السبت، ١ أبريل ٢٠٠٠

الماء المقطر‏!‏

07-05-2004
أنا رجل أبلغ من العمر‏45‏ عاما‏..‏ تزوجت وأنا في الخامسة والعشرين من عمري من مدرسة زميلة لي‏,‏ تبادلت معها في البداية نظرات الإعجاب ثم تقدمت لخطبتها بالرغم من معارضة أهلي لاختياري‏,‏ وتمت الخطبة بدبلتين فقط‏,‏ وتحدينا الصعاب الكثيرة المحيطة بنا‏,‏ وتم الزواج في أضيق الحدود‏,‏ وبدأت حياتي الزوجية في شقة شبه عارية إلا من الأثاث الضروري‏,‏ فلمست في زوجتي الطيبة والصدق والحنان‏..‏ ولم تلبث أن انتزعت حب أهلي وتقديرهم لها بمعاملتها الكريمة لهم وأخلاقها الدمثة‏,‏ ولقد كافحت لمواجهة ظروف الحياة‏,‏ فكنت أعمل عملا مسائيا في إحدي المنشآت التجارية بعد عملي الرسمي‏,‏ وكافحت زوجتي من جهتها لتدبير شئون الأسرة والإسهام معي في نفقات الحياة‏,‏ حتي تحسنت ظروفنا شيئا فشيئا وانتقلنا إلي شقة أكبر وفرشناها بأثاث جيد‏,‏ وكنا قد أنجبنا ابنتنا الكبري ثم رزقنا الله بطفلة ثانية‏..‏ فركزنا كل اهتمامنا عليها وربيناهما علي الأخلاق الكريمة وتأدية فرائض الله‏..‏ وحرصنا علي ألا نعرضهما لأية مخاطر‏,‏ فلم نسمح لهما أبدا بالذهاب إلي المدرسة أو العودة منها وحدهما‏,‏ وإنما كنت أتبادل دائما مع زوجتي توصيلهما للمدرسة وإعادتهما منها‏,‏ ولم نسمح لهما أبدا بالخروج من البيت وحدهما‏..‏ وإنما لابد من أن يصاحبهما أحدنا أنا أو زوجتي في أي مشوار لهما‏,‏ كما لم نسمح لهما أبدا باستعمال أية وسيلة مواصلات عامة خوفا من تعرضهما لمضايقات الزحام‏,‏ واستمر الحال هكذا حتي بدأت ابنتي الكبري مرحلة الدراسة الثانوية‏,‏ فتقدمت زوجتي بطلب نقل إلي مدرسة ابنتي القريبة من مسكننا‏,‏ وانتقلت إليها وبذلك أصبحت ابنتي الكبري تحت رعاية أمها داخل المدرسة‏,‏ إلي جانب رعايتها‏,‏ ورعايتي خارجها‏,‏ وساعدها ذلك علي النجاح والتفوق فحصلت علي مجموع‏90%‏ في الثانوية العامة والتحقت بإحدي الكليات‏,‏ واستمر نظامنا معها ومع أختها كما هو فلا خروج لأي منهما وحدهما‏..‏ ولا زيارات لصديقاتهما وزميلاتهما‏..‏ ولا ركوب للأتوبيس أو الميكروباص أو أية وسيلة مواصلات‏,‏ حتي أصبح الأهل والجيران يحسدوننا علي حسن تربية ابنتينا وهدوئهما وبعدهما عن عبث الشباب ومشاكساته‏.‏

إلي أن جاء يوم منذ نحو شهرين وكنت في عملي فشعرت فجأة بمغص شديد لم أستطع مقاومته وفشلت المسكنات في تهدئته‏,‏ فأذنت لي المديرة بمغادرة العمل والعودة إلي البيت للراحة‏..‏ وتوجهت إلي البيت وكنا نحو الساعة الثانية والنصف من بعد الظهر‏,‏ وهو موعد مبكر بالنسبة لعودتي للبيت‏,‏ حيث لا أرجع إليه عادة قبل الرابعة والنصف‏,‏ ولا ترجع زوجتي من عملها قبل الرابعة‏,‏ فوضعت المفتاح في الباب فإذا بي أجده مغلقا من الداخل‏,‏ وتعجبت لذلك لأننا لا نغلق الباب من الداخل أبدا‏,‏ فدققت الجرس فلم يجبني أحد‏,‏ فواصلت رن الجرس بعصبية شديدة وأنا أكاد أهشمه‏,‏ فمضت ثلاث دقائق وكأنها ثلاث ليال ثم فتحت ابنتي الكبري الباب وهي في أشد الارتباك ووجهها تعلوه صفرة الموت‏,‏ فسألتها لماذا تأخرت في فتح الباب‏,‏ فقالت إنها كانت تغير ملابسها‏..‏ ولم أطمئن لهذا الجواب فاندفعت كالمجنون إلي حجرة نومها فوجدت فراشها مضطربا وغير منظم‏,‏ فخرجت كالمسعور أدور في الشقة كلها وافتشها فإذا بي أجد شابا مختبئا تحت مائدة السفرة‏,‏ فسحبته من تحتها وانهلت عليه ضربا وركلا وأصبته اصابات بالغة‏,‏ وهرولت إلي المطبخ لإحضار سكين وهددته بها إن لم يقل لي الحقيقة‏,‏ فحاول أن يؤلف لي قصة وهمية لاتدخل عقل طفل‏,‏ وتمالكت نفسي في النهاية بعد أن فكرت جديا في قتله‏,‏ ثم طلبت منه أن يكتب إقرارا بأنه المسئول الأول والأخير عما حدث لابنتي إن كان قد أصابها منه مكروه‏..‏ فكتبه ووقعه وهو يرتجف‏,‏ فطلبت أن يكتب إيصال أمانة بمبلغ خمسين ألف جنيه ليكون سلاحا ضده إذا هو أنكر ذات يوم مسئوليته‏,‏ فكتبه ووقعه بغير معارضة‏,‏ وفكرت بعد ذلك ماذا أفعل به وكيف يخرج من البيت ونحن نقيم في منطقة شعبية يعرف الجيران فيها كل شئ عن جيرانهم‏,‏ ويتشاركون في تناول الافطار أمام بيت أحدهم كل يوم‏,‏ وقررت أن أخرج معه وكأنما كان قد جاء معي أو جاء لزيارتي‏,‏ وبالفعل غادرت البيت وهو بجواري‏,‏ وحييت جيراني بطريقة حاولت أن تكون عادية إلي أن انحرفنا إلي الشارع العمومي فتركته ورجعت وأنا أفكر ماذا أفعل مع ابنتي التي ظننت انني قد أحسنت تربيتها وتنشئتها وأغدقت عليها الكثير من الرعاية والاهتمام والرقابة المستمرة‏..‏ وكنت قد عرفت أن هذا الشاب شقيق لإحدي صديقاتها وأنها قد اتصلت به وطلبت منه الحضور إليها لأنها وحدها في البيت‏,‏ وليس هناك أحد من أهلها‏,‏ ورجعت إلي المسكن لأحاسبها عما فعلت فإذا بي أجده خاليا منها‏..‏ فهرولت إلي الشارع ووجدتها تقف علي محطة المترو فرجعت بها‏,‏ ومن شدة الصدمة لم أضربها كما كنت أتوقع‏,‏ وإنما اصطحبتها علي الفور إلي طبيب لأمراض النساء ففحصها وطمأنني إلي أنها سليمة ولم يمسها سوء‏,‏ فرجعت وهموم الدنيا كلها تتكثف في صدري وقلت لها إنه لو كان الضرب يفيد في علاجها لأوسعتها ضربا‏,‏ ولكن ماذا أفعل معها وقد وفرت كل شئ لكي تكون ابنة صالحة فإذا بها تخذلني وتخذل أمها علي هذا النحو المشين؟‏.‏

وحانت ساعة عودة زوجتي إلي البيت فكتمت الأمر كله عنها خوفا عليها من مضاعفات الضغط العصبي الذي تشكو منه‏,‏ وكتمت سري في صدري‏..‏ وعافت نفسي الطعام فلم أذق لقمة واحدة طوال اليوم‏,‏ ولم أتناول طعام الافطار في اليوم التالي‏,‏ وخرجت إلي عملي فإذا بي أسقط في الشارع ويهرول بعض الجيران لمساعدتي وحملي إلي مستوصف خيري قريب‏,‏ فيتضح إنني أعاني من غيبوبة السكر‏,‏ وهو مرض الحزن والهم والغم‏,‏ وانتظمت في العلاج‏..‏ وكلما لاحظت علي زوجتي وجومي وحزني واكتئابي قالت لي إنها تشعر بأنني أخفي عنها شيئا جللا‏,‏ فأتعلل لها بمشاكل العمل ومتاعبه ومازلت منذ ذلك الحين حائرا في أمر ابنتي وفيما فعلت بشأنها‏,‏ وأسأل نفسي فيم قصرت معها حتي تفعل ما فعلت‏..‏ وهل كان ما فعلته معها خطأ أم صوابا‏,‏ وهل أصارح زوجتي بما حدث خاصة أنها تلاحظ علي حزني الدائم وصمتي المستمر‏,‏ وتجنبي للحديث مع ابنتي الكبري وتشعر بالقلق لكل ذلك؟
إنني أتعذب‏,‏ وقد ضاق صدري‏,‏ في الأيام الأخيرة‏,‏ وأصبحت قليل الاحتمال وكثير الغضب والشجار مع زملائي في العمل لأتفه الأسباب‏,‏ فماذ أفعل وكيف أتصرف مع زوجتي وابنتي؟

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
نحن نتمني دائما أن نحمي ابناءنا من كل أخطار الحياة ومضايقاتها‏..‏ ونتمني لو استطعنا تنشئتهم في بيئة معقمة لا يتنفسون فيها إلا الاكسجين المكرر‏,‏ ولايشربون إلا الماء المقطر المغلي زيادة في الحرص علي سلامتهم‏,‏ ولا يطعمون إلا الشهد الصافي‏,‏ ولا يسمعون إلا ترانيم الفضيلة والأخلاق الكريمة والسمو الروحي‏,‏ لكن ما نتمناه شئ وما يجري علي أرض الواقع شئ آخر ياسيدي‏,‏ ونحن مهما أجهدنا أنفسنا في تنشئة الأبناء وحسن رعايتهم وارساء القيم الدينية والأخلاقية في أعماقهم‏,‏ فليس من المستبعد أن يتورطوا في الخطأ ذات يوم‏,‏ ولا نملك حين يحدث ذلك إلا أن نتعامل مع أخطائهم بحكمة‏,‏ ونحاول جاهدين اعادتهم إلي الطريق القويم‏,‏ بل إن الخوف الشديد من جانبنا عليهم والحماية الزائدة لهم قد يكون لهما في بعض الأحيان أثر عكسي عليهم‏,‏ إذ يضعفان من خبرتهما بالخير والشر في الحياة‏,‏ لأننا بحمايتنا الزائدة عن الحد لهم قد سلبناهم بعض قدرتهم علي التمييز بين الخطأ والصواب‏,‏ فيسهل وقوعهم في الأخطاء‏..‏ لهذا فنحن مطالبون بالاعتدال حتي في الخوف علي الأبناء وفي حمايتنا لهم‏,‏ ومطالبون بإعانتهم علي الالتزام الأخلاقي والديني وتقديم المثل والقدوة لهم في ذلك‏,‏ ثم ندعو الله سبحانه وتعالي من قبل ذلك وبعده أن يكلأهم برعايته ويحميهم من شر أنفسهم وشرور الحياة الكثيرة‏.‏

والواضح ياسيدي هو أن مبالغتك أنت وزوجتك في حماية ابنتك الكبري والخوف عليها من كل شئ قد دفعاكما إلي فرض العديد من القيود علي حركتها‏..‏ فلم تسمحا لها بالحركة وحدها أبدا‏.‏ ولابركوب المواصلات ولا زيارة الصديقات أو استقبالهن فلم تحل هذه القيود كلها بينها وبين التفاعل مع إغراءات الشباب‏..‏ بل لعلها كانت دافعها إضافيا لها لمحاولة التجربة واكتشاف الأسرار المبهمة والتعرف علي المجهول الذي تفرض هذه القيود عليها لكيلا تعرفه‏,‏ كما أن بعدها عن الشبهات في رأي أبويها بالنظر للقيود العديدة المفروضة عليهما قد أغراها بالإقدام علي المغامرة دون خوف‏,‏ فكان ماكان من أمرها‏..‏ والآن فإنك تكابد الاحساس المرير بالحزن والهم ولوم النفس والتفتيش عن أسباب القصور في التربية التي سمحت لما حدث بأن يقع‏..‏ والحق أنك لم تقصر في رعاية ابنتيك وتنشئتهما حتي ولو كنت قد بالغت بعض الشئ في الخوف عليهما ومحاولة حمايتهما من الشرور‏,‏ وما حدث يمكن اعتباره زلة نجمت عن نزق الشباب وتطلعه للمغامرة‏,‏ والاثارة العاطفية وتجربة الأشياء المحرمة‏.‏
وكل ذلك يمكن تداركه وإصلاحه بأقل الخسائر بإذن الله‏,‏ ولابد أن ابنتك قد أدركت الآن فداحة الخطأ الذي ارتكبته في حق نفسها وأبويها وأختها الصغري التي ينبغي أن تكون المثل والقدوة لها‏,‏ ولابد أنها تحاسب نفسها علي ما جنته‏..‏ بيديها فأسقطت به اعتبارها في نظر أبيها وفي نظر كل من كان يظن فيها الالتزام الخلقي والديني‏.‏

غير أنني أري لك أن تقتسم همك بأمر ابنتك مع زوجتك‏,‏ ليس فقط لأنها شريكة حياتك وأم هذه الفتاة التي يهمها أمرها‏,‏ وإنما أيضا لكي تتخفف أنت كذلك من بعض ما تكتمه في قلبك ويجثم علي صدرك حتي لتسقط في الطريق غائبا عن الوعي‏,‏ ثم لكي تقوم الأم بدورها المهم مع ابنتها فتحتويها وتشعرها بخطئها وتعيدها إلي طريق الالتزام‏,‏ وتتفهم حقيقة مشاعرها وحقيقة ما بدر منها‏,‏ وتحدد إذا كان ما حدث مجرد نزوة عابرة أم شيئا أعمق من ذلك‏,‏ وفي هذه الحالة فلقد تجد من الملائم إذا كان ذلك الشاب مقبولا من الناحية العائلية والاجتماعية‏,‏ أن يتقدم لها ويضفي الشرعية علي ارتباطه بها إلي أن تسمح الظروف باتمامه‏,‏ وبذلك تؤدي البداية الخاطئة‏..‏ إلي نهاية مشروعة ومباركة بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق