06-12-2002
أنا شاب في الثالثة والثلاثين من عمري, نشأت في أسرة مكونة من أب وأم وثلاث شقيقات يكبرنني في السن, أما أمي فهي سيدة قروية غاية في الطيبة والتدين وحسن الخلق, وأما أبي فهو شخصية مثقفة اكتسب خبرته وثقافته من أسفاره العديدة, حيث كان يعمل فنيا علي البواخر التجارية التي ترسو كل يوم في ميناء من موانئ العالم, ومنها المدينة الساحلية التي نشأت فيها, وقد تفتح وعيي للحياة وانا في العاشرة من عمري فوجدت أبي يسافر كثيرا ويجوب العالم علي السفن التي يعمل عليها, فيمكث في كل رحلة عدة شهور ثم يعود حاملا من خيرات الدنيا ما يستطيع ان يحمله من أجهزة كهربائية وملابس وهدايا ولعب وخلافه, فتعم الفرحة ارجاء البيت كله بل وتمتد ايضا الي بيوت الجيران الذين اعتادوا ان يأتوا الينا لتهنئة أبي بالوصول وأخذ ما يعطيه لهم من هدايا.
ويبقي أبي معنا شهرا أو أكثر قليلا يكون قد انفق فيه كل ما معه من نقود وباع ما باع من الاشياء التي احضرها معه من الخارج كالأجهزة الكهربائية مثلا, وما ان يفعل ذلك حتي يستعد مرة اخري للذهاب في رحلة اخري علي سفينته التجارية ونستعد مرة اخري لكي نحيا انا وشقيقاتي وامي دون والدنا وتستعد امي لتحمل عبء تربيتنا بمفردها من جديد ومتابعة دراستنا في مراحل التعليم المختلفة
وبالرغم من انني كنت الابن الوحيد بين ثلاث بنات وانا اصغرهن فلم أكن طفلا مدللا ابدا وكنت علي العكس من ذلك ـ طفلا مهذبا هادئ الطباع مجتهدا في دروسي.
وبعد عدة أشهر رجع ابي كعادته محملا بالهدايا وحاملا الينا مفاجأة رائعة هي أنه قد قرر البقاء نهائيا معنا في مصر دون سفر, وفرحنا انا وشقيقاتي كثيرا بذلك لكن والدتي لم تشاركنا الفرحة, لأنه بذلك قد انقطع مورد رزقنا ورحنا انا وشقيقاتي نرسم صورة مشرقة لحياتنا بعد بقاء والدنا معنا, وتصورنا وضعنا الجديد بعد لم شمل الأسرة ولم نفكر مطلقا في المستقبل وما قد يحمله لنا من مفاجآت.
بقي أبي في المنزل دون عمل لمرضه وبحثت شقيقتي الكبري عن عمل فوجدته بأحد النوادي العائلية علي كورنيش مدينتنا الساحلية واثرت شقيقتاي الوسطي والصغري تكملة تعليمهما واسرعت انا ابحث عن عمل ـ وانا ابن العاشرة ـ فوجدت لي شقيقتي الكبري ـ التي كانت قد حصلت علي دبلوم التجارة ـ عملا لدي احد محلات بيع الثلج والذي يقوم بتوريد الثلج الي النادي الذي تعمل به, وقد اضطررنا لذلك لأن والدي لم يدخر قرشا واحدا لمثل هذا اليوم الذي ستتقدم به السن ويعجز عن تحمل عمله علي السفن وهكذا اضطررت انا للخروج الي ميدان العمل وانا في العاشرة من عمري وعملت لدي بائع الثلج ورحت أحمل علي يدي وصدري ألواح الثلج طوال اشهر الصيف بدلا من ان العب مع أبناء الجيران لأبدد عناء المذاكرة طوال العام بالاستمتاع بأجازة الصيف مثل قرنائي, وكنت احمل الجنيهات الخمسة التي اتسلمها كأجر اسبوعي, واجري لاشتري ما استطيع شراءه من طلبات المنزل, واضع ما يتبقي منها في يدي والدتي لتشتري ادوية لوالدي وتصرف علي المنزل مستعينة براتب شقيقتي الكبري.
ولم يتنازل أبي ـ للأسف ابدا عن مستوي المعيشة الذي اعتاد عليه خلال سنوات سفره وكسبه بغير حساب. وكان ذلك يمثل وحده عبئا كبيرا علينا. وعلي مصروف المنزل, كما كان ايضا سببا اساسيا في المشكلات التي تفجرت بين والدي ووالدتي التي رأت انه يجب ان نغير من عادات انفاقنا ليتفق مع وضعنا المادي الجديد, ودخلنا البسيط للغاية.
انقضت أشهر الصيف, وبدأت المدارس تفتح أبوابها, وبدأت اعاني كحة غريبة تستمر معي طوال اليوم ولا تغيب عني إلا ساعات قليلة بسبب الثلج الذي كنت احمله علي صدري طوال اشهر الصيف, وذهبت الي الاطباء وسمعت تشخيصات مختلفة منهم, كل منها يصيبني بالرعب ولكن فضل الله كان عظيما فما هي إلا اسابيع قليلة حتي شفاني الله عـز وجل من هذه الكحة الغريبة التي كادت تقتلني وحمدت الله تبارك وتعالي علي ذلك ومضي العام الدراسي بسلام وكنت فيه مثالا للتلميذ المجتهد الذي يعجب به كل مدرسيه, وبدأت شقيقتي الكبري تبحث لي عن عمل جديد بعيدا عن بائع الثلج, فوجدت لي هذ ه المرة عملا لدي احد تجار المواد الغذائية بالجملة.
وبدأت عملي لدي هذا التاجر, وكان عملي منحصرا في كنس ومسح المحل وغسل سيارة صاحب العمل وتوصيل الطلبات للعملاء بعربة يد أدفعها امامي واديت عملي بجد وإخلاص رغم صغر سني, وادي اجتهادي في عملي الي كسب حب صاحب العمل, فزاد مرتبي الاسبوعي وقربني منه بعد ان عرف قصتي بالتفصيل وراح يعاملني وكأنني ابن من ابنائه.
ورحت اعمل وابذل كل ما في وسعي لنيل رضا صاحب العمل اكثر واكثر, واخذت الأظافر الناعمة تخشن يوما بعد يوم, ويمر العام الدراسي بسرعة البرق, وتأتي الاجازة الصيفية واذهب مجددا الي عملي الذي احببته برغم عنائه ومشقته, وطول ساعاته التي تمتد الي خمس عشرة ساعة في اليوم, لم يكن يهونها علي سوي عطف صاحب العمل واشفاقه علي وعلي أحوالي واعطائي ما تجود به نفسه بخلاف راتبي الاسبوعي تقديرا منه لظروفي العائلية, بل كان يصطحبني ايضا مع ابنائه في عطلة نهاية الاسبوع لأروح عن نفسي عناء العمل طوال الاسبوع.
ومرت السنون هكذا, وتخرجت شقيقتي الوسطي في احد المعاهد الفنية, وعملت في مدينة تبعد عن مدينتنا, واستقلت بحياتها هناك براتبها البسيط الذي يكفيها بالكاد وواصلت شقيقتي الصغري دراستها في احد المعاهد الفنية ايضا, وكنت وقتها قد بلغت السنة الثالثة من التعليم الثانوي.
وازدادت ظروف الحياة قسوة مع تقدمنا في العمر واستمرار مرض والدي وزيادة مصاريف الحياة اليومية واصبحت المسئولية علي اكبر بعد ان تزوجت شقيقتي الكبري وتفرغت لبيتها وزوجها دون عمل وانقطع بذلك مورد اساسي من موارد حياتنا.
وحين حدث ذلك قررت ان اعمل طوال العام وليس في الاجازة الصيفية فقط حتي استطيع ان اتحمل المسئولية الكبيرة الملقاة علي عاتقي, وفعلت ذلك وكنت انظر الي زملائي في المدرسة الذين يهربون من المدرسة ويذهبون الي السينما في الحفلات الصباحية واري نفسي ذاهبا الي العمل وليس الي السينما واحمد الله ان جعلني رجلا اتحمل مسئولية اسرة بكاملها برغم صغر سني.
وزاد راتبي خلال هذه السنوات ولله الحمد عدة مرات بفضل الله ثم بفضل صاحب العمل الذي كان يعطف علي كثيرا, وكنت ارد له الجميل بالعمل الجاد والمخلص والامانة المتناهية في العمل حتي راح يعتمد علي في الكثير من اعمال المحلات التي يمتلكها خلال السنوات التي قضيتها معه.
واقترب موعد امتحانات الثانوية العامة فجلست في المنزل قبلها بشهر واحد حتي اتمكن من استذكار دروسي التي لم اتمكن من تحصيلها طوال العام, وكان صاحب العمل ـ أكرمه الله ـ يرسل لي طوال هذا الشهر راتبي الاسبوعي الي المنزل مع احد زملائي في العمل وكأنني اعمل معه بالضبط, لكنني لم اتمكن للأسف من النجاح لقلة تحصيلي خلال الفترة القصيرة التي ذاكرت فيها, ورسبت لأول مرة في حياتي الدراسية بعد ان كنت مجتهدا طوال السنوات السابقة, واعتزمت ان ابذل كل جهدي في العام التالي لأنجح بل ولأحقق ايضا مجموعا كبيرا يؤهلني للالتحاق بكلية الهندسة التي كانت تمثل لي حلم حياتي.
وبالفعل عملت طوال العام وجلست في المنزل هذه المرة قبل شهرين من الامتحان وذاكرت بكل ما اوتيت من قوة ونجحت وحصلت علي مجموع كبير ولله الحمد واصبح حلم كلية الهندسة قاب قوسين أو أدني مني لكني فوجئت بأن مجموعي تنقصه ثلاث درجات فقط لكي يمكنني ان ادخل كلية الهندسة!!
وحمدت ربي علي كل حال بالرغم من حزني لتبدد حلم حياتي.
والتحقت بإحدي الكليات النظرية التي كنت اكرهها قبل ان ادخلها وقبل ان اري مبانيها او اطلع علي مناهجها.. ولكنه ما باليد حيلة..
وشاء الله سبحانه وتعالي أن يهون علي ما أنا فيه من حالة نفسية سيئة وتحضر اختي الوسطي من المدينة التي تعمل فيها وتبشرني بأنها قد حصلت علي عقد عمل بإحدي الدول العربية براتب كبير ودفعني ذلك لأن اتقبل الامر الواقع الخاص بكليتي وان اهتم بدروسي ومذكراتي, خاصة ان شقيقتي الوسطي ستتحمل المسئولية عني علي الاقل لحين انهائي الجامعة ثم آخذ الراية منها من جديد وسافرت شقيقتي بالفعل وتحملت المسئولية وحدها طوال عام كامل, ورجعت بعده فتعرفت علي احد الشباب ورغبت في الزواج منه وسألت عنه فوجدته غير مناسب لها بالمرة ولكنها اصرت عليه وعارضتني بشدة وانهت اجراءات العقد, وأجلت الزواج لحين سفرها لعملها ومحاولة احضار عقد عمل لزوجها ليلتحق بها وفعلت ذلك بالفعل وتوقفت منذ بداية سفر زوجها عن ارسال أي نقود لنا بإيعاز من شريكها, فاضطررت الي العودة إلي العمل مرة اخري لدي صاحب المحلات طوال العام واهملت دروسي وبالتالي رسبت لعدم تفرغي للكلية وعدم حضوري المحاضرات.
وتحملت مسئولية الاسرة مرة اخري بعد ان تخلت شقيقتي الوسطي عنها بسبب زواجها وكانت مفاجأة زوجها لها علي زواجها منه وتسفيره الي البلد الذي تعمل فيه بل وشراء اثاث المنزل كله علي حسابها وشراء سيارة له فور سفره اليها مباشرة, هي ان ضربها وأهانها وظهر علي حقيقته التي حذرتها منها واكثر من ذلك انه كان يجلس في المنزل وتعمل هي بمفردها وتتحمل مسئولية البيت والاولاد الذين انجبتهم منه برغم الضرب والشتم وسوء المعاملة.
اما في بيتنا فقد ساءت العلاقة بين والدي ووالدتي كثيرا, وازدادت المشكلات بينهما واصبحت شبه يومية, ووجدت شقيقتي الوسطي ذات يوم ترسل الي طالبة مني ان اوافق علي سفر والدتي اليها لأنها تعمل ولا تجد من يرعي اولادها خلال ساعات عملها, فتحفظت في البداية علي هذا الطلب لمعرفتي بطباع زوجها وسلوكياته, ثم وافقت لكي اضع حدا للمشكلات شبه اليومية بين أبي وأمي وعسي ان يتحسن وضع زوج شقيقتي علي يد امي.
سافرت والدتي الي شقيقتي الوسطي وتحولت مشكلات والدي الي شقيقتي الصغري, واسفرت ذات مرة عن طرد ابي لي, ولشقيقتي من المنزل ولم نجد حلا سوي ان ارحل مع شقيقتي الصغري لنقيم في غرفة متهالكة وفرها لي احد زملائي بالجامعة في منزل شبه منهار بإيجار زهيد.وكانت شقيقتي الصغري مخطوبة في هذه الاثناء فلم اجد بدا من الاسراع في زواجها لكي نتخلص من الوضع الذي نواجهه, ولكن كيف لها بالزواج وظروفنا المادية لا تخفي علي احد.
لقد عرضت علي شقيقتي الوسطي ان اسافر للعمل في البلد الذي تعمل به لعدة سنوات اعتذر خلالها عن عدم دخولي الامتحانات بالجامعة علي ان اكمل دراستي بعد زواج شقيقتي فقبلت علي الفور هذه الفكرة برغم انني كنت في المرحلة الثالثة في الجامعة ولم تبق امامي سوي سنة واحدة لانهاء الدراسة.
وعلي الرغم من بعدي عن منزل والدي فإني لم انساه وكنت ازوره واحمل له الطعام والشراب والدواء وانظف له منزله مرة كل اسبوع علي الاقل, واحمل ملابسه المتسخة واغسلها وارجعها له نظيفة مرتبة وكان يقدر لي ذلك جدا برغم ما بيننا من خلاف في حين انقطعت عنه شقيقاتي بسبب طردنا من المنزل.
وفكرت في إرجاع والدتي مرة اخري الي مصر قبل سفري لكني خشيت ان تحدث مشكلات بينها وبين والدي خلال غيابي, ففضلت بقاءها مع شقيقتي الوسطي, وأصلحت بين شقيقتي الكبري والصغري وأرجعت الاخيرة الي منزل اختها لتستقر معها لحين زواجها.
وسافرت بالفعل وما هي إلا ايام قليلة مكثتها في منزل شقيقتي الوسطي حتي اكرمني الله عز وجل علي يد شقيقتي بعمل باحدي المؤسسات الصغيرة رحبت به, وطلبت من صاحب العمل تدبير مسكن لي مع الموظفين الآخرين ايضا لأهرب من اقامتي مع شقيقتي وزوجها, وازدادت المشكلات كثيرا بين شقيقتي وزوجها حتي اضطررت ذات مرة الي ان ارحل بوالدتي بعيدا عنهما بعد ان اتهم زوج شقيقتي والدتي بأنها السبب فيما يحدث من مشكلات بينه وبين زوجته, واعدت والدتي الي مصر واكملت عاما في الغربة بصعوبة ورجعت لمصر لأزوج شقيقتي الصغري بعد ان ساعدتها شقيقتي الوسطي بمبلغ من المال دون علم زوجها, وتزوجت شقيقتي الصغري بعد ان تحملت الكثير من الديون علي عاتقي واستعددت لسدادها من عائد عملي وقبل ان ارجع لعملي بأيام رشحت شقيقتي الكبري ابنة الجيران لكي ارتبط بها قبل سفري فتقدمت لخطبتها ووجدتها فتاة غاية في الجمال والأدب والكمال والاحترام والالتزام وعقدت النية علي الارتباط بها برغم قسوة أحوالي المادية وبعد سفري مباشرة علمت بوفاة والدي الذي اشتد به المرض في الفترة الاخيرة وحزنت كثيرا عليه وتألمت لفراقه وكان عزائي الوحيد هو انني قد وقفت بجانبه طوال حياته وحتي مماته.
واقامت والدتي لدي شقيقتي الكبري بعد وفاة والدي وتحملت انا نفقاتها ونفقات شقيقتي الكبري ورحت اسدد الديون التي تراكمت علي بسبب زواج شقيقتي الصغري.. ومرت اربع سنوات وانا اعمل بكل جهد واخلاص واتنقل من عمل الي عمل آخر بحثا عن الافضل وعن الراتب الاعلي حتي أتمكن من الالتزام بما علي من مصاريف تجاه أسرتي وتجاه زواجي الذي طالت مدة الاعداد له كثيرا, ونجحت بعد هذه السنوات الاربع في ان اتزوج بما استطعت ان اشتريه من اثاث واجهزة وشقة متواضعة وارسلت بعد زواجي مباشرة الي زوجتي فلحقت بي فكانت بشير السعد بالنسبة لي وانتقلت الي عمل جديد افضل وازداد راتبي ولم تمض إلا اشهر قليلة حتي بشرتني زوجتي بأنها تنتظر مولودنا الاول, وبعد ايام جاءت البشري أيضا بأنني اصبحت مديرا في عملي متجاوزا بعملي واخلاصي وامانتي من هم ايضا اقدم مني بكثير في العمل واستقبلت اول مولودة لنا وكانت اجمل طفلة رأتها عيناي ولم اجد اصدق من اسم جهاد لكي اطلقه عليها لأنه يعكس ظروف حياتي.. وشعرت بالسعادة والرضا.. لكن الكدر لم يلبث ان تسرب الي مع خبر طلاق شقيقتي الكبري, فقد احتدمت المشكلات بينها وبين زوجها وانتهي الامر بطلاقها وتقدم اليها آخر رغبت هي في الزواج منه واعترضت عليه فلم تأبه لمعارضتي برغم وقوفي معها وبجوارها هي واولادها طوال خمسة عشر عاما منذ بداية زواجها وحتي طلاقها وكانت هذه نقطة فاصلة بيني وبينها وما هي إلا سنة اخري وجاءني خبر طلاق شقيقتي الصغري التي ضحيت بكل شئ من اجل زواجها وقد فرطت هي فيه بكل سهولة وطلبت الطلاق من زوجها بعد ثلاث سنوات فقط من زواجهما لاختلاف الطباع.
لقد كان حلم حياتي ان ادخل بيت كل شقيقة من شقيقاتي فأقابل فيه بالترحاب والفرحة فإذا بي احرم من دخول بيت شقيقتي الوسطي لسنوات اظنها ستطول واحرم من دخول بيت شقيقتي الصغري بسبب طلاقها وتتزوج شقيقتي الكبري علي غير ارادتي, وترفض ان تنقطع لأبنائها بعد طلاقها, كما كنت اريد, لقد خيبت كل شقيقاتي املي فيهن جميعا ووالدتي لا حول ولا قوة لها ولا تستطيع ان تؤثر علي اي واحدة منهن بل انني اجدها في كثير من الاحيان متعاطفة معهن بسبب أو وبدون سبب بدعوي انهن فتيات لا احد لهن.
وفي وسط هذه الاحزان لاحت نقطة ضوء جديدة حين اخبرتني زوجتي انها حامل في طفلنا الثاني وطرت من الفرحة بالخبر السعيد.. وجاءت اللحظة الموعودة فإذا بطفلنا يجئ الي الحياة بثقب في القلب ولا يعيش سوي يوم واحد ويتوفاه الله ثالث ايام عيد الفطر المبارك واخفيت علي زوجتي الخبر خلال فترة وجودها بالمستشفي بعد العملية القيصرية التي اجريت لها وتحملت مرارة الصدمة بمفردي, وخرجت زوجتي من المستشفي واخبرتها بالخبر الحزين وكان ما كان منها وازدادت الاحزان بالمنزل حتي اصبحت الضغوط علي وكأنها جبال فأصبت بحالة نفسية سيئة للغاية شعرت معها بالاكتئاب والحزن العميق وخضعت للعلاج النفسي ـ ومازلت ـ حتي كتابة هذه السطور. لقد اطلت عليك كثيرا, ولكن هذه الكلمات التي سطرتها لك مجرد سطور من حياتي التي تحتاج الي مجلدات لكي اكتبها مفصلة دون اختصار, فكل سطر فيها اظن انه يحمل من مشاعر الحزن والعناء والمشقة بل والمرارة الكثير.
ان الكلمات ستظل عاجزة عن التعبير عما يجيش في الصدر من مشاعر واحاسيس, فمشواري الآن مع الحياة الذي امتد ـ حتي الآن ثلاثة وثلاثين عاما كانت منه ثلاثة عشر عاما اظنها كلها عناء ومشقة ومرارة ولم يتخللها سوي لحظات سعادة وهناء قليلة.
انني اشعر انني اضعت حياتي كلها دون فائدة فأسرتي لا أجد فيها ما كنت احلم به من لم الشمل وحسن علاقة شقيقاتي بي وحسن تذكرهن لما ضحيت من اجلهن.
والحالة النفسية التي امر بها حاليا لا توصف فقد اصبحت الدنيا مظلمة في وجهي الي ابعد الحدود, ولا اعرف ما إذا كنت محقا في كل هذا أم انني قد ضخمت الامر كثيرا, انني في أمس الحاجة الي ردك لعلي اجد فيه البلسم الشافي لحالتي ولحالة كثيرين اظنهم عاشوا نفس ظروفي.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
لو استرجع كل انسان احزانه القديمة, وكل ما شهدته رحلة حياته من عناء وآلام وغدر وجحود وفشل وهزائم وانكسارات وتجمد عند موقف الرثاء للنفس هذا وحده دون ان يتجاوزه للاحساس بالرضا عن صلابته التي مكنته من اجتياز كل تلك الأهوال والصعوبات حتي بلغ لحظة التأمل هذه لرشح الانسان نفسه علي الفور للاكتئاب المرضي.. ولضعفت استجابته لمؤثرات الحياة الإيجابية وأفسد علي نفسه الأوقات الثمينة التي يحق له فيها ان يستشعر الأمان بعد طول العناء بل وتعذر ايضا علي الكثيرين ان يرددوا كلمة شاعر شيلي الكبير بابلو نيرودا حين كتب مذكراته وروي ماشهدته حياته من لحظات السعادة والألم والانتصارات والهزائم فاختتمها بقوله: اشهد انني قد عشت!
يقصد انه قد عاش حياة حافلة هو راض عنها وبكل ماحملته اليه الرياح خلالها ولما استطاع كثيرون كذلك ان يقولوا ماقاله الفيلسوف الألماني كانت حين استرجع وهو في مرض الموت رحلة حياته بكل ماشهدته من احداث واحزان وانتصارات وصراعات ثم تمتم. قائلا: هذا حسن!
ذلك ان الحياة لم تكن ابدا ترنيمة بهيجة من بدايتها حتي نهايتها وانما كانت وسوف تظل مزيجا متعادلا السعادة والشقاء, فاذا كان هناك من قد لايتعادل مزيج الحياة لديهم فتكون احزانهم طويلة وافراحهم قليلة.. فهؤلاء هم من نطلق عليهم تعبير ابطال الحياة لانهم يقودون غالبا سفينة العمر وسط بحر هائج مضطرب بالصعاب والعقبات, ويغالبون اقدارهم ويكافحون كفاحا مريرا من أجل البقاء غير ان هؤلاء ايضا هم أحق البشر بأن يعتزوا بصلابتهم وصمودهم امام اعتي التحديات دون ان يفقدوا تفاؤلهم بالغد الأفضل.. وايمانهم بانفسهم وبحقهم العادل في ان ينالوا ذات يوم السعادة وكل طيبات الحياة.. وانت ياصديقي واحد من هؤلاء بغير جدال, فلقد ابليت بلاء حسنا في صراعك المرير مع الحياة, وبدأت ملاحتك الصعبة في بحر الحياة وسط اصعب الظـروف حتي لتنطبق عليك كلمة أمير القصة انطون تشكيوف حين قال عن نفسه: في طفولتي.. لم تكن لي طفولة!
وكل مافي الأمر هو أنك تمر الآن بحالة ضعف نفسي طارئة بسبب حزنك علي وفاة وليدك وحداد زوجتك عليه والجو الثقيل الذي يخيم علي حياتك العائلية حاليا والجسم البشري اذا ضعف سهل غزوه بالأمراض,وكذلك النفس فانها حين تضعف يسهل غزوها بالاكتئاب والاحزان والشعور بالاحجاف وافتقاد التقدير.
والحزن علي فراق الأعزاء امر طبيعي ولكل حزن من احزان الحياة فترة حضانة يرعي خلالها الانسان حزنه, ويتحمل لهيبه صابرا الي ان يهدأ ويخمد.. ويستقر لكنه اذا طالت فترة الحزن هذه عن المعدل الطبيعي وبغير ان تخف حدته او يستعيد الانسان تفاعله مع الحياة.. فانه يتحول الي اكتئاب مرضي يتطلب علاجا نفسيا متخصصا.. واحسب ان هذا هو ماتواجهه الآن.. ولو انك حاولت ان تنظر إلي الجانب الآخر من الصورة لرأيت انك قد خضت معركة بطولية من أجل البقاء والصمود انت وأسرتك وبلغت سفينتك في النهاية مرفأ الأمان, واستقرت احوالك المادية بعد طول العناء واستقلت كل شقيقة من شقيقاتك بحياتها.. وتزوجت انت ونعمت بالسعادة والوفاق مع شريكة حياتك وبانجاب طفلة جميلة ستكون رحلتها في الحياة اقل عناء من رحلتك معها باذن الله ورحل والدك عن الدنيا وهو عنك راض.
كما ان شقيقاتك جميعا وعلي خلاف مايبدو لك في الظاهر لابد انهن يقدرن لك صراعك مع الحياة منذ الصغر لحماية اسرتهن من الضياع ويحملن لك بالضرورة انبل المشاعر, لكن عرفانهن لك بما قدمت لهن ولاسرتك لايقتضي منهن ابدا كما تتصور ان يتنازلن لك انت عن حقهن في اختيار حياتهن وهن الراشدات القادرات علي اتخاذ قراراتهن المصيرية لانفسهن, كما انهن جميعا يكبرنك في السن فاذا اعترضت علي اختيار احداهن لشريك حياتها ولم تقتنع برأيك ومضت الي الارتباط به, فليس في ذلك جحود لك او تمرد عليك حتي ولو اثبتت تجربتها معه فيما بعد بعد نظرك لانه مجرد اختلاف في وجهات النظر وزاوية الرؤية لا ينبغي له ان يفسد للود بينكما قضية, ولا شأن له بانكار سابق عطائك لها وإذا ارادت أخري الزواج مرة ثانية بعد انهيار زواجها الأول ورغبت انت في ان تعزف عن الزواج لكي تتفرع لابنائها من زواجها السابق فلا يعني ذلك أيضا أن تستشعر المرارة تجاهها والجحود من جانبها, لأنها أعلم باحتياجها الإنساني للزواج, وأقدر علي تقدير احتمالها للصبر علي الوحدة منك.
ولست في النهاية تملك لهن إلا النصيحة والمشورة المخلصة, عملن بها أم لم يعملن.. ومن واجبك أن تستمر في أداء دور الأخ الأكبر لهن حتي ولو كن يكبرنك جميعا لأنك رجل الأسرة من بعد أبيك, فتجاوز عما تعتبره جحودا من جانبهن لكفاحك المرير من أجل الأسرة وتضحياتك لها, وتقبل ما تسمح به طبيعة كل منهن وثق بأنك حين تفصل بين وفائهن لك وما تتصوره أنت أن من واجبهن أن تكون لك الكلمة العليا في مصائرهن, سوف تتفتح لك قلوب شقيقاتك علي مصاريعها, وسوف تلقي في بيوتهن كل الترحيب والاحتفاء والعرفان, فلا تفسد علي نفسك أوقاتك باجترار الأحزان القديمة, وتوهم جحود الشقيقات.. وأعلم دائما أن جنة الأرض هي في اطمئنان القلب والنفس وراحة البال واستشعار الرضا عما قدمه الإنسان للحياة حتي ولو كان ما ناله منها مازال قليلا.. أو أقل من القليل.. وشكرا.
مدونة بريد الجمعة مدونة إجتماعية ترصد أحوال الشارع المصرى والوطن العربى مدونة تتناول قصص, ومشكلات حقيقية للوطن العربى مثل: (ظاهرة العنوسة, الخيانة الزوجية, الخلافات الزوجية, التفكك الأسرى, الطلاق وآثاره السلبية على الأبناء, الحب من طرف واحد, مرض التوحد, الإبتلاءات من فقر ومرض وكيفية مواجهة الإنسان لها) ثم يعرض الموقع فى أخر كل موضوع رأى المحرر فى التغلب على هذه المحن
الثلاثاء، ١ فبراير ٢٠٠٠
البحـــــر الهــائــــج
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق