الأربعاء، ١ مارس ٢٠٠٠

الأشواق المحرومة‏!‏

30-05-2003
أنا من قراء بابك هذا منذ أنشئ تقريبا‏,‏ وكنت صاحب إحدي المشاكل التي عرضت فيه منذ نحو خمسة عشر عاما بعنوان‏[‏ هواجس في الليل‏],‏ وقد أخذت برأيك الذي أبديته لي‏,‏ لكن الهواجس لم تنته بعد‏,‏ بل ظلت تلازمني طوال هذه السنين‏,‏ تزداد أحيانا وأتغلب عليها في أحيان أخري بالصلاة وقراءة القرآن الكريم‏..‏ ولتسمح لي بأن أذكرك بقصتي باختصار‏:‏
فأنا مهندس من عائلة كبيرة والحمد لله‏,‏ وحين كتبت اليك كنت وقتها في حوالي الخامسة الثلاثين من عمري‏..‏ متزوجا قبل سبع سنوات‏,‏ ورزقني الله بولد وبنتين‏,‏ وعشت مع زوجتي في سعادة‏,‏ وفي يوم مشئوم صدمت سيارة مسرعة زوجتي‏,‏ مما تسبب في اصابتها بشلل نصفي أقعدها عن الحركة‏,‏ ولقد حاولت زوجتي في البداية أن تتقبل الأمر الواقع‏,‏ ووقفت بجانبها أشجعها علي أن تكون شبه طبيعية‏,‏ ووقف معنا الأهل والجيران والأصدقاء‏,‏ ولكن بمرور الأيام بدأت زوجتي تزهد الحياة لإحساسها بالعجز في نواح كثيرة‏,‏ كما بدأت تشك في أقرب الناس إلينا ممن يحاولون مساعدتها في المنزل حتي أختها لم تسلم من شكوكها‏..‏ وأصبح الكلام لا يجدي معها لإفهامها حقيقة وضعنا‏,‏ مما جعل الآخرين يبتعدون عنا الواحد تلو الآخر‏..‏ وبدأنا نعيش في شبه عزلة‏,‏ فأرجع من العمل لأساعد في إعداد الطعام لأن الأولاد كانوا مازالوا أطفالا أكبرهم في السادسة‏,‏ وبعد الظهر أجلس لأذاكر لهم وأرعاهم كما أرعي زوجتي المريضة إلي أن ينام الجميع وأنام أنا الآخر من التعب والارهاق بضع ساعات‏,‏ ثم أستيقظ باقي الليل وتلازمني الهواجس‏,‏ فأسأل نفسي لماذا لا أتزوج من زوجة أخري بغير أن أخبر زوجتي المريضة بذلك؟‏,‏ إنني في حاجة لإنسانة تستطيع أن تحتويني وتعوضني عن الحرمان الجسدي والنفسي والعاطفي‏,‏ وأنا مازلت في عنفوان شبابي‏..‏ ثم أراجع نفسي وأتساءل‏:‏ وما ذنب زوجتي المريضة في ذلك‏,‏ وما ذنب الأطفال إذا عرفوا بذلك الزواج من أي مصدر؟‏..‏ بل ماذا لو كنت أنا الذي أصبت بدلا منها؟ هل كانت تتخلي عني؟‏..‏ وهبني قررت الزواج بالفعل‏,‏ هل أجد زوجة شابة تقدر ظروفي وتستطيع أن تتنازل عن بعض حقوقها لصالح الزوجة المريضة؟‏!‏
وفي غمرة تلك الهواجس والأحاسيس كتبت لك أستشيرك في أمري‏,‏ وأشرت علي بالصبر ومحاولة التأقلم مع هذه الحياة ومع هذه الزوجة التي لا ذنب لها فيما جري لها‏,‏ ولقد أخذت بنصيحتك لأني كنت مقتنعا بها بالفعل‏,‏ والآن وبعد مرور كل تلك السنين‏,‏ وبعد أن كبر الأبناء فإني مازلت أعيش تلك الهواجس‏..‏ ومازلت محتاجا لإنسانة تشاركني ولو بعض الوقت همومي وأفراحي‏.‏
فلقد تخرج الابن والبنت الكبري من الجامعة‏,‏ بل وتزوجت الابنة في العام الماضي‏,‏ ووفقنا الله في أن تسكن معنا بنفس الحي‏..‏ وبذلك أصبحت تمر علينا يوميا لمساعدتنا في شئون المنزل وشئون والدتها‏,‏ أما البنت الصغري فهي مازالت في أولي جامعة‏,‏ وقد بدأت أشعر ببعض الفراغ الذي جعل الهواجس تزداد‏..‏ فأنا مازلت في بداية الخمسينيات من عمري وبصحة جيدة والحمد لله‏,‏ وأحتاج بالفعل لإنسانة تعرف ربها‏,‏ وتستطيع أن تحتويني وتقدر ظروفي وظروف زوجتي المريضة التي لن أتخلي عنها أبدا‏..‏ وأنا علي ثقة من أن هناك سيدات متدينات مصليات يعرفن ربهن حق المعرفة‏,‏ ويستطعن أن يقدرن تلك الظروف خاصة في سننا هذه‏,‏ صحيح أن ذلك سيكون علي حساب بعض حقهن‏..‏ ولكن جزاء ذلك سيكون عند الله كبيرا‏..‏ مع العلم أني لن أخبر ـ زوجتي بالطبع ـ ولا الأبناء بهذا الزواج‏..‏ ولن أدع زوجتي تشعر به حتي لا تزداد حالتها سوءا‏..‏ والمشكلة الكبري أنني لن أستطيع المبيت مع الزوجة الجديدة لأن زوجتي المريضة تحتاجني كثيرا خلال الليل لأساعدها في بعض الأمور الخاصة‏..‏ فهل أستطيع أن أجد تلك الزوجة الجديدة من بين قرائك؟
وهل ستشجعني علي ذلك أم ستنهاني عنه‏..‏ إنني أرجو منك التشجيع لأنني لم أعد أحتمل تلك الحياة هكذا‏,‏ وأحتاج بالفعل لإنسانة تشاركني ما بقي لي من الحياة وتحتويني بمعني الكلمة لتعصمني من الوقوع في الخطيئة لا قدر الله‏..‏ وسيكون جزاؤها عند الله كبيرا لتنازلها عن بعض حقوقها برضا وتسامح مراعاة للظروف‏.‏
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
حاولت أن أسترجع من الذاكرة المجهدة رسالتك الأولي‏,‏ فتذكرت بعد جهد جهيد بعض تفاصيلها‏..‏ وشعرت تجاهك بكل ما تستحق من الاحترام الانساني لوفائك لزوجتك المريضة‏,‏ وحدبك عليها‏,‏ ورعايتك لها‏,‏ وصبرك علي ما افتقدته في حياتك معها حفاظا عليها ورعاية لأبنائك‏..‏ وكل ذلك مما يحسب لك في سجل الوفاء والتضحية وإنكار الذات وإعلاء سعادة الزوجة والابناء علي كل الاعتبارات‏,‏ غير أن للنفس بعد كل ذلك أشواقها المحرومة التي تلح عليها‏,‏ ولاتني عن أن تتراءي لها وتداعبها من حين لآخر‏,‏ ولقد يخفت نداؤها في بعض الأوقات تحت وقر المسئولية الانسانية والعائلية‏,‏ ولقد يشتد أوارها عند استرجاع الذكري واستشعار دبيب الطاقة الحبيسة والاستسلام للرثاء للنفس‏..‏
وكل الأطراف محكومون بأقدارهم وظروفهم المؤلمة‏..‏ فالزوجة المريضة لا ذنب لها فيما امتحنتها به الأقدار الحزينة‏..‏ والزوج المحروم لا حيلة له في حرمانه وأشواقه الحبيسة‏..‏ لكن ثق من أن تضحيتك ـ بالرغم من ذلك ـ لم تذهب سدي‏,‏ ولم تكن هباء منثورا‏..‏ فلقد أثمرت ثمارها الطيبة‏,‏ ونلت جوائزها في الدنيا والآخرة‏,‏ والرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه يقول لنا ما معناه إن‏:‏ من أعطي فشكر‏,‏ ومنع فصبر‏,‏ وظلم فغفر‏,‏ وظلم فاستغفر‏,‏ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون‏.‏
ولقد كان الامام أبوحامد الغزالي يقول‏:‏ اعلم أن أجر الصابرين فيما يصابون به أكبر من النعمة عليهم فيما يعافون منه‏.‏
وما توفيق الأبناء في الدراسة والحياة إلا مظهر من مظاهر جائزة الأمن هذه التي ينالها من منع فصبر مثلك‏,‏ وما توفيقك في أداء رسالتك تجاههم وتجاه زوجتك وفي حياتك العملية إلا بعض جوانبها الأخري‏,‏ فإن هفت نفسك بعد طول المجاهدة والصبر إلي ما ينقصها‏..‏ فلقد قدمت من العطاء وإنكار الذات ما يشفع لك في التطلع إليه‏.‏
فلقد شب الأبناء عن الطوق وبلغوا شاطئ الأمان‏,‏ واجتازوا المرحلة التي كان من الممكن أن يتأثروا فيها سلبا بارتباط أبيهم بغير أمهم‏,‏ وتخرج أكثرهم وعملوا‏,‏ بل وتزوجت الابنة الكبري واستقرت في الجوار القريب‏,‏ وأسهمت مع أختها الصغري في رفع بعض العبء الانساني عن كاهلك المثقل‏,‏ ولا يستطيع منصف أن ينكر عليك الآن حقك في التماس بعض الراحة بعد طول العناء‏,‏ خاصة أن مرض الزوجة من الرخص الشرعية التي تبيح للزوج الذي لايصبر علي نفسه الإقدام علي ما تفكر فيه‏..‏
فاختر لنفسك ما تراه منصفا لك وملبيا لاحتياجاتك الانسانية إذا تيقنت تماما من أنه لن يترتب عليه الإضرار بزوجتك المريضة‏,‏ واحرص الحرص كله علي عدم إيذاء مشاعرها وعدم إهمالها أو الانصراف عنها أو التقصير في حقها‏..‏ ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏...‏ والسلام‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق