الأربعاء، ١ مارس ٢٠٠٠

كومـــة النـــدم‏!‏

28-03-2003
منذ قرأت رسالة الفصل الأخير للزوج الذي رحلت زوجته الطيبة المؤمنة بقضاء الله عن الحياة بعد معاناة أليمة مع المرض‏,‏ وأنا أريد أن اكتب إليك لأسمع منك ما يريح صدري‏,‏ فأنا شاب عمري ثلاثون عاما‏,‏ نشأت نشأة صالحة بين أب يرعي الله في أمور حياته وأم تستهدي بفطرتها السليمة في كل شئ‏,‏ وحرصت علي تعليمنا جميعا حتي تخرجنا‏,‏ وفي عامي الجامعي الأخير كان أحد أخوتي يعمل في دولة عربية‏,‏ وكنت اتردد علي شقته القريبة منا لمتابعة تشطيبها في غيابه‏,‏ وخلال ترددي علي هذه الشقة لاحظت أن فتاة صغيرة وجميلة تسكن في العمارة المقابلة للشقة تنظر إلي باهتمام ملحوظ‏,‏ فأسعدني ذلك لكني لم أحاول الحديث معها مراعاة لحيائها وصغر سنها‏,‏ وتكرر ذهابي إلي الشقة ورؤيتي لهذه الفتاة الصغيرة‏,‏ إلي أن تشجعت ذات مرة وألقيت عليها تحية الصباح‏,‏ فابتهجت بذلك كثيرا‏,‏ وردت علي التحية بحرارة‏..‏ فازددت إعجابا بجمالها الطفولي وبراءتها وأكثرت من ترددي علي الشقة‏,‏ وبدأت اتجاذب معها أطراف الحديث‏,‏ واستمر الحال علي هذا النحو ستة أشهر‏,‏ إلي أن ذهبت إلي شقة أخي ذات يوم ونظرت في اتجاه شقة الفتاة فوجدتها مغلقة‏,‏ ولا أثر فيها للحياة‏..‏ وسألت عن سكانها فعلمت أن الأسرة التي تشغلها قد رحلت إلي بلدتها بالصعيد وتم إغلاق الشقة ولا أحد يعرف عنوانها‏..‏ واكتأبت لذلك لكنني لم أجد بدا من الاستسلام للأمر الواقع‏,‏ فركزت جهدي في إنهاء دراستي وتوقفت عن زيارة شقة أخي المغترب نهائيا وأديت امتحاني وتخرجت وعملت لفترة في مصر‏,‏ ثم سافرت للعمل في الدولة العربية التي يقيم بها أخي‏,‏ وهذه الفتاة لاتغيب عن خاطري أبدا‏..‏ ورجعت في أول إجازة بعد عامين مدخرا ما يكفي لبدء مشروع ارتباط وكان أخي قد أوصاني قبل السفر بالاطمئنان علي شقته‏,‏ فتوجهت إليها فإذا بي أجد شقة فتاة القلب الصغيرة مفتوحة‏..‏ وبعض الملابس منشورة في شرفتها فخفق قلبي بشدة وترقبت ظهورها إلي أن ظهرت وابتهجت كثيرا برؤيتي‏..‏ وفاتحتها برغبتي في الارتباط بها‏..‏ فطلبت مني التقدم لوالدها‏,‏ لكنها حذرتني من أنه سوف يرفض طلبي غالبا لأنه يفضل أن تتزوج بناته من ابناء الجنوب‏,‏ فترددت في الاقدام علي هذه الخطوة وطالبتها بأن تؤمن هي لي أولا موافقته قبل التقدم إليه‏..‏ وانتهت اجازتي دون اتخاذ أية خطوة في هذا الشأن‏.‏

فرجعت إلي عملي وأمضيت عاما آخر وعدت لمصر فوجدت شقة فتاة القلب مغلقة من جديد‏..‏ وقدرت أنها لابد قد تزوجت وفقا لشروط والدها وانتقلت إلي الجنوب‏..‏ فحاولت أن أصرف تفكيري عنها‏.‏ وبدأت أفكر في الارتباط بأي فتاة تضعها الاقدار في طريقي‏,‏ بعد أن تزوج كل أخوتي وراحت والدتي تلح علي في الزواج‏,‏ وخطبت بالفعل فتاة رشحها لي بعض الأقارب‏,‏ وعدت إلي عملي وأنا لا أشعر بأية رغبة في إتمام هذا الارتباط معها‏,‏ وانقطعت عن مراسلتها حتي شعر أهلها بعدم رغبتي في استكمال المشوار‏,‏ وطلبوا فسخ الخطبة‏..‏ وشغلت بحياتي وعملي في الغربة عامين آخرين ثم رجعت إلي مصر لإجراء جراحة بسيطة‏..‏ فوجدت والدي الحبيب قد أصيب بالمرض الخطير ويتلقي العلاج القاسي في المعهد المتخصص في علاجه‏..‏ وحزنت لذلك كثيرا وساءت حالتي النفسية‏..‏ وخيم الاكتئاب علي‏,‏ وفي غمرة ضيقي ذهبت لزيارة أخي الذي كان يعمل في الدولة العربية‏,‏ وعاد للاستقرار في مصر منذ فترة‏,‏ فإذا بي أجد نفسي أمام فتاة القلب القديمة بعد كل هذه السنوات الطويلة‏,‏ وقد نضجت وأصبحت كالبدر في تمامه‏,‏ فشعرت بسعادة بالغة‏,‏ ولم اتوقف أمام مالاحظته علي مشيتها التي بدت معها وكأنها تعاني التواء في القدم أو ما شابه ذلك‏..‏ ورأيت ألا أضيع الفرصة هذه المرة بعد أن جمعتنا الأقدار علي غير موعد من جديد‏,‏ فلقد أصبحت هي في الرابعة والعشرين من عمرها ولم تتزوج‏,‏ وأصبحت أنا في الثامنة والعشرين ولم أتمن فتاة سواها‏,‏ وقد ادخرت كل ما يكفي للزواج‏..‏ فماذا إذن يحول بيننا الآن‏..‏ وفاتحتها علي الفور برغبتي في لقائها لكي نرتب معا كل شئ قبل التقدم لأسرتها ففوجئت بها ترفض مقابلتي أو الحديث معي في مشروع الزواج‏,‏ وصدمت لذلك صدمة كبيرة‏,‏ وسألتها عن السبب وهي لم تتزوج بعد وليس هناك مايحول بيني وبينها‏..‏ فلم تجبني سوي بالصمت الحزين ـ فسألتها ألم تعد تري في فتي احلامها القديمة‏,‏ فأجابتني صادقة بأنها لم تتعلق بإنسان ولم تحب احدا سواي منذ رأتني أول مرة وحتي الآن‏..‏ لكنها بالرغم من ذلك لاتريد ان نلتقي مرة أخري أو نتحدث في أمر الزواج‏.‏

وزادني ذلك حيرة‏,‏ وحاولت جاهدا ان اعرف منها سبب ابتعادها عني دون جدوي‏,‏ إلي ان ذهبت ذات يوم مع والدي إلي المعهد الشهير لحضور احدي جلسات العلاج‏,‏ فإذا بي أراها هناك مع أختها الصغري ودهشت لرؤيتها في هذا المكان وسألتها عما جاء بها إليه‏..‏ فلم تجبني سوي بدمعة صامتة ترقرقت في عينيها‏.‏
وعرفت الحقيقة القاسية التي عجزت طوال الأسابيع السابقة عن مصارحتي بها‏.‏

لقد اصيبت بالمرض الخطير منذ عامين‏,‏ وهي في هذا المكان لتلقي نفس العلاج الذي يتلقاه أبي‏..‏ وقد بدأ المرض في العظام أعلي الركبة وتمت زراعة عظام لها في جراحة كبيرة وتحسنت حالتها لفترة‏,‏ ثم عاود المرض الظهور من جديد وهذا هو سبب مشيتها‏..‏ وروت لي كل التفاصيل‏..‏ فهدأت خواطرها وطمأنتها إلي ارتفاع نسبة الشفاء من هذا المرض وازددت اقترابا منها فوجدتها انسانة بكل ما تحمله الكلمة من معان‏,‏ ولديها من الصفات الطيبة الكثير والكثير وأهمها عفة النفس واللسان الذي لاينطق إلا خيرا أو يصمت‏.‏
واستمر اقترابي منها طوال فترة وجودي في مصر‏,‏ وأحببت كل شيء فيها ثم شعرت فتاتي بالألم مرة أخري ودخلت غرفة العمليات من جديد مصحوبة بدعائي الحار لها بالشفاء‏,‏ وأجريت لها جراحة خطيرة استغرقت سبع ساعات‏,‏ ونقلت إلي العناية المركزة في حالة خطيرة‏,‏ وقال الطبيب إن اليومين التاليين للعملية حاسمان بالنسبة لها‏,‏ فبذلت المستحيل لكي ادخل إليها العناية المركزة واطمئن عليها‏..‏ ودخلت إليها ونظرت إليها باكيا‏,‏ ودعوت الله لها بالنجاة ورأتني والدتها ولم تكن تعرفني من قبل فقدمت إليها نفسي‏,‏ ورحبت بي السيدة الفاضلة وسمحت لي بزيارة ابنتها في أي وقت أشاء‏,‏ فشكرتها علي ذلك‏,‏ لكنه لم يكن هناك مجال للحديث عن أي شيء آخر‏,‏ فواظبت علي زيارتها كل يوم إلي ان حل موعد سفري لعملي وهي لم تغادر المعهد بعد‏,‏ فما ان مضي شهر علي رجوعي لعملي حتي نعي لي الناعي أبي رحمه الله‏..‏ فأديت عنه العمرة وكنت قد أديت عنه فريضة الحج من قبل ودعوت له بالرحمة الواسعة‏..‏ وارسلت لي فتاة القلب رسالة تعزية جميلة‏,‏ فقررت ان أؤدي عنها هي أيضا فريضة الحج‏,‏ لان ظروفها الصحية لن تسمح لها باداء الفريضة‏..‏ واديتها بالفعل ودعوت لها بالشفاء والسعادة‏,‏ وما دفعني لان أكتب لك رسالتي هذه هو وساوس الشيطان التي توسوس لي من حين لآخر وتسألني لماذا تحكم الأقدار بالمرض علي من يرغب في الحياة ويأمل فيها؟ اسأل الله تعالي لفتاتي السلامة وان يخفف عنها ماهي فيه ويجعله في ميزانها يوم العرض العظيم وان يرزقها الصبر والارادة وقوة التحمل‏.‏

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
أجد حرجا كبيرا في محاولة التعبير عما أريد قوله لك في هذا الشأن رعاية لمشاعر الأبرياء‏,‏ وحرصا عليهم‏,‏ ولهذا فأني سأجمل رأيي لك دون تفصيل واعتمد علي ذكائك في ادراك المسكوت عنه تقديرا للظروف‏.‏
وفي هذا الاطار فأني اقول لك إنك كنت تستطيع أن تحول تعاطفك السلبي مع فتاتك الي تعاطف إيجابي لا يكتفي فقط بالأسي الصادق لها ولا بالتعجب لمفارقات القدر والاستسلام لوساوس الشيطان‏,‏ أو السقوط في بئر الاكتئاب‏,‏ وانما يتجاوز كل ذلك الي فعل قد لا يكلفك الشيء الكثير‏..‏ وقد لا يلزمك ايضا بالشيء الكثير‏,‏ لكنه يسهم اسهاما نبيلا في رفع الروح المعنوية لهذه الفتاةالمعذبة بأقدارها‏..‏ ويبث فيها روح الأمل في مقاومة المرض والانتصار عليه‏.‏

فلقد كنت تستطيع ودون اية حسابات أو مغارم ان تعلن لوالدة هذه الفتاة امامها انك ترغب في الارتباط بها وتتقدم لطلب يدها وهي في فراش المرض‏..‏ مؤجلا بقية الخطوات الأخري الي ما بعد تمام الشفاء الناجع بإذن الله من مرضها‏..‏ فتشعرها بجدارتها بالحب وبنيل نصيبها العادل من السعادة‏.‏وتجدد أمالها في الحياة حين تجد الي جوارها قلبا مخلصا يشاركها محنتها‏..‏ ويأمل في السعادة معها‏,‏ فتسعد بأيامها وتتشاغل عن آلامها واحزانها‏,‏ ويقدر لك الجميع نبل دوافعك ويعفونك غالبا من اية اعباء حقيقية لمثل هذا الالتزام الادبي خاصة انه ليست لديك بالفعل خطط أخري الآن للارتباط بغيرها‏,‏ فإن تحققت الاحلام‏,‏ فلقد ظفر القلب بما تطلع اليه‏..‏ وأسهم بأثر فعال في اعانة فتاته المعذبة علي أمرها ومنحها أسبابا اضافية لمقاومة المرض‏,‏ واسبابا أخري لتعميق روابطها بالحياة‏,‏ لأنه كلما قويت أسباب تعلقنا بالحياة قويت ارادة الحياة فينا وازدادت قدرتنا علي مقاومة اسباب الفناء‏.‏
وإن قست علينا الحياة فلقد رضينا عن أنفسنا لأننا لم ننكص عن أداء واجب كان الأجدر بنا ألا نتقاعس عن أدائه ولم نتردد في العطاء الصادق لمن نحب‏.‏ وإنما اسعدنا قلبا حزينا في أيامه العصيبة وخففنا عنه بعض آلام الحياة‏,‏ ورشحنا انفسنا فيما بعد لجوائز السماء‏..‏ وتعويض الأقدار‏.‏

ولقد تذكرت وأنا اكتب لك هذه الكلمات ماقاله بطل رواية القنصل الفخري للروائي الانجليزي جراهام جرين مبررا زواجه وهو في الستين من عمره من فتاة فقيرة بائسة لم تكن لتظفر ذات يوم بزوج مثله‏:‏
ـ حين تصل إلي مثل عمري ستكون قد كدست اكواما من الندم علي أشياء فعلتها‏..‏ وأشياء أخري كان ينبغي لك أن تفعلها ولم تفعلها‏.‏

لهذا فإنه شيء عظيم حقا أن تشعر بأنك قد جعلت شخصا واحدا علي الاقل أكثر سعادة مما كان عليه من قبل‏..‏ ولو بدرجة قليلة‏!.‏
وأخشي أن يكون احجامك عن إعلان نيتك أو رغبتك في الارتباط بهذه الفتاة قبل فوات الأوان ـ وحتي لو كنت قد فعلت ذلك مراعاة للحال ـ واحدا من الاشياء التي يندم المرء كثيرا فيما بعد علي أنه لم يقدم عليها في وقتها المناسب‏,‏ وحين كانت تعني الكثير والكثير لمن يهمه أمرهم‏.‏

والمؤكد هو أننا كنا نستطيع أن نحذف من كومة الندم التي تتكدس لدينا علي مر السنين الكثير والكثير من الاشياء لو كنا فقط قد تسلحنا في الوقت المناسب ببعد النظر‏..‏ وشجاعة الاختيار‏..‏ فهل تلقيت الرسالة أيها الصديق؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق