الثلاثاء، ١ فبراير ٢٠٠٠

البحث عن السعادة

22-03-2002
أكتب إليك هذه الرسالة من المهجر‏,‏ ولا أرمي من ورائها إلي البحث عن حل لمشكلة‏,‏ ذلك أن مشكلتي عسيرة الحل‏,‏ وليس لها إلا حل واحد تحول دونه أسباب منها الأدبية والاجتماعية والمادية وغير ذلك‏,‏ ولذا سأدخل إلي الموضوع مباشرة‏:‏ تحتفل مصرنا الغالية وكثير من دول العالم بما يسمي عيد الأم المثالية سنويا‏,‏ ويدفعني ذلك إلي أن أتساءل‏:‏ هل هذه السيدة التي كافحت من أجل أولادها ألم تكن زوجة قبل أن تكون أما‏,‏ إذن فهل كانت هذه السيدة المثالية في الأمومة مثالية أيضا في حياتها الزوجية‏,‏ وهل يكفي لكي تحصل احدي السيدات علي لقب المثالية أن يقتصر ذلك علي دورها كأم فقط أم لابد أن تكون أيضا مثالية في الحياة الزوجية أو هل لابد أن تجمع بصدق وإخلاص بين المثالية في الحياة الزوجية والمثالية في الأمومة‏.‏ وإذا أردنا أن نجد هذه الزوجة المثالية فما هي الصفات التي يجب أن تكون عليها؟‏..‏ وهل تعتقد أننا سنجد الكثيرات ممن يمكن أن يقال عنهن انهن زوجات مثاليات؟‏..‏ وهل من الأصوب عمل نفس الاجراءات لانتخاب إحداهن لتحوز شرف حمل لقب المثالية حتي تحتذي بها غيرها ولعل ما ورد في هذا الشأن يثير موضوعا آخر علي علاقة وطيدة به وهو موضوع الحب في الحياة الزوجية وفي هذا المجال أري أن هناك عدة أسئلة تحتاج إلي الاجابة عليها‏:‏

أولا‏:‏ ما هو الحب في الحياة الزوجية ما هو معناه الحقيقي وما هي علاماته؟
ثانيا‏:‏ لتكون الحياة الزوجية سعيدة ومستقرة من بدايتها وحتي نهايتها هل يجب أن تتبلور عاطفة الحب بوضوح بين الزوج والزوجة علي قدر المساواة أم يكفي أن تكون من طرف واحد

ثالثا‏:‏ هل إذا بدأت الحياة الزوجية بالحب المتبادل يمكن أن تستمر كذلك مدي الحياة أم تنهار السعادة والاستقرار عند هبوب أول عاصفة أو مجرد متاعب عابرة لا يخلو منها منزل أو عائلة؟
رابعا‏:‏ يقال إن الحب يصنع المعجزات‏..‏ فهل هذا صحيح في الحياة الزوجية ؟‏..‏ إنني أرجو ألا تأخذك الدهشة إذا علمت أن كاتب هذه الرسالة قد جاوز التسعين من العمر وزوجته جاوزت الثمانين من عمرها وأن الحياة الزوجية بينهما قد تعدت نصف القرن‏,‏ ومع كل ذلك فمازلت أبحث واسأل عن مواصفات الزوجة المثالية وأفتقد الحب وأرجو في ختام هذه الرسالة أن يتسع صدرك وتسمح لكثير من الباحثين الاجتماعيين وخلافهم بأن يدلوا بدلوهم في هذا الشأن‏!‏

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
لا يدهشني تساؤلك عن الحب وافتقادك له في حياتك الزوجية وقد جاوزت التسعين من العمر وجاوزت زوجتك الثمانين‏.‏ فالعواطف الحارة لا تقاس بالسن‏.‏ ولا عمر لها‏,‏ كما أن الإنسان يحتاج إلي الدفء العاطفي في كل مراحل العمر ولقد يتزايد احتياجه إليه وإلي أنس الروح‏..‏ وركون القلب إلي من يحب لديه كلما تقدم به العمر‏,‏ والأمثلة عديدة علي ذلك في الماضي وفي الحاضر‏..‏ ومن أشهرها ما رواه الأديب الفرنسي فيكتور هوجو عن العاطفة القوية التي ربطت بين الأديب شاتوبريان‏..‏ والسيدة ريكامييه المحبة للثقافة والفنون في القرن التاسع عشر‏,‏ فلقد ربطت بينهما عاطفة قوية في شبابهما‏,‏ ثم مضت بهما السنون وأصبح الاثنان شيخين متهدمين‏,‏ وأصيبت السيدة ريكامييه بالعمي وأصيب شاتوبريان بالشلل‏,‏ ومع ذلك فلقد ظل يأمر خدمه بأن يحملوه عصر كل يوم إلي بيت حبيبته العمياء ليضعوه إلي جوارها وكان الأسي يملأ قلبي ـ كما قال هوجو ـ كلما رأيت يدها تبحث عن يد الشيخ الذي فقد الإحساس باللمس حتي إذا عثرت عليها ربتت عليها في حنان شديد

ومن أحب هذه الأمثلة إلي قلبي قصة الروائية الانجليزية كاترين كوكشن وزوجها اللذين عاشا معا متحابين متعاطفين يشد كل منهما أزر الآخر‏48‏ عاما‏,‏ فشهدت حياتهما العديد من المحن والخطوب وفقدت الزوجة في شبابها ثلاثة أطفال رضع أنجبتهم ولم يصمدوا لأنواء الحياة‏,‏ وأصيبت بالاكتئاب الشديد لمدة‏15‏ عاما ساندها خلالها زوجها المحب وأعانها علي مقاومته والشفاء منه‏..‏ وشجعها علي احتراف الكتابة الأدبية لكي تنجو من الانهيار العقلي الذي يهددها بالانتحار‏..‏ وراح يحثها كل يوم علي أن تكتب وتنشر حتي ذاع اسمها وأصبحت من أشهر الروائيين الانجليز‏,‏ ووقف إلي جوارها يمرضها ويرعاها في خمس أزمات قلبية شديدة أصيبت بها‏..‏ ثم رحلت عن الحياة وهي في الواحدة والتسعين من العمر في يونيو عام‏1998‏ وهو في السابعة والثمانين من العمر‏..‏ وفي كامل حيويته‏,‏ فما أن انتهت مراسم الوداع حتي تدهورت صحته فجأة ونقل إلي المستشفي ورحل عن الحياة بعد‏18‏ يوما فقط من رحيل محبوبته‏..‏ وقال الأطباء الذين أشرفوا علي علاجه إنه لم يمت باة زمة القلبية التي فاجأته‏..‏ وإنما بانكسار القلب حزنا علي رحيل شريكة الحياة‏..‏ وقال الأصدقاء المقربون إنه بعد غيابها عن الحياة لم يعد راغبا في شيء سوي في أن يكون معها حيث ذهبت‏!‏

ولا عجب في ذلك لأن الشيخوخة الحقيقية ليست في تقدم العمر واعتلال الصحة‏,‏ وإنما في الإحساس العميق بأن العمر قد أنتهي ومات الأمل وضاعت كل الغايات‏,‏ كما أنها أيضا في جفاف الحياة وخلوها من نبض المشاعر ودفء الصحبة‏,‏ والحق أنك تطرح في رسالتك هذه مفارقة مهمة بالفعل عن الاهتمام بالأم المثالية دون الزوجة المثالية‏..‏ مع أن كلا منهما تستحق الاهتمام والتكريم والإشادة‏,‏ ولقد أجتهد في الإجابة علي تساؤلك فأقول لك إن الزوجة المثالية تكون غالبا أما مثالية لأبنائها بالتبعية وإلا فقدت جانبا أساسيا من جوانب التميز كزوجة‏..‏ وعنصرا جوهريا من عناصر إعجاب زوجها بها وسعادته معها‏..‏ في حين قد لا تكون الأم المثالية زوجة مثالية بالضرورة لزوجها‏..‏ وربما كانت في بعض الأحيان مثالا سلبيا لها في علاقتها بزوجها‏,‏ ولقد تعوض تعاستها في الحياة الزوجية بتكريس كل عطائها لأبنائها دون زوجها‏..‏ ونفس الحال قد يصدق علي الأب المثالي لأبنائه‏,‏ والزوج السييء لعشيرته في نفس الوقت‏,‏ وفي كل الأحوال فإن العاطفة القوية ضرورية لتجميل الحياة‏..‏ وتيسيرها علي شركاء الحياة في كل مراحل العمر‏..‏ وما تقوله الكاتبة الامريكية دوروثي ديكس من أن سعادة الرجل في الزواج تتوقف علي مزاج زوجته النفسي والعاطفي أكثر من أي شيء آخر صادق إلي حد كبير‏,‏ فلقد تتمتع الزوجة كما تقول الكاتبة بكل فضيلة‏..‏ لكن كل فضائلها تصبح بلا قيمة إذا كانت سيئة الطبع حادة محبة للنقار جافة المشاعر

فإذا كنت تتساءل بعد ذلك عن المعجزات التي قد يصنعها الحب في الحياة الزوجية فإن أعظمها هي السعادة التي تطيل العمر وتؤخر الشيخوخة وتقاوم عوامل الزمن وتعين الإنسان علي احتمال آلام الحياة‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق