30-01-2004
أنا رجل من الخامسة والأربعين من العمر, نشأت في أسرة متوسطة بين أمي التي نهضت بمسئوليتي بعد وفاة أبي وأنا طفل صغير, وثلاث شقيقات ولقد مضت بنا رحلة الأيام وتخرجت في كلية العلوم وبدأت اخطط لحياتي ولتحقيق نجاحي في الحياة العملية.. فكان أول ما فعلت هو أن تزوجت من فتاة من أسرة ثرية تكبرني بخمس سنوات, تعرفت عليها خلال دراستي الجامعية لأنها كانت كثيرة الرسوب حتي ادركتها وهي لم تتخرج بعد.. وشعرت بأن زواجي منها سيفتح لي أبواب النجاح والثراء, وبالفعل فقد كان اهلها كرماء معي وعرضوا علي وظيفة ذات مرتب عال لكني اعتذرت كيلا أكون تحت وصايتهم, وعملت في إحدي الهيئات وبدأت أتطلع لممارسة العمل التجاري الحر إلي جانب الوظيفة, وجمعت مبلغا مقبولا من المال يمكن أن يصلح كبداية للعمل, كان حصيلة ما ادخرته واقترضته من أمي. كما حصلت علي جزء منه من زوجتي, ثم قدمته إلي شخص كان يمارس التجارة وكان يهتم بأمري ويمد لي يد العون, فرحب بمشاركتي له بهذا المبلغ البسيط وأفسح لي المجال للعمل معه وتعلم أسرار التجارة والسوق.
وواصلت العمل معه أو من خلاله بحماس شديد, ونفذت بعض العمليات التجارية لحسابي الخاص.. فبدأت احوالي المادية في التحسن.
وعاما بعد عام أصبح هذا النشاط التجاري هو عملي الأساسي.. وتفرغت له وحققت نجاحا ماديا كبيرا, فاشتريت لنفسي سيارة بدلا من اعتمادي علي سيارة زوجتي, واشتريت لنفسي شقة ممتازة بدلا من الإقامة في شقة زوجتي وانتقلت إليها مع ابنتي وزوجتي.
وأغراني النجاح والطموح فأردت أن تكون لي شركتي الخاصة, وأن اتوقف عن العمل تحت مظلة شركة ذلك الإنسان الذي مد لي يد العون في البداية, ونفذت قراري برغم محاولته اثنائي عنه, وأسست شركتي وجاء وقت الانفصال عن شريكي القديم فتركته وأخذت معي معظم أعمال الشركة القديمة.. ولم أتأثر برجائه الحار لي أن اترك له بعض هذه الأعمال كيلا تتعثر أعماله هو بعد انفصالي عنه, وانتابني الجحود تجاهه بشكل غريب, ولم اشعر بأي تعاطف معه.. حتي وهو يودعني نادبا وقائلا: حسبي الله ونعم الوكيل!.
وبدأت العمل في شركتي الخاصة بحذر ولازمني التوفيق فتوسعت في أعمالها شيئا فشيئا, حتي افتتحت فرعا آخر لها, وتدفق الربح علي فشعرت بأنني قد ملكت الدنيا وما عليها.. ولاحظت خلال ذلك أنني قد أصبحت عدوانيا وسليط اللسان بشكل غريب, وأنه لا يكاد ينجو من لساني أحد ابتداء من زوجتي إلي موظفي الشركة. كأني لا أطيق نجاحي وأريد أن أعبر عنه بالعدوان علي الآخرين..
ولم لا أفعل وقد أصبحت ثريا ولدي الخدم والحشم وفيلا وسيارات.. إلخ وفي غمرة نجاحي هذا فوجئت بابنتي الكبري تشكو من آلام لا تحتمل, وهرولت بها إلي الطبيب فبدأنا دورة الفحوص والأشعات التي انتهت بالحقيقة المرة وهي إصابة ابنتي الحبيبة بالمرض العضال.
واجريت لها جراحة عاجلة واصطحبتها بعد الجراحة إلي الخارج لإجراء فحوص جديدة, فتبين منها للأسف أن المرض مازال كامنا في جسمها, وخضعت الابنة للعلاج الرهيب, وعشت أسود أيام حياتي وأنا اري أثر هذا العلاج القاسي علي ابنتي وهيئتها, ثم ادركتها رحمة الله سريعا فأراحتها من عذابها.. ورحلت عن الحياة وتركتني أتساءل ما قيمة أي شيء في الحياة إذا حرم الإنسان من أحب البشر إليه؟.. وماذا صنع لي المال الذي كدحت طوال السنين لجمعه.. هل حمي ابنتي من المرض؟.. هل خفف عنها الألم؟ هل أبعد عنها شبح القضاء المحتوم؟..
وبعد فترة اكتئاب شديد عدت للعمل من جديد وشغلت نفسي به ودفنت احزاني فيه.. وأصبحت اقضي معظم ساعات اليوم في مكتبي حتي بدأت جراحي تندمل تدريجيا.. وبدأت الأحزان تهدأ وإن كانت لا تموت, ومضي عامان علي غياب ابنتي الكبري ثم لاحظت فجأة أن زوجتي وابنتي الأخري تخرجان معا في المساء كثيرا وتترددان علي عيادات الأطباء, مرة بدعوي فحص الأم, ومرة بدعوي فحص الابنة, كما لاحظت علامات الإعياء علي وجه ابنتي, وأحسست بشيء يجري في السر ولا أعلم به. وسألت زوجتي عما يجري فإذا بها بعد تردد طويل تصارحني بأن ابنتنا الأخري قد أصيبت بنفس المرض العضال الذي أودي بحياة اختها, وتقول لي: إنها حاولت بقدر الإمكان تأجيل علمي بالخبر إشفاقا علي, ولم اسمع بقية كلماتها لأني سقطت مغشيا علي ونقلت إلي المستشفي.
وفي المستشفي زارني كثيرون.. وفوجئت بزيارة شريكي القديم لي وكانت أول مرة آراه فيها منذ عشر سنوات, وتوجست لحظات من أن يكون قد جاء شامتا في, لكني لاحظت صفاء نيته, كما لاحظت أيضا سوء أحواله المادية من مظهره وحديثه, وبعد حديث المجاملة المألوف.. وجدتني فجأة أطلب منه السماح والعفو عما فعلت معه.. وعن مقاطعتي له طوال السنوات السابقة ونسياني أو جحودي لفضله علي في بداية حياتي, وإذا بالرجل يقول لي في سماحة إنه قد فوض أمره إلي الله فيما حدث بيننا منذ زمن طويل, وأن كل شئ نصيب.. والأرزاق دائما بيد الله وحده, وشعرت بالارتياح بعض الشئ بعد أن تركني.. وغادرت المستشفي بعد بضعة أيام واصطحبت زوجتي وابنتي في رحلة إلي الخارج لإجراء المزيد من الفحوص والتحليلات.
ولكن الخوف استقر في أعماقي وأصبحت كثير البكاء.. ودائم التفكير في حال شريكي السابق وأطلب من الله العلي القدير أن يسامحني كل من ظلمته خلال رحلة العمل والطموح في مال أو في قول, وأن يدعو الله وتدعو أنت وقراؤك لابنتي الكبري بالرحمة وللصغري بالشفاء والنجاة من الوحش الذي يترصدها.
إنني أخرج زكاتي كاملة وأتصدق كثيرا, وأعول بعض الأيتام, وأرجو أن يشفع ذلك لابنتي في مرضها ولي في محنتي, كما أرجو أيضا أن تسامحني زوجتي من كل ما بدر مني تجاهها خلال رحلة العمر فهل يتقبل الله سبحانه وتعالي مني؟..
وهل هناك ما أستطيع أن أفعله لكي يعفو الله سبحانه وتعالي عني, ويترفق بي.. وابنتي؟.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
نعم يا سيدي هناك ما تستطيع أن تفعله أكثر مما فعلت قربي إلي الله سبحانه وتعالي, عسي أن يحفظ عليك ابنتك, ويخفف عنك أحزانك وآلامك ويحقق لك السعادة والطمأنينة في الدنيا والآخرة.. تستطيع أن تعين شريكك القديم علي تحسين أحواله المادية التي تدهورت بانسحابك من عملكما المشترك مستوليا علي معظم أعمال الشركة القديمة, وتاركا إياه للتعثر ومواجهة الصعاب.. فتستطيع إن شئت أن تعينه علي النهوض مرة أخري, كما أعانك هو في بداية حياتك العملية, وتستطيع أن تشاركه بجزء من مالك فتوفر له فرص الكسب والعمل واستعادة النشاط دون أن تخسر شيئا.. أو دون أن تخسر الشئ الكثير في أسوأ الأحوال, وها قد علمتك رحلة الأيام بالدروس المؤلمة أنه لا قيمة للمال في حد ذاته إذا كان الإنسان مؤرق الضمير معذبا, ولا أمان للأيام إن لم يتسلح المرء لها بالعدل مع الجميع.. واجتناب الظلم وإيلام الآخرين والعدوان علي حقوقهم, وبالأعمال الصالحات التي يرجو بها المرء وجه ربه ويتشفع بها لديه في أن تحميه من غوائل الأيام.
لقد وضعت أقدامك علي هذا الطريق بعد رحيل ابنتك الغالية رحمها الله وعوضها عن شبابها في جنات النعيم إن شاء الله.., ولم يبق إلا أن تواصله حتي النهاية بإذن الله مرددا قول الخليفة المعتصم في مرضه الأخير: اللهم أنك تعلم أنني أخافك من قبلي ولا أخافك من قبلك, وأرجوك من قبلك ولا أرجوك من قبلي.
كما تستطيع أيضا أن تراجع مشوار حياتك العملية وتتحري أن كان ثمة من ظلمته أو بخست حقه أو أسأت إليه عامدا متعمدا فتصلح ما فعلت, وترد الحقوق لأصحابها ولو بطريق غير مباشر كنوع من التعويض والتكفير عن نثار الطريق الذي أصاب بعض العيون بالأذي خلال انطلاق جواد الطموح الجامح إلي أهدافه. إننا جميعا نحتاج إلي هذه الوقفة مع النفس من حين لآخر, لكي ننقي الثوب من أدرانه السابقة, ونواصل الرحلة بضمير غير مثقل بالذنوب, وأنه لتشتد حاجتنا إلي مثل هذه المراجعة كلما كابدنا أحزان الحياة وآلامها, وكلما تعاملنا مع همومها الحقيقية.
أما ابنتك الصغري فلسوف يحفظها الله سبحانه وتعالي عليك بقدرته وهو جل شأنه من أمره بين الكاف والنون.. وأما زوجتك وشريكة رحلتك فلقد سامحتك بالفعل علي كل ما بدر منك تجاهها, لأن الألم مطهر للنفوس الخيرة, ولقد كابدت محنة الثكل أعانها الله علي تحملها ورفع بها من درجاتها فليس لأي شئ آخر قيمة تستحق أن تحزن من أجلها, وأما رحلة الأيام فستمضي بك وبأسرتك في أمان وسلام بإذن الله ولسوف تسعد باكتمال شفاء ابنتك الغالية واستوائها يوما بعد يوم وردة زاهية تنجب لك الأحفاد وتملأ حياتك بعطر الحب ودفء القلوب إن شاء الله.
فواصل الطريق الذي بدأته ياسيدي, واسترجع دائما الدعاء الذي قيل إن بعض الصحابة قد سمع رجلا غريبا يردده في المسجد النبوي, ووصفوه للرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه, فقال ما معناه: هذا أخي جبريل.., وهو: اللهم اغفر لي مامضي من ذنوبي.. واعصمني فيما بقي لي من عمري, وارزقني أعمالا زاكية ترضي بها عني.
وما أحوجنا جميعا إلي ترديد هذا الدعاء كل حين وإلي العمل به!
المزيد ....
أنا رجل من الخامسة والأربعين من العمر, نشأت في أسرة متوسطة بين أمي التي نهضت بمسئوليتي بعد وفاة أبي وأنا طفل صغير, وثلاث شقيقات ولقد مضت بنا رحلة الأيام وتخرجت في كلية العلوم وبدأت اخطط لحياتي ولتحقيق نجاحي في الحياة العملية.. فكان أول ما فعلت هو أن تزوجت من فتاة من أسرة ثرية تكبرني بخمس سنوات, تعرفت عليها خلال دراستي الجامعية لأنها كانت كثيرة الرسوب حتي ادركتها وهي لم تتخرج بعد.. وشعرت بأن زواجي منها سيفتح لي أبواب النجاح والثراء, وبالفعل فقد كان اهلها كرماء معي وعرضوا علي وظيفة ذات مرتب عال لكني اعتذرت كيلا أكون تحت وصايتهم, وعملت في إحدي الهيئات وبدأت أتطلع لممارسة العمل التجاري الحر إلي جانب الوظيفة, وجمعت مبلغا مقبولا من المال يمكن أن يصلح كبداية للعمل, كان حصيلة ما ادخرته واقترضته من أمي. كما حصلت علي جزء منه من زوجتي, ثم قدمته إلي شخص كان يمارس التجارة وكان يهتم بأمري ويمد لي يد العون, فرحب بمشاركتي له بهذا المبلغ البسيط وأفسح لي المجال للعمل معه وتعلم أسرار التجارة والسوق.
وواصلت العمل معه أو من خلاله بحماس شديد, ونفذت بعض العمليات التجارية لحسابي الخاص.. فبدأت احوالي المادية في التحسن.
وعاما بعد عام أصبح هذا النشاط التجاري هو عملي الأساسي.. وتفرغت له وحققت نجاحا ماديا كبيرا, فاشتريت لنفسي سيارة بدلا من اعتمادي علي سيارة زوجتي, واشتريت لنفسي شقة ممتازة بدلا من الإقامة في شقة زوجتي وانتقلت إليها مع ابنتي وزوجتي.
وأغراني النجاح والطموح فأردت أن تكون لي شركتي الخاصة, وأن اتوقف عن العمل تحت مظلة شركة ذلك الإنسان الذي مد لي يد العون في البداية, ونفذت قراري برغم محاولته اثنائي عنه, وأسست شركتي وجاء وقت الانفصال عن شريكي القديم فتركته وأخذت معي معظم أعمال الشركة القديمة.. ولم أتأثر برجائه الحار لي أن اترك له بعض هذه الأعمال كيلا تتعثر أعماله هو بعد انفصالي عنه, وانتابني الجحود تجاهه بشكل غريب, ولم اشعر بأي تعاطف معه.. حتي وهو يودعني نادبا وقائلا: حسبي الله ونعم الوكيل!.
وبدأت العمل في شركتي الخاصة بحذر ولازمني التوفيق فتوسعت في أعمالها شيئا فشيئا, حتي افتتحت فرعا آخر لها, وتدفق الربح علي فشعرت بأنني قد ملكت الدنيا وما عليها.. ولاحظت خلال ذلك أنني قد أصبحت عدوانيا وسليط اللسان بشكل غريب, وأنه لا يكاد ينجو من لساني أحد ابتداء من زوجتي إلي موظفي الشركة. كأني لا أطيق نجاحي وأريد أن أعبر عنه بالعدوان علي الآخرين..
ولم لا أفعل وقد أصبحت ثريا ولدي الخدم والحشم وفيلا وسيارات.. إلخ وفي غمرة نجاحي هذا فوجئت بابنتي الكبري تشكو من آلام لا تحتمل, وهرولت بها إلي الطبيب فبدأنا دورة الفحوص والأشعات التي انتهت بالحقيقة المرة وهي إصابة ابنتي الحبيبة بالمرض العضال.
واجريت لها جراحة عاجلة واصطحبتها بعد الجراحة إلي الخارج لإجراء فحوص جديدة, فتبين منها للأسف أن المرض مازال كامنا في جسمها, وخضعت الابنة للعلاج الرهيب, وعشت أسود أيام حياتي وأنا اري أثر هذا العلاج القاسي علي ابنتي وهيئتها, ثم ادركتها رحمة الله سريعا فأراحتها من عذابها.. ورحلت عن الحياة وتركتني أتساءل ما قيمة أي شيء في الحياة إذا حرم الإنسان من أحب البشر إليه؟.. وماذا صنع لي المال الذي كدحت طوال السنين لجمعه.. هل حمي ابنتي من المرض؟.. هل خفف عنها الألم؟ هل أبعد عنها شبح القضاء المحتوم؟..
وبعد فترة اكتئاب شديد عدت للعمل من جديد وشغلت نفسي به ودفنت احزاني فيه.. وأصبحت اقضي معظم ساعات اليوم في مكتبي حتي بدأت جراحي تندمل تدريجيا.. وبدأت الأحزان تهدأ وإن كانت لا تموت, ومضي عامان علي غياب ابنتي الكبري ثم لاحظت فجأة أن زوجتي وابنتي الأخري تخرجان معا في المساء كثيرا وتترددان علي عيادات الأطباء, مرة بدعوي فحص الأم, ومرة بدعوي فحص الابنة, كما لاحظت علامات الإعياء علي وجه ابنتي, وأحسست بشيء يجري في السر ولا أعلم به. وسألت زوجتي عما يجري فإذا بها بعد تردد طويل تصارحني بأن ابنتنا الأخري قد أصيبت بنفس المرض العضال الذي أودي بحياة اختها, وتقول لي: إنها حاولت بقدر الإمكان تأجيل علمي بالخبر إشفاقا علي, ولم اسمع بقية كلماتها لأني سقطت مغشيا علي ونقلت إلي المستشفي.
وفي المستشفي زارني كثيرون.. وفوجئت بزيارة شريكي القديم لي وكانت أول مرة آراه فيها منذ عشر سنوات, وتوجست لحظات من أن يكون قد جاء شامتا في, لكني لاحظت صفاء نيته, كما لاحظت أيضا سوء أحواله المادية من مظهره وحديثه, وبعد حديث المجاملة المألوف.. وجدتني فجأة أطلب منه السماح والعفو عما فعلت معه.. وعن مقاطعتي له طوال السنوات السابقة ونسياني أو جحودي لفضله علي في بداية حياتي, وإذا بالرجل يقول لي في سماحة إنه قد فوض أمره إلي الله فيما حدث بيننا منذ زمن طويل, وأن كل شئ نصيب.. والأرزاق دائما بيد الله وحده, وشعرت بالارتياح بعض الشئ بعد أن تركني.. وغادرت المستشفي بعد بضعة أيام واصطحبت زوجتي وابنتي في رحلة إلي الخارج لإجراء المزيد من الفحوص والتحليلات.
ولكن الخوف استقر في أعماقي وأصبحت كثير البكاء.. ودائم التفكير في حال شريكي السابق وأطلب من الله العلي القدير أن يسامحني كل من ظلمته خلال رحلة العمل والطموح في مال أو في قول, وأن يدعو الله وتدعو أنت وقراؤك لابنتي الكبري بالرحمة وللصغري بالشفاء والنجاة من الوحش الذي يترصدها.
إنني أخرج زكاتي كاملة وأتصدق كثيرا, وأعول بعض الأيتام, وأرجو أن يشفع ذلك لابنتي في مرضها ولي في محنتي, كما أرجو أيضا أن تسامحني زوجتي من كل ما بدر مني تجاهها خلال رحلة العمر فهل يتقبل الله سبحانه وتعالي مني؟..
وهل هناك ما أستطيع أن أفعله لكي يعفو الله سبحانه وتعالي عني, ويترفق بي.. وابنتي؟.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
نعم يا سيدي هناك ما تستطيع أن تفعله أكثر مما فعلت قربي إلي الله سبحانه وتعالي, عسي أن يحفظ عليك ابنتك, ويخفف عنك أحزانك وآلامك ويحقق لك السعادة والطمأنينة في الدنيا والآخرة.. تستطيع أن تعين شريكك القديم علي تحسين أحواله المادية التي تدهورت بانسحابك من عملكما المشترك مستوليا علي معظم أعمال الشركة القديمة, وتاركا إياه للتعثر ومواجهة الصعاب.. فتستطيع إن شئت أن تعينه علي النهوض مرة أخري, كما أعانك هو في بداية حياتك العملية, وتستطيع أن تشاركه بجزء من مالك فتوفر له فرص الكسب والعمل واستعادة النشاط دون أن تخسر شيئا.. أو دون أن تخسر الشئ الكثير في أسوأ الأحوال, وها قد علمتك رحلة الأيام بالدروس المؤلمة أنه لا قيمة للمال في حد ذاته إذا كان الإنسان مؤرق الضمير معذبا, ولا أمان للأيام إن لم يتسلح المرء لها بالعدل مع الجميع.. واجتناب الظلم وإيلام الآخرين والعدوان علي حقوقهم, وبالأعمال الصالحات التي يرجو بها المرء وجه ربه ويتشفع بها لديه في أن تحميه من غوائل الأيام.
لقد وضعت أقدامك علي هذا الطريق بعد رحيل ابنتك الغالية رحمها الله وعوضها عن شبابها في جنات النعيم إن شاء الله.., ولم يبق إلا أن تواصله حتي النهاية بإذن الله مرددا قول الخليفة المعتصم في مرضه الأخير: اللهم أنك تعلم أنني أخافك من قبلي ولا أخافك من قبلك, وأرجوك من قبلك ولا أرجوك من قبلي.
كما تستطيع أيضا أن تراجع مشوار حياتك العملية وتتحري أن كان ثمة من ظلمته أو بخست حقه أو أسأت إليه عامدا متعمدا فتصلح ما فعلت, وترد الحقوق لأصحابها ولو بطريق غير مباشر كنوع من التعويض والتكفير عن نثار الطريق الذي أصاب بعض العيون بالأذي خلال انطلاق جواد الطموح الجامح إلي أهدافه. إننا جميعا نحتاج إلي هذه الوقفة مع النفس من حين لآخر, لكي ننقي الثوب من أدرانه السابقة, ونواصل الرحلة بضمير غير مثقل بالذنوب, وأنه لتشتد حاجتنا إلي مثل هذه المراجعة كلما كابدنا أحزان الحياة وآلامها, وكلما تعاملنا مع همومها الحقيقية.
أما ابنتك الصغري فلسوف يحفظها الله سبحانه وتعالي عليك بقدرته وهو جل شأنه من أمره بين الكاف والنون.. وأما زوجتك وشريكة رحلتك فلقد سامحتك بالفعل علي كل ما بدر منك تجاهها, لأن الألم مطهر للنفوس الخيرة, ولقد كابدت محنة الثكل أعانها الله علي تحملها ورفع بها من درجاتها فليس لأي شئ آخر قيمة تستحق أن تحزن من أجلها, وأما رحلة الأيام فستمضي بك وبأسرتك في أمان وسلام بإذن الله ولسوف تسعد باكتمال شفاء ابنتك الغالية واستوائها يوما بعد يوم وردة زاهية تنجب لك الأحفاد وتملأ حياتك بعطر الحب ودفء القلوب إن شاء الله.
فواصل الطريق الذي بدأته ياسيدي, واسترجع دائما الدعاء الذي قيل إن بعض الصحابة قد سمع رجلا غريبا يردده في المسجد النبوي, ووصفوه للرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه, فقال ما معناه: هذا أخي جبريل.., وهو: اللهم اغفر لي مامضي من ذنوبي.. واعصمني فيما بقي لي من عمري, وارزقني أعمالا زاكية ترضي بها عني.
وما أحوجنا جميعا إلي ترديد هذا الدعاء كل حين وإلي العمل به!