26-12-2003
أكتب إليك قصتي عسي أن يجد فيها بعض المهمومين زادا يعينهم علي التماسك ومواصلة الطريق.. فأنا شاب في التاسعة والثلاثين من العمر, ومنذ13 عاما التقيت بفتاة جذبتني إليها بشدة, فقد كانت شعلة من النشاط وجذابة وأنيقة ومتوهجة ولا تفارق الابتسامة وجهها, وأحب كل منا الآخر, وتقدمت لخطبتها علي الفور, وعقدنا قراننا بعد شهر واحد من رؤيتي لها لأول مرة, وبدأت أكرس كل جهدي لإعداد عش الزوجية وبذلت جهدا مضاعفا في سبيل ذلك, لأنني من أسرة بسيطة ولا أحمل إلا مؤهلا فوق المتوسط, وفتح الله علي بعمل في اليمن كمدير مقيم لاحدي القري السياحية, فشددت الرحال إلي هناك وكان عمري وقتها28 عاما, وعملت لمدة عام ثم رجعت إلي بلدي عقب غزو الكويت.. وقد أثمرت الرحلة بناء جدار عش الزوجية المرتقب وبقي التشطيب والمحارة..
وذات يوم كنت في زيارة خطيبتي في بيت أسرتها.. ففوجئت بها تتعرض لنوبة آلام قاسية, فأسرعت بها إلي أقرب مستشفي, ونصحنا الطبيب هناك بالتوجه إلي قصر العيني فهرولت معها إلي هناك ومعي شقيقها, أما والدها فكان في عمله.. وأما والدتها فلقد رحلت عن الحياة منذ سنوات, وكل من شقيقتيها في بيت زوجها, وأظهرت الفحوص والاشعات أن ضغط دم خطيبتي مرتفع للغاية ويصل إلي280 علي210, مما يهدد حياتها بالخطر, كما أظهرت أيضا أنها بلا كلية يمني, وأن هناك بدلا منها مجموعة من الأورام ملأت فراغها وامتدت إلي الكبد, وتذكرت في هذه اللحظة أن خطيبتي كانت قد أبلغتني قبل الخطبة أنها أجريت لها عملية لإزالة الغدة فوق الكلوية.. وحين جاء والدها وواجهته بما عرفت صارحني بأنه قد أجريت لها عملية لإزالة الكلية اليمني عام1984 لتضخم الغدة التي تعلوها, وأنهم لم يخبروها بذلك حتي لا تتأثر نفسيا, المهم أن التحاليل أثبتت أن الورم من النوع الخبيث وأنه يفرز الادرينالين باستمرار, مما يؤدي إلي ارتفاع ضغط الدم, وأنه قد بدأ منذ عام1984, لكن الطبيب المعالج وقتها لم يتابعه بالعلاج الكيماوي مما أدي إلي عودته, وعولجت خطيبتي علاجا كيماويا
فلم يؤثر في الورم, وتبين أنه لابد من اجراء جراحة لها فتم إجراؤها دون تحسن ظاهر.. وأظهرت الاشعات أن الورم قد تعمق في الكبد وأن الوريد في طريقه للانسداد وعندما يحدث سيتوقف القلب, وبالتالي فإن الحالة ميئوس منها وخطيبتي قد لا تكمل العام.
وزلزلني ما سمعت من الطبيب, وفي لحظة اشراق وجدت نفسي أسأله عن امكانية إتمام زواجي منها الآن وفي هذه الظروف, فتعجب لما قلت واتهمني بالجنون, لأنه يحدثني عن الموت, وأحدثه عن الزواج, ثم قال لي في النهاية أنت وشأنك فيما تختار.
وتكتمت الأخبار السيئة عنها وعن الجميع بل وزعمت لها أنها قد شفيت وليس عليها سوي متابعة حالة ضغط الدم وتناول العلاج المطلوب, وبدأنا نناقش خطوات استكمال عش الزوجية واتمام الزواج في أقرب وقت.. وسعدت خطيبتي غاية السعادة بحماسي لإتمام الزواج في أقرب وقت, وشاركتها سعادتها وأنا أستعيد في ذهني ما قرأته من قبل لأحد الكتاب الكبار من أن في داخل كل منا طاقة عظيمة إذا تم استنفارها فإنها قد تقهر كل الأمراض, وراهنت علي أن هذه الطاقة تكمن في التعلق بأمل أو حلم يسعي الانسان بقوة لتحقيقه.
وبدأت أنا وزوجتي ننسج أحلامنا البسيطة ونسعد بتحقيق كل خطوة منها.. من دهان الشقة إلي شراء الأدوات الكهربائية إلي شراء المطبخ.. إلي الصالون, وكلما حققنا حلما طارت خطيبتي من الفرح.. وبقوة السعادة والأمل في الحياة عاشت فتأتي سنوات94,93,92 بلا نكسات مرضية شديدة, بعد أن كان الطبيب يقدر لها بضعة شهور علي قيد الحياة.
وأخيرا اكتمل إعداد عش الزوجية ولم يبق إلا الزواج.
فقمت بزيارة سرية إلي طبيبة لأمراض النساء وعرضت عليها الحالة وتقاريرها الطبية الكاملة وطلبت نصيحتها في مسألة الزواج, فأوصت بالغاء الإنجاب نهائيا من حياتنا لأن أي حمل سوف يرفع من ضغط الدم المرتفع أصلا وسيؤدي إلي تسمم الجنين ووفاته ووفاة الأم.
ورجعت إلي زوجتي وأقنعتها بضرورة استبعاد فكرة الحمل مؤقتا حتي يتم تنظيم ضغطها, واقتنعت هي علي الفور علي أساس أنها مرحلة مؤقتة وتزوجنا.. وملأت زوجتي حياتي دفئا وحبا وسعادة, ونظمت لي حياتي مما مكنني من ممارسة هواياتي بشكل مريح.
وبرغم السعادة الصافية.. فلم تخل الحياة من بعض النكسات المؤلمة.. كإصابتها بجلطة في المخ نتيجة لارتفاع ضغط الدم وهي نائمة ذات ليلة, ثم بجلطتين بعد ذلك خلال عامين, والحمد لله فقد شفيت من آثار هذه الجلطات الثلاث في فترات قياسية وعادت تتحرك بقوة.. وتتوهج بالنشاط والحيوية كما رأيتها أول مرة.. بل وراحت تبحث عن الإنجاب..
وبعد جراحة ثالثة لها منذ3 سنوات مرت زوجتي بفترة علاج كيماوي مكثف, كانت خلاله تتناول40 قرصا من الدواء كل يوم... واستمر هذا الحال عاما كاملا هدأت بعده الأحوال, وانخفض عدد الأقراص إلي20 كل يوم ورجعت إلي التفكير في الانجاب لشعورها بالنقص أمام عائلتي, وبالرغم من تأكيدي لها أنني لست مهتما بالموضوع ولا أفكر فيه.
وبعد فترة من الهدوء النسبي اشتدت عليها آلام القلب والضغط والشرايين والنقرس ورجعت للنوم فوق خمس وسائد لكي تتمكن من النوم, وإلي تناول الأربعين قرصا كل يوم, وبالرغم من كل ذلك فإن الابتسامة الحبيبة لم تفارق وجهها, بل وكانت تملأ البيت كله بهجة وسرورا وضحكا, كما ازداد اقترابها من ربها فلم تكن تفوتها صلاة.. وحين عجزت عن الصلاة واقفة, صلت جالسة وأكثرت من قراءة القرآن تستعين بها علي اخراجها من قهرها.. بل وأصرت دائما علي رفض مساعدتي لها في أعمال المنزل لتقوم بها وحدها.. ومن حين لآخر تزور إحدي دور الأيتام وتسعد برعاية من تلتقي به من أطفالها..
ومضت الحياة علي هذا النحو إلي أن جاءت اللحظة التي عجز فيها قلبها عن مواصلة المشوار, واختار منتصف شهر رمضان الماضي لكي يعلن عجزه عن الاستمرار.. وتوقف القلب الذي طالما أحب كل من حوله وأحبت صاحبته كل من حولها..
إنني علي ثقة من أن زوجتي الراحلة قد سعدت بحياتها معي.. وبكل لحظة عاشتها علي قيد الحياة بالرغم من كل الآلام الرهيبة التي عانتها, فلكم ضحكت من أعماق قلبها العليل ولكم أحبت بصدق كل من حولها ولكم نشرت البسمة حولها.. وسبحان الله فحتي بعد وفاتها كان وجهها مبتسما علي نحو أذهل كل من شاهده.
إنني لست نادما علي قراري بالزواج من فتاتي المهددة بالخطر من قبل البداية, فلقد سعدت بحياتي معها.. ووجدت لديها كل ما كنت أحتاج إليه من حب وعون وتشجيع وصحبة حلوة وجميلة, وأدعو كل انسان إلي ألا يتوقف أمام آلامه أو أي مرض أو أي أزمة.. وأن نتعلم كيف نحتوي آلامنا ونستمتع بما يتاح لنا من مساحة ولو كانت صغيرة من السعادة, وأن نرضي دائما بحياتنا.. وألا نستسلم أبدا لليأس من الأشياء, والله دائما هو المنقذ والميسر والمعين.. والسلام عليكم ورحمة الله.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
في أحد الأعمال الروائية الخالدة.. واجه البطل الاختيار بين مصلحته الشخصية ومستقبله, وبين الوفاء لمن يحبها والتضحية من أجلها, والوقوف إلي جوارها وتحمل كل التبعات المترتبة علي ذلك, فاختار بلا تردد الوفاء والحب والتضحية.. ولم يتوقف لحظة أمام ما سوف يتعرض له من أضرار من جراء ذلك, وعاش مع محبوبته حياة قصيرة لكنها حافلة بالحب وأنبل المشاعر وأصدق الأحاسيس, وتجاوز عن كل ما تعرض له من معاناة بسبب ظروف محبوبته إلي أن حم عليها القضاء ولقيت وجه ربها, ووقف فوق قبرها ليلقي عليها بوردة,. ويتلقي فيها العزاء محاطا بنظرات الإكبار والاحترام.. وفي طريق العودة سأله صديقه المقرب: ماذا جنيت من معاندة الحقيقة سوي أنك قد أضعت بضع سنوات ثمينة من عمرك, وها أنت تبدأ الآن من جديد وحيدا وحزينا كما كنت, فنظر إليه طويلا ثم قال له فضلا عما جنيته من ذكريات الحب والسعادة التي سترافقني إلي نهاية العمر.. فلقد جنيت الشيء الأهم وهو رضائي عن نفسي وعما فعلت واحترامي لذاتي الذي تأكد حين أخترت لنفسي ان اكون عند ظن من احبني وتعلق بالأمل في.. وعند ظن اصحاب المثل العليا والقيم الاخلاقية ولو لم أفعل ما فعلت لظللت نادما علي خذلاني لمن أحبتني إلي ما لا نهاية!
ثم مضي في طريقه مرفوع الرأس دامع العين.
وأحسب أن هذا هو نفس ما تشعر به الآن يا صديقي وأنت تسترجع فصول قصتك القصيرة مع زوجتك الراحلة.. وهو الرضا عن النفس.. واحترام الذات.. والاحساس بأنك قد أديت واجبا إنسانيا لم تكن لترضي عن نفسك لو كنت قد تقاعست عنه, وآثرت السلامة والنظرة الذاتية الضيقة للأمور.. أما ذكريات الحب والسعادة في حياتك فهي صادقة وحارة لأنها منتزعة من بين ركام الآلام والأحزان.. أو مسروقة من العمر القصير المشحون بالعناء.. ولهذا فلقد أثرت روحك وأشبعت احتياجاتك العاطفية والانسانية, واستمتعت بها بأكثر مما يفعل الآخرون, لأنك كنت تدرك جيدا أنها لحظات قليلة ولن تطول.. فكأنما قد عوض لك الله سبحانه وتعالي قصر المسافة بجمال الرحلة وصدق مشاعرها وأحاسيسها.. وهذا هو حلم بعض البشر الذي عبر عنه الرسام الايطالي الشهير موديلياني بقوله: أتمني أن أحيا حياة قصيرة.. بشرط أن تكون حافلة بأسباب السعادة!
غير أن السعادة في النهاية لغز شخصي لايفك طلاسمه إلا صاحبه.
فلقد يستشعر الانسان السعادة وسط أقسي الظروف وأكثرها مدعاة للمعاناة, ولقد يستشعر الانسان التعاسة وسط أفضل الظروف لاستشعاره السعادة والابتهاج بالحياة.. ولهذا قال الكاتب الأمريكي جون ريد أن القدر الأكبر من سعادة الانسان إنما ينبع من داخله هو وليس من الظروف المحيطة به وهي كلمة صادقة وتنطبق تماما علي زوجتك الراحلة ذات الابتسامة الدائمة والتي كانت تشيع روح البهجة والمرح والسرور في حياتكما وهي تكابد أقسي الآلام والأمراض.
إن تجربتك مع زوجتك الراحلة لم تكن خصما من رصيد السعادة في حياتك.. وإنما كانت إضافة لهذا الرصيد وإثراء له, ومن حقك أن تقول في ختام رسالتك إنك لست نادما علي اختيارك للارتباط بها بالرغم من علمك بما ينتظرها من أقدار محتومة, ولا عجب في ذلك لأن المرء لايندم علي الحب والوفاء والشهامة, وإنما يندم حقا حين يضعف عن اتخاذ الموقف الذي يليق به وبمن يحب لبعض الأسباب والحسابات الدنيوية قصيرة النظر.. مع تمنياتي لك بالتوفيق والسداد وتعويض السماء لك في قادم الأيام إن شاء الله.
مدونة بريد الجمعة مدونة إجتماعية ترصد أحوال الشارع المصرى والوطن العربى مدونة تتناول قصص, ومشكلات حقيقية للوطن العربى مثل: (ظاهرة العنوسة, الخيانة الزوجية, الخلافات الزوجية, التفكك الأسرى, الطلاق وآثاره السلبية على الأبناء, الحب من طرف واحد, مرض التوحد, الإبتلاءات من فقر ومرض وكيفية مواجهة الإنسان لها) ثم يعرض الموقع فى أخر كل موضوع رأى المحرر فى التغلب على هذه المحن
الأربعاء، ١ مارس ٢٠٠٠
ذكريات الحب والسعادة!
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق