الثلاثاء، ١ فبراير ٢٠٠٠

ملابس الحداد

19-07-2002
هذه هي الرسالة العاشرة التي أكتبها إليك وآمل ألا تضل طريقها إليك هذه المرة لأني في أشد الحاجة إلي معاونتك لي علي حل مشكلتي‏..‏ فأنا سيدة شابة عمري‏24‏ عاما متزوجة منذ عامين ولدي طفل عمره عام ونصف العام‏,‏ وقد شهدت حياتي مع زوجي بعض الخلافات المعتادة في السنوات الأولي من الزواج لكنني أحبه وهو يحبني وأريد أن ينشأ طفلنا الوحيد بيننا‏,‏ وعلي أثر خلاف بيني وبينه بعد شهور من الزواج لجأت إلي بيت أهلي فقام زوجي بتغيير كالون باب شقتنا‏,‏ واتصل بي تليفونيا وأمي إلي جواري وخيرني بين الحياة معه وبين أمي واشترط علي إذا رجعنا إلي حياتنا ألا تدخل أمي شقتنا ذات يوم تجنبا للمشاكل والخلافات‏..‏ وانتهت المكالمة بيننا دون اتفاق علي شيء‏,‏ ثم سعي الأهل للإصلاح بيننا فقبل زوجي أن يأتي ليأخذني من البيت لكنه اشترط ألا تدخل أمي عليه الصالون حتي لا تتجدد المشاكل مرة أخري‏,‏ وجاء إلي بيت أهلي وأخذني دون أن أتكلم أو أعاتبه في شيء‏,‏ وبعد عودتي إلي سكننا وجهت إليه لوما كثيرا علي ما فعل وما قال‏,‏ وسافرنا في اليوم التالي إلي جنوب سيناء حيث يعمل‏,‏ وبعد أسبوع واحد ضربني ضربا مبرحا وأصابني بثقب في طبلة أذني‏,‏ واتصلت بأبي وطلبت منه الحضور لكي يأخذني فهرول قادما إلي وهو في حالة غضب شديدة‏,‏ لكني تداركت الأمر ورأيت ألا أرجع معه حفاظا علي حياتي الزوجية والأسرية ورجع أبي إلي مدينته‏.‏

وبعد شهر رجعت في زيارة إلي أهلي فما أن رأتني أمي حتي انفجرت في وجهي وطردتني من البيت وأتهمتني بأنني قد طعنتها في كرامتها وأمومتها حين رجعت إلي زوجي دون أن أرد لها كرامتها‏,‏ وتحملت ثورتها صابرة وتركت البيت إلي شقة الزوجية ورجعت إليها في اليوم التالي لكي أسترضيها وأطلب منها أن تسامحني فلم تطردني هذه المرة‏..‏ وأقمت معها اسبوعا‏.‏
وخلال هذه الفترة وجدت كل من حولي يلومونني لأني لم أرجع مع أبي بعد أن استنجدت به وضربني زوجي‏,‏ مع أني كنت قد فضلت عدم الرجوع معه لكيلا تتعقد المشكلة أكثر وتصل إلي الطلاق الذي لا أريده ولا أفكر فيه‏.‏

وجاء اليوم المحدد لعودتي لزوجي فاكتشف أبي وأمي إصابتي في أذني التي كنت قد أخفيتها عنهما وأصر أبي علي عدم سفري إلا بعد علاج أذني واتصل بزوجي يبلغه بذلك فأجابه بما يفيد أنه من الأفضل أن أبقي إلي جوار أبي وأمي علي الدوام مادمت لا أريد العودة إليه الآن‏..‏ وشعرت بالإهانة من جديد لهذه الإجابة الجارحة وثارت أمي عليه من جديد وكذلك أبي‏,‏ ووجدت أمي تخيرني بينها وبينه ووجدتني أقتنع بما تقول وأذهب معها للمحامي للبدء في اجراءات الطلاق‏,‏ لكني ما أن دخلت مكتبه وبدأ الحديث عن الإجراءات حتي وجدتني أنهار باكية وأرفض الاستمرار وأنصرف دون أن أفعل شيئا‏,‏ ومضت بضعة أيام ثم استجمعت إرادتي مرة أخري بعد أن لمست لدي أمي رغبة قوية في طلاقي من زوجي لكي أرد لها كرامتها‏..‏ وقررت العودة للمحامي لاتخاذ الإجراءات‏..‏ وصرحت لأمي بذلك لكن أبي لاحظ علي أنني دائمة البكاء وعازفة عن الطعام والكلام ووجهي يزداد ذبولا وشحوبا فأدرك أنني لا أريد الطلاق‏..‏ وأنني لا أفكر فيه إلا مضطرة‏,‏ فأعفاني من الاستمرار في الاجراءات وفي هذه الأثناء جاء زوجي لإنهاء الموضوع إما بالصلح أو بالطلاق الودي إذا أصر عليه أبي وأمي‏,‏ ولم تكن أمي راغبة في السماح له بدخول بيتنا من الأصل لكيلا أضعف أمامه وأرغب في العودة إليه‏,‏ وردا علي رغبته بعدم السماح لها بدخول شقتنا‏,‏ لكن أبي تجاوز عن ذلك وسمح له بالمجيء‏..‏ وجاء بالفعل مع شقيقه وطرحت المشكلة للنقاش وأبدي كل طرف وجهة نظره وأكد زوجي رغبته في استعادتي والتزمت الصمت لكيلا تتهمني أمي بالتلهف علي العودة إليه قبل رد كرامتها‏..‏ وانتهت الجلسة بأن طلبت مني أمي أن أرجع مع زوجي‏,‏ وبالرغم من نطقها بذلك فلقد كنت علي يقين من أنها تقوله فقط لكي تخلي مسئوليتها عن طلاقي‏..‏ وأنها تنتظر مني أن يأتي الرفض من جانبي‏,‏ فلا يقول أحد بعد ذلك إنها قد خربت حياتي لعدم رضائها عن زوجي‏..‏ فلقد كانت تسعد كثيرا حين كانت تنتابني نوبة من الرفض لزوجي والتفكير في الانفصال عنه وتحزن كثيرا حين تجدني أريده وأرغب في العودة إليه‏..‏ لكني علي أية حال اعتمدت علي تصريحها لي بالعودة لزوجي ورجعت معه‏..‏ ومنذ ذلك الحين وأنا وزوجي نحمد الله علي عودة الحياة بيننا لأن كلا منا مازال يحب الآخر ويرغب فيه لكن المشكلة هي أنني بعودتي إلي زوجي قد أصبحت محرومة نهائيا من أمي التي تعتبر عودتي إليه طعنة دامية لها في قلبها ولا تريد أن تنسي لزوجي طعنته الغادرة لكرامتها‏..‏ وترفضه
نهائيا ولا تريدني زوجة لزوجي بل مطلقة منه‏,‏ وتغلق في وجهي سماعة الهاتف قبل أن أتكلم ولا تريد أن تتكلم معي أو تسمعني أو أزورها أو أراها أو تسمع أي شيء عني‏,‏ كما أنها ومنذ عودتي لزوجي ترتدي ملابس الحداد السوداء علي وتقول لكل من يسألها عني إن ابنتها قد ماتت وتدعو الله علي ليل نهار وترفض تناول أدويتها لعلاج ضغط الدم المرتفع والسكر لكي أكون السبب في أي شيء يحدث لها فماذا أفعل يا سيدي؟
انني أعرف جيدا أن أمي تأمل في أعماقها أن يجيء اليوم الذي أطلق فيه من زوجي‏..‏ وأنا علي الناحية الأخري أريد أن ينشأ طفلنا بين أبيه وأمه وأحب زوجي‏,‏ وأريد مواصلة المشوار معه‏..‏ وهو يحبني ويتمسك بي‏..‏ لكني أفكر أحيانا في أن أضحي به من أجل أمي لكي أعوضها عما شعرت به من ألم‏..‏ وأكره كثيرا أن أحمل لقب مطلقة‏..‏ وأكره أكثر أن تظل أمي غاضبة علي وتحرمني من حنانها وعطفها بعد أن كنا بمثابة شقيقتين إحداهما تكبر الأخري ولسنا أما وابنتها‏,‏ وبعد أن كانت تحبني إلي درجة الجنون وتخاف علي وتؤثرني علي نفسها وتفضلني علي أخوتي الذكور لأنني ابنتها الوحيدة‏,‏ أصبحت تكرهني وترفضني وتغلق كل الأبواب في وجهي أنني أريدك أن تكتب لها إنني لست إبنة جاحدة كما تتصورني أو كما يقول لها البعض عني وإنني أحبها ولم يكن رجوعي لزوجي إلا لكي نعطي أنفسنا فرصة ثانية لأن نكون أسرة سعيدة‏,‏ وبوجودها في حياتنا وليس بدونها كما إنني كنت في حالة اضطراب وعدم اتزان فهل تغفر لي ذلك‏..‏ وهل تناشدها أن تفعل؟

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏
التضحية المقبولة هي أن يضحي المرء ببعض ما يملك إعلاء لهدف يراه جديرا بالتنازل عن شيء من اعتباراته من أجله‏,‏ أما أن يضحي المرء بما يشاركه الآخرون في ملكيته تحقيقا لهدف ذاتي له وحده فليس من قبيل التضحية وإنما من قبيل العدوان علي حقوق الآخرين والإضرار بهم ومن ذلك أن تضحي زوجة شابة مثلك بحق طفلها الصغير في الحياة العائلية المستقرة وفي أن ينشأ بين أبوين يرعيانه ويحدبان عليه‏,‏ استرضاء لوالدتها أو انتصارا لكرامتها الجريحة مهما كان الرأي في زوج الابنة وأيا كانت جريمته في حق والدة زوجته‏,‏ لأنها بذلك لا تضحي بسعادتها مع زوجها أو حبها له فقط وإنما تضحي أيضا بما لا تملك حق التفريط فيه أو المساومة عليه وهو أمان طفلها وحقه في النشأة الطبيعية بين أبويه‏.‏ ولو كان الأمر يقتصر علي عاطفتك وحدك تجاه زوجك أو عاطفة زوجك تجاهك لربما وافقتك علي التضحية به إلي أن يصلح ما أفسده من علاقته بوالدتك وأهلك‏,‏ ولربما أيدتك علي الفور في أن تغالبي نفسك علي احتمال الحرمان العاطفي منه إلي أن يعيد الأمور إلي نصابها في علاقته بأمك‏,‏ لكن الأمر لا يقتصر عليك وحدك وبالتالي فليس هناك أي مجال لمناقشة خيار الانفصال والتضحية بالزوج لاستعادة رضا الأم المفقود وإنما ينبغي أن يتركز الحديث كله حول سبل اصلاح ما أفسده الاندفاع والتهور في العلاقات العائلية وسبل استعادة صلة الرحم بينك وبين والدتك التي تشعر بالإهانة وجرح الكرامة من جانبك وجانب زوجك‏..‏ وفي ذلك فإن زوجك يتحمل مسئولية جسيمة عن رأب هذا الصدع في علاقتك بوالدتك لأنه قد أسهم بقسط كبير في شرخ علاقتك بها بتصرفه العدائي تجاهها عند تغيير كالون الشقة‏,‏ وبتخييره لك بينه وبينها‏..‏ ورغبته في إخراجها من حياتك مهما كانت أسبابه ومبرراته لذلك‏,‏ أو مهما زعم أنه فعل ذلك تجنبا لأسباب المشاكل‏,‏ لأن من يحب أحدا بصدق يرغب في إسعاده وتأليف القلوب حوله‏..‏ وإعانته علي الحفاظ علي صلاته الحميمية بأقرب الناس إليه‏..‏ وليس في أن يقطعه عمن يرتبط بهم بوشائج الدم ولا تهنأ له الحياة إذا حرم منهم أو تقطعت السبل بينه وبينهم‏.‏ فسعادة الإنسان لا تكتمل ولو كان يسبح في بحار النعيم العاطفي وهو مقطوع الصلة بذوي رحمه وأقرب الناس إليه‏..‏ أو وهو متهم منهم بالجحود والعقوق‏..‏ والخيانة ونكران الجميل؟ فماذا فعل زوجك إذن لكي يصلح ما انقطع بينك وبين والدتك التي بلغ بها الألم والمرارة تجاهك أن ارتدت عليك ملابس الحداد واعتبرتك علي غير قيد الحياة؟

وكيف يرضي لك بهذا الألم المرير وهذا الحرمان القاسي من عاطفة الأم ودورها في حياتك لمجرد أن تطرد الحياة بينك وبينه؟ انه مطالب بألا يكتفي بموقف المحايد في علاقتك بها لأن له دورا فاعلا في انقطاع رحمك معها‏..‏ والشرفاء يتحملون مسئوليات أفعالهم ولا يتهربون منها ولا يتعللون بالحياد الكاذب تجاه نتائجها‏..‏ ولهذا فلابد أن يعينك علي استرضاء والدتك واستعادة مودتها وفتح أبوابها الموصدة في وجهك ولو تطلب الأمر أن يتنازل عن كبريائه معها ويسترضيها ويعتذر لها مرارا وتكرارا ويصبر علي جفائها معه ولومها له إلي أن يلين قلبها لك فهذا هو واجبه نحوك ونحو طفله منك‏,‏ الذي يحرمه بهذه القطيعة من الاستمتاع بعطف جدته وحدبها عليه‏.‏ وليس في رجوعه عما كان قد قرره من إخراج أمك من حياتكم ما يعيبه حتي لو كان قد تهور وأقسم ألا يصلها أو يتقبل دورها الطبيعي كأم لزوجته في حياته فلقد روي في بعض أسباب التنزيل أن عبد الله بن رواحه كان قد حلف ألا يكلم ختنه زوج شقيقته وألا يصلح بينه وبين أخته فنزلت الآية الكريمة‏:‏ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم
وجاء في الحديث الشريف‏:‏ من حلف علي يمين فرأي غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل‏..‏

وقال الصحابي الجليل ابن عباس في تفسير تلك الآية‏:‏ لا تجعلن الله عرضة ليمينك ألا نصنع الخير‏..‏ ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير‏.‏
وكفارة اليمين معروفة وهي اطعام عشرة مساكين أو مسكين عشرة أيام من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو عتق رقبة‏,‏ فمن لم يستطع فصيام ثلاثة أيام وهكذا وسعت رحمة السماء كل شيء‏..‏ فلماذا نضيق علي أنفسنا‏..‏ ونتعلل بما لا ينبغي التعلل به للاستمرار في الخطأ والقطيعة‏..‏ والجفاء؟ يا سيدتي إن حل مشكلتك في يد زوجك أولا وقبل كل شيء‏..‏ لأن استرضاء والدتك والاعتذار إليها ليس بالأمر المستحيل‏,‏ لكنه بقدر العتب يكون العتاب وبقدر الجرم كذلك يكون التكفير والاعتذار‏,‏ ووالدتك مهما بلغت بها المرارة وبالغت في ذلك بإرتداء ملابس الحداد عليك فإن في صدرها في النهاية قلب أم‏,‏ يتلهف في أعماقه علي احتضان إبنتها التي تشعر تجاهها بكل هذا الغضب وتتمني لو تنجح هذه الابنة في إزالة ما علق صدرها من شوائب تجاهها وأن تشعر بحبها لها ورغبتها الحقيقية في استعادة مودتها‏..‏ واسترضائها بالأفعال وليس بمجرد الأقوال‏..‏ ولن يتحقق ذلك إلا إذا ضغطت علي زوجك لكي يتنازل عن بعض جموده ويدرك أنه لن تستقر بك سفينة الحياة أبدا إلا إذا نجح في وصل ما انقطع بينك وبين والدتك ويؤمن بأنه ليس بالكبرياء الأجوف يسعد الإنسان شركاء الحياة‏..‏ وإنما بالفهم‏..‏ والإدراك
والحب والاحترام‏..‏ وفتح القنوات المسدودة بينهم وبين ذوي رحمهم وأقرب البشر إليهم‏..‏ واحاطتهم بالقلوب المحبة لهم وليس بإبعادهم عنهم‏.‏ فالكلمات الطيبة من جانبك لن تنجح وحدها في إذابة الجليد الذي تراكم بينك وبين والدتك ما لم يصدقها العمل وصدق الاسترضاء‏..‏ وإقناع الزوج بمشاركتك في كل ذلك بالأفعال وليس بالأقوال وبالصبر علي والدتك إلي أن تصفح وتنسي وتتجاوز المرارات والأكدار‏.‏
وقديما قال جمال الدين الأفغاني‏:‏ ألف قول لا تعدل في الميزان عملا واحدا‏!‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق