الأربعاء، ١ مارس ٢٠٠٠

الأشياء الصغيرة

22-08-2003
كتبت إليك من سبعة أشهور أستنجد بك وأطلب مشورتك في أمري‏,‏ لكن رسالتي غابت عنك فيما يبدو‏..‏ فلم يسعدني الحظ بقراءة ردك عليها‏,‏ وآمل أن يكون لرسالتي هذه حظ أفضل هذه المرة‏..‏ فأنا طبيب في الرابعة والأربعين من العمر نشأت في أسرة مصرية من تلك الأسر التي تنشئ أبناءها علي الدين والعلم والأخلاق‏,‏ وكنت موفقا في مراحل الدراسة حتي درست الطب وخرجت إلي ميدان الحياة العملية‏,‏ ولازمني التوفيق من عند الله سبحانه وتعالي‏,‏ وأصبحت بفضله طبيبا ناجحا فعزفت بذلك عن فكرة السفر للعمل في الخارج لكراهيتي للغربة والاغتراب عن الأهل والوطن‏,‏ واكتفيت بعملي الناجح في بلدي ورضيت عنه وعن حياتي‏.‏ ثم جاء وقت اختيار شريكة الحياة فطلبت من أهلي البحث عنها ثقة في حسن اختيارهم لي‏..‏ ولقد اختاروا بالفعل من رشحوها لي ورضيت عن اختيارهم‏,‏و سعدت به وكانت طبيبة شابة في بداية حياتها العملية‏,‏ وتم الزواج في أمان وأصبح لي عشي الصغير الذي آوي إليه بعد العمل الشاق‏,‏ ورفرفت طيور السعادة علي أسرتي الصغيرة‏,‏ وازداد تغريدها حين من الله سبحانه وتعالي علينا بطفلة تعد آية من آيات الله في الجمال‏,‏ وطفل حباه الله بخفة الظل وجمال الخلقة‏.‏ وفي غمار كفاحي في معركة الحياة لتوفير المستوي الكريم لأسرتي الصغيرة لم أنس شريكة الحياة وإنما استجبت لرغبتها العادلة في أن تواصل مشوارها العلمي وتتخصص في أحد فروع الطب‏,‏ وتمارس تخصصها بالرغم مما سيكون له من آثار سلبية لانشغالها بذلك علي أسرتنا الصغيرة‏..‏ إذ لم أرض لنفسي بأن أكون عقبة في طريق طموحها العلمي‏..‏ فوقفت بجانبها بكل ما أوتيت من قوة‏,‏ خاصة أن أحدا من أهلها لم يساعدها في شيء خلال هذا المشوار الصعب إلي أن حصلت علي الشهادة وأصبحت أخصائية في الفرع الذي أرادته‏,‏ وبقي أن تفتتح لنفسها عيادة تمارس فيها عملها‏,‏ وافتتحت زوجتي بما ورثته من مال عن والدتها الراحلة ـ يرحمها الله ـ عيادة في أحد أحياء المدينة‏..‏ ولم تكن البداية ناجحة‏,‏ وإنما تعثرت في الطريق وفشلت‏..‏ وتبددت النقود التي أنفقتها عليها خلال عامين ورأيت زوجتي تذبل‏..‏ وتكتئب‏,‏ بعد أن انهار حلمها في أن تصبح طبيبة ناجحة في مجالها‏,‏ فلم أتردد في مساعدتها وإنهاضها من كبوتها‏,‏ فطلبت منها بيع العيادة الفاشلة‏,‏ وأثثت عيادة جديدة لي ولها في المنطقة التي أعمل بها منذ‏15‏ عاما‏,‏ وجهزتها بأحدث الأجهزة الطبية وكلفتني العيادة الجديدة فوق ما أحتمل من الناحية المادية‏,‏
لكني لم أعبأ بذلك لأني اعتبرتها مشروع العمر لكلينا‏,‏ وبعد انتهاء تجهيز العيادة انتقلت إليها من عيادتي القديمة ودعوت زوجتي لأن تبدأ من جديد في هذه العيادة الواعدة‏..‏ وبدأت بالفعل فكانت البداية الصحيحة لها وانطلقت وحققت نجاحا كبيرا وشهرة طيبة في الحي الذي نعمل فيه خلال عام ونصف العام فقط‏..‏ وسعدت بنجاحها وتوفيقها غاية السعادة وأصبحت حياتنا أكثر بهجة وإشراقا‏,‏ وقمنا برحلات لأماكن لم تذهب إليها زوجتي من قبل‏,‏ وأمضينا إجازات سعيدة علي الشواطيء وفي المشاتي مع طفلينا‏.‏
وفي غمار هذه السعادة وهذا التوفيق فوجئت بزوجتي تتذرع بحجج واهية لترك العمل بعيادتي‏,‏ بالرغم من أنني أترك لها إيراد العيادتين معا ـ عيادتي وعيادتها ـ كاملا تتصرف فيه كيف تشاء وأكتفي بالحصول فقط علي ما يكفي لمصروفي الشخصي‏,‏ وحاولت مناقشتها طويلا في قرارها هذا وإثناءها عنه‏..‏ وقلت لها إن نجاحنا معا في هذا المكان نجاح لكل منا ولأسرتنا الصغيرة ومن واجبنا أن نتمسك به وألا نعرضه للخطر‏,‏ لكنها لم تقتنع بشيء وأصرت علي أن تنفصل بعملها عني‏..‏ ولم أر في النهاية بأسا في ذلك مادامت هذه هي رغبتها وإن كنت سأفتقد إيناس وجودها معي في مكان واحد‏..‏ وخلال فترة قصيرة كانت قدانتقلت بعملها إلي عيادة جديدة ساحبة معها عددا كبيرا من مرضي العيادة المشتركة‏..‏

وتصورت أن الأزمة قد انتهت عند هذا الحد وأننا سنواصل حياتنا في أمان بعد ذلك‏..‏ ولقد يجيء يوم تفتقد فيه زوجتي صحبتنا المشتركة في مكان العمل فتعدل عن قرارها‏..‏ لكن الأمور مضت في اتجاه بعيد عن كل توقعاتي وفوجئت ذات يوم بزوجتي تهجر بيت الزوجية وتصطحب معها الطفلين وتقيم في شقة جديدة أستأجرتها وتطلب الطلاق‏..‏ الطلاق؟ لماذا؟ ويجيئني منها الجواب‏:‏ لأن حياتنا معا قد انتهت عند هذا الحد؟ كيف وما ذنب الأبناء‏:‏ لا جواب ويتدخل الأهل والأصدقاء ويسألونها‏:‏ هل يخونك مع امرأة أخري؟ فتجيب‏:‏ حاشا لله أن أقول عنه ذلك‏,‏ فهو ليس أهل الفجور‏,‏ هل يهينك؟ هل يؤذيك؟‏..‏ هل يغتصب مالك أو إيرادك أو عائد عملك؟ فتجيب‏:‏ لا شيء من كل ذلك وإنما هي فقط بعض الأشياء الصغيرة التي أقنعتني بأن حياتنا معا قد انتهت عند هذا الحد‏!‏
وبدأ اللمز والغمز في المحيط الأسري عن الأسباب الحقيقية لما أقدمت عليه زوجتي‏,‏ خاصة بعد أن عجزت عن أن تقدم للوسطاء أي سبب جدي لها‏,‏ ولم تجد في زوجها ما تعيبه عليه أو تنكره‏,‏ وتردد أسم أحد الزملاء الأطباء في هذا الهمس‏,‏ فلم أصدق ذلك ودافعت عنها بكل ما أوتيت من قوة‏,‏ وتصديت لكل من يتقول عليها بالباطل‏.‏

وأصرت زوجتي علي الطلاق وهددتني بالخلع ذلك السيف المسلط علي رقاب الأزواج‏..‏ وفي هذه الظروف كتبت لك الرسالة التي لم تقع تحت نظرك للأسف لأستشيرك فيما أفعل ثم أقامت زوجتي قضية الخلع ضدي‏..‏ وفي الليلة السابقة لنظرها‏..‏ أستجبت لطلبها وطلقتها عازفا بنفسي وكرامتي عن أن أقف أمامها في ساحة القضاء وأسمع علي الملأ أن زوجتي وأم أطفالي التي أخلصت لها الحب والود وأحسنت عشرتها‏,‏ تضحي بالغالي والثمين لكي تتخلص من عشرتي‏!‏ وأقدمت علي الطلاق وقلبي حزين‏,‏ لكن ضميري مستريح إلي حد كبير لأنني لم أقصر في بذل كل ما أملك من جهد وطاقة للحفاظ علي أسرتي وحماية أطفالي من التمزق بين أبوين منفصلين‏,‏ وقد أصرت زوجتي علي أن تحتفظ بالطفلين معها وشق علي ذلك كثيرا لكني قبلت به لكي أضمن لهما أفضل الظروف الممكنة‏,‏ وقررت لها مبلغا شهريا لم تكن تتوقعه‏,‏ لأني أردت ألا ينفق أحد قرشا واحدا من ماله علي الطفلين حتي ولو كانت أمهما‏.‏
ووجدت نفسي بعد الطلاق أضيق بالحياة في شقتي التي كانت جنتي الصغيرة من قبل‏..‏ وأضيق بعملي في العيادة وفي المستشفي وأتخفي عن الأهل والأصدقاء‏..‏ وأبتعد عن كل من يعرفني وأنا أشعر شعورا غامضا بالخجل والاكتئاب‏..‏ إنه إحساس مرير أدعو الله سبحانه وتعالي ألا يكابده أحد غيري‏,‏ أن تشعر بأنك مرفوض ومنبوذ ممن تحب وتهتم بأمره وكنت ترجو السماء أن تعيش إلي جواره إلي نهاية العمر‏.‏

وأشتد ضيقي بكل شيء فقررت ـ وأنا الذي يكره الغربة ورفض السفر من قبل وهو في بداية حياته العملية ـ أن أسافر للعمل في الخارج وأنا في منتصف العمر بعيدا عن كل ما يذكرني بحياتي السابقة ولحظات السعادة والانكسار التي عشتها مع زوجتي السابقة‏.‏
وحصلت بسهولة علي فرصة عمل في المدينة المنورة‏..‏ واخترت المدينة عن عمد لكي أداوي جراحي في رحاب المسجد النبوي الشريف وتسلمت عملي هناك‏..‏ واستقرت بي الحياة وتركت عيادتي مفتوحة في مصر ويعمل فيها أحد الزملاء‏..‏ وأصبح ذهابي إلي الحرم النبوي هو عزائي وسلواي في غربتي‏.‏ وبعد انتهاء اشهر العدة علمت أن زوجتي السابقة قد عقدت قرانها علي نفس الزميل الذي تردد أسمه في الهمس واللمز خلال محنة طلب الطلاق ودافعت أنا عنها بحرارة نافيا هذه الشبهة‏..‏ يا ربي‏..‏ كل هذا الغدر‏..‏ وهذه الخيانة لمن أعطي لها بلا حساب وكرس حياته منذ عرفها لرعايتها وحبها والحدب عليها‏.‏ ولم يطلب مقابل ذلك سوي أن تكون له أسرة صغيرة سعيدة؟
ماذا أفعل الآن‏..‏ وكيف أثق بعد ذلك في أي امرأة أو فتاة؟ وما ذنب ابنتي التي ستدفع طوال عمرها ثمن ما أقدمت عليه أمها‏,‏ وما ذنب ابني في ذلك وقد هدمت أمهما بيتها وأسرتها من أجل نزوة عاطفية‏,‏ وبماذا تشير علي؟

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
يكفيك أن زوجتك السابقة لم تجد منك ما تنكره عليك أو تدعيه ضدك سوي تذرعها المفضوح بالأشياء الصغيرة التي لا تخلو منها حياة زوجية‏,‏ واعتمادها لها كسبب وهمي لهدم أسرتها الصغيرة وتمزيق طفليها بين أبوين منفصلين‏,‏ ولأن الأمر كذلك فلا تفسير لما حدث سوي أن شريكة الحياة التي اختارها لك الأهل بغير سابق تواصل انساني بينكما‏,‏ لم تشتعل في صدرها شرارة الحب تجاهك طوال سنوات زواجكما‏,‏ بالرغم من حسن معاشرتك لها وكريم مساندتك لها في مشوارها العلمي‏,‏ وحياتها العملية‏,‏ ثم حدث أن تعرض قلبها الخالي لغزو عاطفي خارجي فلم تردعها مسئولياتها الزوجية والأمومية عن الاستجابة له‏,‏ وقررت الإقدام علي الخطوة التي قد تحجم عنها كثيرات غيرها إشفاقا علي الأبناء الصغار‏..‏ ورعاية للاعتبارات العائلية والإنسانية العديدة‏,‏ وبدأت بالانفصال عنك في العمل‏,‏ كخطوة تمهيدية لفض الروابط التي تجمعها بك‏,‏ ثم استأجرت لنفسها مسكنا مستقلا وهجرت بيت الزوجية مصطحبة طفليها معها‏,‏ وطالبتك بالطلاق وهددتك بالخلع‏,‏ فما أن حصلت عليه وانقضت أشهر عدتها حتي توجت تدبيرها المحكم بالزواج من شريكها في القصة الأخري بلا تردد‏.‏
ولست أزعم أن ما جري لا يستحق الحزن من أجله‏,‏ ذلك أن غدر الشريك وخيانته لعهد الوفاء وانهيار الأسرة وتمزق الأبناء والحرمان من قربهم‏..‏ كل ذلك من أحزان الحياة الحقيقية التي تستحق الأسي لها‏,‏ وإنما أقول لك فقط أن لكل أحزان الحياة فترة حضانة ضرورية من المهم من ناحية الصحة النفسية أن يرعي فيها الإنسان حزنه علي حد تعبير شاعر الهند العظيم طاغور‏,‏ ثم يتصادق معه بعد ذلك ويحيله في نفسه إلي سلام كما يقول لنا نفس الشاعر‏..‏

وليس من الصحة النفسية أن يزعم أحد أنه لا يحزن لما يستحق الحزن من أجله‏..‏ ولا أن يبتسر أو يختصر أحد فترة حضانة الحزن الطبيعية إلي أن يهدأ أوارها‏..‏ وتتخفف النفس من مرارتها‏..‏ كما أنه ليس من الحكمة ولا من السلامة النفسية أيضا أن تطول آماد الحزن عن فتراتها الطبيعية وإلا تحولت إلي اكتئاب نفسي مزمن وأعاقت تواصل الإنسان مع الحياة‏,‏ ومن واجب الإنسان تجاه نفسه دائما أن يتجاوز أحزانه بعد فترة حضانتها الطبيعية ويواصل حياته ويبدأ من جديد مستفيدا من دروس التجربة الماضية ومسلحا بخبرتها مهما تكن مريرة‏,‏ فإذا كنت تستشعر المرارة لأنك قد غرست بذور الحب ولم تجن ثمارها وأغدقت بالعطاء النفسي والإنساني والمادي‏..‏ فلم تسعد بحصاده فكل إنسان رهين في النهاية بما قدمت يداه وليس بما قابل به الغير عطاءه لهم‏..,‏ والنفس الطيبة إنما تفعل الجميل لأنه خير وأبقي ويليق بها وليس من أجل حصاده أو عطائه‏,‏ كما أن كل إنسان ينفق مما عنده كما يقول لنا السيد المسيح عليه السلام‏.‏
والشاعر العربي يقول لنا‏:‏
ملكنا فكان العفو منا سجية
فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحللتمو قتل الإساري وطالما
مررنا علي الأسري نمن ونصفح
فحسبكمو هذا التفاوت بيننا
وكل إناء بالذي فيه ينضح‏!‏

فانج بنفسك من مستنقع الأحزان والاكتئاب واستعد ثقتك بجدارتك بالحب والسعادة والأمان‏,‏ وحذار من أن يساورك أدني شك في عدم جدارتك بأن تكون زوجا مرغوبا ومحبوبا لامرأة أخري‏,‏ لمجرد أن كيمياءك لم تتوافق مع كيمياء زوجتك السابقة‏,‏ فضلا عن أن غدر امرأة بشريك حياتها لا ينسحب إلا عليها وحدها ولا يمكن تعميمه أو الحكم بمقتضاه علي جنس بأكمله‏..‏ إذ ما أكثر ما في الكون الفسيح من ملايين وملايين من النساء الوفيات المخلصات اللاتي لا يرضين لأنفسهن بالغدر أو الخيانة‏.‏
ولئن يرفضنا أحد لأسباب لديه لا يعني أبدا أن الحياة تخلو ممن يرغب فينا بصدق ويتمني الارتباط بنا ويعتز بانتمائه إلينا بشدة‏.‏

فإذا كان في هذه القصة شيء وحيد يمكن أن يخفف بعض الشيء من قسوة ما حدث‏,‏ فهو أن زوجتك السابقة لم تواصل خداعك إلي النهاية وآثرت أن تنفصل عنك لترتبط بشريكها بالرغم من إيلام ذلك لك وضرره المؤكد علي طفليك‏..‏ فالانفصال في هدوء أكرم في النهاية لك من التعرض للخداع والخيانة‏..,‏ ولقد يضاف إلي ذلك أيضا أنها لم تدع عليك شيئا بالباطل‏..‏ وعجزت عن تبرير إقدامها علي ما اختارت‏,‏ فدعها لما اختارت وحسابها عنه مع ربها وليس مع أحد سواه جل شأنه‏,‏ وابدأ أنت هذه المرة البداية الصحيحة التي تصل بك إن شاء الله إلي السعادة والأمان‏,‏ ولا ترتبط إلا بمن تستشعر صدق قبولها النفسي والعاطفي لك ورغبتها القوية في السعادة معك والسكون إلي جوارك‏,‏ واظفر بذات الدين في الأول والآخر تكن السعادة والأمان والاستقرار وتعويض السماء لك بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق