بيـــوت الرمــــال

22-11-2002
أنا رجل تجاوزت الخمسين من عمري بقليل أعمل بإحدي الهيئات الحكومية ومتزوج من سيدة أقل ماتوصف به أنها من هؤلاء الذين وصفهم رسول الله صلي الله عليه وسلم في حديثه الشريف‏:‏ بأنهن خير متاع الدنيا وهي المرأة الصالحة‏.‏ اذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها‏,‏ وهذا هو حالها معي ومع المحيطين بها‏.‏ فقد وضع الله لها القبول في الأرض ولقد نشأنا أنا وهي في منزل واحد جمعنا ونحن أطفال صغار حيث تصغرني بثلاث سنوات فقط‏,‏ وعندما كان يفيض النيل قبل بناء السد العالي كانت تأتي إلينا المراكب الشراعية العملاقة المحملة بالرمال‏,‏ لتلقي بحمولتها علي الشاطئ في أطراف مدينتنا الساحلية الجميلة لتكون جبالا من الرمال وكانت متعتنا المفضلة لي وأبناء جيلي في هذا الوقت هي الذهاب إلي هذه المنطقة لنقضي ساعات طوالا في اللعب فوق هذه الجبال‏,‏ فكنت أذهب أنا وزوجتي ونحن طفلان ونقوم ببناء البيوت من الرمال ونفرشها بالموبيليا المصنعة من أغطية زجاجات المياه الغازية الفارغة وكنا نجمعها ونقوم بوضعها فوق شريط السكة الحديد حتي تفرد تماما بعد مرور القطار عليها ثم نقوم بتصنيعها كسراير وموائد وصالونات في غاية الجمال والفن‏.

وهكذا استمرت حياتنا حتي كبرنا وكبر معنا حبنا وشاءت إرادة الله أن نتزوج وضحت زوجتي بالتعليم العالي وسحبت أوراقها من الجامعة لكي نتزوج لأني حاصل علي مؤهل متوسط‏,‏ ولم ترد أن تتميز‏,‏ وتم زواجنا والحمد لله بعد أن قمت بتوظيفها في نفس العمل الذي أعمل به وهكذا شاءت إرادة الله أن نكون معا في كل شيء حتي في العمل وتحقق حلمنا القديم وقمنا بتأثيث الغرف التي كنا نبنيها من الرمال بأغطية الزجاجات ماعدا غرفة واحدة هي غرف الأطفال لأن مشيئة الله اقتضت ألا ننجب طوال رحلة زواجنا المستمرة منذ نحو ثمانية وعشرين عاما‏.‏ ولقد قمنا خلال هذه الرحلة الطويلة بمراحل كثيرة من العلاج والعمليات الجراحية لي ولها لكي يكون لنا طفل وتبادلنا مراحل العلاج فيما يشبه الكراسي الموسيقية ففي الوقت الذي أصبح فيه مهيأ تماما من الناحية الطبية للانجاب تكون زوجتي في حاجة للعلاج فنستمر لأربع أو خمس سنوات أخري في العلاج حتي تصبح هي مهيئة للإنجاب فأجد نفسي مطالبا بمرحلة جديدة من العلاج لحالتي لأكون صالحا مثلها‏.‏ وهكذا ظللنا نتبادل الأدوار حتي ذهبنا إلي طبيب كبير من المشاهير فعرفنا بما وصلت إليه حالة زوجتي وتأكدنا من أنه قد حدث لها انفجار في الأنابيب قضي علي آمالنا تماما في الإنجاب‏,‏ ونصحنا بأن نقوم برحلة عمرة ننسي خلالها كل هذه المشاكل ونرجع بعدها إلي حياتنا مطمئنين‏,‏ وهذا ماحدث بالفعل ثم قمنا بعدها برحلة العمرة والحج وعشنا حياتنا المعتادة بالحب والاحترام وكل ماهو جميل غير أني كنت في أحيان كثيرة أشتاق الي من يناديني بكلمة بابا‏,‏ وكلما دب الشيب في رأسي أشعر بالحزن وأحيانا تنتابني حالة من البكاء الشديد في حالة مرضي وملازمتي الفراش لعدم وجود من يحضر لي احتياجاتي فتضطر زوجتي الحبيبة لارتداء ثيابها والنزول لشراء احتياجاتنا‏,‏ لأننا لا نستطيع أن نكلف بها أي طفل من الجيران حتي نحتفظ بحب الجميع واحترامهم لنا‏.‏ وكل إنسان دائما مشغول بنفسه وبأسرته وليس لديه وقت للسؤال عنا‏.‏ وليست هذه المشكلة‏,‏ وإنما بدأت القصة التي أكتب لك من أجلها‏:‏

زميلة لنا ـ أيضا في العمل ـ تصغرني بنحو أربعة عشر عاما متزوجة ولها ثلاثة أبناء ومن أسرة كريمة وهي سيدة طيبة لكنها كانت تعيش في مشاكل دائمة مع زوجها‏,‏ وكثيرا ماشهدت بعض مشاكلها مع زملائي في العمل وكانت وسيلة التفاهم عند هذا الزوج هي الضرب بالحزام والإهانات الشديدة حتي وصلت المشاكل لذروتها وتركت المنزل بما فيه واعتصمت بمنزل أسرتها عامين تم خلالهما الحكم لها من المحكمة بتطليقها من زوجها ثم ظلت عاما آخر في منزل أسرتها بعد الطلاق وكانت تستعين بي في حل بعض مشاكلها مع الأبناء ومدارسهم وفي مثل ذلك من الأمور فتقاربنا كثيرا ووجدتني أشعر بالارتياح لها منذ أن تم طلاقها وفكرت فيها كزوجة لي لأن فكرة الزواج كانت قداختمرت في رأسي وأصبحت أفكر فيها كثيرا‏.‏ وبوجود زميلتي هذه ومع ظروفها فقد تشجعت أكثر وأكثر إلي أن تم زواجنا بالفعل منذ مايقرب من ثلاث سنوات وجهزت لها خلالها شقة في منزل والدي علي السطح نعيش فيها الآن هي وأولادنا الثلاثة وأقضي معها يومين علي أكثر تقدير كل أسبوع وأقضي بقية الأيام مع زوجتي الأولي من ناحية المبيت وذلك إكراما لخاطرها مع الترحيب التام بذلك من جانب زوجتي الثانية‏.‏
والمشكلة الآن ياسيدي هي ان زوجتي الأولي ترفض أي ارتباط أو اختلاط أو حتي الاعتراف بزوجتي الثانية هذه هي وأولادها لأنها وعلي حد قولها تعتبرها خائنة لأنها تزوجت زوج زميلتها في العمل ومعلمتها أيضا‏.‏ وتقول لي لقد حلت مشاكلها علي حساب سعادتي مع إني أقسم لك أني لاأقصر في حق زوجتي الأولي أبدا بل إنني قد تقربت إليها أكثر كما أنها تتهمنا بأننا قد دبرنا وخططنا للزواج دون علمها وتقول لي إنها لاتستطيع الصفح مدي الحياة ولن يخاطب لسانها لسان زوجتي الثانية ذات يوم‏.‏

والآن فإنه وبعد زواج استمر ثلاث سنوات حتي الآن فلقد ألقي الله في قلبي حب ابنة زوجتي الثانية البالغة من العمر خمسة عشر عاما فتعلقت بها تعلقا شديدا يفوق الخيال لدرجة أنني أشعر الآن بأنني قد أنجبتها فعلا من صلبي ولا أستطيع مفارقتها أبدا وأجمل لحظة في حياتي هي التي أكون فيها بجانبها أو ألبي لها طلبا تطلبه‏,‏ وكذلك هي تخبئ حذائي ومفاتيحي عندما أهم بالنزول وتحزن حزنا شديدا عندما أغادر المنزل وهي الآن تناديني بذلك اللقب الذي عشت عمري كله محروما منه وكثيرا ما تمنيت أن يناديني به أحد حتي عوضني الله بهذه الابنة‏.‏ وأصبحت الآن أتردد علي المحلات لأنتقي لها طاقم العيد أو أشتري لها حذاء أو نوعا من الفاكهة طلبته وأنا في قمة الفرحة والسعادة التي تغمرني‏,‏ لأن الأبوة والأمومة بالفعل إحساس وليستا مجرد نسب فكثير من الآباء قد تخلوا عن أولادهم وإذا تقابلوا معهم لا يعرفونهم وهم في مدينة واحدة والأمثلة كثيرة في بريد الجمعة خاصة في الفترة الأخيرة‏.‏ غير أن ماينغص علي حياتي وينقص من سعادتي هي أنه ولأول مرة في حياتي لا يكون هناك قاسم مشترك بيني وبين زوجتي الأولي إذ انه كان هناك دائما هذا القاسم المشترك الذي يجمع بيننا في كل شيء فأنا الآن أصبح في حياتي هذه الابنة التي تحبني حبا فوق الوصف وأشعر به وحدي وكلما نادتني هذه الابنة بكلمة بابا تذكرت زوجتي الغالية وتمنيت أن تذهب هذه الابنة لها وتناديها ماما وترتمي في أحضانها وتمطرها بقبلاتها كما تفعل معي‏,‏ وأن تصحبها معها في زياراتها وخروجها لأني أرغب ان تعيش زوجتي الأولي في الجو الأسري الذي عرفته اخيرا لأن الساعات التي أقضيهامع هذه الابنة وأمها أتمني أن تكون زوجتي الأولي معنا بدلا من وحدتها‏.‏ وكلما فاتحت زوجتي في ان أحضر لها هذه الابنة مؤكدا لها أنها سوف تحبها هي أيضا وسوف تملأ عليها حياتها خاصة وان هذه الابنة تحب زوجتي وتتمني رضاها من أجلي ولأنني أيضا أريد أن تكون ابنتي معي خلال مبيتي عند زوجتي الأولي مع الترحيب الكامل من جانبها وجانب الأم بذلك‏,‏ فإني لا أجد إلا الرفض التام من زوجتي الأولي والاصرار عليه‏.‏ حتي أنني طلبت منها أن نقوم برحلة عمرة معا في رمضان هذا العام نحن الثلاثة أنا وزوجتي الأولي والثانية فرفضت أيضا مع العلم بأن زوجتي الثانية ترغب بشدة في ان تتقرب من زوجتي وان نكون معا في الأعياد والمواسم الدينية ونقضي مابقي لنا من عمر في مودة ورحمة وسكون‏,‏ خاصةان كل شيء قد انتهي والمركب تسير في أمان الله‏.‏ إلي أن يقضي الله أمرا كان مفعولا‏.‏

وأنا الآن أناشدك ان توجه لزوجتي الأولي كلمة من كلماتك البليغة لتحثها علي إنهاء فترة المقاطعة هذه‏,‏ وان تفتح صفحة جديدة مع عائلتي الجديدة خاصة انها ركن أساسي فيها وان كانت لا تشعر بذلك وتعتقد إننا نتجاهلها ولا نريد لها السعادة‏,‏ ويعلم الله كم نتمني أن ترضي عنا زوجتي الأولي حتي ننعم بحياتنا المقبلة قصرت أم طالت‏.‏
وأخيرا أرجو منك أن تهتم برسالتي هذه وأن تتكرم مشكورا بالرد عليها‏:‏ كما أعرفكم أنني قد طبعت منها عدة صور لأقوم بإرسالها لكم مرة أخري إلي أن يتم نشرها مع شكري لكم مقدما‏.‏والسلام عليكم ورحمة الله
ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
كان حكيم الصين كونفوشيوس يقول‏:‏ لا تتبرم بالجليد المتراكم أمام باب جارك قبل ان تزيل ماتراكم منه علي عتبتك أنت أولا‏.‏
وهو قول بليغ حقا وينطبق عليك إلي أقصي الحدود‏,‏ فأنت تنكر علي زوجتك الطيبة التي عرفتها واحببتها منذ الصغر وبنيت معها بيوت الرمال في سن البراءة‏,‏ وضحت بفرصتها في التعليم العالي لكيلا تتميز عنك‏,‏ وكانت لك علي مدي‏28‏ عاما خير متاع الدنيا ونعم الزوجة الصالحة‏,‏ تنكر عليها أن ترفض ان تفتح صدرها وبيتها لزوجتك الثانية وأبنائها وتصر علي مقاطعتهم وعدم الاعتراف بهم في حياتها العائلية‏,‏ ولا تنكر علي نفسك طعنتك لها في سويداء القلب بالزواج من صديقتها السابقة وزميلتها في العمل دون دافع شرعي قوي يبرر لك مثل هذا الزواج وتستطيع التعلل به أمام شريكة عمرك وتري في اتهامها لصديقتها السابقة بخيانتها والتطلع لزوجها علي حساب حقوقها فيه شططا لا يتسق مع المفترض فيها من سماحة وطيبة وروح مسالمة؟

أي شطط هذا‏..‏ وأي تطرف فيما تتخذه شريكة عمرك من موقف تجاه زميلتها وصديقتها السابقة التي قبلت بأن تكون زوجة ثانية لك علي حساب حق الوفاء لها‏.‏
وأي غرابة في أن تتهمها بالخيانة والسعي لاقتناص زوجها‏...‏ وقد خانت بالفعل عهد الصداقة معها وتطلعت الي الارتباط بزوجها أو قبلت به علي الأقل دون أي اعتبار لشريكة عمره‏..‏

وأي إجحاف لك أو لزوجتك الثانية في رفض شريكة عمرك التعامل مع زواجك الثاني كأمر واقع والسماح لرموزه بدخول حياتها العائلية وكأن شيئا لم يكن‏!‏
لقد دبرت بليل هذا الزواج بعيدا عنها ولم تلتزم معها بما يأمرك به الانصاف والعدل من أن تؤامر زوجتك الأولي فيه وتخيرها بين الاستمرار معك أو الانفصال عنك‏..‏ كما أن مبرراتك لهذا الزواج الثاني غير مقنعة لشريكة عمرك حتي ولو حاولت إضفاء بعض الاعتبارات الإنسانية النبيلة عليها‏..‏ كتطلعك الي ممارسة إحساس الأبوة مع أبناء تلك السيدة‏,‏ إذ أنك حتي ولو كنت قد أشبعت هذا الإحساس بشكل ما عن هذا الطريق‏,‏ فلابد ان تعترف لنفسك بان الأبوة البديلة وان جاءت عرضا بعد الزواج فإنها لم تكن الدافع الأساسي له‏..‏ وإنما كان دافعه الأقوي هو الرغبة في الاستزادة من المتع‏..‏ والمغامرة المشروعة وإثبات الذات وغير ذلك من الدوافع‏,‏ وافة الإنسان أنه قد جبل للأسف علي أن يطلب لنفسه الحد الأقصي من الأشياء‏,‏ وان يتفنن في تبرير ذلك وإضفاء صفة المشروعية بل والعدل أحيانا عليه‏..‏

ومن قبيل طلب الحد الأقصي من الأشياء‏..‏ ماتحاول الآن إقناع زوجتك الأولي به من الاعتراف بحياتك الجديدة والسماح لرموزها بدخول عالمها وحياتها العائلية لكي يعيش الجميع في وئام وسلام وتجمع أنت بين الحسنيين‏..‏ و تستمتع شريكة عمرك إلي جوارك بممارسة إحساس الأمومة البديلة مع أبناء غريمتها‏.‏
وهذا هو الشطط الحقيقي‏,‏ وليس موقف شريكة عمرك منه‏.‏

فلقد تجاوزت السيدة الطيبة عن طعنتك الغادرة لها ولقصة حبكما التي بدأت منذ سن الطفولة‏..‏ ولم تطلب الانفصال عنك‏..‏ ولم تسئ عشرتك ولم تحول حياتك إلي جحيم بعدها‏,‏ وإنما اكتفت بحقها في المقاومة الصامتة لهذا التصرف وبرفض الاعتراف برموزه ورفض تطبيع العلاقات معهم‏..‏ ولاشك أن هذا هو أبسط حقوقها حتي ولو لم يسعدك ذلك‏,‏ لأن من حق شريكة عمرك أن تختار صديقاتها وأن تحدد من تسمح لها طبيعتها بقبولهم في دنياها الخاصة ومن لا تسمح لهم بذلك‏..‏
وإلحاحك عليها بأن تتجاوز هذا الموقف وتفتح صدرها لزوجتك الجديدة وأسرتها لكي يصبح من حقك استضافة ابنتها الكبري في بيتك الأصيل إمعان منك في ارهاق شريكة عمرك نفسيا وعاطفيا وإنسانيا‏,‏ لأنك تطالبها في ذلك بما هو ضد طبيعتها كامرأة وزوجة
وقديما قال الشاعر
ومكلف الأشياء ضد طباعها
متطلب في الماء جذوة نار

واستمساكك بهذا الأمل‏..‏ ومحاولة تبريره لها بأن وجود زوجتك الجديدة وأبنائها في حياتها سوف يتيح لها الاستمتاع بالحياة الأسرية التي خبرتها أنت أخيرا‏,‏ ويعفيها من وحدتها‏..‏ وبالتالي فإن الأجدر بها ان تشكر لك ذلك وترحب به لا أن تنكره عليك‏,‏ يذكرني بقول الشاعر
ولم أر ظلما مثل ظلم ينالنا
يساء إلينا ثم نؤمر بالشكر

فاصرف نظرا ياسيدي عن هذا الأمل المستحيل الذي لن تنجح في تحقيقه كلمات بليغة أو غير بليغة واشكر أقدارك ان اكتفت شريكة عمرك بهذا الموقف السلبي من حياتك الجديدة ولم تتجاوزه إلي غيره بعدما أقدمت عليه وأهدرت به قصة حب ووفاء جميلة وطويلة كهذه القصة‏.‏
فإن تعذر عليك الاكتفاء بذلك والرضا عنه فافعل ما نصحنا به الفيلسوف الفرنسي المعاصر لنابليون‏,‏ جوبير حين قال ذات يوم‏:‏ أغمض عينيك تبصر‏!‏

أي فكر مليا في الأمر‏..‏ واستبصر كل جوانبه وتجرد من رغباتك ومشاعرك وأفكارك وأنانيتك وأنت تفعل ذلك‏..‏ ولسوف تتضح لك الحقيقة التي غابت عنك من قبل وأنت مفتوح العينين‏.‏