28-06-2002
دفعتني للكتابة إليك رسالة رائحة الورد للأم الأستاذة الجامعية التي تتحسر علي ابنتها التي بلغت السادسة والعشرين وأصبحت كالزهرة الفواحة جمالا ورونقا وثقافة ومركزا.. وتتساءل هل زكمت الأنوف فلم تعد تشم رائحة الورود, فلقد أردت أن أروي لهذه الأم الطيبة الحنون قصتي مع تمنياتي لها بأن يقر الله عينيها بسعادة ابنتها قريبا بإذن الله. فأنا طبيبة في التاسعة والعشرين ولدت ونشأت في احدي دول الخليج حيث كان أبواي يعملان ودرجت بين ثلاثة أشقاء اثنان منهم توءم ويكبرانني وشقيقة تصغرني, وبين والدين هما في نظرنا كل الحب والحنان, وقد التحق شقيقاي التوءم بالجامعة في مصر, وبعد عامين لحقت بهما أنا للدراسة بكلية الطب وبعد عامين آخرين عاد أبي وأمي لمصر والتحقت شقيقتي الصغري بالجامعة, ومرت بنا السنون وتخرج الشقيقان وارتبطا بمن اختارهما قلباهما وسافر أحدهما وهو طبيب مع زوجته إلي لندن لإستكمال دراسته هناك, وتخرجت أنا وعملت طبيبة امتياز, ووجدتني شابة في الرابعة والعشرين من العمر.. جميلة ومثقفة ومن أسرة طيبة واجتماعية ومرحة لكني لم أرتبط بأي إنسان بعد لأن ظروف دراستي شغلتني عن التفكير في الزواج.. ثم جاءتني زميلة لي لتخبرني بأنها تريد أن تخطبني لإبن خالتها وحدثتني عنه طويلا.. وكان رأيي أنه من الضروري أن أراه ويراني هو أولا في لقاء عابر في مجال العمل حتي إذا تحقق القبول الشكلي, يقوم بزيارتنا في البيت وإذا حدث العكس لم يتعرض أحد للحرج لكنه لظروف عمله في محافظة أخري لم يتم هذا اللقاء, وجاء هو لزيارتنا في البيت بعد فترة مع أخته وزميلتي للتعارف, ووجدته شابا وسيما أنيقا وتحدثنا في أمور عامة دون التطرق إلي موضوع الخطبة, وفي اليوم التالي فجرت زميلتي في وجهي قنبلة مفاجئة حين أبلغتني أنه قد أعجب بشقيقتي ويرغب في خطبتها هي وليس في خطبتي, وكانت شقيقتي في ذلك الحين في العشرين من عمرها وطالبة في السنة الثالثة بالجامعة, ولك أن تتخيل ما شعرت به في تلك اللحظة.. فلقد شعرت أنني كمن كان يسير في طريقه آمنا وفجأة تلقي صفعة قوية دون سابق إنذار! وعدت إلي البيت باكية.. ووقفت أمام المرآة وسألت نفسي لماذا لم أعجبه؟ ولماذا استحققت منه هذه الصفعة لأنوثتي, وبعد أن تمالكت نفسي وهدأت صارحت أبي وأمي وأختي بما حدث فوجم أبواي, وثارت شقيقتي وإنهالت عليه بالسخرية.. وأحتضنتني وهي تقول لي لعن الله من يفرق بيننا وأصرت علي الرفض وأيدها والداي في ذلك وأنتهت أولي صدماتي في هذا الموضوع.
وبعد أقل من عام تقدم شاب ممتاز لشقيقتي فرفضته بحجة أنه مازال أمامها عام دراسي آخر قبل أن تتخرج, وكاد أبي وأمي يوافقانها علي ذلك, لكني كنت علي يقين من أنها لا ترفضه بسبب الدراسة وإنما مراعاة منها لظروفي لأنني أكبرها بأربع سنوات ولم أتزوج, فبذلت كل جهدي لإقناعها بقبول هذا الشاب الممتاز حتي نجحت في ذلك وتمت الخطبة بالفعل وبعد8 شهور فقط تم الزفاف وكنت أسعد الجميع به, وأنهيت أنا عام الأمتياز بعد أن تجاوزت الخامسة والعشرين بعدة شهور ولاحظت أن الحزن يخيم علي أبي وأمي لبقائي معهما وحدي في البيت بعد أن تزوج من يكبرانني ومن تصغرني.. لكني واصلت حياتي وجاء الأحفاد ليملأوا البيت صخبا وضجيجا وضحكا وحبا, وأصبحت عمة لثلاثة أطفال وخالة لطفلة واحدة كما أصبحت أيضا أتجاهل نظرات الإشفاق في عين أبي وأمي وأخوتي حين أستغرق في مداعبة الصغار, ولم يكن ذلك يعني أنه لم يتقدم لي أحد.. وإنما فقط أنه لم يتقدم لي الشخص المناسب حتي ذلك الوقت, وشغلت نفسي بعملي.. فعملت في عيادة طبيب أطفال كبير ودرست للماجستير ورشحني الطبيب الكبير بعد فترة للعمل في مستشفي خاص, وهناك تعرفت بزميل لي وتقاربنا كثيرا وتقدم لخطبتي وسعد الجميع به وبي ودامت الخطبة عاما كاملا وبدأنا الاستعداد للزفاف.. وعقدنا القران.. وفي الاسبوع التالي مباشرة للقران تعرض خطيبي لحادث سيارة أودي بحياته رحمه الله.. وانهرت انهيارا كاملا ودخلت المستشفي وأمضيت فيه شهرين حتي استعدت قواي ولملمت نفسي واستعنت بربي علي أمري وخرجت من المستشفي إلي منزل أصهاري فاستقبلني والد خطيبي الراحل بكل الحب الحزين والمواساة وقبل رأسي ودعا لي ربه.. ثم جاءت والدته فاستقبلتني بكل النفور ولم تتردد في أن تقول لي أنها لا تريد أن تراني بعد ذلك أبدا لأنني كنت شؤما علي ابنها الذي مات بعد عقد قراني عليه بأسبوع.. وقدرت أحزانها وغادرت بيتها مكتئبة وحزينة وعدت إلي بيتي فدخلت حجرتي واعتكفت فيها أسبوعا لم أنقطع خلاله عن التفكير في أمري ولا عن صلاة الاستخارة لأحاول الاهتداء إلي طريقي في الحياة, وبعد هذا الاسبوع غادرت الحجرة بقرار أبلغت به أبي وأمي وهو أنني أريد أن أسافر إلي بريطانيا لألحق بأخي الطبيب المقيم هناك وأستكمل دراستي بعيدا عن ذكرياتي الحزينة آلامي القديمة, وأيدني أخي بحرارة في ذلك واحتجت إلي جهد كبير لإقناع أبي وأمي بما أردت, حتي تركاني أسافر وأبتعد عنهما وهما في شدة الجزع والإشفاق
علي فسافرت وأنا في السابعة والعشرين واستقبلني أخي ورعاني كأنني طفلته ورعتني زوجته كما لو كنت طفلها الثالث وقررت أن أبدأ من جديد وأن أعتمد علي الله الذي لا يغفل ولا ينام فبدأت الدراسة والعمل علي الفور والتحقت بحلقة لتحفيظ القرآن الكريم بالمركز الإسلامي في لندن, والتحقت بدورة لتعليم العزف علي البيانو وشغلت نفسي بكل ذلك واستغرقت فيه ورجعت إلي طبيعتي السابقة وفي أحد أيام العمل بالمستشفي البريطاني اختلفت مع إحدي الممرضات حول أسلوب علاج أحد الأطفال المرضي فأشارت إلي الطبيب الانجليزي الذي يرأس مجموعتنا وقالت لي أنه الذي أمر بذلك.. وجاء هو علي الصوت ووجدت نفسي في مواجهة معه وحين ثرت عليه رد علي بهدوء أو علي الأصح بالبرود الإنجليزي المعروف قائلا في حسم أنه ينتظرني في مكتبه بعد قليل, وانصرف, وتوجهت إليه في مكتبه فقال لي أنني أخطأت بانفعالي انفعالا زائدا في هذا الأمر كما أنني قد تدخلت في تخصصه وأخطأت بأن ناقشت أسلوب العلاج أمام الطفل وأبويه مما قد يضعف ثقتهم بنا أو بالعلاج, وبعد أن أوضح لي أوجه خطئي اعتذر لي عما ضايقني به خلال الحديث وأنهي اللقاء وهممت بالإنصراف من مكتبه فإذا به يقول لي بالعربية: مع السلامة! فعرفت في هذه اللحظة فقط أنه مصري وأنني قد خدعت بملامحه الأوروبية فظننته انجليزيا وعلمت أنه مصري من أب مصري وأم بريطانية وأن شقيقته الوحيدة متزوجة كذلك من مصري, واقترب كل منا من الآخر منذ هذه اللحظة, وأزددنا تقاربا وأقترابا يوما بعد يوم حتي عرفت كل شيء عنه وعن والدته الإنجليزية المسلمة وعن تربيته هو وشقيقته, وانفجر ينبوع الحب في قلبي وفي قلبه في وقت واحد ففاض علي الآخر وأغرقه وعدنا لمصر معا لكي يخطبني ويتزوجني بعد أن تجاوزت الثامنة والعشرين من العمر, ولكي يذيقني كؤوس السعادة والهناء ويغرقني في بحر حبه وحنانه, ويعوضني عن كل آلامي السابقة أنني أكتب لك هذه الرسالة من الأسكندرية حيث نقضي أنا وزوجي الحبيب أجازة سعيدة علي أرض مصر لكي أقول له شكرا علي كل ما أعطيتني من حب وحنان وعطاء.. وأدعو الله سبحانه وتعالي أن يبقيه لي شريكا وحبيبا وسندا في الحياة.. ولكي أخاطب الأم الطيبة كاتبة رسالة رائحة الورد وأطالبها بألا تشعر بالقلق علي ابنتها لأنها قد تجاوزت السادسة والعشرين دون أن يتقدم لها الشخص المناسب, لأن الزواج رزق ونصيب وقد كتب لها عند مولدها الزوج الذي سيشاركها حياتها فإني لم أكن لأتخيل ذات يوم أنني سوف أسافر إلي بريطانيا لكي التقي بمن يكمل معي مشوار الحياة كما أنه ليس المهم هو أن تتزوج الفتاة وإنما أن يكون من تتزوجه هو الأختيار السلم لها والذي يسعدها.. فلا داعي للقلق بشأن التوقيت.. والسلام عليكم ورحمة الله.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
البداية الحقيقية لاتجاه المشاعر العاطفية لأي إنسان هي أستثارة الاهتمام به. ولقد يتولد هذا الاهتمام بالطريقة الطبيعية أي بالتراكم الكمي للمشاعر من خلال التعامل الطويل معه كما تتجمع ذرات السكر المذاب في الماء ببطء حول الخيط المدلي في الكوب فتضع جسما بللوريا صلبا يصعب تقتيته, وقد ينشأ هذا الاهتمام في حالات أخري نادرة عن طريق الغمر الانفعالي أو الطوفان المفاجيء الذي يضع شخصا بعينه في بؤرة اهتمامنا فنرغب في التواصل معه ومن عجب أن بعض أجمل قصص الحب والزواج السعيد في الحياة قد بدأت بهذه الطريقة غير الطبيعية وليس عن طريق الاعجاب أو الإنبهار اللحظي بالطرف الآخر وإنما عن طريق الضيق به.. أو الحنق عليه والرغبة في رد الإساءة إليه! وفي مثل هذه الحالات النادرة ينشغل المرء لفترة بالتفكير في رد الإساءة إلي من اقتحم بؤرة اهتمامه بالطريقة العكسية ثم لا يلبث بعد قليل أن يراجع نفسه ويبين أنه ليس بالسوء الذي ظنه به في البداية بل أنه لا يخلو كذلك من بعض ما يستحق الاعجاب به من أجله فيبدأ في التماس الأعذار له ثم التدبير نيابة عنه. ثم ينتهي به الأمر إلي الإقتراب منه والارتباط به!
وهذا هو ما حدث بينك وبين زوجك الطبيب الشاب الذي وجدت نفسك في مواجهة حادة معه وانتهي الصدام بينكما بإكتشاف كل منكما لمزايا الآخر والاقتراب منه والوقوع في غرامه.
وهي أيضا نفس البداية لإحدي أجمل قصص الحب العذري التي خلدتها لنا كتب الأدب وهي قصة جميل وبثينة! فلقد كانت بداية تعرفه بها صداما كهذا الصدام مع اختلاف الظروف والأزمان ولغة الحوار, وكان ميدان الموقعة في واد اسمه وادي بغيض جلس فيه جميل ذات يوم يستريح وأطلق أبله ترعي فجاءت فتاتان إحداهما طويلة وجميلة, ومرت الفتاة الطويلة بجوار ناقة لجميل فأفزعتها وكان به ميل للإندفاع والكبرياء فسب الفتاة سبابا مقذعا.. وفوجيء بها لا تهرول من أمامه خجلي كما تفعل غيرها من الفتيات وإنما تقف في ثبات وترد عليه سبابه مضاعفا! وبدلا من أن يغضب جميل ويزداد حدة وعنفا وجد نفسه يستطيب سباب هذه الفتاة ويعجب بجرأتها وشخصيتها وجمالها! وبعد أيام أخري رآها في يوم عيد سافرة الوجه كعادة الفتيات في الأعياد حين كن يخرجن سافرات الوجوه عسي أن يلتقين بأزواج المستقبل فهام بها حبا وأنشد فيها أعذب الشعر وبدأت قصة الحب التي ذاعت في البادية وحتي قرنت بين أسم الفتي والفتاة حتي صار يعرف بأسم جميل بثينة وتعرف هي بأسم بثينة جميل, ولولا أن تقاليد العرب في ذلك الوقت كانت تجري علي رفض أهل الفتاة مصاهرة من يتسبب بإبنتهم لتزوجا وسعدا بحياتهما إلي اليوم الأخير منها ولقد استرجع جميل ذات يوم بداية قصته معها فأنشد
وأول ما قاد المودة بيننا
بوادي بغيض يا بثين سباب
وقلنا لها قولا فجاءت بمثله
لكل كلام يا بثين جواب!
والخلاصة هي أن الإنسان لا يعرف بالفعل أين ولا متي سوف يلتقي بأقداره في الحياة.. وهل سيكون ذلك في وادي بغيض أم في المستشفي البريطاني في عاصمة الضباب؟ وهل ستكون البداية اعجابا متبادلا أم صداما ونفورا كما حدث معك.. وكما حدث في قصص أخري من قصص الحياة وهل الخير في تأخر أقدارنا عنا أم في تعجلها المجيء إلينا.. وكل ما نملكه هو أن نحيا حياتنا علي نحو سليم.. وأن نشغل أنفسنا دائما بالشواغل المفيدة.. وبالسعي إلي تحقيق أهداف صغيرة نستطيع بالجد والكفاح نيلها كما فعلت أنت بعد محنتك الأليمة وسفرك إلي لندن وانشغالك بالدراسة والعمل وحفظ القرآن وتعلم البيانو لأن العقل البشري إذا خلا مما يشغله أستسلم لأفكاره الحزينة وهواجسه ومخاوفه وأجتر آلامه واحباطاته وأستغرق فيها والمهم دائما هو ألا نيأس من روح الله وألا نستسلم للقنوط.. وألا نسمح للمرارة بأن تفسد علينا أرواحنا وأوقاتنا, وألا ننشغل بحظوظ الآخرين في الحياة ونعقد المقارنات بيننا وبينهم لأن لكل إنسان من حظه ما يسعد به ومن همه ما يشقيه.. وألا نقول مع الشاعر العربي متحسرين:
تقدمتني أناس كان شوطهم
وراء خطوي إذا أمشي علي مهل
لأننا لا نعلم عن يقين هل الخير في مشينا الوئيد هذا أم في عدوهم هم علي الطريق؟ وهل سعدوا بما حققوه أم شقوا به؟ وهل تأخر حظوظنا هذا حرمان أبدي لنا أم هو إدخار لسعادة مؤجلة سوف تجيء في الموعد المقدور فتمحو كل الآلام وتغمرنا بكل ما نتطلع إليه من هناء فنهتف مع أديب الفرنسية الأشهر فيكتور هوجو: ما الحزن إلا مقدمة للسرور!
والإيمان بالله والثقة في رحمته.. وسلام النفس والرضا بما أتاحته لنا الحياة هو بداية الطريق دائما يا سيدتي إلي السعادة والأمان فشكرا لك علي رسالتك الجميلة هذه وعلي اهتمامك النبيل بمخاطبة الأم المهمومة بمستقبل ابنتها.. وأرجو لك ولزوجك الحبيب كل السعادة والأمان والتوفيق في الحياة بإذن الله.
مدونة بريد الجمعة مدونة إجتماعية ترصد أحوال الشارع المصرى والوطن العربى مدونة تتناول قصص, ومشكلات حقيقية للوطن العربى مثل: (ظاهرة العنوسة, الخيانة الزوجية, الخلافات الزوجية, التفكك الأسرى, الطلاق وآثاره السلبية على الأبناء, الحب من طرف واحد, مرض التوحد, الإبتلاءات من فقر ومرض وكيفية مواجهة الإنسان لها) ثم يعرض الموقع فى أخر كل موضوع رأى المحرر فى التغلب على هذه المحن
الثلاثاء، ١ فبراير ٢٠٠٠
رائحة الحب!
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق