الأربعاء، ١ مارس ٢٠٠٠

شــجرة الصــبار

07-11-2003
أكتب إليك بعد طول تواصل بيننا علي البعد‏,‏ ومن خلال رسائل أو قصص بريد الجمعة‏..‏ وأشعر الآن أنني في حاجة لأن أروي لك قصتي‏..‏ وأستعين برأيك علي ما يشغل فكري‏..‏ فأنا شاب في الخامسة والثلاثين من عمري‏..‏ تنبهت للحياة فوجدتني طفلا يعيش بين أم ترتدي السواد دائما وشقيق يكبره بثماني سنوات‏..‏ ويبدو دائما مهموما وحزينا‏,‏ ونقيم معا في شقة متوسطة بإحدي مدن الوجه البحري‏..‏ وأدركت منذ البداية أني أعيش في بيت حزين يخيم عليه الصمت معظم الأوقات‏,‏ ولا يعرف مرح الطفولة أو عبثها‏..‏ فأمي صامتة علي الدوام وكثيرا ما أراها تبكي لفترات طويلة‏,‏ وأخي الأكبر هاديء دائما ورزين كأنما قد أضاف إلي عمره عشر سنوات أخري‏.‏ ونحن نعيش علي معاش أبي الضئيل‏..‏ وليس لنا أقارب في هذه المدينة التي نقيم بها‏,‏ فلقد انتقلت إليها الأسرة مع أبي حين نقل للعمل بإحدي المصالح الحكومية بها‏,‏ ثم لقي وجه ربه وابنه الأكبر في السنة الأولي الثانوية وابنه الأصغر في السنة الأولي الابتدائية‏,‏ وبرحيله عن الحياة عاشت الأسرة حياة جافة متقشفة‏,‏ فلا ملابس جديدة ولا مصروف لي أو لأخي‏..‏ وأنا أذهب إلي المدرسة أخب في ملابس أخي القديمة بعد تقصيرها‏..‏ وهو يقضي العام والعامين بقميص واحد لا يتغير وبنطلون يضاف إليهما في الشتاء القارص بلوفر مستهلك قديم‏,‏ ولا يشكو من شيء‏.‏ ولا يشعر بأي نقص‏,‏ في حين كنت أنا أتذمر كثيرا من سوء الأحوال وقلة الشيء والحرمان من كل ما يتمتع به الأطفال الآخرون‏,‏ فإذا عبرت عن كل ذلك أمامه‏..‏ تحدث معي برفق كأنه أبي‏..‏ وطالبني بالصبر إلي أن يحصل علي الثانوية العامة ويعمل ويعوضني عن كل ما حرمت منه‏..‏ ويهون علي أحوالنا بأننا أفضل من غيرنا‏,‏ فنحن في النهاية لنا بيت ننام تحت سقفه ولا ننام في العراء وأم ترعانا وتطهو لنا طعامنا‏,‏ ولنا أصدقاء نحبهم ويحبوننا من رفاق المدرسة والشارع‏,‏ نلعب معهم ونسري عن أنفسنا‏,‏ فيلقي علي سخطي وتذمري ماء باردا‏..‏ وأنظر إليه متعجبا لصبره ورزانته وقدرته الفائقة علي غرس الطمأنينة في نفسي‏,‏ ولم يكن شقيقي يقوم بهذه المهمة معي وحدي بل كان يكررها مع أمنا حين تضعف وتنهار وتبدأ نوبة طويلة من نوبات البكاء‏..‏ فيحتضنها أخي ويهدهدها‏..‏ ويقرأ في أذنها آيات الذكر الحكيم‏,‏ ويحدثها عن المستقبل الزاهي الذي سنصل إليه حين يعمل‏..‏ وأواصل أنا تعليمي حتي أتخرج وأعمل‏..‏ وننتقل إلي مستوي آخر من الحياة وهكذا حدد أخي مصيره ومصيري‏,‏ و
هو لم يكد يبلغ الخامسة عشرة من عمره‏,‏ فلقد قرر أن أواصل أنا تعليمي‏..‏ وأن يتوقف هو عن التعليم بعد الثانوية العامة‏..‏ ولا أدري حتي الآن كيف توصل إلي هذه الصيغة وهل جاءت منه‏..‏ أم من أمي‏..,‏ مع ادراكي أن أمي كانت دائما تشفق عليه مما يحمل نفسه من مسئوليات‏,‏ وتقول إنه قد خلف أباه في الهم والمسئولية دون أن يطلب منه أحد ذلك‏.‏

وبالفعل فلقد حصل أخي علي الثانوية العامة وعمره‏19‏ عاما‏,‏ وبمجموع لا بأس به‏..‏ وحاول أصدقاؤه أن يحثوه علي الالتحاق بالجامعة لكيلا يضيع علي نفسه فرصة متاحة له‏..‏ بل أمي نفسها أرادت أن تبريء ذمتها من شبه ظلمه أو إجباره علي التضحية من أجل الأسرة‏..‏ فتركت له حرية القرار وقالت إنها مستعدة للصبر علي سوء الأحوال سنوات أخري لكي يحقق هو أحلامه‏..‏ لكن هيهات أن يغيب عنه‏,‏ واقع الحال وتكاليف الدراسة بالجامعة التي لا يتوافر منها قرش واحد‏,‏ وهكذا اتخذ قراره بملء ارادته وإحساسه بالمسئولية عنا‏,‏ وتقدم إلي المصلحة التي عمل بها أبي طالبا وظيفة‏,‏ وساعده زملاء أبينا في الالتحاق كظهورات أي باليومية في البداية ثم تم تثبيته بعد عام‏.‏ وعرفت حياتنا بعض اليسر‏,‏ وأصبح مطبخ بيتنا يعرف اللحم مرة كل اسبوع‏,‏ وأصبح أخي يعطيني مصروفا صغيرا أذهب به إلي المدرسة‏,‏ ويشتري لي الكتب والكراسات وحذاء كلما بلي حذائي‏,‏ ولأمي فستانا غير الفستان الأزلي الذي رأيته عليها أكثر من سبع سنوات‏,‏ واستقرت حياته علي نظام واحد لا يتغير يذهب إلي العمل صباحا‏..‏ ويرجع في الظهر حاملا كيسا من الخضر وأحيانا من الفاكهة‏..‏ فيقبل يد أمي‏..‏ ويسألني عن أحوا
لي ويتسامر معي ومع أمي علي مائدة الطعام ثم ينام ساعة‏..‏ ويخرج في المساء ليلتقي بأصحابه في المقهي ويعود للبيت في العاشرة‏,‏ فيطمئن علي وعلي أمي وينام‏.‏ ومضت بنا الأيام وحصلت علي الثانوية العامة‏..‏ وفرح أخي بنجاحي فرحة طاغية وترك لي اختيار الكلية التي أدرس بها‏,‏ لكني إشفاقا عليه من نفقات الدراسة بالجامعة بالإسكندرية أو القاهرة‏,‏ اخترت معهدا عاليا كان قد افتتح قبل عامين في عاصمة الإقليم الذي نقيم به وراجعني هو في هذا الاختيار مرارا فوجدني مصرا عليه‏..‏ وهكذا التحقت بالمعهد وأصبحت أسافر إلي عاصمة الأقليم بسيارات الأجرة في الصباح وأرجع في الأصيل‏,‏ وتحمل أخي كل النفقات وهو سعيد وبغير أن يشعرني مرة واحدة بعبئي الكبير علي مرتبه الصغير‏..‏

وفي هذه الأثناء كان أخي في السابعة والعشرين من عمره‏..‏ وكنت أعرف أن قصة حب عفيفة تجمع بينه وبين فتاة من جيراننا تربي أخوتها الأيتام بمعاش ضئيل وبعائد عملها في تطريز الثياب‏,‏ فسألته لماذا لا يخطبها ويسعد قلبه كما يسعدنا ؟‏,‏ فأجابني بأن أمي لن تسعد بذلك لأنها تعتمد عليه اعتمادا كليا وتعتبره رجلها ورجل البيت‏,‏ وستخشي أن تشغله الفتاة عن واجباته‏..‏ لهذا فهو يؤجل كل شيء إلي أن أتخرج خاصة أن فتاته علي الناحية الأخري لا تتعجل الزواج‏,‏ وتريد أن تطمئن أولا علي انتهاء أخوتها من تعليمهم‏..‏ فازددت حبا له واكبارا‏..‏ وحاولت اثناءه عن هذا الموقف لأن لنفسه عليه حقا‏..‏ فلم يتزحزح عن موقفه‏.‏
وتخرجت في المعهد العالي وأصبحت مهندسا زراعيا‏,‏ ولا أستطيع أن أصف مدي الزهو والافتخار اللذين أحس بهما أخي الحبيب عند تخرجي‏..‏ وكأنما قد حصل علي الشهادة لنفسه‏,‏ وعملت بمديرية الزراعة في نفس المدينة‏..‏ وقبضت أول مرتب لي فهرولت به إلي أخي ليتصرف فيه كيفما يشاء‏,‏ فأبي أن يأخذه مني وطلب مني أن أعطي لأمي مبلغا صغيرا منه وأحتفظ لنفسي بالباقي‏,‏ لأنني سأحتاج إلي ملابس جديدة تليق بالباشمهندس الزراعي‏,‏ وظل أخي يتحمل الجزء الأكبر من المسئولية المادية عن حياة أسرتنا ولا يسمح لي بالمساهمة إلا بالقليل‏..‏ ويطلب مني ادخار جزء من مرتبي لأنني سأتزوج ذات يوم وسأحتاج إلي النقود‏..‏ ولا أدري حتي الآن كيف كان يدبر أمور حياته وحياتنا بمرتبه البسيط‏..‏ ولا كيف كنا نجد لديه دائما النقود حين ينفد مرتبي ونحتاج إلي نجدة؟‏!‏ ولا تفسير لدي سوي أن البركة كانت تحل علي مرتبه الصغير‏..‏ فيصنع به المعجزات‏..‏

وعدت إلي الحديث مع أخي عن زواجه وقد تجاوز الثلاثين فاعترف لي بأنه قد تحدث مع أمنا عن ذلك‏..‏ فلاحظ اكتئابها بالرغم من ترحيبها الظاهري بزواجه‏..‏ كما أنه تألم كثيرا لاعتراضها علي الفتاة التي تنتظره منذ سبع سنوات بحجة أنها فقيرة معدمة وحملها ثقيل‏,‏ وأنه سيغرق في حمل مسئوليات أخوتها الصغار‏,‏ بعد أن تحمل مسئوليتنا بعد أبينا‏..‏ وقال لي إنه لم يجادل أمنا‏..‏ وفضل تأجيل الموضوع إلي وقت آخر وعجبت لأخي‏..‏ لماذا يتنازل دائما عن حقه مراعاة لغيره‏..‏ وهو الذي يحق له بحكم أفضاله علينا أن يفرض ما يشاء؟ وعاتبت أمي طويلا في هذا الأمر‏..‏ وحدثتها عن تضحيات أخي الصبور المضحي الذي لا يمن علينا بما قدم لنا‏..‏ فلم تزد عن أن تقول لي إنها تشفق عليه من أن يتحمل المزيد من المسئوليات‏,‏ وتتمني له عروسا خالية من المشاكل‏.‏
وكنت خلال هذه الفترة قد تعرفت بزميلة لي وتبادلنا الإعجاب ثم المشاعر العاطفية‏,‏ وصارحتها بكل ظروفي فقبلت بها وتعاهدنا علي الزواج حين تسمح الأحوال‏..‏ وقلت لها صراحة إنني أنتظر أن يتزوج أخي ويسعد بحياته قبل أن أقدم أنا علي الزواج‏,‏ وأيدتني في ذلك ورويت لأخي ما حدث ففوجئت به يحثني علي خطبة هذه الفتاة علي الفور وعلي المضي في مشروع الزواج دون انتظار‏,‏ لأنها لن تنتظرني إلي أجل غير مسمي‏,‏ وليس من العدل مطالبتها بذلك‏,‏ كما أن زواجي لن يلقي اعتراضا من أمي لأنني طفلها المدلل كما قال وتخشي غضبي منها‏,‏ ولأن البيت لن يخلو عليها بعد زواجي مادام لم يتزوج هو بعد‏,‏ وجادلته في ذلك طويلا فلم يغير رأيه‏..‏ وحدد موعدا لاصطحابي لمقابلة والد الفتاة وطلب يدها منه‏,‏ وتمت الخطبة وبدأت أستعد للزواج وأخي معي في كل خطوة يشير علي بالرأي السديد ويحل لي المشكلات المادية التي تواجهني‏..‏ ويقرضني ما أحتاج إليه‏..‏ ويقترض من جهة عمله ليعطيني‏..‏ ويؤجر لي شقة قريبة مناسبة‏,‏ ثم يحتفل بزواجي مع أصدقائه العديدين ـ وهو المحبوب تماما منهم لدماثة أخلاقه ـ احتفالا صاخبا ـ وهكذا تزوجت وانتقلت إلي عش الزوجية وأنجبت طفلا سميته بلا تردد باسم أخي
الذي مازال عزبا‏..‏ ومازال يحاول إقناع أمي بالموافقة علي زواجه من فتاته وقبول إقامتها معه في مسكنه لأنه لا يستطيع ترك أمه واستئجار شقة أخري‏..‏ وأمنا توافق بلسانها وتكتئب وتحزن‏,‏ فيؤجل هو الموضوع إلي وقت آخر‏,‏ وأنصحه أنا بألا يتردد أكثر من ذلك وألا يخشي غضب أمنا مادامت توافق بلسانها علي ما يريد‏..‏ فلا يستجيب لي‏..‏

وظل الحال علي ما هو عليه إلي أن انتقلت أمي إلي رحمة الله‏.‏ وواريناها الثري وبكيناها طويلا‏,‏ فوجد أخي في نفسه الشجاعة علي الإقدام علي الزواج بعد طول الصبر والحرمان‏..‏ وهو يقترب من الأربعين وأراد أخي أن يتزوج في صمت وبلا احتفال مراعاة لرحيل أمي‏,‏ لكني وجدت أن مرور عام علي وفاتها يعفينا من أي حرج‏,‏ وأصررت علي أن نحتفل بزواجه احتفالا يليق بصبره وحرمانه وتضحياته وشاركني أصدقاؤه العديدون هذا الإصرار‏,‏ وأقمنا له فرحا جميلا كانت فرحتنا به فيه صادقة ومن القلب‏..‏ ورقصت أمامه بالعصا طويلا حتي نهض من الكوشة واحتضنني وقبلني والدموع تسح من عينيه‏..‏ ورقص كل أصدقائه المخلصين بين يديه وغمروه بالأحضان والقبلات‏,‏ وكانت ليلة من أسعد ليالي العمر‏,‏ وبدأ أخي حياته الزوجية مع فتاته التي انتظرته سنوات طوالا‏,‏ وأصبح هو ولي أمر أخوتها الصغار وراعيهم كما كان ولي أمري والراعي الأمين لي‏..‏ وأنجبت زوجته طفلا سماه أخي علي اسمي‏,‏ وبعد عامين حملت زوجته من جديد وسعد بحملها كثيرا ورجا ربه أن تنجب زوجته طفلة لتكتمل بها سعادته‏..‏ فلقد كان يحب البنات وكثيرا ما تمني لو كانت لنا أخت تغمرنا بحنانها‏..‏ ونرعاها بحبنا وعطفنا عليها‏..‏ وبلغت زوجته الشهر التاسع من الحمل‏,‏ وترقب أخي في قلق ولادتها‏..‏ إلي أن حل الموعد فأسرع بها إلي عيادة الطبيب المولد‏,‏ وسهر إلي جوارها حتي الصباح ولم تلد بعد‏,‏ ثم نصحه الطبيب بأن يستريح في بيته بعض الوقت ويرجع مرة أخري لأن الطلق لن يعاود زوجته قبل‏6‏ أو‏7‏ ساعات‏,‏ واستجاب للنصيحة وعاد إلي بيته‏,‏ وبقيت أنا إلي جوار زوجته ونمت علي المقعد حتي تنبهت علي صراخ الأم والوليدة‏,‏ فأدرت رقم تليفون أخي لأزف إليه البشري وأدعوه للحضور فرن الجرس طويلا دون استجابة‏..‏ وقدرت أن التعب قد غلبه فراح في سبات عميق‏,‏ وتوجهت إلي البيت ودققت الجرس طويلا دون جدوي‏,‏ فأخرجت مفتاح الشقة‏,‏ وقد كان كل منا يحمل مفتاح شقة الآخر‏,‏ وفتحت الباب ودخلت فإذا بي أري أخي الحبيب راقدا علي أرض الصالة منكبا علي وجهه وثمة جرح صغير في رأسه من أثر السقوط‏..‏ وبقعة من الدم علي الأرض وهو غائب عن الحياة‏!‏

صرخت من أعماق قلبي‏..‏ ولطمت كالثكالي‏..‏ وأصابتني هيستريا لم أعد أعرف معها ماذا أفعل‏..‏ ولا ماذا أقول‏..‏ ولا من هم هؤلاء الأشخاص الذين ملأوا الشقة‏..‏ وسحبوني خارجها بالقوة‏,‏ ولم أفق لنفسي إلا في اليوم التالي وأنا أسير وراء أخي وأبي وتوءم روحي وعزوتي في الحياة لأواريه الثري‏,‏ وفي سرادق العزاء في المساء جلست غارقا في أفكاري ذاهلا عن كل شيء‏,‏ أهكذا تمضي أمور الحياة‏..‏ أيموت أخي المضحي الخدوم العطوف قبل أن يري الطفلة التي تمناها من ربه‏..‏ أتنتهي صفحة حياته في الثالثة والأربعين من العمر بغير مرض أو إنذار‏,‏ وبعد ثلاث أو أربع سنوات فقط من السعادة مع زوجته‏,‏ وقد كابد قسوة الحياة والحرمان والصبر معظم سنوات العمر القصير‏..‏ ألم يكن يستحق أخي الصبور فسحة أخري من الحياة السعيدة التي انتظرها بصبر طويل‏.‏
لقد فقدت الحياة كل معني لها عندي منذ رحيل أخي‏..‏ ولقد انقطعت عن العمل نحو الشهر بعد رحيله وزارني طبيب المديرية واحتسبها إجازة مرضية ووصف لي علاجا للاكتئاب والانهيار النفسي وأنا الآن لا أنام إلا بالمنومات‏,‏ وأشعر بأن الدنيا قد خلت من حولي‏..‏ وأصبحت مقطوعا من شجرة بلا أهل ولا عزوة‏..‏ وكلما تذكرت صبر أخي علي جفاف الحياة وتضحياته لي وعطاءه الكريم وعطفه علي أمه‏..‏ وحرصه علي ارضائها علي حساب سعادته الشخصية‏,‏ انفجرت ينابيع الدموع من عيني‏..‏ واسودت الحياة في وجهي‏.‏ ولقد أردت أن أكتب لك قصة أخي هذا تكريما له واعترافا بفضله علي ولكي أستشيرك كيف أخرج من الظلام الذي أعيشه الآن وكيف أعود إلي الحياة من جديد‏.‏

إنني لا أغادر مسكني بعد عودتي من العمل‏..,‏ وأقضي معظم أوقاتي في البيت صامتا مكتئبا‏..‏ وزوجتي تحاول التسرية عني ولكن دون جدوي‏,‏ كما أنني أزور أرملة أخي من حين لآخر وأطمئن علي أحوالها وأحوال الطفلين‏..‏ وأرجع أكثر حزنا واكتئابا‏..‏ فبماذا تنصحني أن أفعل؟

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
يحق لك أن تحزن أعمق الحزن علي فقد مثل هذا الأخ الصدوق البار بأمه وأخيه‏,‏ والمضحي لإسعاد الغير بما تملك يداه ولو كان قليلا‏,‏ فعلي مثله تبكي البواكي بالفعل وتنتحب‏..‏ وبغياب أمثاله تفقد الحياة الكثير من خيريتها ومثالياتها وقيمها العليا‏..,‏ فلقد كان واحدا من الأبرار والصالحين الذين وصفهم الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه بقوله هم القوم لا يشقي بهم جليسهم
وقال عنهم في موضع آخر أنهم يستحيون من الله استحياءهم من ذوي الهيبة من قومهم

ولاشك أيضا في أنه كان ممن قال فيهم الشاعر الأديب جبران خليل جبران من الناس من يعطون بفرح ويكون فرحهم هو مكافأتهم علي هذا العطاء
غير أن مكافأة أخيك لن تقتصر علي الفرح بالعطاء في حينه فقط‏,‏ وإنما سيضاعف له الله سبحانه وتعالي الجزاء في العالم الأفضل الذي انتقل إليه‏..,‏ فإن كان الحزن علي رحيله يملأ قلبك الآن‏,‏ فلسوف تتخفف من بعضه حين تتذكر ما يلقاه شقيقك وأمثاله عند ربهم من نعيم‏.‏ ولست أطالبك بأن تنفض الحزن عنك علي الفور وتعود إلي سابق حياتك قبل هذه المحنة‏,‏ فالحق أن ابتسار الحزن علي ما يستحق الحزن عليه‏,‏ ليس من الصحة النفسية في شيء‏,‏ وإنما علي المحزون أن يعترف بحزنه ويسلم به ويصبر عليه حتي يستوفي عمره المقدور‏,‏ ويتحول إلي حزن هاديء‏,‏ لا يفسد علي المرء حياته‏,‏ ولا يعرقل تواصله مع الحياة ولا يخصم من قدرته علي العمل والعطاء وأداء الواجبات الإنسانية والعائلية‏,‏ ولا يصبغ رؤيته للحياة بالمرارة والسواد‏.‏

وفترة الحزن الطبيعية علي الأعزاء الراحلين يقدرها علماء النفس بستة أشهر‏,‏ فإن زادت علي ذلك تحولت إلي اكتئاب مرضي يستدعي العلاج لدي الأطباء المتخصصين‏,‏ وهو ما لا أرجوه لك بإذن الله‏..‏ خاصة أن مهام انسانية جليلة تنتظرك وتنتظر خروجك من بئر الأحزان لكي تؤديها‏..‏ فلقد جاء دورك لكي ترد الجميل لشقيقك الراحل وترعي طفليه وأرملته‏,‏ كما رعاك صغيرا وكبيرا‏,‏ ولكي تتحمل المسئولية الانسانية عنهم‏,‏ كما تحمل هو مسئوليتكم الانسانية منذ كان فتي في الخامسة عشرة من عمره‏,‏ فخطط لحياته أن يضحي بفرصته في التعليم الجامعي‏,‏ لكي تتعلم أنت وتحصل علي شهادتك العالية‏..‏ وتتفتح أمامك مجالات التقدم في العمل والحياة‏.‏
لقد كان مثالا طيبا للإيثار والعطاء والنهوض بالمسئولية الانسانية بغير انتظار لأن يدعوه أحد إلي ذلك‏,‏ وبغير أن يشعر بأنه يقدم ما يستحق أن يقدره له الآخرون ويعترفوا بفضله‏,‏ وهذا هو قمة العطاء الذي لايفسده من ولا أذي والذي يمارسه الإنسان وكأنه سلوك طبيعي لا يستحق التوقف أمامه‏.‏

ولسوف تكرر أنت هذا المثال بإذن الله مع ابني شقيقك وأرملته‏..‏ ولسوف تكون رعايتك وعطاؤك لهم سلوكا طبيعيا لايشعر صاحبه بأنه يفعل شيئا ينتظر أن يحمده له الآخرون‏,‏ ولا عجب في ذلك فأنت فرع من شجرة أخيك الطيبة‏..‏ ولقد قال أحد الحكماء إن الأشجار تعطي لكي تحيا فإن لم تعط عرضت حياتها للخطر‏.‏
فتشاغل يا صديقي عن أحزانك بتوجيه قدر أكبر من الوقت والاهتمام لأسرة أخيك‏,‏ وعملك‏,‏ وأسرتك‏,‏ وعلاقاتك الاجتماعية‏,‏ ولاتحبس نفسك بين جدران بيتك فتحاصرك الأحزان والهموم من كل جانب وتغلبك علي أمرك‏,‏ وأكثر من قراءة القرآن علي روح أخيك الطيب والدعاء له‏,‏ واحفظ مودة أصحابه إكراما له‏..‏ ولسوف تهدأ الأحزان بعد قليل وتعود إلي حياتك الطبيعية تدريجيا خلال وقت قصير بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق