الثلاثاء، ١ فبراير ٢٠٠٠

ثمــــــــار الشـــــوك

18-10-2002
أكتب رسالتي هذه ردا علي رسالة النار المتأججة للفتاة التي انفصل والدها عن أمها وهي صغيرة ولم يقم بحقها عليه‏..‏ وتكفلت أمها برعايتها وكتبت إليك لتقول لك أنها تكن كراهية شديدة له‏..‏ وترفض أن تسمح له بأن يقوم بدور الأب معها بعد أن كبرت في غيبته وتكفلت بها أمها وحدها‏..‏ وليس من حق من لم يزرع البذور أن يحصد ثمارها‏..‏ إلخ‏..‏
فأنا سيدة في التاسعة والعشرين من عمري وقد تجرعت من نفس الكأس وتذوقت مرارتها ولم أستطع اعتيادها واستساغتها برغم طول السنين‏,‏ إذ أنني ضحية لما يسمي الطلاق المبكر‏.‏ فلقد تزوجت أمي من أبي وهي طفلة في الثالثة عشرة من عمرها لترعي أطفاله الثلاثة بعد وفاة زوجته إبنة خالة والدتي‏,‏ ولم تستطع الطفلة بالطبع رعاية أطفال مثلها‏,‏ فطلقت من أبي وهي تحمل في أحشائها طفلة هي ثمرة هذا الزواج القصير جدا هي أنا‏,‏ وولدت في بيت أخوالي وجدتي وجدي وتربيت معهم وسط نظرات الاشفاق علي أمي ومصمصة الشفايف كلما نظر أحد إلي‏,‏ ولم أعرف حتي بلغت الثامنة سوي أن جدي وجدتي هما أمي وأبي‏,‏ أما أخوالي وأمي الحقيقية فهم أخوتي‏,‏ وذلك حتي يتسني لأمي الزواج مرة أخري بسهولة‏,‏ غير أن الكراهية الدفينة في قلوب الجميع تجاه أبي وخاصة جدتي كانت تبيح لهم ولها أن تظهر بعضا منها من آن لآخر‏,‏ وأن تسبني بأبي كلما أخطأت مع عدم استطاعتها أن تسب أحد أخوالي بأبيه‏,‏ رغم كثرة أخطائهم‏,‏ فقد كان أصغرهم يكبرني بخمسة أعوام‏,‏ وكان معظمهم توائم مما قد يزيد من الأخطاء وقلة السيطرة‏,‏ وفي ظل هذه المعاملة غير المتساوية انطلق خيالي في كل الاتجاهات بما يتناسب مع عمري‏,‏

وحين بلغت الخامسة واستطعت أن أكتب اسمي كاملا قارنت بينه وبين اسم خالي أو من كنت أظنه أخي وخرجت بنتيجة تتناسب مع سوء المعاملة ونظرات الاشفاق من الجيران وهي أنني لست إبنة أسرتي وإنما أحضروني من أمام المسجد‏,‏ وتعايشت مع هذا الاعتقاد‏,‏ أسر به أحيانا إلي احدي صديقاتي في المدرسة ولا أجرؤ علي البوح به لأحد في البيت‏,‏ حتي إذا بلغت الثامنة كان أبي قد عاد من إحدي الدول العربية وتذكر أن له إبنة وأرسل في طلب رؤيتي‏,‏ وهنا قامت الدنيا ولم تقعد‏,‏ ماذا يقولون لي‏,‏ وتفتق ذهنهم عن إقناعي بأن جدي كان مسافرا ذات مرة فتزوجت جدتي من أبي وأنجبتني منه‏,‏ ثم عندما عاد جدي رجعت له جدتي وأنا معها‏,‏ والآن فإن أبي يريد رؤيتي‏,‏ ولم ينسوا بالطبع إبلاغي بأنه أسوأ انسان علي وجه الأرض وأنه لايهتم بأمري وإنما يريد أن يأخذني من أحضانهم ويلقي بي وسط إخوة غير أشقاء وزوجة أب لا أعرفهم ليذيقوني جميعا ألوانا من العذاب‏,‏ ونجحت مساعيهم‏,‏ وعلي الرغم من فرحتي بظهور إنسان يهتم بوجودي في هذه الدنيا ويطلب رؤيتي‏,‏ فلقد دب الرعب في قلبي وأحال شوقي للقاء هذا الانسان إلي تحفز وترقب‏,‏ وجاء يوم اللقاء فاشتروا لي أفخم الثياب وخلعت علي أمي وكذلك خالاتي
كل ما كن يرتدين من ذهب حتي يظهرن مدي استغنائي عن أبي وعن نققة حكمت بها المحكمة قيمتها ستة جنيهات لإعاشة كاملة ومدارس وغيره‏,‏ وذلك بعد تحايله وادخال والدته في النفقة وهي التي لاتعيش معه ولديها أرض ومال‏..‏ إلخ‏..‏ وذهبت إليه مع جدتي فلم تنس طوال الطريق أن تذكرني بما فعله معها وبطريقة معاملته السيئة وتمنيني تارة وتهددني تارة أخري إن أنا ملت بمشاعري إليه‏,‏ مؤكدة أنها لن تتردد في أن تلقي بي إليه ولن يسأل أحد عني بعدها‏,‏ إلي أن وصلنا إليه وراعيت عدم إغضابها فوجدت نفسي كتلة من الخشب ليس لدي أحاسيس ولا كلام‏,‏ وشعرت بالخوف منه وجلست صامتة‏,‏ والتف حولي اخوتي غير الأشقاء يتفحصونني وأنا أجول ببصري في أنحاء المكان فأجد صورا معلقة علي الحائط تسجل ذكرياتهم معا وبطولاتهم في النادي‏,‏ ونظرت إلي ملابسهم فوجدتها أفضل من ملابسي‏,‏ وإلي الحلي الذهبية التي تملأ معاصمهن وصدورهن‏,‏ ورحت أنظر حولي وكأني أبحث عن أي أثر لوجودي في هذه العائلة ولم أجده حتي في وجوههم‏,‏ وعرف الحزن لأول مرة في هذه السن الصغيرة طريقه إلي قلبي وشعرت أنهم ليسوا إخوتي‏,‏ وأن هذا الرجل الجالس أمامي ليس أبي وكيف يكون كذلك ولا يشعر بما يعتمل في صدري الصغير‏
,‏ وكيف يتركني أعاني مرارة الشعور باليتم والتبني وهو علي قيد الحياة‏.‏
وفي هذا اليوم أخبرتني أختي الصغري غير الشقيقة بأن جدتي هذه ليست أمي وأن أمي الحقيقية من كنت أظنها أختي وأناديها باسمها ولم تحتمل أعصابي كل هذا في يوم واحد فبكيت‏,‏ وهمت جدتي بأن تأخذني وتنصرف فطلب أبي أن يخيرني بينه وبين أمي‏,‏ علي ألا أطلب رؤيتها مرة أخري فالتزمت برد واحد وهو أنني أريد العودة إلي البيت‏,‏ وانصرفنا ولم يطلب أبي رؤيتي بعد ذلك أبدا‏.‏

وعدت إلي بيت جدتي وصارحتهم بما قالت لي أختي غيرالشقيقة فاعترفوا بأنها الحقيقة وطلبوا مني الاستمرار في مناداة أمي باسمها وليس بكلمة ماما كما كنت أفعل‏.‏
ومضت السنوات وعندما بلغت السابعة عشرة من عمري كان الجميع قد انفضوا من حولي تقريبا‏,‏ وشغلت خالاتي بخطابهن وأزواجهن وأخوالي بجامعاتهم وأمي عقد قرانها علي مهندس شاب يصغرها بعام ولم يسبق له الزواج ومريض بالفصام‏,‏ وقد اشترط هو ووالده قبل عقد القران ألا يكون لي وجودا في حياتهم وقبل الجميع بذلك وشعرت بالوحدة والخوف وتساءلت لماذا لا أتصل بأبي وأسمع منه الآن بعد أن كبرت‏,‏ وأصبحت أستطيع أن أميز الحقائق ولماذا أترك الكراهية تنهشني‏,‏ ولا أكون أكثر سماحة منه وأعطيه فرصة ليدافع عن نفسه أمامي؟‏!‏ إن الأمر يستحق وقد يكون ما بقي لي في العمر أكثر مما فات فلماذا أضيع علي نفسي فرصة الهدوء النفسي في قادم الأيام؟‏!‏ واتصلت به دون علم أحد من أسرتي وخرجت من المدرسة لملاقاة أخي الأكبر ليوصلني إليه فوقفت ساعة ونصف الساعة بجوار أخي دون أن أعرفه ودون أن يجرؤ أحدنا علي محادثة الآخر إلي أن حضر أبي واصطحبني وعرفني أبي من الزي المدرسي وتكرر معي ما حدث في المرة الأولي ورحت أبحث من جديد في ملامحهم عن أي أثر لوجودي وفوجئت بأنني قد أصبت بالقيء المتكرر طوال ساعات وجودي معهم فأوصلوني إلي البيت في موعد عودة المدرسة منعا للمشاكل ودخلت إلي حجرتي
وأنا أشعر بالاضطراب وعدم الاتزان ولاأعرف ما إذا كان ما فعلته صوابا أم خطأ وفي الصباح التالي أخبرتهم بما فعلت فكان جزائي صفعات من جدتي علي وجهي وصراخا ومحاولة طردي من البيت لأذهب إليه مع عدم نسيان سبه وسبي‏,‏ والجميع يحاول تهدئتها ويعدها بألا يتكرر ذلك وأمي تبكي‏.‏ ووجدتني أقول لها بإصرار لا بل سيتكرر ويتكرر لأنه أبي مهما حدث ولن استمد كراهيتي له من كراهيتكم ومن حقي أن أعلم وأن أعيش كفتاة سوية ومن حقه أن أعطيه فرصة لأن يكفر عن ذنبه وبدأ الجميع يهدأون وقرروا أنه لاضرر من أن أذهب إليه في زيارات خلال الإجازات مثلا واعتذرت لجدتي وأمي وصارحتهما بكل ما في صدري من آلام وآمال فوافقتا علي مضض وبدأت زياراتي لأبي وكنت أحاول في كل مرة قبل أن أذهب إليه أن أغسل قلبي من كل حقد تجاهه وأمني نفسي بالسعادة معه وأحاول ألا أجتر الأحزان وقلت لنفسي إن لم تستطيعي الحب فتحابي وقررت أن أبدي له الحب لعله يأتي يوم وأشعر منه بالحب فعلا حتي أنني كنت عندما أصحو من نومي وأنا عنده أجري عليه لأقبله علي غير عادة إخوتي وأعد له الافطار ونجلس سويا حتي كان إخوتي يداعبونني قائلين إنني سأعوده علي ذلك فكنت أطلب منهم أن يدعوني أعوض ما فاتني طوال السنين
السابقة غير أن هذا لم يكن له للأسف أي مردود لديه ففي أحيان كثيرة كان يعايرني بأن جدتي كادت تدخله السجن بشيك أخذته عليه لكي يطلق ابنتها وكان يري أنني لابد قد شربت منها طبعها‏,‏ وبدلا من أن أقترب منه بزياراتي كنت أشعر إنها تبعدني عنه وتحزنني فقد كانت التفرقة هنا أيضا واضحة من أكبر أخ إلي أصغر أخت حيث كانت مثلا آخر العنقود تأخذ من المال لتشتري الحلوي والشيكولاتة أكثر مما أكسبه أنا في يوم عمل شاق بالمكتب الذي أعمل به سكرتيرة لأوفر مصروفاتي وكان عمرها في هذا الوقت حوالي‏12‏ سنة وشيئا فشيئا كانت الهوة تزداد اتساعا فهم يعرفون معاناتي ومتاعب عملي ودراستي لكن لايشعرون بها وأبي يتجنب الحديث في هذه الأمور حتي لا يطالبه أحد بالمصروفات‏.‏

وأنهيت المرحلة الثانوية بتفوق والتحقت بإحدي كليات القمة التي لا توجد إلا في جامعة القاهرة فكان ضروريا أن أنتقل إلي بيت أمي وزوجها القريب من الجامعة وبعد بكاء أمي لزوجها انتقلت للحياة معها وكنت أمكث في حجرتي وأسمع زوجها المريض بالفصام وهو يصرخ فيها طوال الوقت ويسب ويتوعد ويلقي بالأشياء مما أحال الحياة في البيت إلي جحيم وعمق بداخلي الشعور بعدم الأمان‏.‏ فكنت أقضي أطول وقت ممكن في الجامعة وأعمل ثلاثة أيام في مكتب إلي أن تقدم لي من هو أكبر مني بحوالي عشرين عاما طالبا يدي وفي ظل هذه الظروف فكرت أحيانا فيما قد يكون أنه الخلاص‏,‏ لكنني قررت ألا أبيع نفسي وما بقي من عمري ويكفي ما ضاع منه ورفضت قبوله وزاد من غضبي وحقدي أن أبي كان موافقا عليه وزادني قبوله إصرارا علي الرفض‏,‏ فرصيد أبي معي لا يؤهله لاتخاذ قرار مصيري لي‏,‏ ولقد كنت أبحث عن الأمان أكثر من المال‏,‏ ثم تقدم لي زميل لي في الجامعة ورفضته في البداية لصغر سنه واضطراب حياتي ولأني أشفقت عليه من تحمل تبعات ما حدث لي في الماضي لكنه نتيجة لإصراره ومثابرته أحببته وقبلت به ورفض أبي حتي مقابلته ولم آبه لذلك وخطبت له رغم رفض أبي فازددنا تباعدا وبدأت أحلم مع خطيبي بالحياة التي لم تبدأ بعد بالنسبة لي وبدأنا نفكر كيف سندخر وكيف سنجهز شقتنا ونحن نعلم أنه لن يساعدنا أحد حتي والد زوجي‏,‏ وفي ظل هذه الظروف بدأ زوج أمي بالتحرش بي ومضايقتي طوال وجودي في البيت وعندما أخبرت أمي بذلك كان ردها أنه مريض وما يفعله من أعراض مرضه‏,‏ ولم أستطع تحمل هذه الأعراض ولم أستطع اخبار أبي الذي أصبح يحدثني وكأنه يتشفي في عندما يبدو علي الإرهاق والمعاناة وكان الحل الوحيد هو أن نتزوج في شقة مفروشة‏,‏ وتزوجت بلا أب وبلا معين‏,‏ وبعد عناء شديد انتقلت إلي شقة فوق السطح‏..‏ ثم إلي شقة بالإيجار وأصبح عندي أثاث وأدوات كهربائية لكني مكبلة بالأقساط التي تذكرني كل أول شهر بما فعله بي أبي خصوصا إذا قارنت زواج إخوتي من حفل زفاف إلي شقة تمليك إلي أثاث فاخر وغيره وقد ساهم أبي علي الأقل لكل واحدة بنصف التكاليف‏,‏ وكنت أتذكر أبي وشعوري نحوه كلما حملت وتنتابني حالة نفسية وقيء لا يتوقف حتي تتأثر حالتي الصحية ولا أعود كما كنت إلي أن تجري لي عملية إجهاض‏,‏ وقد علل الأطباء ذلك بأنني ربما لا أريد أن أنجب لعدم شعوري بالأمان أو لأحداث جرت لي في الماضي‏.‏ كما كانت تقتحم ذاكرتي ذكريات مؤلمة من الماضي مثل حادثة محاولة تحرش ساع في الحضانة بي وخوفي من إخبار أحد بما حدث ثم بعدها رؤيتي طفلة صغيرة مثلي سمعتها تشير إليه وتقول هو ده يا بابا فينهال عليه الأب ومن معه ـ ضربا أو حادثة اختطافي وسرقة قرطي الذهبي خلال ذهابي إلي الحضانة البعيدة عن البيت في الصباح الباكر وحدي وأذكر كل هذا فأتذكر أيضا أن أبي لم يكن أبدا موجودا من أجلي‏.‏

وفجأة وبعد‏26‏ عاما رن جرس التليفون ووجدت أختي تخبرني بأن أبي قد مات‏.‏ وضاع الأمل في أن يوجد من لم يكن أبدا موجودا‏.‏ وذهبت إلي العزاء قبل الدفن لأجد إخوتي يلتفون حولي يطلبون مني جميعا الصفح عنه ويبكونه بحرقة فوجدت نفسي أبكي وأبكي ولكن لسبب مختلف هو أنه لم يعد لدي أمل‏..‏ وأبكي لأنه لم يترك لي شيئا أبكيه من أجله وأشعر بالغيرة حتي من أحزانهم‏.‏ وطلبت أن أختلي به في الحجرة وعندها رفعت عن وجهه الغطاء ووجدت نفسي أتخيله يحاسب في ظلمة القبر وحيدا وينتظر صفحي فوجدت الدنيا كلها تهون في هذه اللحظة‏..‏ وسامحته من كل قلبي‏.‏
نعم الآن فقط يا أبي أستطيع أن أسامحك‏,‏ سامحك الله‏.‏

ولم تفلح كل كلمات زوجي قبل وفاة أبي في أن أسامحه بل لعلها كانت تشعرني ببعض الحقد علي زوجي لعدم شعوره بإحساسي تجاه أبي لكنني الآن سامحته‏..‏ وبلا عتاب‏,‏ وبعد وفاة أبي رزقت بطفلتي الأولي بعد تسع عمليات اجهاض جرت لي في أثناء حياته‏.‏

والآن مازلت أنا وزوجي وطفلتي نجني ثمار الشوك الذي زرعه أبي في حياتي وكل هذا حدث لي وأنا أحاول أن أحافظ علي السلامة النفسية والدين والعدل مع النفس ومع الغير غير أن كبت الغضب خاصة الناتج عن الجروح النفسية يورث المرض النفسي‏,‏ لقد قلت يا سيدي في ردك علي رسالة النار المتأججة أن النفس الطيبة لا تكره ولكنها تعتب علي من ظلمها وأنا أقول إن الكراهية هي الصورة الحادة للحب فأنت تستطيع أن تعتب علي صديق أو زميل أو حتي أخ لكن المرارة التي يخلفها من تتوقع منه الأمان لن يفلح معها العتاب ذلك أن تحول أقرب الناس إليك إلي شخص غريب عنك في كل شيء‏..‏ في الملامح‏..‏ والشخصية والإحساس شيء في غاية الصعوبة ومن غير العدل أن أظل وحيدة ولي من الإخوة ستة علاقتي بهم أقرب إلي علاقتي بأقارب الدرجة الثالثة منها إلي علاقة الإخوة نتيجة خطأ فرد واحد وكل ذلك شديد القسوة علي النفس إن من يحدث بإبنه عاهة مستديمة تسبب اعاقة يعاقبه القانون عليها بالسجن ثلاث سنوات مثلا‏.‏ فلماذا تعد الإعاقة النفسية أقل ضررا منها وما هي بذلك أبدا‏.‏ وبالرغم من كل ذلك فإني أقول لصاحبة رسالة النار المتأججة إن الزمن هو الذي يداوي الجروح وقد تظهر آثارها بعد أن تندمل لكنها علي أي حال ستكف عن النزيف ويوما ما سوف تسامحين أباك كما سامحت أبي فاحتسبي كل ما حدث لك عند الله فما عند الله لا يضيع أبدا أعانك الله علي تحمل ماابتلاك به واختبرك به‏.‏

وأخيرا فإني أشكرك علي هذه الفرصة التي ساعدتني علي أن أخرج ما اعتمل في صدري طوال سنوات عمري الـ‏29‏ السابقة علي الورق لعلي أستطيع أن أطوي أحزاني وأرسلها مع رسالتي هذه في البريد وأتخلص منها إلي الأبد‏.‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏
ما اكثر الخطايا والخطاة في قصتك هذه‏..‏ ذلك انهم اكثر من جان وليسوا جانيا واحدا كما تعتقدين

فلقد سبقت جناية والدك عليك‏,‏ جناية من رحبوا بزواجه من الأصل بأمك وهي طفلة في الثالثة عشرة من عمرها لكي ترعي اطفالا ايتاما في مثل عمرها فكتبوا بذلك أول سطر في قصة الأحزان التي شهدتها حياتك ورشحوك من قبل البداية للتمزق بين أبوين منفصلين ومكابدة احساس اليتم المعنوي والنبذ والغربة بين الأهل‏.‏ ثم واصلوا خطاياهم الانسانية والتربوية في حقك بعد انهيار الزواج‏,‏ فأنكروا بنوتك لأمك الطبيعية وحرموك من حق الانتماء الي أم تعتز بنسبتك اليها وتواجه بك الحياة بلا تخف ولا أنكارحتي اورثك ذلك الشعور المؤلم بالتبني وانعدام روابط الدم بينك وبين من تعيشين في كنفهم‏,‏ ولم يكن الاعتزاز ببنوتك لأمك‏..‏ وتنشئتك النشأة الطبيعية في احضان ام انفصلت عن زوجها ليغير شيئا كثيرا من حسابات زواجها مرة أخري‏..‏ لكنها القسوة المعنوية التي لاتبرير لها‏,‏ وهي قسوة لم تتجسد فقط في هذا الانكار المؤلم‏..‏ وانما عبرت عن نفسها كذلك في عدم الحرص علي معنوياتك‏,‏ وعدم التحفظ في سبك بابيك ولعنه أمامك كأنما يحملونه وحده مسئولية جنايته عليك وقد شاركوه هذه المسئولية من الأصل‏..‏ وامتد ذلك الي عرقلتهم للتواصل الانساني المفترض بينك وبينه بتخويفك منه وتهديدك با
لويل والثبور وعظائم الأمور لو مالت بعض مشاعرك تجاهه فضاعفوا بذلك من معاناتك وغربتك النفسية وافتقادك الأمان النفسي والاحساس بعز الابوة‏.‏

اما مسئولية والدك غفر الله فعظيمة وكبيرة‏..‏ فلقد قصر في الكفاح من اجل مد الجسور بينه وبينك وتبديد بذور الشك والتوجس التي غرسها الأهل في نفسك تجاهه‏,‏ ولم يبذل من الجهد والصبر والمثابرة ماكان حقا عليه ان يبذله لكي يعوضك عن حرمانك من حق النشأة الطبيعية بين ابوين رحيمين بك‏,‏ ولم يجتهد لاشعارك بالمساواة بينك وبين ابنائه الآخرين وقد كان حقا عليه لا أن يشعرك فقط بذلك بل وان يميزك ايضا بعض الشيء عنهم بمزيد إضافي من العطاء المادي والانساني لك تكفيرا عن جنايته عليك
كما كان حقا عليه ايضا ألا يدعك تلاطمين الحياة بلا سند ولا نصير لكي تبني عشك الصغير دون اي مساندة مالية منه كما فعل مع اخوتك‏..‏ فتذكرك اعباء الاقساط الشهرية لاثاث عش الزوجية واجهزته الكهربائية‏..‏ بما رضيه لك من العناء

لكن ماذا نقول فيمن يفرط في حق ابنة له جني هو عليها بسوء اختياره لأمها وقلة صبره عليها وجني عليها بتخليه عنها بعد مولدها
ان بعض الآباء يتصورون حق ابنائهم عليهم أمرا يتعلق بالمسئولية المادية وحدها ويمكن التنازع حول حدوده ومداه في ساحات القضاء عند الضرورة‏..‏ ولايعرفون انه حق الهي تفرضه تعاليم السماء ولاتقبل فيه دعوي ويؤجر عنه من يقوم به حق قيامه في السماء قبل أن يشهد له بذلك في الأرض‏.‏

فلقد جاء في الحديث الشريف‏,‏ ان من الذنوب ذنوبا لاتكفرها الصلاة ولا الصيام ويكفرها الغم بالعيال‏!‏
اي الاهتمام بأمرهم والكفاح في الحياة لاعالتهم ورعايتهم واسعادهم

ذلك أنه جهاد شريف يؤجر عنه صاحبه كما يؤجر المجاهد عن جهاده بل ان احد الصالحين قد قال ذات يوم لاخوانه وهم في الغزو‏:‏
أتعلمون عملا أفضل مما نحن فيه فقالوا‏:‏ لا‏,‏ فقال‏:‏ رجل متعفف علي فقره ذو عائلة قد قام من الليل فنظر الي صبيانه نياما متكشفين فسترهم بثوبه‏!‏

وقيل للزاهد العابد إبراهيم بن أدهم‏:‏ طوبي لك فلقد تفرغت للعبادة بالعزوبة‏!‏ فقال لروعة تنالك بسبب العيال أفضل من جميع ما أنا فيه‏!‏
اي لأن تشعر بشيء من الخوف والهلع علي ابنائك أفضل من كل عبادته وزهده‏..‏

ولقد حرم والدك نفسه من هذه المنزلة بالنسبة لك وان لم يحرم نفسه منها بالنسبة لاخوتك‏..‏ لكن كل ذلك قد أنقضي الآن وصفت نفسك الطيبة له‏,‏ بعد رحيله عن الحياة وتمثلك لوحدته وحسابه مع ربه يوم لاينفع مال ولابنون إلا من أتي الله بقلب سليم‏.‏
ولاعجب في ان تصفحي عنه وتغفري له‏,‏ يابنتي في هذه اللحظة القدرية‏,‏ فهي اللحظة التي تسقط فيها الأحقاد والمرارات‏..‏ ويتراجع الحساب والعتاب ويتقدم الصفح والرجاء ولقد توقفت في رسالتك طويلا امام مشهد الموت وانت تشعرين حتي بالغيرة المؤلمة من بكاء إخوتك علي إبيك وتتمنين لوكان قد احسن اليك وقام بحق ربه فيك لكي يكون بكاؤك عليه خالصا من اية شائبة وتوقفت امام قولك انك قد بكيت ليس حزنا علي رحيله وانما حزن علي أنه لم يترك لك شيئا تبكينه من أجله‏!‏

انها درجة عالية من الصدق مع النفس وصدق الشعور وتذكرني بما قاله اديبنا الكبير نجيب محفوظ في ثلاثيته علي لسان كمال عبد الجواد حين مات أبوه في شيخوخته‏:‏ إني حزين يا أبي لأني لم احزن عليك كما ينبغي‏!‏
اما عقاب القانون علي من يخلف لابنه عاهة نفسية‏..‏ فانه امر يستحق التوقف عنده أيضا وتأمله واستجلاء مغزاه الأليم‏..‏ ويبقي بعد ذلك ان احييك علي رسالتك المفيدة هذه وان ارجو لك السعادة والأمان في حياتك ولطفلتك ان تنعم بكل ماحرمتك انت منه الأقدار في طفولتك وصباك بإذن الله‏..‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق