الثلاثاء، ١ فبراير ٢٠٠٠

أحــلام الرحيـــــل‏!‏

19-04-2002
أكتب لك بعد تردد دام ثلاث سنوات كتبت خلالها عشرات الرسائل وجبنت عن أن أرسل لك رسالة واحدة منها لخوفي من أن تقسو علي في ردك‏,‏ وأيضا لغرابة ما سوف أعترف لك به‏.‏
فأنا سيدة من أسرة فوق المتوسطة مكونة من بنات وبنين‏,‏ وكنت دائما الابنة المميزة المحبوبة لتفوقي الدراسي طوال مراحل تعليمي ولأدبي وهدوئي الشديد‏,‏ ولأني كذلك لم أواجه أية مشكلة أو أسبب أية مشكلة حتي في سنوات المراهقة‏,‏ ومن هنا بدأت مأساتي‏,‏ فلقد عشت كل ما تفعله بعض الفتيات في هذه السن من علاقات ومقابلات وأحاديث وأحاسيس الحب مع الشباب‏,‏ ولكن بيني وبين نفسي فقط وفي أحلام يقظتي‏,‏ التي كانت تستغرقني يوميا بالساعات‏,‏ واستمرت تلاحقني حتي نهاية المرحلة الجامعية‏,‏ حين ارتبطت بعلاقة حب جميلة مع زميل في كلية أخري‏,‏ وكانت قصة حب علنية باركتها الأسرتان وأصبحت حديث الأصدقاء والمعارف‏,‏ وتم الزواج في ليلة سعيدة وتدفقت عواطفي الحبيسة طوال عمري علي زوجي‏,‏ وازداد حبي له وتعمق‏,‏ وشعرب دائما بأنني قد خلقت لزوجي هذا ولإسعاده‏,‏ ورزقت منه بالبنت والولد‏,‏ وكنت كما تعودت طوال حياتي إذا واجهت مشكلة أو أزمة أعيشها قبل نومي في أحلام يقظتي اللعينة وأحلم إنها قد حلت وانتهت‏,‏ وأنهض في اليوم الثاني هادئة وقادرة علي الاحتمال‏,‏ ويتندر زوجي والأهل من قوة احتمالي وهدوئي‏.‏ وهكذا استمرت حياتي الزوجية عشر سنوات إلي أن يتغيرأحوال زوجي المالية بشدة وفقد كل ما يملك‏,‏ وأصبحت أنا المسئولة الأولي والأخيرة عن شئون البيت والأبناء‏,‏ واستمر هذا الحال خمس سنوات ولم تتغير أحاسيسي تجاه زوجي ولم تيغير عطائي وحبي له‏,‏ بل كنت في بعض الأحيان أغار من حبه لابنته‏,‏ واستمرت تجارة زوجي في التدهور وأنا كما أنا في ثبات وحب وتحمل للمسئولية يثير دهشة كل من يعرفنا‏,‏ وذلك بسبب أحلام اليقظة اللعينة التي عاودتني في أولي سنوات الأزمة فرحت أري فيها أن زوجي استرد تجارته وأصبحنا في أحسن حال‏,‏ ثم عادت هذه الأحلام حتي أصبحت أري أنني تزوجت من رجل آخر ثري ثراء فاحشا‏..‏ فلم أعد احتاج للعمل‏,‏ وأصبح لدي من الخادمات والطهاة والوصيفات ما يجعلني الأمر فيطيع الآخرون‏,‏ ونظرا لأن سيناريو أحلامي اللعينة لم يتقبل فكرة أن أطلق من زوجي لكي أحصل علي متعة هذا الزوج الوهمي‏,‏ فلقد تفتق ذهني عن تخيل وفاة زوجي ثم زواجي من بعده من هذا الشخص‏.‏ وطوال هذه السنوات الخمس كانت ليلتي كل مساء تبدأ علي الوسادة بتخيل وفاة زوجي وحبيبي وأبكي بكاء شديدا علي فقدي له إلي أن أشعر بالألم في جميع أنحاء جسدي ثم أبدأ بباقي الحلم اللعين وهو الزواج من بعده والخدم والحشم‏,‏ ثم أستغرق في نوم عميق وأستيقظ ليبدأ يومي التالي في منتهي الهدوء‏.‏ وفجأة وبدون إنذار تعرض زوجي وحبيبي لحادث فظيع توفي علي أثره في الحال وأصبت بحالة من الجنون والذهول‏,‏ فسرها الأهل والأصدقاء بشدة حبي لزوجي‏,‏ وأقسم بالله إنها الحقيقة‏,‏ ولكنني ياسيدي في داخلي كنت أحمل نفسي مسئولة وفاة زوجي‏,‏ لأني قد أمته طوال خمس سنوات أو بشرت عليه بذلك‏,‏ إلي أن أصبح حقيقة‏,‏ وعندما أبكيه أتخيل إنني أمثل البكاء عليه لأني بكيته من قبل طوال خمس سنوات‏,‏ وأحسست نفس المشاعر طوال خمس سنوات‏,‏ وكأنني أعيش رواية قديمة مكررة‏,‏ أو كأنني قتلته ولم يمت كما قدر له‏.‏
‏..‏ لقد أدمنت منذ رحيل زوجي وحبيبي المهدئات‏,‏ وعندما يقتلني الشوق إليه وأفتقد حبه وحنانه لي أتحدث معه وأطلب منه السماح‏,‏ لكن الندم يقتلني يوميا وأعجز عن النوم لاحساسي بالذنب الذي اقترفته في حق زوجي وحبيبي‏,‏ وأخيرا استجمعت شجاعتي وكتبت لك بعد أن قرأت خلال الشهور الماضية قصص الزوجات الوفيات وحالهن بعد فقد الزوج‏,‏ وأحسست بضآلة نفسي‏,‏ فكتبت لأنال شيئا من العقاب من خلال كلماتك‏,‏ ولأعترف علنا وأطلب من زوجي وحبيبي يرحمه الله أن يغفره لي إلي أن ألحق به إن شاء الله‏.‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏
حين نضيق بواقعنا نلتمس السلوي عنه بالهروب إلي عالم الخيال‏.‏ وأحلام اليقظة هي إحدي الحيل النفسية الشائعة للهروب من شقاء الواقع‏..‏ أو التنفيس عن الرغبات المكبوتة‏..‏ أو تحويل النشاط الوجداني عما يضيق به الانسان في واقعه إلي ما يطمئن به خاطره ويشعر معه بوهم الارتياح والتعويض‏.‏
وليس هناك انسان لم تراوده أحلام اليقظة ذات يوم‏..‏ أو من لم يهرب في بعض حالات ضيقه إلي عالم الخيال الوردي التماسا للعزاء‏..‏
والمهم هو أن يعي الانسان دائما الحدود بين عالمي الواقع و الخيال بحيث لا تختلط عليه الأمور‏,‏ وألا تستغرقه أحلام اليقظة فتحول بينه وبين التواصل السليم مع الحياة‏.‏ بل إن عالم النفس النمساوي سيجموند فرويد يري أن مجال الحرية في أحلام اليقظة أوسع منه كثيرا في أحلام النوم‏,‏ وخاصة فيما يتعلق منها بما يسميه بأحلام الرغبات‏.‏
ففي أحلام اليقظة قد يستسلم الانسان لتخيل كل رغباته مهما كان شذوذها أو مخالفتها للضمير الأخلاقي‏,‏ وقد تحققت بلا حدود ولا سدود ويستنيم لتخيل ذلك بعض الوقت‏,‏ أما في أحلام النوم فإن رغبات اللاشعور كثيرا ما تصطدم برقابة وجدانية قد تؤدي إلي تشويه مادة الحلم وتحويلها إلي رموز أو وقائع لا معقولة الحدوث‏,‏ ولهذا تبدو بعض الأحلام كالألغاز المحيرة أو صعبة التفسير ــ في حين تتجسد عادة أحلام اليقظة في مخيلة صاحبها صريحة وغير ملغزة‏.‏
وفي كل الأحوال فإن كلا من أحلام النوم وأحلام اليقظة قد تخفف ـ كما يقول الدكتور روبرت ـ عن النفس بعض أعبائها وتطلق العنان لما يقوم الضمير الأخلاقي بقمعه عادة في الأوقات الأخري‏.‏
وأحلام فقد الأعزاء سواء أكانت في اليقظة أو في النوم من الأحلام النمطية الشائعة بين البشر‏.‏ كأحلام الارتباك من جراء العري في مجتمع عام‏,‏ وأحلام دخول الامتحان بغير استعداد‏,‏ أو فوات موعده‏,‏ أو تعذر وصول الانسان إلي موعد مهم يتحدد فيه مستقبله أو مصيره لأسباب خارجة عن إرادته إلخ‏.‏
ومعظم أحلام فقد الاعزاء يعكس هلع الانسان الشديد من فقدهم‏.‏ كتطبيق عكسي لمبدأ‏:‏ كلما ازداد حبنا اشتد خوفنا من أن نفقده ذات يوم‏,‏ وبعضها يضيق فيه صاحبه بشدة هلعه من احتمال فقد الأعزاء‏,‏ فيتمثل لا إراديا رحيلهم عن الحياة‏..‏ ويكابد للحظات آلام الفراق‏,‏ فيبدو أمام نفسه وللحظات وكأنه كان يرغب بالفعل في التخلص منهم‏,‏ والحقيقة النفسية هي أنه قد اشتد ضيقه بخوفه من أن يفقدهم‏..‏ فأماتهم للحظات في مخيلته لكي يبرأ من هذا الهلع عليهم ويستريح إيمانا بأن التسليم بأسوأ الفروض يطلق قدرات الانسان ويحررها من الخوف والترقب‏.‏ ولأنه لا يعي غالبا دوافعه لهذا الخيال المحزن‏..‏ فإنه يشعر غالبا بالذنب تجاه هؤلاء الاعزاء‏..‏ ويتهم نفسه بعدم محبتهم‏..‏ وقد يتهم نفسه ــ إذا رحلوا بالفعل عن الحياة بعد حين ــ بإنه ليس صادق الحزن علي رحيلهم عن الحياة‏...‏ ويكابد الاحساس بلوم النفس علي ذلك والخجل منها‏,‏ ومبرره لهذا هو أنه قد سبق له بالفعل أن أماتهم في خياله‏!‏
وفي ظروفك يا سيدتي فلا شك في أنك تكابدين الأحساس بالذنب تجاه زوجك‏,‏ لأنك قد سبق لك أن تخيلت رحيله عن الحياة وزواجك من غيره‏,‏ ورأيت في ذلك حلا ورديا ملائما لمتاعب حياتك المادية معه في السنوات الخمس الأخيرة من حياته‏.‏
غير أن ذلك لايعني أبدا أنك قد تمنيت بالفعل أو في قرارة نفسك موته أورحيله عن الحياة‏,‏ وإنما يعني فقط إنك قد ضقت بمصاعب الحياة المادية معه في السنوات الأخيرة ضيقا شديدا لم يحتمله وجدانك‏..‏ فلجأت إلي الهروب من هذا الضيق الشديد إلي عالم الخيال‏,‏ ووجدت الحل الأمثل لمتاعبك في الزواج من رجل ثري يعفيك من عناء العمل لإعالة أسرتك‏,‏ واصطدم هذا الحلم لديك بعقبة رئيسية هي أنك زوجة بالفعل لرجل تحبينه‏,‏ ولا تقبلين بالطلاق منه‏,‏ لكيلا تتهمي أمام نفسك أو أمام الآخرين بالتخلي عنه في محنته‏,‏ ولأسباب مادية بحتة‏..‏
فوجد خيالك الحل الأخلاقي الذي يعفيك من لوم النفس ولوم الآخرين في رحيل هذا الزوج نفسه عن الحياة وزواجك من رجل ثري بعد أن يستوفي أجله فيها‏,‏ ثم يقدم لك الحل المريح لعناء الحياة‏.‏
وهو جموح في الخيال بالفعل يخجل الانسان من أن يعترف به لنفسه‏..‏ ويبرر له الاحساس بعدم الرضا عن النفس‏..‏ والشعور بالذنب تجاه من تخيل رحيلهم‏,‏ لكنه يمكن التجاوز عنه في النهاية وتفسيره بضغوط الحياة واعتيادك الهروب منذ الصبا من وطأة الرغبات المكبوتة إلي تحقيقها في أحلام اليقظة‏,‏ كما أنه لا علاقة له البتة بأقدار زوجك ورحيله الحزين عن الحياة‏,‏ لأنها آجال لا شأن للأمنيات الطيبة أو غير الطيبة في تقديمها أو تأخيرها عن مواعيدها المسجلة في اللوح المحفوظ‏,‏ وفي الحديث الشريف الذي رواه الشيخان وأبوداود والترمذي وابن ماجة وأحمد والألباني‏,‏ قال رسول الله صلي الله عليه وسلم‏:‏ إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم ومالم تعمل به‏,‏ وأنت لم تتكلمي بمثل هذا ولم تعملي به‏..‏
فاستغفري إذن لزوجك الراحل علي الدوام وترحمي عليه وأكثري من قراءة آي الذكر الحكيم علي روحه‏..‏ ولسوف تتخلصين من إحساسك بالذنب تجاهه وتطمئن نفسك تدريجيا‏..‏ أو بعد حين‏..‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق