الثلاثاء، ١ فبراير ٢٠٠٠

الورقة الأخيرة‏!‏

24-05-2002
ألجأ إليك في هذه المرحلة الدقيقة في حياتي‏,‏ لأني علي وشك تقرير مصيري وأرجو أن تساعدني علي اتخاذ القرار الصائب‏,‏ فلقد نشأت في بيت هاديء من بيوتنا المصرية بين أب حنون وأم معطاءة وأخوة وأخوات معظمهم انتهي من تعليمهم الجامعي واستقر معظمهم نفسيا واجتماعيا وعائليا‏,‏ أما أنا فلقد كنت متفوقة في دراستي ولقد انتهيت من دراستي الجامعية منذ عدة سنوات وتطلعت أولا للسفر إلي إحدي الدول العربية كما يسافر الشباب للعمل هناك‏,‏ وبالفعل سافرت الي دولة خليجية وتسلمت عملي هناك وبعد عام واحد وعن طريق إحدي الأسر الصديقة تعرفت علي شاب يعمل في نفس الدولة في مركز مرموق فجذب انتباهي خاصة وأنه كان أول تجربة لي مع شاب حيث اني كنت أري طول حياتي أن أي علاقة بين شاب وفتاة به هي نوع من الاستهتار البعيد عن الطريق القويم وتفاهمنا علي الزواج وتزوجنا في أول اجازة لنا بمصر ورجعنا مباشرة من اجازة العسل إلي عملنا في الدول الخليجية ووجدت زوجي في الأسابيع الأولي من الزواج يتمتع بكثير من الخصال الجميلة فهو‏..‏ كريم ومهذب وهاديء وحنون ويحبني بشدة‏,‏ فأحببته كثيرا‏,‏ ولكني لاحظت خلال هذهالأسابيع بعض الملاحظات المربة‏,‏ فلقد كنت اشم فيه رائحة غريبة عند عودته إلي المنزل وألاحظ تغييرا في شكل عينيه خاصة عندما يعود متأخرا في المساء وخجلت في أول الأمر من سؤاله عن هذه الملاحظات ثم بعد فترة قليلة عرفت الحقيقة التي أذهلتني وهزت كياني‏,‏ إذ تأكدت من أن زوجي يشرب الخمر وبمعني أدق سكير ومدمن للخمر‏,‏ وبعد اكتشافي لهذه الحقيقة المرة بدأ يحضر الخمر معه الي المنزل ويأتي بأصدقائه للمنزل لتناول الشراب معه ولا أستطيع ان أصف لك ماذا كانت تفعل الخمر به‏..‏ فلقد كانت تذهب عقله تماما فيأتي بأفعال مشينة تصل به الي الصراخ والسب وتكسير محتويات المنزل‏,‏ بالاضافة لما يحدث من تغير في شكله وتصرفاته وعدم قدرته علي السيطرة علي نفسه حتي كان الحال يصل به أحيانا إلي التبول اللاإرادي وفي أي مكان‏!‏

فعانيت معه الكثير والكثير‏..‏ ولست تتصور حجم المعاناة حين تعايش إنسانا مدمنا للخمر وهو في حالة السكر الشديد وبرغم العناء الشديد فقد حاولت كثيرا إصلاحه ومساعدته علي الاقلاع عن هذا الشيء المشين وأن أقف بجانبه‏,‏ وأحسن من وضعه بين الأصدقاء والمعارف في الغربة خاصة أنني كنت قد حملت منه‏,‏ ثم رزقت بطفلة جميلة شجعني وجودها علي المحاولة مرات ومرات ولكني لم أفلح للأسف في إقناعه بالتخلص من هذا الإدمان القاتل خاصة أنه غير مقتنع بأن هذا مرض ممكن الشفاء منه‏.‏
ومضت بنا السنوات حتي رجعنا إلي بلدنا وقد شجعته علي العودة السريعة عسي أن يتمكن في مصر من التخلص من الخمر اللعينة عندما نكون بين الأهل ونظرا لأن العائد المادي للغربة كان ضعيفا جدا لاستنزاف معظم مواردنا في الحصول علي أغلي أنواع الخمر التي تعود عليها ولكن هيهات ان يتحقق ماحلمت به فقد استمر الحال كما هو في مصر أيضا ولم يتخل عن هذه الأنواع الغالية فشعرنا بالرغم من دخلنا المعقول جدا بضيق مادي الي جانب حزني واكتئابي الشديد لما آل إليه حاله من استعباد هذه الزجاجة الكريهة له‏.‏

وحاولت معه كثيرا تارة بالصياح وتارة بالخصام وبترك البيت وتارة بالحوار الهاديء عندما يكون في حالته الطبيعية ولا فائدة‏.‏ ومع ذلك لم أخبر أحدا من أهلي عن تفاصيل مشاكلي معه‏,‏ وبعد سنة واحدة من رجوعنا من الغربة لاحت لي فرصة عمل من جديد في دولة عربية أخري فوجدتها فرصة لأبتعد عنه وتركه امفسه عسي أن يراجع موقفه ويستفيق مما هو فيه وتركت طفلتي عند أختي الكبيرة التي لم تنجب حيث وجدت عندها الرعاية التامة وسافرت الي عملي الجديد ومكثت عاما كاملا ورجعت في أول اجازة لأجده كما تركته مازال عبدا للشراب ومهملا لعمله‏,‏ وصدمت صدمة كبيرة حين وجدته علي نفس الحال وشعرت أنه لا فائدة معه بتاتا‏,‏ فتركت المنزل وقضيت بقية الأجازة في بيت الأسرة وخيرته بيني وبين الخمر وتركت له أن يختار وسافرت بعد انقضاء الاجازة راجعة إلي عملي ومنذ ذلك الحين لم أذق طعم النوم المريح الهاديء لأني أشعر أن حياتي تضيع مني وان استمرار الوضع علي ماهو عليه سيؤدي بي إلي كارثة نفسية واجتماعية لأني امرأة وأريد أن استمتع بالدفء الأسري مع رجل يحيطني بحبه وحنانه ولا أستطيع ان أعيش بمفردي هكذا في الغربة بعيدا عن ابنتي الحبيبة وأريد العودة إلي وطني وابنتي‏,‏ لكني من ناحية أخري لا أستطيع أن أتكيف مع أحوال زوجي هذه ولا أقبل بالعودة لما عانيته من قبل من عذاب‏..‏ فهل أستطيع ان انفصل عنه وأبدأ حياة جديدة مع إنسان يقدرني ويهتم بي وببيته‏..‏ أم أتنازل من أجل طفلتي وأتحمل وأعود إلي زوجي وأنا أعلم علم اليقين أن المشكلة الأساسية التي بيننا لم تحل وغالبا لن تحل ؟ إنه يتصل بي عدة مرات أسبوعيا ويحاول الضغط علي للعودة إليه‏,‏ ولكن دون أن يصرح بأنه سيترك الخمر ويطلق الإدمان‏.‏ وكل مايقوله لي هو أنه يحتاج إلي وأن طفلتنا تحتاج للحياة بيننا ودون أن يشير بأي كلمة إلي الخمر حتي أنه في إحدي اتصالاته شعرت بأنه كان يتحدث الي وهو ثمل‏..‏ إنني أريد أن أحسم أمري وأنجو بحياتي من هذه الأمواج والعواصف وأريد كذلك أن أجنب ابنتي كل سوء قد ينالها بسبب مابيني وبين أبيها الآن من خلاف خاصة أنها قد بدأت تعي وتشعر بما يدور حولها وبدأت تسأل عني وعنه أنني أرجو أن ترد علي قبل عودتي في أجازة هذا العام التي اقتربت لكي أتخلص من حيرتي وأحسم أمري‏.‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏
كانت لدي زوجك فرصة كافية لإثبات رغبته في مجاهدة نفسه والإقلاع عن هذه الآفة المخزية طوال فترة اغترابك الثانية وافتراقك عنه‏..‏ حتي ولو تطلبت محاولاته للاقلاع عن الخمر ان يدخل مصحة يتلقي فيها علاجا منتظما للإدمان‏..‏ ويقسو علي نفسه حتي يبرأ من الإدمان الكحولي المدمر للشخصية والمعنويات والإرادة‏.‏ ولكنه لم يبذل قطرة عرق واحدة للأسف علي طريق النجاة وإصلاح الحال ويبدو مستسلما لآفته الخطيرة بلا مقاومة وبلا أية رغبة في التحرر منها والنجاة‏..‏
ولأن الحديث معه عن الجانب الديني من المسألة لا يجدي شيئا كثيرا فيما أتصور‏..‏ فلسوف أقتصر في حديث معك علي الجوانب الأخري‏,‏ وأقول لك إنك محقة في التردد بين العودة إليه والانفصال عنه لمثل هذا السبب الجوهري الذي يسقط اعتباره ويفقده أهليته كزوج وأب لطفلته‏..‏ حتي لقد ذهب أكثر الفقهاء إلي عدم الاعتداد بطلاقه إن هو طلق زوجته وهو سكران واعتبروه مماثلا لطلاق المعتوه الذي لا يؤخذ به لصدوره عن ناقص العقل‏.‏ لكن الإنصاف يقتضي أن نقول كذلك إن انفصالك عنه وإن كان عقابا عادلا له علي تدهوره الي هذا الحضيض‏..‏ إلا أنه يصيب بالضرر البليغ في نفس الوقت طفلة بريئة لا جريرة لها فيما فعل أبوها بنفسه‏,‏ ولسوف يحرمها من حقها المشروع في النشأة الطبيعية بين أبوين يتعاونان علي رعايتها والبر بها‏..‏ لهذا فإن الأوفق هو أن تواصلي استخدام ورقة الضغط الأخيرة عليه هذه لكي يصلح من شأنه ويستعيد جدارته بأن يكون أبا صالحا لهذه الطفلة وزوجا راعيا ومحبوبا لك‏,‏ وذلك بالربط بين عودتك إليه سواء بقيت لفترة أخري في الغربة أو رجعت علي الفور الي بلادك‏,‏ وبين مايبديه من نية صادقة لطلب العلاج من الإدمان الكحولي اللعين ومايبذله من خطوات جادة علي هذا الطريق‏..‏ ومايحققه من تقدم إيجابي نحو هذا الهدف ولا مفر من ذلك ولا بديل‏,‏ فالهمة الخائرة تحتاج دائما الي شحذها بالضغوط الدافعة أو بالترعيب في الجوائز المأمولة‏..‏

وليس هناك من دافع لهمة الإنسان أقوي من الخوف من فقد الأعزاء وانهيار الأسرة والحرمان من نشأة أطفاله تحت جناحيه‏,‏ وليس هناك من جوائز أثمن من جائزة السعادة العائلية والوفاق الزوجي واستمتاع الأبوين معا بمراقبة أطفالهم الصغار وهم يكبرون تحت ناظريهما وفي رعايتهما وتحت مظلة حبهما وحدبهما عليهم‏.‏ فضعي الحقيقة عارية أمامه علي هذا النحو‏:‏ إما العلاج من إدمان الخمر مهما كانت المعاناة والإقلاع عنه بمساعدتك وتشجيعك له‏,‏ وأما الوحدة‏..‏ والضياع والانهيار وفقد الزوجة المحبة والابنة العطوف‏,‏ والحرمان من الحياة العائلية الدافئة‏..‏ والمستقرة وليكن الخيار خياره هو لنفسه وطفلته واسرته وليس خيارك أنت لانك في حقيقة الأمر لا تملكين الخيار في حين يملكه هو‏,‏ فأنت ترغبين بصدق في استعادة الحياة الأسرية الدافئة ورعاية طفلتكما معا في جو صحي سليم وليس في مثل هذا الجو الموبوء السابق‏..‏ فان اختار الهلاك لنفسه فلا لوم عليك فيما تفعلين حين ترجعين الي بلدك ولا تعودين الي زوجك المستسلم لآفته بلا مقاومة وإن اختار الحياة الآمنة الكريمة لنفسه وزوجته وطفلته فلقد أنقذ الجميع من الضياع وأثبت جدارته باستعادته لك ولطفلته وأسرته الصغيرة‏,‏ وحق عليك أن تفي بوعدك له بالعودة إليه بلا تحفظات وان تخلصي له الود والحب والاحترام بعد أن جاهد بصدق للاحتفاظ بك واستعادتك ودفع ثمن ذلك راضيا بالتخلص من آفته‏.‏

والمؤمنون ـ كما يقول لنا الحديث الشريف ـ عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق