الثلاثاء، ١ فبراير ٢٠٠٠

النظرات المختلسة‏!‏

03-05-2002
قرأت رسالة صوت الرعد للفتاة التي تشكو من تضييق أبيها علي أسرتها ورفضه المساهمة في نفقات جهازها ولجوئه الدائم إلي حسم كل جدال حول نفقات الأسرة الضرورية بالصوت العالي الذي يشبه صوت الرعد ويصل إلي الجيران ويحرج الزوجة والأبناء‏,‏ فأثارت هذه الرسالة خواطري واستدعت ذكرياتي التي مازالت حية في وجداني حتي الآن‏.‏ فلقد نشأت في أسرة لأب ميسور ماديا إلي حد كبير وأم طيبة وأخوة وأخوات‏..‏ وكنت الأثيرة عند أبي لاجتهادي الدراسي ونظرتي الجادة للأمور‏,‏ كما كانت حياتنا ميسورة من الناحية المادية‏,‏ وبعد ظهور نتيجة الثانوية العامة ونجاحي بتفوق فيها ذهبت إلي منزل جدي لقضاء بعض أيام عطلة الصيف فيه‏..‏ فوجدت عنده شابا من أقاربنا لم أكن قد رأيته منذ سن الطفولة‏,‏ وهو شاب متفوق دراسيا وخجول وبعد فترة لاحظت أن هذا الشاب يختلس النظر إلي ولا يتكلم إلا في أضيق الحدود‏,‏ وعرفت منه أنه كان يتابعني باهتمام‏..‏ ويعرف أخباري منذ فترة المدرسة الرعدادية وشعرت بقلبي يخفق لأول مرة في حياتي كلما نظر إلي هذا الشاب أو تحدث معي‏,‏ ودار بيننا حوار صامت بالنظرات فقط مفاده أن كلا منا يتمني الآخر شريكا له في الحياة‏,‏ وانتهت اأقامتي عند جدي ورجعت إلي بيت أسرتي‏..‏ وانقطع الاتصال بيننا إلي أن تلقيت منه رسالة مهذبة يحثني فيها علي الاجتهاد في الدراسة الجامعية والألتزام بالصلاة‏,‏ وأكدت لي الرسالة أن كلا منا يكن للآخر عاطفة قوية وليست عابرة وتكررت لقاءاتنا العابرة بالمصادفة في بيت جدي‏..‏ وشعرت بأن الوقت قد حان لكي نضفي علي مشاعرنا الطاهرة صيغة شرعية تعفيني من الإحساس بخيانة ثقة الأهل بي وفاتحته في ذلك فوعدني خيرا وبعد أيام جاء مع أهله لزيارة أبي وطلب يدي منه وتمت قراءة الفاتحة وتأجيل بقية الخطوات لحين انتهاء فتاي من دراسته‏..‏ وخلال فترة الخطبة جمعت بيننا ذكريات جميلة وبريئة حفرت في قلب كل منا علامات لا يمحوها الزمن‏.‏ وكل ذلك دون أن تجري كلمة الحب الصريحة علي لسان أحد منا‏.‏ ثم جاءت مرحلة الإعداد للزواج وبدأ الحديث عن الأمور المادية‏,‏ ففوجئت بأبي يقول لي ولخطيبي وأسرته وبصوت عال إنه وإن كان يملك بعض العقارات والأراضي إلا أنه لا يملك مال قارون‏..‏ وأن ما يملكه من مال سائل إنما يكفي فقط لتعليم الأبناء ومواجهة نفقات الحياة‏..‏ فإن تبقي منه شيء فإنه يحتاج لأن يحتفظ به لنفسه لكي يعتمد عليه في شيخوخته‏,‏ ومادت بي الأرض ولم أجد ما أقوله‏..‏ ولاحظت بعد فترة أن فتاي وأسرته قد انقطعوا عنا لبعض الوقت‏..‏ وفهمت من ذلك أنهم لم يستريحوا لما قاله أبي ويتناقض مع ما يعرفونه عنه من ثراء‏.‏ وتحملت هذه الفترة علي مضض انتظارا لبدء الدراسة الجامعية عسي أن تكون هناك فرصة للاتصال بيننا‏,‏ فبدأت الدراسة ومضت الأيام بغير أن يبعث إلي بأي رسالة‏..‏ وانتظرت أن تجيء الخطوة الأولي منه فلم تجيء ومضي الفصل الدراسي الأول كله ورجعت إلي مدينتي في عطلة الصيف ومازال الأمل يحدوني في أن أسمع خبرا مطمئنا من خطيبي‏,‏ فإذا بأمي تلقي علي بنبأ كالقنبلة وهو أن فتاي علي وشك أن يعلن خطبته لفتاة أخري خلال أيام‏..‏ وشعرت بالدماء تنسحب من عروقي وعافت نفسي الطعام والشراب‏..‏ فإذا طعمت شيئا لم يستقر في معدتي لأكثر من دقائق‏,‏ وصاحبتني حالة التقيؤ المستمر حتي هزل جسمي وانخفض وزني‏15‏ كيلو جراما خلال بضعة أسابيع‏..‏ ومع تأكيد الأطباء لأهلي أنه ليس هناك سبب عضوي لحالة التقيؤ المستمر هذه وجدت لزاما علي أن أحاول التماسك حفاظا علي كرامتي أمام أهلي قبل كل شيء‏..‏ وتماسكت بالفعل وركزت كل اهتمامي علي إنهاء دراستي الجامعية‏.‏

وتحسنت حالتي الصحية بعض الشيء‏,‏ لكنني كنت ما أن أعلم أن شابا قد تقدم لأسرتي حتي تعاودني حالة القيء المستمر وأزهد الطعام والشراب من جديد‏,‏ ولا تزول الحالة إلا بعد علمي برفض أهلي له‏.‏ واستسلمت لأقداري في النهاية وتمنيت لفتاي أن يسعد بحياته‏,‏ ومضت خمس سنوات وأنا أرفض كل من يتقدمون لي‏..‏ إلي أن جلس معي أبي ذات يوم وسألني عن نهاية هذا الرفض المستمر للخطاب والأيام تمضي والعمر يسرقني‏..‏ ثم نصحني بأن أقبل خطبة أول من يتقدم لي وأجرب استعدادي للتجاوب معه‏,‏ فإذا عجزت فلسوف ينهي الخطبة علي الفور‏..‏ وأقتنعت بنصيحته وتمت خطبتي لشاب شعرت تجاهه بالقبول‏..‏ وأدهشني أنه قد جاء إلي أبي رافعا الراية البيضاء من قبل الحديث في الأمور المادية‏,‏ وعارضا أن يتكفل وحده بكل تكاليف الزواج من أثاث وسكن ونفقات للزفاف إلخ‏.‏ وكل ذلك بالرغم من أنه ليس ثريا ولا وارثا ورحب به أبي بالطبع‏,‏ ومضت خطوات الزواج في طريقها وحين اقتربنا من الزفاف بدأت في أسرتي مشاكل الجهاز‏,‏ فلقد تكفل العريس بالأثاث والنفقات‏,‏ لكن العروس تحتاج إلي جوار ذلك إلي ملبس ومفروشات وأدوات طهي إلخ‏,‏ فمن يتكفل بها سوي أبي مالك الأرض والعقارات والمعدود في نظر الجميع من الأثرياء؟ ومن هنا بدأ صوت الرعد يدوي كل مساء في بيتنا كلما طلبت أمي لي شيئا من المستلزمات الضرورية للزواج أو كلما أشرت مع أبي إلي حاجتي لشراء شيء وكم من ليلة نمت فيها ودموعي تبلل وسادتي حزنا لموقف أبي‏..‏ ولم نشتر شيئا واحدا إلا بعد موال طويل وصياح وعويل وبكاء ونحيب‏,‏ يفقدني بهجة كل شيء في حين كان خطيبي رجلا كريما برغم قلة موارده ولم يبخل بشيء علي تأثيث عش الزوجية حتي اكتمل وفقا لما اتفق عليه‏.‏ وبعناء شديد انتهت رحلة العذاب هذه وتم توفير الحد الأدني من مستلزمات الزواج وزففت إلي زوجي وأنا كسيرة النفس وحزينة من أبي الذي أحببته دوما ولم تنجح حتي أفعاله هذه في أن تغير من مشاعري تجاهه كابنة خاصة وقد كنا قبل بلوغي سن الزواج لا نشعر بأنه يبخل علينا بشيء‏..‏ وبدأت حياتي الزوجية وتعرفت علي طباع زوجي فوجدته رجلا رائعا كريم الخلق عزيز النفس شهما يهيم بي حبا وكأن الدنيا قد خلت من النساء فيما عداي‏,‏ ويقول لي علي الدوام إنني أول وآخر حب في حياته‏,‏ وأنعم الله علي بالأبناء وشكرته دائما علي حياتي مع زوجي وأبنائي‏,‏ ولكن آه يا سيدي من ذلك القلب العصي الذي لا يقبل بالواقع‏..‏ فلقد ظل برغم مرور السنين ركنا مغلقا علي حبه الأول وذكرياته القديمة‏,‏ وحرصت علي زيارة الأماكن التي شهدت بعض هذه الذكريات‏..‏ وخفق قلبي حين رأيتها‏..‏ واسترجعت ذكريات الماضي‏..‏ لكن هذا حديث آخر سأؤجله إلي آخر الرسالة‏..‏ ولأقول لك إن أختي التي تليني في السن قد تزوجت بعدي بأول من طرق بابها وحدث معها في فترة الخطبة نفس ما حدث معي من عذاب شديد في إعداد الجهاز والموال الطويل عند شراء كل شيء‏..‏ ودوي صوت الرعد كل مساء‏,‏ ولكن مع فارق مهم هو أنها كانت مهيأة نفسيا لهذه المعركة لسابق تجربتي معها‏..‏ فاستعدت لها جيدا ومن بعدها تزوجت أختي الأخري‏,‏ وبنفس الطريقة ومع نفس الأصوات الرعدية والجدال‏..‏ والصراع‏..‏ وبأقل الإمكانات علي خلاف ما فعل آباء صديقاتها معهن‏,‏ وركزت كل واحدة منا اهتمامها بزوجها وأسرتها الصغيرة‏..‏ وجاءنا جميعا التعويض الإلهي عن تقصير والدنا معنا من جانب أزواجنا‏..‏ وتحسنت أحوالهم المادية واحدا بعد الآخر‏..‏ كما تحسنت أيضا نحن الشقيقات أحوالنا المادية كذلك حتي استقرت حياتنا ورزقنا الله من فضله وأصبح لكل واحدة منا رصيد خاص بها في البنك‏..‏ وعوضنا نحن ما قصر أبي في توفيره لنا من مستلزمات الزواج فاشترينا الملابس والمفروشات‏,‏ونعمنا بالوفاق مع أزواجنا ورعاية أبنائنا‏,‏ وفجأة توفي والدي رحمه الله وكانت المفاجأة لنا جميعا أنه قد ترك وراءه إلي جانب الأرض والعقارات‏,‏ مبلغا كبيرا من المال السائل كان يكفي ما هو أقل من ربعه لأن يجهز به أبي كل بناته جهازا لائقا ومشرفا لهن أمام أزواجهن وأصهارهن‏,‏ لكنه سامحه الله وغفر له قد ضن به علينا ولم يكرمنا أمام أصهارنا وأزواجنا‏,‏ وتم توزيع التركة بيننا‏,‏ ولم أشعر بشيء حين وقعت أوراق نصيبي في الأرض والعقارات‏,‏ لكني حين تسلمت نصيبي من المال السائل ترحمت علي أبي وطلبت له المغفرة وساءلته في داخلي‏:‏ لماذا يا أبي‏..‏ وقد كنت تملك كل هذا المال ضننت به علينا ولم تساعدنا به علي تحقيق سعادتنا وأحلامنا؟ وقلت لنفسي‏:‏ ما قيمة المشط الذي يعطي للرجل بعد أن يتساقط شعره؟ وما قيمة الطعام الذي لا يقدم للجائع إلا بعد أن يرغمه الجوع علي أن يملأ بطنه من خشاش الأرض‏,‏ لقد كان ما هو أقل من ربع هذا المبلغ وحده يكفينا جميعا لتحقيق حلم كل واحدة منا في السعادة والحياة‏,‏ والآن فإنه لا يعدو أن يكون رقما من الأرقام يضاف إلي رصيد كل منا بالبنك‏.‏

فلماذا فعل بنا أبي ذلك غفر له الله؟ لقد رحل أبي عن الحياة وعنده الإجابة علي هذا السؤال‏,‏ وما يعذبني يا سيدي هو أنني وبالرغم من إخلاصي الشديد لزوجي وبيتي وأبنائي الذين قاربوا علي بلوغ سن الشباب‏,‏ مازالت في قلبي لوعة وحنين إلي الحب القديم‏,‏ وما أن تجمعني به المصادفة في أحد بيوت الأهل ونتبادل التحية وكلمات المجاملة التقليدية إلا وأشعر بكياني كله وهو يذوب في هذه اللحظة وأكاد أسمع دقات قلبي المتلاحقة وكأني مازلت ابنة العشرين‏..‏ فأتذكر أبي وأطلب له الرحمة والسماح‏,‏
إنني أود أن أوجه كلمة لكل أب يملك ما يكرم به أبناءه أن يجعل هذا المال وسيلة لتحقيق سعادة الأبناء في حياته‏,‏ ليري بعينيه سعادتهم وقد تحققت في وجوده وبه وليس بعد رحيله عن الحياة ولا بعد فوات الأوان
فالمال قد تكون له فائدة عظمي في وقت معين من أوقات الحياة‏,‏ وقد يصبح بلا قيمة ولا جدوي في أوقات أخري كما هو الحال معنا الآن‏,‏ وأقول في ختام رسالتي لوالد الفتاة كاتبة رسالة صوت الرعدحقق سعادة ابنتك في حياتك فهي أحوج ما تكون الآن لمالك ولن يفيدها شيئ حين تحصل عليه بعد سنوات والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏
كل ما يتمناه المرء قد يحققه في حياته‏,‏ ولكن غالبا بعد فوات الأوان‏!‏
هكذا قال الأديب الأيرلندي الكبير أوسكار وايلد ذات يوم‏,‏ وهكذا تؤكد لنا تجربة الحياة في كثير من الأحيان‏.‏
وتحقيق الآمال بعد فوات الأوان من مفارقات الحياة التي كثيرا ما تثير تأملاتنا وشجوننا وتفقدنا القدرة علي الاستمتاع بما حققناه من أهداف الحياة‏..‏ فالآمال المتأخرة عن موعدها المناسب تفقد الكثير والكثير من قيمتها وأهميتها لمن تطلع إليها طويلا في لهفة وحرمان‏.‏

وحديثك عن الطعام الذي يقدم للجائع بعد أن بشم من الشبع يذكرنا بنظرية المنفعة الحدية في علوم الاقتصاد والتي تقول لنا أإن منفعة الأشياء بالنسبة لنا تتحدد بقدر حاجتنا إليها‏,‏ وليس بقيمتها المجردة وحدها‏,‏ فالرشفة الأولي من كوب الماء ترتفع قيمتها إلي حدها الأقصي لدي من هده الظمأ والجفاف‏,‏ والرشفة الثانية من نفس الكوب تنخفض منفعتها بقدر ما روت الأولي من ظمئه وعطشه‏..‏ وتنخفض قيمة الثالثة عن الثانية بنفس القدر إلي أن يرتوي المرء تماما فيفقد الماء كله منفعته بالنسبة إليه وتستوي قيمته لديه مع بقية الأشياء‏,‏ ولقد تصبح الرشفة الزائدة بعد ذلك عبئا عليه بعد أن كانت منذ قليل أملا له‏.‏ مع أن الماء هو نفس الماء في كل الرشفات‏,‏ وهكذا الإنسان دائما يا سيدتي مع كل احتياجات الحياة وليس من شك في أن والدك قد أخطأ في حقك وحق شقيقتيك خطأ جسيما حين قبض يده وهو القادر ماديا ـ عن إعانتكن علي أمركن في الوقت المناسب‏,‏ وحين لم يواسكن بماله ويبذل لكن العطاء السمح الذي يشعركن بعز البنوة لأب حريص علي سعادة بناته وعلي حفظ كراماتهن أمام أزواجهن وأصهارهن‏.‏
والواضح هو أن والدكن قد استهول تكاليف زواج بناته وخشي أن تستنزف معظم مدخراته فأراد أن يستن لنفسه سنة تزويج البنات بأقل الخسائر المادية وتحميل الأزواج معظم الأعباء‏,‏ وبذلك ينجو هو بماله السائل ولا يبذل منه بعد العناء الشديد إلا أقل القليل لتلبية الحد الأدني من ضروريات الفتاة عند الزواج‏,‏ وهو موقف أناني بكل تأكيد يأباه علي أنفسهم وأبنائهم الرحماء من الآباء الذين لا يضنون بشيء مما يملكون علي فلذات أكبادهم ولو تحملوا هم العناء في سبيل ذلك‏,‏ غير أنك يا سيدتي تربطين ربطا متعسفا بين تقاعس أبيك عن الوفاء بمسئولياته الأبوية تجاهك عند زواجك‏,‏ وبين حرمانك من الحب القديم وتحقيق أحلام السعادة مع أول من نبض قلبك بالحب له في سن الصبا‏,‏ ويغيب عنك في غمرة ذلك‏,‏ أمر شديد الأهمية هو أن موقف أبيك المادي في مشروع الارتباط بينك وبين خطيبك الأول لم يكن وحده المسئول عن انهيار الحلم وتبدد آمال السعادة المرجوة‏,‏ ذلك أن الحلم لم يتهاو علي صخرة أبيك المادية وحدها‏,‏ وإنما تحطم في الحقيقة علي صخرة أخري هي رفض خطيبك الأول أن يتحمل أية تضحيات مادية في سبيل الفوز بك‏..‏ ولو كانت هذه التضحيات غير عادلة وعلي صخرة تقاعسه هو الآخر عن الاستمساك بك والدفاع عن الحب الذي جمع بينكما ولو تحمل هو في سبيل ذلك العناء كما يفعل المحبون الصادقون في حبهم وفي رغبتهم في أن يسكنوا إلي من يحبونهم‏..‏ فلقد يسخط هؤلاء علي مادية الأب الذي لا يريد أن يتحمل مسئولياته العادلة تجاه أبنائه‏,‏ولقد ينقمون عليه قلة مروءته وشهامته‏,‏ لكنهم أبدا لا يتخلون عمن أحبوهم ولا ينصرفون عنهم بلا ندم لمثل هذا السبب المادي الرخيص‏..‏ وإنما يدافعون عن حبهم الصادق ضد الظروف غير المواتية‏..‏ ويعوضون بأريحيتهم أو تضحياتهم ما قصرت عنه همة الآباء أو مروءتهم‏,‏ وهو نفس ما فعله زوجك الحالي الذي يهيم بك حبا كأنما قد خلت الدنيا من كل النساء سواك‏.‏ وهكذا فعل أيضا زوجا شقيقتيك حين قبلا بتعويض تقصير والدك في حق بناته واستمسكا بفتاتيهما للنهاية وفازا معهما بالسعادة والأمان‏,‏ فلماذا لم يفعل ذلك فتاك الأول‏..‏ والذي يضطرب القلب الآن بعد السنوات الطويلة حين ترينه في زيارة عائلية؟

ولماذا ينحصر لومك الباطني علي حرمانك مما تتصورينه السعادة الموءودة والأحلام المنهارة علي أبيك وحده ولا يمتد معه كما يقضي العدل بذلك إلي فتاك الذي تخلي عنك عند أول اختبار حقيقي لصدق المشاعر‏..‏ وجدية الاختيار؟ وكيف يهفو القلب إلي من لم يبذل قطرة عرق واحدة في سبيل الاحتفاظ بك وقضاء بقية العمر إلي جوارك كما يفعل الصادقون في حبهم‏..‏ في كل العصور والأزمان؟ إنك في حقيقة الأمر لا تشعرين بالحنين إلي هذا الحب القديم في حد ذاته وإنما إلي براءة المشاعر وهي تخفق بنبض الحب لأول مرة في حياتك‏,‏ وإلي أحاسيس ابنة العشرين التي يضطرب نبضها حين تلتقي عينها بعيني فتاها في نظرة مختلسة وغير ذلك من اللفتات العاطفية والذكريات الدافئة التي أارتبطت في مخيلتك بهذه المرحلة الجميلة من مراحل العمر‏..‏ لهذا فأنت تحنين إلي صباك وبواكير شبابك في حقيقة الأمر‏,‏ وليس إلي شخص بذاته‏..‏ وهكذا نفعل جميعا حين نأسي علي الماضي الذي انقضي وراح وننعي علي الحاضر الذي يذكرنا بتقدمنا في مراحل العمر واقترابنا من غاية الحياة‏,‏ وما تعتبرينه الحب الأول في حياتك وربما الوحيد لم يكن أكثر من عاطفة غير مكتملة لم تصهرها نيران التجارب والاختبارات واختلاف وجهات النظر وتعارض الإرادات واختلاف الرؤي وتضاد المصالح‏,‏ وغير ذلك من الاختبارات التي يمتحن بها صدق المشاعر‏..‏ فيصمد الحقيقي منها‏..‏ وتذرو رياح الأيام ما كان موهوما وغير صادق من الأحاسيس‏.‏ ولعلك لو كنت قد تزوجت من فتاك الأول لما صمد حبك أمام مثل هذه الاختبارات الجادة‏,‏ ولربما كنت قد شقيت بعشرته ورجوت لنفسك النجاة منها بعد فوات الأوان‏.‏ وعسي أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسي أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون صدق الله العظيم‏..‏ ولأنه سبحانه وتعالي يعلم ونحن جاهلون بأن من واجبنا تجاه أنفسنا دائما أن نرضي بحسن اختيار الله لنا ونسعد به‏..‏ ولا نهفو إلي غيره لكيلا نجني من أحلامنا المستحيلة الحسرة وتشوش الخاطر‏..‏ وقلق النفس‏..‏ وكدر الحياة‏..‏ وإغفال الشكر علي الموجود تعلقا بالمفقود‏,‏ ولكيلا نقع في خطأ المقارنة الظالمة بين خيال موشي دائما بالورود‏..‏ وواقع يخلو عادة من جاذبية الخيال‏,‏ وقديما قال أحد الصالحين في موقف مماثل‏:‏ إن الحب الحلال حلال‏..‏ والحب الحرام حرام‏..‏ وأن الأفضل دائما لنا هو إطفاء الشرارة قبل أن يندلع الحريق ويتعذر علينا السيطرة عليه وإخماده‏.‏ ومن أهم السبل لتحقيق ذلك تجنب اللقاء ولو كان بريئا‏..‏ والخلوة ولو جاءت عرضا‏..‏ والنظرات المختلسة ولو لم يلحظها أحد‏..‏ والمصالح المشتركة التي قد تجمعنا برموز الماضي ولو كانت مشروعة‏.‏ وذلك سدا للذرائع وإغلاقا لأبواب الضعف البشري ودفاعا عن السعادة المتاحة لنا وحماية لها من التشوش والاضطراب‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق