السبت، ١ أبريل ٢٠٠٠

العطر الفواح

19-03-2004
أنا طبيب اعمل مدرسا مساعدا بقسم الجراحة في احدي الوحدات التخصصية بواحدة من أقدم جامعات مصر‏,‏ وقد دفعني للكتابة إليك بطل هذه القصة‏,‏ الذي لم ار مثيلا له في إخلاصه لعمله ورعايته لحدود ربه في التعامل مع مرضاه ومع مرءوسيه وتلاميذه ومع الجميع‏.‏
فلقد عين هذا الاستاذ معيدا ثم مدرسا مساعدا في نفس القسم‏,‏ ويذكر من زاملوه في هذه الفترة أنه كان شعلة من النشاط والاخلاص الي جانب الالتزام الديني والأخلاقي الكاملين فاذا به يكتشف انه قد أصيب بالمرض الخطير في تجويف البلعوم الأنفي وفي الغدد الليمفاوية‏,‏ ولقد جاء اكتشاف المرض بمحض الصدفة‏..‏ فبدأ رحلة العلاج الكيماوي والإشعاعي وتحمل صابرا تأثيرات العلاج علي الصحة العامة والتركيز والحالة النفسية مع إدراكه جيدا كطبيب ان النتائج في مثل حالته ليست مطمئنة‏,‏ ولم ييأس الاستاذ لحظة واحدة من أمل الشفاء واعتمد في مقاومته للمرض علي شيئين‏:‏ العلاج الذي يصفه المتخصصون‏,‏ والدعاء والابتهال الي الله ومناجاته طلبا للشفاء‏,‏ فكان يناجي ربه قائلا‏:‏ رب ان كنت قد وقفت يوما الي جانب مريض فقير وساعدته فاعف عني برحمتك وساعدني ولقد كانت حياته حافلة بمساعدة المرضي البسطاء ورعايتهم وحسن معاملتهم حتي يلهجوا بالدعاء له كلما رأوه‏..‏ وتغمره السعادة وينشرح صدره ويبش في وجوههم كلما رآهم‏.‏

وفي شدة معاناته للمرض والألم أكمل دراسته للدكتوراه‏,‏ ونوقشت رسالته في يوم مشهود ونال درجته العلمية متفوقا علي كل الأقران وقاهرا اليأس والقنوط‏..‏ ثم استجاب الله لدعائه ودعاء مرضاه ومحبيه واسرته‏,‏ فشفي بإذن الله من مرضه تماما ولم يؤكد له الأطباء المعالجون ذلك إلا بعد ان كرروا الفحوص والاشعات واثبتت كلها شفاءه‏..‏ فزفوا اليه البشري وقالوا له إنه قد أصبح انسانا طبيعيا ويستطيع ان يعمل اي ساعات عمل يريدها وان يسافر الي اي مكان لانه قد اصبح صحيح الجسم باذن الله‏,‏ فسافر الي مكة للعمل كاستشاري باحد المستشفيات وواصل اجتهاده حتي اصبح رئيسا لقسمه في هذا المستشفي‏,‏ وحرص خلاله علي السفر دوريا الي الخارج لإجراء مسح لحالته المرضية فيتأكد له كل مرة شفاؤه التام فيرجع من الخارج الي الكعبة ليؤدي العمرة ويطيل الصلاة شكرا لربه وعرفانا‏,‏ ويقضي الرجل في غربته عشر سنوات ادي خلالها فريضة الحج عشر مرات وقام بعدد كبير من العمرات شكرا لربه علي ان من عليه بالشفاء والصحة ويرجع في النهاية الي قسمه في مصر‏,‏ فيقدم لمن يتعاملون معه من المرضي او الأطباء الصغار او اعضاء هيئة التمريض مثالا نادرا للعمل الذي يرعي صاحبه حدود الله في حياته ومثالا اكثر ندرة للتواضع الجم والرحمة بالمرضي ومن هم أقل منه‏..‏ ويجمع الممرضين والممرضات العاملين بالقسم ويقول لهم إن من يحافظ منهم علي المال العام‏,‏ ويرعي حق المريض ويعتبره وديعة لديه يحاسبه الله عنها سبحانه وتعالي‏..‏ فإنه يضع التراب الذي يدوس عليه فوق رأسه وينحني له شكرا وتقديرا‏,‏ ومازال هذا الاستاذ ينشر حوله الخير والعطف والخوف من الله سبحانه وتعالي ويهتم بكل شئون المرضي بنفسه‏..‏ ويحرص علي تدفئة غرفتهم في الشتاء القارس‏,‏ ويراقب بنفسه نظافتها وحالة الأسرة فيها واعمال الكهرباء والسباكة‏,‏ بغير ان يكلف احدا من صغار الأطباء بالقيام بذلك نيابة عنه ـ كما انه يشجع الأطباء الشبان ويساعدهم بجدية علي تقديم رسائلهم العلمية ويعتبر طلبة الكلية ابناءه‏.‏

وكلما عاتبه بعض زملائه الكبار علي إرهاقه لنفسه بالعمل وقيامه بما يستطيع غيره من صغار الأطباء القيام به نيابة عنه‏..‏ أجابه بالاجابة الدائمة التي تكشف عمق تدينه فيقول‏:‏ أفلا اكون عبدا شكورا ذلك انه يعتبر كل مايقوم به من عمل ومايقدمه للمرضي والطلبة وصغار الأطباء قربي الي الله وشكرا له علي ان انعم عليه بالشفاء من مرضه الخطير‏.‏
هذا هو استاذي الذي اردت ان اكتب لك قصته مع الشفاء والأمل وصالح الأعمال‏..‏ عسي ان يستفيد بها قراء بريد الجمعة‏..‏ فهل تراني محقا في ذلك؟

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
كان الكاتب المسرحي تيرانس راتيجان يقول‏:‏ في العالم ظلام كثير‏,‏ لهذا فإنه يرحب بأية شمعة ولو كانت صغيرة‏!‏
والشمعة التي رويت لنا قصة صاحبها ليست صغيرة بكل التأكيد‏,‏ لأنها تبدد مساحة كبيرة من ظلام اليأس والقنوط‏,‏ وتنشر الخير والرحمة والعطف حولها‏,‏ وتؤكد خيرية الحياة‏,‏ وقدرة كل إنسان لو أراد علي ان يجود ـ كما يقول الشاعر أمادو نرفو ـ بشيء ما مهما كان صغيرا قد تكون ابتسامة وقد تكون يدا تربت علي آلام الآخرين‏,‏ وقد تكون كلمة تقوي عزمهم‏.‏

واستاذك الذي رويت لنا قصته مع المرض والأمل والشفاء ورعاية حدود ربه في عمله‏,‏ تقدم لنا مثالا يرفع المعنويات‏,‏ ويذكرنا بألا نيأس أبدا من رحمة الله‏,‏ مهما تكثف الظلام حولنا‏,‏وان نؤمن دائما بأن في الغد دائما متسعا لكل شيء‏..‏ وان التعلق الأبدي بالأمل في رحمة الله لابد ان يكشف الضر ذات يوم عن المهمومين كما كشفه سبحانه وتعالي عن عبده أيوب عليه السلام‏,‏ وحين تلقي البشري في امره الإلهي له‏:‏ اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فضرب أيوب الأرض برجله فنبعت له عينان‏,‏ شرب من إحداهما واغتسل من الأخري‏,‏ فذهب بلاؤه بإذن الله‏,‏ وماكل وسائل العلاج برغم ضرورتها سوي أسباب علينا اتخاذها ترقبا لهذا الأمر الإلهي ومادعاء المبتلين وابتهالهم لربهم ومناجاتهم له إلا استنزال أو استعجال لهذا الأمر‏.‏
ولقد من الله سبحانه وتعالي علي استاذك بالشفاء استجابة لدعائه ودعاء محبيه ومرضاه البسطاء‏,‏ فأحسن شكر نعمة ربه عليه بالاستمرار في نهجه العادل في العمل وفي رحمته بالمرضي ورفقه بتلاميذه‏,‏ وحرصه علي رعاية حدود ربه في عمله‏,‏ فهنيئا له كشف الضر عنه‏..‏ وعقبي لمن ينتظر‏.‏

وسلاما وأمانا علي من يرعون حدود الله في حياتهم‏.‏
فيكونون كالعطر الفواح‏..‏ ينفث الجمال‏..‏ ويطرد العطن من اي مكان يوجدون فيه‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق