الأربعاء، ١ مارس ٢٠٠٠

غضب الحمامة‏!‏

25-04-2003
أنا كاتب رسالة السهام النارية التي نشرت منذ نحو ستة أشهر وذكرت لك فيها أنني رجل في منتصف الأربعينيات من العمر وقد نشأت في أسرة ثرية ماديا ومتوسطة اجتماعيا‏,‏ وكنت الابن الأكبر لسبعة أشقاء وشقيقات وورثت عن أبي مصنعا كبيرا وأدرته بعد وفاته وأنا في المرحلة الثانوية وتحملت مسئولية أشقائي وشقيقاتي ووالدتي‏,‏ وأتممت تعليمي ودراستي العليا بإحدي كليات القمة وزوجت شقيقاتي وبعض أشقائي وأتم الباقون تعليمهم ثم خطبت فتاة أنيقة جميلة‏,‏ بسرعة وبغير السؤال عنها أو عن أهلها وتزوجتها سريعا وفوجئت بها بعد ذلك باردة المشاعر متعالية‏,‏ وعانيت الأمرين من غضبها الدائم واكتشفت أن هذا هو نفس ما تفعله والدتها دائما مع والدها الطيب المسالم الذي جعل هدفه في الحياة إرضاء زوجته وجعل نفسه متنفسا لغضبها‏,‏ وعانيت منذ زواجي من هذا الغضب الدائم والخصام المستمر الذي لا ينتهي بلا سبب‏,‏ حيث لا كلمة رقيقة مني ترضيها ولا هدية تسعدها إلا لدقائق أو سويعات إن لم تلق بها في القمامة إن كانت في نظرها غير لائقة بها‏,‏ ولم يفلح معها عتاب ولا نصيحة ولا هجر‏,‏ فكل شاردة تغضبها أياما وأسابيع ثم تصفو يوما أو بعض يوم وتستأنف بعدها الخصام والغضب من جديد حتي يئست من إصلاحها‏,‏ وبدأ يقوم بداخلي حاجز كبير بيني وبينها وامتلأت نفسي برفضها من داخلي وأصبحت أصاب بآلام رهيبة لا أعرف لها سببا بعد اقترابي منها‏,‏ ورويدا رويدا بدأت نفسي تعافها حتي لم أعد قادرا علي الاقتراب منها لأكثر من عامين وأنا في قمة صحتي‏,‏ وكنت أدعو الله أن يعوضني عنها بالحور العين في الجنة لصبري عليها‏,‏ وتحملت كل ذلك لأجل ابنتي وسلمت أمري إلي الله وأنا الذي كنت تقيا طوال عمري ولأكثر من عشرين عاما لم تفتني صلاة جماعة في المسجد إلا نادرا‏,‏ كما أني أقوم الليل في معظم الأيام كما رباني والدي علي العطاء والتصدق وحسن معاملة الناس‏,‏ وبرغم كل هذا فقد بدأت في العامين الأخيرين أفكر رغما عني فيما يغضب الله ووجدت عيني تنظران إلي ما حرم الله وأنا عاجز عن منع نفسي ولا أجد الحلال الذي يعفني ولا أستطيع الصبر‏,‏ فأرسلت إليك وأنا أتساءل في نفسي عما تستطيع كلماتك أن تفعل بعد أكثر من خمسة عشر عاما من المحاولات اليائسة لإصلاح زواجي‏.‏

وكان ردك الذي أذهلني ـ بعد أن ذكرت بالطبع بأنني لم أحسن قراءة مؤشرات الوسط العائلي الذي نشأت فيه هذه الزوجة في بيت أسرتها ـ كان الرد المعجز بأنه حين يصل الإنسان إلي هذا الحد وفي مثل هذه المرحلة الحرجة من العمر فإن كل شيء يقدم عليه لاجتناب الخطيئة وإعفاف النفس والاستمرار في طاعة الله يصبح مندوبا إليه ومفضلا بل وواجبا دينيا وأخلاقيا‏.‏
ووجه عجبي من ردك هو أنني أعرف جيدا كراهيتك للزواج الثاني وحربك المستمرة عليه وكنت آخذ عليك هذا الأمر‏,‏ فقد كنت أري طوال سنوات ما بعد زواجي بأن هذا الزواج الثاني قد يكون أحيانا الأمل الوحيد للرجل المتزوج البائس‏.‏

وكان بقية الرد هو أن أحاول ابلاغ زوجتي باعتزامي الزواج إن لم تصلح حالها واستدراك ما فاتها من حسن العشرة ورعاية الزوج واتخاذي خطوات جدية علي هذا الطريق وإبلاغها هذه الرسالة بأي شكل مناسب بأنها قد تفقد أمانها واستقرارها وتعرض ابنتيها للتمزق بين أبوين منفصلين‏,‏ فإن أصاب سهمي الأخير هذا غايته فلقد فزت أخيرا بالسعادة والأمان وإن لم يكن فلا لوم علي إن تزوجت من أخري بعد تخيير زوجتي بين الاستمرار معي أو الانفصال عني‏,‏ وقد نفذت كل ما نصحت به فتعمدت وضع بريد الجمعة أمامها لتقرأ الرسالة‏,‏ وفي صباح اليوم التالي اشتريت شقة وبدأت في تأثيثها في اليوم نفسه وتعمدت أن تصلها أخبارها‏,‏ وفي الليلة التي قرأت زوجتي فيها الرسالة لم تنم ليلتها حتي أنني عندما نهضت لصلاة الفجر وجدتها في نفس جلستها أمام صفحة بريد الجمعة وفي الصباح خرجت إلي عملي وعدت قبل المغرب لأجد امرأة أخري في انتظاري امرأة تستقبلني بوجهها لا بظهرها وبابتسامة لم أر أرق منها لابالغضب والعبوس‏,‏ وبكلمة ترحيب لا بالدعاء إلي الله أن ينتقم مني علي ذنب لا أعرفه‏,‏ وفعلت كل ذلك بنظرة حياء أو ندم علي ما فعلته بي من قبل وبرغم سعادتي بهذا التغير فإنني توجست من أن يكون مؤقتا أو عارضا ثم لا يلبث كل شيء أن يرجع إلي ما كان عليه‏..‏ لكن الأيام توالت وزوجتي علي نفس حالها الجديد وأنا أنتظر أن تنتهي هذه الهدنة وبداخلي أمل في أن تكون قد تغيرت بالفعل ومر علينا أول شهر كأسعد ما يكون الحال وكان شهر رمضان الماضي‏,‏ ولأول مرة منذ زواجي أحس بطعم هذا الشهر في المنزل كحلاوته في المسجد‏,‏ وأشعر بمتعة اجتماع الأهل حول مائدة الافطار‏,‏ وهي ترحب بأهلي كأنهم أهلها وأكثر‏,‏ ثم تتخذ هي قرارا من نفسها بأن تترك العمل لتتفرغ للبيت والبنتين ولي‏,‏ وكنت خائفا من رد فعل هذا القرار عليها فيما بعد ولكنها ازدادت هدوءا وسكينة ورضا وازددت أنا حبا وأمتنانا لها وذابت جبال الجليد وجدران رفضي لها‏,‏ واختفي الندم الذي كان يقتلني كل يوم وساعة ودقيقة علي زواجي منها‏,‏ فقد كنت أندم في كل لحظة طوال أكثر من خمسة عشر عاما علي زواجي منها‏,‏ والآن فإني أحمد الله علي عطيته لي بهذه الزوجة التي كنت أعتبر كل ميزاتها من قبل من نظافة ونظام بالمنزل واهتمام بنفسها وبالبنتين ومهارتها في الأعمال المنزلية هباء ولا تساوي شيئا بجوار السخط والغضب الدائمين‏,‏ أما وقد زال هذا السخط والغضب فقد تجلت كل المزايا الأخري لها وظهر الوجه الذي أراه ا
لآن أجمل وجه علي الأرض والذي كنت أراه أقبح وجه لامرأة‏,‏ وأصبح الفم الذي كان يقذف بالسهام النارية لا تصدر عنه علي قلة كلامه إلا سهام كيوبيد الوردية وأصبحت الآن لا أخجل من أن أقول أن أحب الناس إلي قلبي هي زوجتي بعد أن كنت أعجب من حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم عندما سئل من عمرو بن العاص وسط جمع من الصحابة من أحب الناس إلي قلبك قال عائشة‏.‏ وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم عندما قال‏:‏ الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة‏,‏ فالحمد لله علي نعمه التي أنعم علي بها وأولاها المرأة الصالحة‏.‏ والآن فقط يا سيدي فلقد أصبحت أتفهم وجهة نظرك في كراهيتك للزواج الثاني للرجل المتزوج وله أبناء‏,‏ وبعد أن كنت أري فيه الأمل الوحيد أمام أي متزوج أصبحت أري أن أي زوج سعيد في حياته الزوجية لا يعاني من زوجته ويتزوج عليها إنما هو ظالم لها‏,‏ ولا أفهم كيف يجرح من أسعدته ويؤلم من آنسته وعاشت معه حياته وأنا لست نادما علي السنوات التي مرت من حياتي في نكد وشقاق مع زوجتي من قبل‏,‏ فهكذا الحياة لابد من ابتلاءاتها‏,‏ وإنما أنا نادم فقط علي كل خاطرة سيئة مرت بذهني أو نظرة إلي محرم اختلستها أو ليلة أضعت فيها قيام الليل‏,‏ رحمنا الله جميعا وغفر لنا وهدي الجميع إلي صراطه المستقيم‏,‏ وأختتم رسالتي بكلمة شكر واجبة في حق كل من يعملون معك في مكتبك علي حسن استقبالهم ومعاملتهم وتعاطفهم‏,‏ وهذا ليس غريبا علي من يعملون معك‏,‏ أما أنت فلن أوفيك حقك مهما قلت وكل ما أستطيعه هو الدعاء لك بأن يهبك الله سبحانه وتعالي الصحة والعافية وييسر لك حسابك ويفرج عنك كرب يوم القيامة كما فرجت كربات الدنيا عن الكثيرين‏,‏ وأرجو إن نشرت رسالتي ألا تحذف هذه الكلمات القليلة في حقك ولقد انتظرت طويلا بعد رسالتي الأولي لكي تكون المدة كافية للحكم علي تأثير نشرها علي زوجتي‏,‏ وحتي لا يظن أحد أنني تعجلت الحكم‏.‏ وقد دفعني لأن أرسل هذه الرسالة الآن رسالة السهم الأخير التي أنصح كاتبها بأن يصبر قليلا كما صبر كثيرا من قبل‏..‏ وعسي أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا كما أنصحه بأن يحاول أن يفكر فيما يسعد زوجته ويحاول اسعادها بهذه الأشياء‏,‏ حيث من الممكن أن يضحي الإنسان بأشياء صغيرة جدا من وقته وماله وراحته لإسعاد الطرف الآخر فيجد مردود هذه التضحية سعادة وراحة أكثر كثيرا مما ضحي به‏..‏ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
العقلاء من البشر هم الذين إذا أشرفوا علي الوقوع في الهاوية السحيقة‏..‏ قاوموا بكل ما أتوا من جهد قوة الدفع التي تشدهم إليها‏,‏ وتشبثوا بأي نتوء بارز أو حائل يحول بينهم وبين السقوط إلي الهاوية‏..‏ وحاولوا استعادة توازنهم وتماسكهم لكي يرجعوا عن حافة الخطر وهم يلهجون بالشكر لله سبحانه وتعالي أن أنجاهم من سوء المصير‏..‏ ولقد يتلقون درس التجربة فيحرصون علي ألا يعرضوا حياتهم للهلاك بعد ذلك بالاقتراب من مثل هذه الحافة الخطيرة‏.‏
انها لحظة فارقة في حياة الإنسان لابد أن تدفعه لمراجعة حياته وأفكاره ومفاهيمه التي دفعته بسوء التقدير إلي الاقتراب من الهاوية وتعريض حياته وسعادته وأمانه للخطر الداهم‏.‏

وليس هناك شك في أن زوجتك قد كشفت في النهاية‏..‏ وبتأثير هذه اللحظة الفارقة ـ عن قلب حكيم استوعب المخاطر التي أحدقت بها قبل فوات الأوان وأحسنت تقديرها‏,‏ فتراجعت عن الحافة المنذرة بالهلاك في الوقت الحاسم‏,‏ وراجعت حياتها معك ولامت نفسها علي فهمها الخاطيء للحياة الزوجية‏,‏ وأقدمت علي ركوب الصعب‏..‏ وهو تقويم النفس من الداخل‏..‏ وتعديل الأفكار الخاطئة ومحاولة اكتشاف المعادلة الصحيحة للحياة الزوجية الهانئة‏,‏ وهي المعادلة التي يلخصها لنا الكاتب الأمريكي ايمرسون في هذه العبارة البسيطة‏:‏ بحسن المعاشرة تدوم المحبة‏..‏ وليس بجمال الزوجة ولا حسبها ولا مالها ولا بوسامة الزوج أو ثرائه ولا بحدة الاشتهاء‏..‏ أو عمق الرغبة‏,‏ لأن الحب الذي لا يرويه طرفاه بماء العطف وحسن الرعاية واحترام المشاعر والعدل الإنساني مع الشريك‏,‏ لا يلبث أن ينضب معينه بعد حين ولو كان قد بدأ كالشلال الهادر ولا عجب في أن تفعل زوجتك ذلك‏,‏ ولا في أن تطالعك بوجه جديد وشخصية مختلفة وسلوك حميد بعد هذه المراجعة‏..‏
فالحياة كما يقول لنا الكاتب اريك فروم‏:‏ ميلاد جديد مستمر ولقد يولد الإنسان من جديد في أي مرحلة من مراحل العمر إذا صح عزمه وصدقت نيته علي تقويم النفس وتعديل أفكاره ومفاهيمه ورؤيته الخاطئة للحياة‏.‏

ولقد تأملت طويلا حديثك عن مزايا زوجتك كأم وربة بيت وأنثي والتي لم تكن تشعر بها أو تحسن تقديرها بتأثير الشقاق المستمر معها وسخطها الأبدي عليك وجفائها المتصل لك‏..‏ واطلاقها سهامها النارية السابقة ضدك‏,‏ فلم أعجب لذلك‏,‏ لأن أجواء الشقاق الدائم تفقد الأشياء جدواها‏..‏ وتحجب فضائل كل طرف عن الآخر أو تبخسها قيمتها في نظره‏..‏ أما حين تصفو السماء ويسود الوئام وتغرد طيور الحب والوفاق بين الزوجين فإن الإنسان يصبح أكثر قدرة علي تقدير مزايا الآخرين والاعتراف لهم بفضائلهم‏..‏ بل والزهو بها أيضا‏,‏ ولاشك عندي في أن زوجتك قد خاضت مع نفسها معركة عسيرة حين قرأت رسالتك الأولي في بريد الجمعة‏..‏ فوضعتها أمام الحقيقة المزعجة التي لم تضعها في حساباتها من قبل خلال جاهليتها السابقة معك‏..‏ وهي أن إناء الصبر لديك قد امتلأ عن آخره وفاض بما فيه وأنك تفكر جديا في الزواج من غيرها‏..‏ وخطوت بالفعل بعض الخطوات التمهيدية علي هذا الطريق‏.‏
والروائي الإنجليزي جراهام جرين يقول لنا علي لسان احدي شخصيات روايته الممتعة القنصل الفخري‏:‏ إن أسوأ آلام المطهر تحدث حين يري الناس نتائج أعمالهم والعذاب الذي تسببوا فيه لمن أحبوهم‏!.‏

والمؤكد هو أنها قد كابدت أسوأ آلام المطهر هذه حين رأت نتائج ما فعلت بحياتها معك‏,‏ وأنت الذي أخلصت لها الحب من قبل تتجسد أمامها في عزمك الصادق علي الزواج من غيرها‏..‏ فسارعت بإصلاح نفسها وتعديل أفكارها‏..‏ واتقت غضب الحمامة قبل أن ينفجر أو ينطلق من عنانه‏.‏
والمثل الألماني يقول‏:‏ أتق غضب الحمامة‏!‏

وهو اشارة حكيمة إلي أن هذا الطائر الوديع الجميل المسالم الذي يتخذه العالم رمزا للسلام‏,‏ ينفرد كما يقول لنا علماء الحيوان دون غيره من الطيور والحيوانات بخاصية عجيبة هي أنه إذا انفجر غضبه ـ وهو ما يحدث نادرا ـ فإنه لا يرجع عن خصمه قبل أن يهلكه وحتي لو استسلم له الخصم وكف عن القتال‏,‏ وعلي خلاف معظم الحيوانات المفترسة التي إذا استسلم لها خصمها في القتال ونام مادا ذراعيه ورأسه علي الأرض‏,‏ زهدت في مواصلة القتال معه ورجعت عنه‏!‏
فما أحوجنا جميعا رجالا ونساء وأزواجا وزوجات أن نتجنب دائما غضب الآخرين المسالمين الذين لا يطلبون من الحياة إلا الأمان‏..‏ والسعادة والإنصاف‏,‏ لانه إذا انفجر غضب مدمر‏.‏ فالحمد لله الذي أزاح الغمة السابقة عن حياتك وأعاد إليك السعادة والأمان والاستقرار‏.‏

وأهلا بزوجتك في واحة التفاهم‏..‏ والتراحم والسلام العائلي والمودة‏..‏ والأمان‏..‏ وهنيئا لك سهامها المعطرة الجديدة التي ترشق قلبك وصدرك بورود الحب والسعادة وتمحو آثار جراح السهام النارية السابقة‏..‏ بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق