09-07-2004
أنا سيدة عمري35 عاما.. تقدم لي وأنا في العشرين من عمري شاب طالبا يدي ورحبت به.. لكن أهله عارضوا اختياره لي لأنني أعاني من إعاقة قديمة في قدمي من أثر الإصابة بشلل الأطفال. وتمسك بي ـ هوـ أكرمه الله وأصر علي خطبتي وتخلي في سبيل ذلك عن مساعدة الأهل له, وضحي بالشقة المخصصة لزواجه في بيت أبيه من أجلي, وتحمل حرمان أهله له من أية مساعدة في الشبكة والمهر, واستمرت الخطبة عامين تمكننا خلالهما من الإعداد لزواجنا, وتعمقت المشاعر بيننا وتزوجنا وسعدنا بحياتنا معا.. واغدقت عليه طوفانا من الحب والمشاعر وبادلني هو حبا بحب أكبر, وأنجبنا بنتا ثم ولدا اكتملت بهما سعادتنا.. ثم ظهرت في حياتنا مشكلة كدرت علينا صفونا إذ تعرضنا لمشكلة تتعلق بالشقة التي تزوجنا فيها, وأصبح لزاما علينا أن نخليها ونبحث عن مأوي آخر لنا.. فقررت بيع كل ما أملك من مصوغات ذهبية وأثاث وأجهزة منزلية لكي أدبر شقة أخري في المدينة التي نقيم فيها.. وبعت كل ذلك بالفعل, فهل تدري من كان المشتري له؟.
لقد كان أبي وأمي,فقد اشتريا أشياءنا وقدما لنا الثمن, ورفضا أو رفض أبي علي الأصح أن يعينني وهو القادر ماديا علي توفير سكن لنا بغير أن يحصل علي مقابل.. وقبلت ذلك, وانتقلنا أنا وزوجي وأولادي إلي المسكن الجديد وأقمنا فيه بلا أثاث وكنا ننام علي مرتبة فوق السجادة, وبالرغم من ذلك كنا في قمة السعادة بحياتنا معا وبأبنائنا غير أن الحياة لم ترض لنا حتي بهذا المأوي الخالي من الأثاث, واكتشفنا أن من باع لنا الشقة لم يكن صاحبها الأصلي واننا وقعنا ضحية لعملية نصب سامح الله من دبروها لنا.. وأصبحنا مطالبين بترك الشقة والبحث عن مأوي جديد واضطررنا إلي إخلاء الشقة وتسليمها لأصحابها وخرجنا إلي الشارع أنا وزوجي وأبنائي لا نعرف إلي أين نذهب أو إلي أين نتجه, ولم يرق لنا قلب أبي وأمي وفشلت كل محاولاتي معهما لكي يساعدانا علي تدبير سكن آخر لنا أو يقبلا استضافتنا لديهما مؤقتا حتي نجد المأوي, وفشلت كذلك محاولات زوجي مع أهله في أن يحصل منهم علي أي عون, فالكل يريدون لنا أن ننفصل, ويرجع كل منا إلي أهله كشرط لمساعدتنا, لكننا لم نقبل هذا الشرط القاسي وتمسك كل منا بالآخر مهما كانت العواقب, وأمضينا عدة ساعات في الشارع بلا مأوي إلي أن تعطف علينا أبي في النهاية وسمح لنا بالإقامة في بيت مهجور مهدم يملكه في أحد أطراف المدينة التي نقيم فيها. وقبلنا ذلك شاكرين
وتوجهنا إليه, فوجدناه عبارة عن جدران منهارة وبلا سقف ولا ماء ولا كهرباء.. فأعاننا الله علي أن نقوم بتغطية جزء منه بما يشبه السقف من الخشب.. وأقمنا فيه وكنا نحصل علي حاجتنا من الماء من الجيران.. ونستضيء بلمبة جاز.. نصحح علي ضوئها الشاحب كراريس التلاميذ, وأنا وزوجي مدرسان.. وتحملنا هذا العناء صابرين وكنا نهون الأمر علي أنفسنا بأننا مادمنا معا ويحب كل منا الآخر, وأبناؤنا بخير فإن كل شيء يهون بعد ذلك.. غير أن شيئا واحدا نغص علينا حياتنا وأثار فزعي أنا علي وجه الخصوص هو الفئران التي تنتشر في المبني المهدم إلي جانب الخوف من الثعابين.. وشكوت حالي لأمي.. ونقلت شكواي لأبي فجاء لزيارتنا, فما أن رأيته مقبلا نحونا ومعه جوال يمسك به في يده حتي فرحت فرحا شديدا, وأيقنت أنه قد جاء ليرحمني من هذه الظروف القاسية.. ولم أتوقف أمام تعجبي من الجوال القديم الذي يمسك به ورحبت به بحرارة, وقام هو بفتح الجوال, فإذا بقطة تخرج منه وتجري بين أكوام الحجارة والتراب التي تملأ البيت!
.. فلقد كانت كل مساعدة أبي لي في هذه الظروف القاسية التي أعيشها أنا وزوجي وأولادي هي إحضار قطة لي لكي تطارد الفئران وتبعدها عني, ولم أتمالك نفسي وانفجرت في البكاء! وانصرف أبي مشكورا ـبالرغم من ذلك ـ مني ومن زوجي, ونحن نتعجب لما تفعل بنا الحياة, ومرت الأيام ودخل الشتاء ولسوء حظنا كان شتاء قاسيا غزير الأمطار في محافظتنا فعانينا الأمرين من المطر الذي ينزل علي رءوسنا كالسيل حتي كنا نغطي أنفسنا خلال النوم بمفرش قديم من البلاستيك.. وكل ذلك بغير أن يرق لنا قلب أبي أو والد زوجي.. الأول لقسوته وبخله, والثاني لعدم رضاه عن زواج ابنه من معاقة مثلي.
والرغم من كل ذلك فلقد صمدنا لكل المصاعب والعقبات وتحملنا كل شيء لكيلا يفرق بيننا أحد, وعشنا في هذه الخرابة ثلاثة عشر شهرا كاملة كانت من أقسي فترات العمر.. ثم رزقنا الله سبحانه وتعالي بشقة من شقق المحافظة حصلنا عليها تقديرا لظروفنا القاسية, وفرحنا بها فرحة طاغية.. وانتقلنا إليها فكانت فرحتنا بأن نحيا في مكان له سقف وجدران وبه ماء وكهرباء وباب خارجي يغلق علينا أكبر من أن توصف.. وكان أول ما فعلناه بعد أن انتقلنا إليها أن أديت أنا وزوجي صلاة شكر لله تعالي الذي آوانا في هذا المكان.. وأعاننا علي تحمل قسوة الأيام الماضية بغير أن ييأس أحدنا من روح الله.. أو يفكر في الاستسلام لضغوط الأهل علينا للانفصال وعودة كل منا لأسرته.
وعرفت النوم العميق لأول مرة منذ انتقلت للخرابة, حيث كنت أنام نوما مضطربا متقطعا خوفا من الفئران والحيات.. وتحسنت صحة الأولاد بالإقامة في الشقة الصحية التي تدخلها الشمس والهواء.. واطمأن بال زوجي وواصلنا العمل باخلاص وأعطانا الله من رزقه فبدأنا نؤثث الشقة قطعة وراء قطعة, وكلما اشترينا قطعة أثاث جديدة سعدنا بها كثيرا كأننا قد ملكنا الدنيا وما فيها.. إلي أن تم تأثيث الشقة بالحد الأدني المقبول من الأثاث.., غير أن الأيام لم تترفق بنا بالرغم مما تحملناه من أكدارها من قبل, فلقد تعرضت لحادث سيارة أصبت فيه بكسور في ساقي السليمة, وفي ساقي الأخري الضعيفة من الأصل, ووضع الأطباء نصفي الأسفل في الجبس لمدة ثمانية أشهر طويلة.. ثم خضعت للعلاج الطبيعي بعد فكه لمدة14 شهرا أخري حتي أتممت العلاج وانتهت المحنة الجديدة التي استغرقت ما يقرب من عامين من عمري, ولقد تأثرت أمي بعض الشيء بما تعرضت له في هذا الحادث, أما أبي فلم يتأثر علي الاطلاق! ولم يزرني طوال هذين العامين إلا مرة واحدة وجاءني فيها ويداه خاليتان من أية هدية أو علبة شيكولاتة.. أو كيلو من البرتقال.
وخرجت من هذه المحنة بأثر تخلف في قدمي ليضاف إلي اصابتي القديمة, والحمد لله علي كل حال..
وعدت إلي عملي وواصلت حياتي ورعايتي لأولادي وزوجي.. وكلما استرجعت ما مر بي من معاناة, تذكرت أن الله سبحانه وتعالي قد عوضني بأبنائي وزوجي الذي أحبه ويحبني ويجمع بيننا الود والاخلاص, وحمدت الله علي كل شيء وواصل زوجي عمله وواصلت عملي وكلما وجدت في يدي جنيها زائدا عن حاجتنا ونفقاتنا ادخرته لغرض حلمت به, وهو أن أنجح ذات يوم في الحصول علي شقة أوسع وفي موقع أفضل لتكون شقة العمر لنا ونتصرف في شقتنا الصغيرة لصالحنا.. ومضت الشهور والأعوام ورزقني الله من فضله وتمكنت بالفعل من الحصول علي شقة أوسع في برج سكني في أحسن موقع بالمحافظة التي نقيم بها.
ومن عجائب المصادفات أن ذلك قد حدث في نفس الوقت الذي انتهي فيه أبي من بناء عمارته الجديدة التي سيقيم بها.. وكان أول طلب له منا نحن بناته المتزوجات هو ألا تدخل احدانا هذه العمارة الجديدة, لأنه كما قال رجل مسن ولا يتحمل زيارة أحد له, خاصة إذا كان مصحوبا بالأطفال! انني لاأكتب لك ياسيدي شاكية أبي غفر الله له.. لكني أكتب لك طالبة منك ومن قرائك أن تدعوا الله أن يحفظ زوجي ويمتعه بالصحة والعافية وطول العمر.. فلقد كان النور الوحيد في الظلام الدامس الذي عشت فيه معظم السنوات الماضية, كما أطلب منك أيضا أن تبحث لي بين قرائك عن أب وأم بديلين بعد أن تعذر علي أن أنعم بأبوي الطبيعيين, فكل ابنة مهما كبرت وتزوجت وأنجبت تحتاج إلي أب يهتم بأمرها وأم تترفق بها وتشير عليها, ولست أريد ممن تختارهما لي سوي أن يسألا عني في المناسبات ويرفعا سماعة التليفون ليتصلا بي من حين لآخر ويطمئنا علي وأطمئن عليهما وأهتم بأمرهما.. وأدعوهما لقضاء اجازة العيد لدينا.. ولا غرابة في ذلك لأن مشاعري كابنة قوية جدا وتحتاج لأبوين ولو كانا بديلين لكي تتجه إليهما فهل تساعدني؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
تذكرت وأنا أقرأ رسالتك كلمة حكيمة للأديب الفرنسي الذي عاش في القرن السابع عشر واشتهر بنظم الحكم والأمثال فرانسوا لاروشفوكو وهي كلمة يقول فيها, النسمة الخفيفة التي تطفيء الشمعة هي نفسها التي تذكي النار, وكذلك الفراق فانه يقتل الحب التافه ويغذي الحب العظيم!
أما لماذا تذكرتها فلأنني قد استبدلت في ذهني وأنا استرجعها بكلمة الفراق كلمة المصاعب.. فوجدتها تنطبق تماما علي قصتك, أو بمعني أصح علي ملحمة العناء والحرمان التي عشتها طوال السنوات القاسية السابقة, فلقد أذكت المتاعب والصعوبات جذوة الحب الذي يجمع بينك وبين زوجك كما تذكي النسمة الخفيفة النار, فأصبح كل منكما أكثر قربا من الآخر وأكثر تمسكا به واحتماء به من الأنواء والعواصف. ليس هذا فقط, وإنما اعطت هذه الصعوبات أيضا لارتباطكما بعدا أعمق وقيمة أثمن هي قيمة التضحية والصبر علي أصعب الظروف من أجل من يحب المرء ولو تحمل في سبيل ذلك العناء الذي لا يطاق, وبحيث يصبح عبثا من العبث أن يتخلي أحدهما عن الآخر ذات يوم بعدما تجرع كئوس العناء حرصا عليه واختيارا له.. ولا عجب في ذلك لأنه حب عظيم بالفعل يصمد للمتاعب والضغوط ولا يستسلم أمامها ولا ينفرط عقده أبدا بإذن الله.
لقد قالت الأميرة الفرعونية أمينيريس للأميرة الأسيرة في أوبرا عايدة: إن الزمن كفيل بمداواة الجراح.. والحب أكثر قدرة علي ذلك, وهذا صحيح بالفعل ولقد صدق في قصتك أيضا فكان الحب أكثر قدرة علي مداواة الجراح والصمود للمصاعب من الزمن نفسه.
غير أني تعجبت كثيرا لموقف أبيك منك ولم أستطيع تفسيره حتي بعد قولك عنه إنه اتخذ موقفه منك لقسوته وبخله.. ذلك أنني قد فسرت أسباب تخلي أبوي زوجك عن مساعدته في زواجه بأنهما لم يرضيا له الزواج منك لظروفك الصحية.. ومع أن هذا السبب وحده كان ينبغي له أن يزول بمجرد زواجه وإنجابه منك, وكان عليهما ألا يتخليا عنه وهو يواجه أشق الظروف إذا كانا قادرين علي مساعدته ـ فإنني في النهاية أستطيع فهم موقفهما الخاطيء منكما أما موقف أبيك منك فبأي شيء يمكن تفسيره وفهمه, وهو الذي كان ينبغي له أن يمد يد العون لزوجك وييسر عليه وعليك ما يعترضكما من صعاب بعد أن تمسك الرجل بك وأصر علي الارتباط بك رغم اعتراض أهله.
وهل يكفي البخل وحده لكي يدفع أبا مثله لأن يقبض يده عن اعانتك علي أمرك حتي وأنت تقفين في العراء انتظارا لايجاد سقف يظللك ويظل أبناءك وزوجك؟
وهل غاية ما يملكه أب قادر ماديا لإعانة ابنته ذات الظروف الصحية الخاصة هو أن يشتري أثاث بيتها وأجهزتها المنزلية لتدبر بثمنها مأوي آخر لها.. فإذا فقدت هذا المأوي البديل واضطرت للاقامة في بيت مهدم بلاسقف يكون أقصي عطائه لها هو قطة تلاحق الفئران التي تخيفها وتقض مضجعها؟!
أية أبوة وأية قلوب صخرية هذه؟
لقد فهمت من رسالتك أن والدتك لا تملك له شيئا ولهذا فهي لا تعترض علي ما يفعل.. لكني أعتقد أن واجبها كان يفرض عليها أن تبذل جهدا أكبر معه لإقناعه بمد يد العون لك حين كنت في أشد الحاجة إليه, حتي ولو اكتفي بأن يقدم عونه علي شكل قروض تردينها أنت وزوجك إليه حين تستطيعان ذلك, وحتي ولو استمضاك أو استمضي زوجك علي أوراق تضمن له سداد هذه القروض.
ولم يكن ليخسر الكثير لو كان قد فعل ذلك وصبر علي دينه بضعة أعوام.. فلقد نجحتما في النهاية في دفع مقدم الشقة الأوسع في البرج السكني, وبالتالي فلقد كان في مقدوركما أن تسددا له دينه, لكن ماذا نقول لأب تصاب ابنته ذات الظروف الخاصة في حادث سيارة وتخضع للعلاج لما يقرب العامين فلا يزورها خلالهما إلا مرة واحدة.. ويذهب إليها في هذه الزيارة اليتيمة ويده بيضاء من غير سوء!
يا سيدتي لتهنأ لك ولزوجك الحياة, فلقد كان ومازال بالفعل النور الذي يبدد ظلمات حياتك, وثقي من أن الله سبحانه وتعالي الذي أعانكما بقدرته وحده سبحانه علي ظروفكما القاسية سوف يكلأكما علي الدوام برعايته, ولسوف يحفظ عليك زوجك وأبناءك ويمتعكم جميعا بأثمن ما في الحياة وهو راحة القلب والصحبة الطيبة التي يفوح منها عطر الحب والعطف والتراحم, ولاشك في أن كثيرين من القراء يشاركونني هذه الأمنيات الصادقة لكما, أما الأبوان البديلان اللذان تبحثين عنهما فإني أرحب بأن أعرفك بمن يرغب من الفضلاء والفضليات في التواصل الإنساني معك ومع زوجك وتبادل المودة والاتصال معكما إن شاء الله.
مدونة بريد الجمعة مدونة إجتماعية ترصد أحوال الشارع المصرى والوطن العربى مدونة تتناول قصص, ومشكلات حقيقية للوطن العربى مثل: (ظاهرة العنوسة, الخيانة الزوجية, الخلافات الزوجية, التفكك الأسرى, الطلاق وآثاره السلبية على الأبناء, الحب من طرف واحد, مرض التوحد, الإبتلاءات من فقر ومرض وكيفية مواجهة الإنسان لها) ثم يعرض الموقع فى أخر كل موضوع رأى المحرر فى التغلب على هذه المحن
السبت، ١ أبريل ٢٠٠٠
نــــور الظــــلام
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق