحنا بفضلها أخوة مخلصين وتعاهدنا علي أن يساعد أحدنا الآخر إذا حقق نجاحا يسمح له بذلك‏.‏
وحصلت علي بكالوريوس الهندسة بتقدير جيد جدا‏,‏ وعينت معيدا بنفس الكلية وبدأت التحضير للماجستير في حين رفض صديقاي العمل في مصر‏..‏ وسافرا لاستكمال دراستهما العليا والعمل في أمريكا‏.‏

وفي غمرة سعادتي بتوفيق الله سبحانه وتعالي لي وشكري له علي أن أعانني علي تحمل ظروفي حتي وصلت إلي بر الأمان‏,‏ زارني عمي لا ليهنئني بالنجاح والتعيين‏,‏ وانما ليطلب مني أن أرد له الجميل بخطبة ابنته الكبري التي صادفها حظ عاثر في زواجها وطلقت من زوجها ولديها طفلة في الثالثة من عمرها‏..‏ مؤكدا لي أن هذا هو واجبي نحوه وابتسمت رغما عني وقلت له انني اعتبر ابنته أختا لي ولا أستطيع التفكير فيها أبدا كأنثي‏..‏ لهذا فاني أشكره علي حسن ظنه بي واعتذر عن هذا الشرف الذي لا أستحقه‏..‏ وعبثا حاول إقناعي فوجدني صامدا لا أتغير فغادرني ناقما علي جحودي‏!‏
وحصلت علي الماجستير وبدأ صديقاي المقيمان في أمريكا يكتبان إلي طالبين مني اللحاق بهما‏..‏ وأرشداني إلي جامعة قريبة من مقرهما لأكتب لها طالبا منحة دراسية لدراسة الدكتوراه فيها‏..‏ فكتبت إليها وفوجئت بقبولها لي فاعددت أوراقي للسفر وسافرت واجتمع شملنا من جديدا وأقمت معهما في شقتهما‏..‏ والتحقت بالجامعة‏,‏ وتوالت الأحداث سريعة بعد ذلك‏,‏ فحصلت علي الدكتوراه‏,‏ وألح علي صديقاي بالبقاء في أمريكا والعمل في احدي جامعاتها وقلبت الفكرة في رأسي فتساءلت‏:‏ لمن أعود في مصر وليس لي فيها أب ولا أم ولا أخ‏..‏ ولا عم ولا خال‏,‏ ولماذا لا أستمر هنا بضع سنوات حتي إذا ثقلت علي الغربة رجعت إلي بلدي في أي مرحلة من العمر؟

وهكذا راسلت بعض الجامعات فتلقيت عرضا بتعييني أستاذا بجامعة أخري بنفس المدينة‏,‏ واستمرت بذلك صحبتنا نحن الثلاثة‏..,‏ وبعد أن استقرت أحوالنا بحثنا عن أقرب مسجد لمدينتنا لكي نؤدي فيه صلوات الجمعة بعد أن كنا نؤديها في بيت أحد المصريين المهاجرين‏,‏ واهتدينا إلي مسجد علي بعد‏40‏ كيلو مترا من مدينتنا‏,‏ فأصبح قبلتنا وواحتنا‏,‏ نتوجه إليه يوم الجمعة وفي الأعياد والمناسبات‏..‏ ونطهو الطعام في رمضان في مسكننا ونحمله إليه لنتناول افطارنا مع رواده‏,‏ وجمعتنا صداقة متينة بإمام المسجد وهو مصري مهاجر منذ‏30‏ عاما ومثقف ويجيد الانجليزية‏,‏ وفي احدي جلسات الصفاء معه رويت له ذكرياتي المريرة في بيت عمي ويتمي وقلة حيلتي وهواني علي الناس‏..‏ فربت علي كتفي وقال لي إنه لا بأس بأن أتذكر ذلك من حين لآخر لكي أدرك نعمة الله التي أسبغها علي الآن وأقدرها حق قدرها‏,‏ ولكن بشرط ألا تفسد علي هذه الذكريات صفاء نفسي أو تدفعني لكراهية رموز هذه الذكريات ومحاولة الانتقام منهم‏.‏
والحق إن هذه الكلمات قد أثرت في كثيرا‏..‏ وغالبت نفسي لكيلا تحمل الحقد أو الكراهية لأحد مهما فعل بي في الماضي‏,‏ بل إنني سامحت عمي وزوجته وأبناءه فيما فعلوه معي‏,‏ ولقد تزوجت بواسطة هذا الشيخ الفاضل من فتاة مصرية طيبة متدينة أرشدني إليها الشيخ‏,‏ ورجعت إلي مصر بعد أن وفقت أوضاعي في أمريكا‏..‏ ومع كليتي السابقة في مصر ودفعت راضيا الغرامة التي يدفعها من لا يعود للكلية بعد الحصول علي الدكتوراه‏,‏ وزرت أهل هذه الفتاة في بلدة صغيرة بجوار طنطا‏..‏ وقدمت نفسي لوالدها بأنني من طرف الشيخ فلان في أمريكا‏..‏ فرحب بي وكان علي علم بمقدمي ودخلت الفتاة تحمل صينية الشاي فوقع القبول في قلبي من أول وهلة‏.‏

والآن فلقد مضت سبع سنوات علي زواجي أنجبت خلالها ولدين‏..‏ وأحيا حياة سعيدة مع زوجتي الطيبة القنوع‏..‏ وطفلاي يملآن حياتي بهجة وسرورا ونعيش في بيت صغير جميل له حديقة اشتريته بالتقسيط‏,‏ وأركب سيارة فارهة وأخواي اللذان عوضني بهما ربي عن وحدتي قد تزوجا وأنجبا وأصبحنا عصبة عائلية واحدة نلتقي عائليا بانتظام‏,‏ ولقد رجعت إلي مصر خلال هذه الفترة عدة مرات وأقيم كل مرة في شقة أبي القديمة التي جددتها وأعدت تأثيثها‏..‏ وأحرص علي زيارة صاحبة البيت الطيبة وتقديم الهدايا لها‏..‏ ولقد رفعت بمبادرة مني ايجار الشقة من‏4‏ جنيهات الي‏40‏ جنيها وأدفع لها الإيجار لمدة سنة مقدما‏.‏
وأزور عمي وزوجته وابناءه حاملا لهم جميعا الملابس والهدايا وأرقب فرحتهم بها وأراهم جميعا يتهللون لرؤيتي‏,‏ وأري ابناء عمي الذين لم يسمحوا لي بالاقتراب منهم أو صداقتهم يتوددون الي‏,‏ فتطوف بي الذكريات المريرة لكني أسارع بنفضها من رأسي لكيلا تفسد علي استمتاعي باللحظة‏.‏

وفي كل مرة انفح عمي مبلغا محترما من المال ليستعين به علي زواج ابنائه‏..‏ فيرفع يديه بالدعاء لي كما تركت له نصيبي من الأرض‏,‏ أما عمتي الطيبة‏,‏ فقد رحلت عن الدنيا‏,‏ وأنا مازلت ألاطم أمواج الحياة خلال دراستي للهندسة‏..‏ وكم تمنيت لو كانت قد عاشت حتي تراني‏,‏ وقد صنعت نجاحي واصبحت قادرا علي إعالة نفسي وأسرتي‏,‏ غير أنني أعوض غيابها ببر ابنائها وزيارتهم حين أجيء الي مصر وتقديم الهدايا والمنح المالية لهم‏..‏
وأريد أن أقول في النهاية لمن يواجهون ظروفا صعبة في حياتهم انه بالايمان والصبر والجلد والكفاح وانتظار الفرج لابد أن يعبروا هذه الظروف أويتخففوا منها‏..‏ وأن المهم دائما هو ألا يحمل الانسان مشاعر الحقد والكراهية لأحد حتي ولو كان ممن أساءوا اليه أو قسوا عليه خلال ضعفه‏..‏

ويكفي ان يمضي الانسان نحو اهدافه في الحياة لا ينشغل بغيرها فيعينه ذلك علي النجاح وتحقيق الأحلام مهما تكن‏,‏ ذكريات الماضي مريرة‏..‏ أو مؤلمة‏.‏
وهذا ما فعلته وهذا ما أردت ان اضعه تحت أنظار قرائك لعلهم يجدون فيه بعض مايستفيدون به ـ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
خير ما ننتقم به ممن أساءوا الينا وظلمونا ونفروا منا ونحن في ضعفنا وشدة حاجتنا إلي العون والمساندة‏,‏ هو أن نصنع حياتنا بغير الاعتماد عليهم ونحقق اهدافنا ونجاحنا معتمدين علي أنفسنا‏,‏ حتي ليشعروا بالندم علي أنهم لم يشاركوا ولو بالكلمة الطيبة فيما حققناه من نجاح‏..‏ ولم يكن لهم أي فضل فيما أصبنا من توفيق‏,‏ ولم يعد يحق لهم ان يعتزوا بدورهم في مساندتنا‏..‏ وأن يشاركونا بعض ثمراته‏.‏
والحق أن من أهم العوامل المساعدة علي النجاح وتحقيق الأهداف‏,‏ الي جانب الايمان بالله سبحانه وتعالي‏,‏ والصبر والجلد والكفاح الشريف‏,‏ ألا يبدد الانسان بعض طاقته النفسية في بغض من أساءوا اليه والانشغال بالتفكير في رد الاساءة إليهم‏,‏ او اجترار المرارات التي تجرعها منهم‏..‏

فكل ذلك يخصم من تركيز الانسان علي أهدافه في الحياة‏..‏ ويضعف من قدراته علي النجاح ويسمم روحه وافكاره حتي اذا حقق لنفسه كل أو معظم ما أراده لها لم يجد نفسه سعيدا بما حقق‏,‏ لأن مراراته القديمة قد انعكست علي الأشياء من حوله وأفسدت عليه قدرته علي الابتهاج بالحياة‏,‏ لهذا قال أحد الحكماء إن الحقد هو ثروة الحاقدين‏,‏ التي لا يجنون سواها‏,‏ في حين يجني المترفعون عنه والمتسامحون مع البشر والحياة بصفة عامة ثمار التوفيق في الدنيا ورحيق صفاء النفوس‏,‏ وكان العادل العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدعو ربه بقوله‏:‏ رب قدرني علي من ظلمني لأجعل عفوي عنه شكرا لقدرتي عليه‏..‏ وأي شكر لما أنعم الله سبحانه وتعالي عليك أعظم من أن تبر عمك الذي ظلمك وقتر عليك ولم يترفق بك وأنت في ضعفك ويتمك وقلة حيلتك؟
وأي شكر له سبحانه وتعالي أجل من أن تكون يدك وأنت من كنت المنبوذ منهم هي العليا فوق ايديهم جميعا‏..‏ حتي ليتهللوا لرؤيتك ويخطبوا ودك‏,‏ وقد كانوا من قبل لايسمحون لك بالاقتراب منهم؟

لقد صنعت حياتك بيدك ومعتمدا علي نفسك بلا أي معين أو نصير سوي الله سبحانه وتعالي الذي لا يضيع أجر الصابرين‏,‏ فكنت كمن وصفه الشاعر القديم الطغرائي بقوله‏:‏
وإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعول في الدنيا علي رجل‏!‏

وشققت طريقك وسط الصخور فذكرتنا بما قاله نابليون بونابرت ذات يوم أنه تستطيع بالإبرة أن تحفر بئرا بشرط الجلد والمثابرة وطول النفس‏.‏
لقد كنت تستطيع ان تجفو عمك وزوجته وابناءه الي الأبد وتقطع مابينك وبينهم‏,‏ ولربما أيدك في ذلك بعض من يعرفون تاريخهم معك أو لم يستنكروه‏,‏ لكن أصحاب النفوس الكبيرة لايفعلون ذلك‏,‏ ولا يقطعون رحم من قطع رحمهم أو أساء اليهم‏..‏ ويتذكرون دائما الحديث الشريف الذي يقول‏:‏ ليس الواصل المكافيء بمعني انه ليس من يصل رحم من قطع رحمه أو باعده‏,‏ كمن لا يصل إلا رحم من يصله فيكافئه علي الوصل بالوصل‏,‏ ويطلبون لأنفسهم دائما أجر الواصل لأنه أكبر واعظم‏,‏ كما أن كل اناء ينضح بما فيه في النهاية‏..‏ ومن كان إناؤه ممتلئا بالشهد الصافي لا ينضح إلا العفو والخير والعطاء‏,‏ ومن كان إناؤه ممتلئا بالحقد والبغض والكراهية لا ينضح إلا السم الزعاف‏.‏

فهنيئا لك ياصديقي ما أصبت من توفيق في الحياة بكفاحك الشريف وصبرك علي المكاره‏..‏ وثقتك في قدراتك‏,‏ وصفاء نفسك وخلوها من الأحقاد والمرارات‏..‏ وشكرا لك علي هذه الرسالة المفيدة‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق