الثلاثاء، ١ فبراير ٢٠٠٠

القرار الصائب‏!‏

04-10-2002
قرأت رسالة الاختيار الصعب للقارئة التي ارتبطت بإنسان بعد علمها بإمتحانه بالمرض اللعين واقترب موعد زفافها إليه‏..‏ فتناوبتها الهواجس بسبب تأثير علاج خطيبها من مرضه علي قدرته علي الإنجاب‏,‏ وقرأت كذلك رسالة الفتاة الأخري التي نشرت بعنوان الاختيار السهل والتي تعقب فيها علي كاتبة الرسالة الأولي ترددها في إتمام زواجها من فتاها بسبب الخوف من عدم الإنجاب وتروي قصتها المشابهة لقصة الاختيار الصعب‏..‏ وكيف أنها لم تعتبره اختيارا صعبا ولم تتردد في الارتباط بفتاها الممتحن بنفس المرض والذي تأثرت أيضا قدرته علي الإنجاب نتيجة للعلاج من المرض اللعين‏,‏ وتري أنها قادرة علي الحياة دون أطفال إذا لم تهبها السماء أطفالا من زوجها‏..‏ فشجعتني هاتان الرسالتان علي أن أروي لك قصتي‏..‏ فأنا سيدة شابة عمري‏34‏ عاما‏.‏ سافرت منذ أربع سنوات في بعثة دراسية إلي إحدي الدول الأجنبية‏,‏ وخلال رحلة الطائرة إلي هناك تعرفت بشاب مصري يعمل في تلك الدولة وعائد من اجازة قضاها في مصر‏.‏ ولست أدري ما الذي جذبني إليه في البداية هل هو الخوف من السفر‏..‏ أم هو الشعور بالوحدة‏.‏ أم الائتناس إلي مصري يتكلم العربية‏..‏ المهم أننا تعارفنا وساعدني هو علي الذهاب إلي الجامعة التي سأدرس فيها‏..‏ وأصبحنا بعد ذلك نلتقي كصديقين جمعت بينهما الغربة ووحدة الجذور ونقضي أوقاتا طويلة معا بعد مواعيد دراستي ومواعيد عمله‏,‏ وعرفني بكثير من العائلات المصرية في الغربة‏..‏ وانتهت دراستي في موعدها المحدد ورجعت إلي بلدي‏..‏ وبعد فترة من عودتي جاء إلي مصر في اجازة قصيرة واتصل بي وسعدت باتصاله سعادة كبيرة وتوجهت لمقابلته وأنا في لهفة إلي رؤيته وتحدثنا وسألني عن أحوالي بعد العودة ثم قال لي فجأة إنه يريد أن يطلعني علي سر لا يعرفه أحد سواه واثنين من أصدقائه في الغربة‏..‏ وتنبهت حواسي بشدة لمعرفة هذا السر فإذا به يحكي لي أنه قد أصابه المرض اللعين قبل ثلاث سنوات أي قبل أن يعرفني وأنه أخفي الأمر علي أهله في القاهرة اشفاقا علي أمه وأخته من وقع الخبر عليهما‏,‏ وكتم سره في صدره وأقبل علي العلاج حتي تم له الشفاء والحمد لله‏..‏ وكيف أنه يخضع للفحص الطبي الشامل في مواعيد دورية والنتائج مطمئنة بفضل الله‏.‏ ونزل علي الخبر كالصاعقة‏..‏ ووجدتني أتأمله‏..‏ وأتأمل حبه للحياة ورجولته والابتسامة التي لا تفارق شفتيه‏..‏ وأسترجع مواقفه بجانبي في الغربة وأتعجب لمفارقات الحياة‏

وأفقت من تأملاتي عليه وهو يحدثني لأول مرة منذ عرفته عن أنه يحبني ويريد أن يرتبط بي وأنه تردد في الاعتراف لي بحبه ونحن في الغربة وأجل ذلك إلي حين عودتي لمصر واستقراري فيها‏..‏ لكيلا أتأثر في قراري بمشاعر الوحدة في البلد الأجنبي ووجدتني أتجاوب معه علي الفور وأقبل بالارتباط به والسفر للعيش معه في بلد الغربة‏..‏ وقرأت كل ما أستطيع قراءته عن هذا المرض لكي أطمئن علي حياته‏..‏ وكتمت الأمر كله عن أهلي وحفظت سره عن أقرب الناس إلي وحين اقترب الزفاف انتابتني حالة من القلق والخوف من شدة تعلقي به وتوجسي من أن أفقده بعد الزواج‏.‏ وقاومت هذه الحالة بتذكير نفسي بأن الأعمار دائما بيد الله سبحانه وتعالي وكم من شاب لقي وجه ربه بغير مرض وكم من مريض طال به العمر حتي سئم الحياة‏,‏ ورأيت أنه من الأفضل لي أن أحيا مع من أحب ولو لسنوات قليلة وأكون بجانبه وأسعده‏..‏ وأتممت الزواج وطرت مع زوجي وحبيبي إلي بلد الغربة وبدأنا حياتنا معا كزوجين‏.‏ ووفقني الله بسهولة في الحصول علي عمل خاصة بعد حصولي علي شهادة دراسية عليا من هذا البلد‏.‏ ومضت حياتنا سعيدة ومستقرة في إجمالها وبعد فترة من الزواج بدأت أشعر بتأخر الإنجاب‏..‏ ومع اني لم أكن أعرف شيئا عن تأثير علاج مرض زوجي علي قدرته علي الإنجاب فلقد راودني علي الفور هاجس بأن زوجي هو المسئول عن ذلك ولست أنا‏,‏ فذهبت وحدي إلي أحد المراكز الطبية وخضعت لفحوص شاملة فأكدت كلها سلامتي وقدرتي علي الإنجاب وأن العلاج الذي تعاطاه زوجي هو الذي أثر علي قدرته الإنجابية‏..‏ لكن الأطباء بالرغم من ذلك قالوا إن هناك أملا في اللجوء إلي الوسائل الأخري كأطفال الأنابيب وأنه لابد لنا أن نطرق كل الأبواب‏.‏ وصارحت زوجي بما فعلت ففوجئت به يثور ثورة عارمة ويؤكد لي رفضه الدخول في أية محاولات للإنجاب بطريقة غير طبيعية‏,‏ وأنه يؤمن بأن الله إذا أراد لنا الإنجاب فسوف يرزقنا به‏..‏ وتألمت لثورة زوجي كثيرا وحاولت معه بشتي الطرق تغيير رأيه ودفعه لأن يطلب العلاج كما فعل حين طلب العلاج من المرض الذي هاجمه وقاتله‏..‏ لكنه يرفض ذلك ووصل به الحال إلي أن خيرني بين الاستمرار معه بغير أي وعد منه بالمحاولة وبين الانفصال عنه‏..‏ ومنذ ذلك الحين وأنا في حيرة شديدة من أمري‏,‏ فأنا أحب زوجي بشدة وسعيدة معه لكنني امرأة وغير قادرة علي كبح جماح الأمومة بداخلي وليس هناك من يعلم بهذه المشكلة من أهله أو أهلي حيث إن والدته تعتقد أنني السبب وأهلي يتلهفون علي ذلك أيضا خاصة أن أختي التي

تصغرني بأربع سنوات قد رزقها الله بطفلة جميلة أرجو الله أن يبارك لها فيها وأنا حائرة في أمري هل أنفصل عن زوجي أم أستمر معه‏.‏ وماذا إذا استمررت معه وجاء اليوم الذي اقتنع فيه بطلب العلاج وأراد الإنجاب بعد أن أكون قد فقدت أنا القدرة عليه أنني أخاف الله وأخشي أن أكون بتفكيري في الانفصال‏,‏ متمردة أو ناكرة لنعمة الزوج المحب والحياة السعيدة التي أحياها‏,‏ لكني في الأوقات التي أتشاجر فيها مع زوجي وهي قليلة والحمد لله أو حين يطول غيابه في العمل أشعر بالضيق وألقي عليه في أعماقي باللوم لأنه لا يحاول إسعادي بمحاولة الاستعانة بالطب لحل مشكلة الإنجاب‏,‏ وأود أن أوجه كلمة لصاحبة الاختيار الصعب هي أن رغبة خطيبها في العلاج للإنجاب مؤشر جيد وعليها أن تطرق معه كل الأبواب للتأكد من امكانية ذلك وعلي ضوء النتيجة عليها أن تقف مع نفسها وقفة صريحة‏..‏ وأقول لها ذلك وأنا أعلم كم هو صعب اتخاذ قرار الانفصال عن إنسان طيب العشرة حلو الخصال خاصة وهي لم تتزوج بعد ومازالت في مرحلة العشق والحلم بالبيت الجميل‏..‏ فما بالها بصعوبة هذا القرار التي تصل إلي درجة الإستحالة بعد الزواج؟ خاصة إذا أحسن عشرتها وأصبحت سعيدة معه‏.‏ أما صاحبة رسالة القرار السهل فلقد استشعرت عاطفتها الزائدة وأنصحها بالتمهل قبل أن تؤكد أنها قادرة علي العيش بدون أطفال‏,‏ ذلك أن عدم الانجاب ابتلاء صعب ويتطلب تحمل مشاعر مناقضة للمشاعر الطبيعية للمرأة‏.‏

والله سبحانه وتعالي وحده هو الذي يعلم عمق رجائي بأن يمن علي بالأطفال‏..‏ أو بالقرار الصائب في أمري وأدعو الله أن ينير بصيرتي ويلهمني الصواب ويجعلني أرضي بقدري وأتغلب علي تغير وتقلب احتياجات الإنسان في مراحل العمر المختلفة‏,‏ وأتمني في النهاية للجميع السعادة والصحة والتمتع بنعمة الإنجاب كما أدعو لكل من وهبهم الله أطفالا أن يسعدهم بهم ويمتعهم‏,‏ وأطلب منهم الدعاء للمحرومين من هذه النعمة بأن يذيقهم الله سبحانه وتعالي من حلاوتها والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏
من المحزن حقا أن تنتهي قصة جميلة كهذه القصة نهاية غير سعيدة‏..‏ أو أن ينتهي الأمر بأحد طرفيها بعد فترة قصيرة من الحب والسعادة إلي الوقوف مع النفس ومحاولة التأكد من صحة قراره بالارتباط بمن أحبه‏!‏
فلقد جمعت بينكما الأقدار فوق السحاب علي غير انتظار وتعاطف كل منكما مع الآخر في غربته وكان له صديق مخلص وظهير‏..‏ ونما الحب بينكما ببطء وتدرج حتي عبر عن نفسه في الوقت الملائم‏,‏ وصمد الحب لأقسي الأختبارات وهو اختبار المرض والخوف من المجهول‏,‏ وتشاربتما بعد الزواج كئوس السعادة والوفاق والعشرة الجميلة‏,‏ فكيف يمكن أن يتعرض الحب الصادق لعاصفة كهذه لأن زوجك يرفض أن يستجيب لرغبتك المشروعة في التماس العلاج لحالته الصحية لكي يحقق لك أمل الإنجاب؟

إن من يحب شريكه في الحياة لا يتردد لحظة في أن يبذل كل ما في وسعه لإسعاده وتحقيق أمانيه المشروعة في الحياة‏..‏ وأنت يا سيدتي لا تطالبينه بما تعجز عنه إرادته‏,‏ ولا تطالبينه بأن يضمن لك نجاح العلاج في تحقيق أمل الإنجاب‏..‏ وإنما تطالبينه فقط بما يطالبه الدين والشرع والفطرة السليمة وهو أن يأخذ بالأسباب‏..‏ ويسعي لتحقيق أمل الإنجاب لك بما يملكه الإنسان وهو اخلاص السعي‏..‏ وصدق المحاولة فقط وبغير أن يتعارض ذلك نهائيا مع عمق التسليم بإرادة الله سبحانه وتعالي‏..‏ وترك الإيواء إلي الله‏..‏ فإن تحقق الأمل فلقد سعد القلب بما يهفو إليه وتطيب به الحياة‏,‏ وإن شاءت إرادة الله لكما غير ذلك فلقد أديتما واجبكما تجاه نفسيكما فلا يلومن أحد شريكه‏..‏ ولا ينقمي عليه في أعماقه تقصيره في حق الحب وفي السعي لإسعاده بكل الوسائل المتاحة‏..‏
ومحاولة الإنجاب عن طريق الأنابيب أمل مشروع لمن حرم من الانجاب بالطريقة الطبيعية‏..‏ وهي حل جائز شرعا لأنها تجري بنطفة الزوج وبويضة الزوجة وليس من الإنصاف أن يترفع عنها من يقدر علي تكاليفها‏..‏ ويوطن النفس علي القبول بفشلها إذا فشلت كما سوف يسعد بنجاحها ويحقق الأمل عن طريقها‏..‏

وصحيح الإيمان يطالب المرء بألا يدع بابا لتحقيق أمانيه المشروعة في السعادة والحياة بغير أن يطرقه‏.‏

فلماذا يحرم زوجك نفسه من شرف المحاولة‏..‏ ويحرمك أنت من التعلق بالأمل في الأمومة‏..‏
بل ولماذا يخاطر بضياع الحب والسعادة تمسكا بهذا الموقف غير العادل؟

لقد ذكرتني رسالتك بما رواه الأديب العظيم مصطفي صادق الرافعي في أحد مقالاته عن أحد الزهاد المعروفين بتقواهم ونسكهم وقد عاش حياته عزبا فلم يتزوج ولم ينجب ثم رأي ذات ليلة في نومه أنه في يوم الحشر العظيم وقد تجمع الخلق واشتد به وبهم العطش فإذا بولدان يتخللون الجمع وفي أيديهم أباريق من فضة وأكواب من ذهب يسقون أناسا بعينهم‏..‏ ويدعون غيرهم فمد يده إلي أحدهم قائلا‏:‏ اسقني‏,‏ فقال له الغلام‏:‏ ألك ولد افترطته صغيرا فاحتسبته عند الله؟ قال لا‏,‏ قال‏:‏ ألك ولد كبر في طاعة الله؟ قال لا‏,‏ قال ألك ولد نالتك منه دعوة صالحة؟ قال لا‏,‏ قال‏:‏ ألك ولد تعبت في تقويمه وقمت بحق الله فيه؟ قال لا‏,‏ قال‏:‏ فنحن لا نسقي إلا آباءنا تعبوا لنا في الدنيا واليوم نتعب لهم في الآخرة‏.‏
ثم رأي الزاهد نفسه وقد نودي عليه للحساب فقيل له إنه طاووس من طواويس الجنة قد حصي ذيله ـ أي قطع ـ فضاع أحسن ما فيه‏..‏ فأين ذيلك؟

وقيل له‏:‏ قتلت رجولتك ووأدت نسلك ولبثت عمرك ولدا كبيرا لم تبلغ رتبة الأب فلئن أقمت الشريعة فلقد عطلت الحقيقة
وهذا صحيح بالنسبة لمن يعزف عن الزواج أو الإنجاب برغبته وإرادته هو وليس لظروف لا حيلة له فيها أو لأقدار قدرت عليه‏.‏ فلماذا يحكم زوجك علي نفسه بشيء من ذلك بسبب تقاعسه عن طلب العلاج لحالته وفي مقدوره أن يسعي ويأخذ بالأسباب ولا لوم عليه إن لم تنجح الجهود أو فشلت المحاولة‏..‏

ألا يكون بذلك قد أدي حق الحب والوفاء والإخلاص لزوجته التي اختارته وارتبطت به ونهل معها من نبع السعادة والوفاء؟ وألا يكون قد أدي قبل ذلك وبعده‏,‏ حقه هو تجاه نفسه وأسرته وكل من يحبونه؟
إننا لا نفر من قضاء الله إلا إلي قدره ونقيم الشريعة ولا نعطل الحقيقة حين نأخذ بالأسباب ونسعي بالطرق المشروعة لتحقيق آمالنا العادلة في الحياة‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق