الثلاثاء، ١ فبراير ٢٠٠٠

الواجب الأخير

15-11-2002
أنا رجل بلغت الستين من العمر‏..‏ تنبهت للحياة فوجدتني الابن الأكبر لأب راحل ولي أخ وأخت صغيران ونواجه الحياة بمعاش أبي البسيط وترعانا جميعا أمي المكافحة‏..‏ وكعادة الابن الأصغر في بعض الأحيان‏..‏ فلقد كانت مطالب أخي كثيرة ولا تراعي ظروفنا الصعبة‏.‏ في حين كنا أنا وأختي نصبر علي ظروفنا ونشفق علي أمنا مما تكابده ونلتمس لها العذر‏..‏ وحين بلغت المرحلة الثانوية خرجت للعمل لكي أساعدها علي أعباء الحياة واختصرت طريق التعليم والتحقت بأحد المعاهد المتوسطة وعملت بعد تخرجي مع مقاول من أصدقاء أبي القدامي‏,‏ وساهمت بدخلي البسيط في مواجهة تكاليف الحياة ونفقات تعليم أخي وأختي‏..,‏ ومضت بنا الحياة وحصل أخي علي الثانوية العامة وأصر علي الالتحاق بإحدي كليات القمة بالرغم من نفقاتها العالية‏..‏ وراجعته أمي بإشفاق في ذلك‏..‏ فلم يقبل التنازل عن رغبته‏,‏ وشجعته أنا بالرغم مما سوف يمثله ذلك من أعباء إضافية بالنسبة لي‏,‏ وبعد عامين آخرين أنهت أختي دراستها وحصلت علي مجموع كبير وأرادت أن تختار دراسة غير مكلفة‏..‏ لكني لم أقبل لها إلا مايؤهله لها مجموعها والتحقت بالفعل بكلية من كليات القمة‏..‏ وتحملنا ظروفنا وتكاليف علاج والدتنا إلي أن تخرج أخي وعمل‏..‏ ثم تخرجت أختي وعملت‏..‏ وبدأت أتنفس الصعداء وأفكر في أن أتزوج‏,‏ ففوجئت بشقيقي الأصغر يعلن لي رغبته في الزواج من زميلة له في الجامعة‏,‏ ويصر علي التعجيل بالزواج خوفا من ارتباطها بإنسان آخر‏,‏ ولم يعجب ذلك أمي ـ وصارحتني برأيها‏,‏ لكني لم أر غضاضة في تأجيل زواجي لفترة أخري وتزوج شقيقي‏,‏ ومن بعده تزوجت أختي كذلك من رجل كريم وسعدنا بزواجها وتوفيقها في حياتها‏..‏ وخلا البيت علي وعلي أمي واشتد المرض عليها‏..‏ وانتقلت إلي جوار ربها وهي راضية عني وعن أختي وتدعو لنا الله‏,‏ وغاضبة من أخي الأصغر لتقصيره معها خلال مرضها وسوء معاملته لها‏.‏

وخلت الدنيا علي ووجدتني وحيدا وقد رحلت أمي عن الحياة واستقل أخي بحياته مع زوجته وأسرته وأختي مع زوجها وأسرتها‏..‏ فتزوجت من امرأة ذات خلق ودين ومن أسرة كريمة وواصلت حياتي راضيا وأنجبت الأبناء وحققت نجاحا لا بأس به في عملي‏..‏ وتذكرت أمي دائما وهي تدعو لي بالبركة في حياتي ومالي وأسرتي‏..‏ إلي أن تعرضت ذات يوم خلال عودتي من عملي إلي حادث تصادم أدي إلي إصابتي إصابة شديدة في العمود الفقري وعجزي عن الحركة نهائيا‏,‏ وطال علاجي دون جدوي‏,‏ ووجدت نفسي وأسرتي وأبنائي في موقف عصيب‏,‏ فلقد استهلك العلاج معظم ما ادخرته من عملي وانقطعت مواردي الجديدة بتوقفي عن العمل‏..‏ وقال لي أحد الأطباء إنه من الممكن إجراء جراحة لي في العمود الفقري في الخارج تعيد إلي القدرة علي الحركة‏,‏ وساعدني علي اتخاذ إجراءات إجراء الجراحة في الخارج علي نفقة الدولة وصدر لي القرار بالفعل ولكن بمبلغ لا يكفي وحده لمواجهة تكاليف الجراحة علي أساس ان أتحمل أنا الفارق في التكاليف‏,‏ ولم أجد بين يدي المبلغ المطلوب وأظلمت الدنيا في وجهي‏..‏ وفي ظلام اليأس لمع في ذهني خاطر‏..‏ ماذا لو ساعدني شقيقي الأصغر الذي رعيته وربيته وأخرت زواجي من أجله في تدبير هذا الم
بلغ الناقص ولو علي سبيل القرض الحسن فأرده إليه علي مهل‏,‏ وبعد أن استعيد صحتي وأرجع للعمل‏,‏ وذات يوم دفعت زوجتي مقعدي المتحرك أمامها وتوجهنا إلي بيت أخي وصارحته بالموقف وطلبت منه هذا المبلغ‏,‏ ففوجئت به يرفض ذلك‏..‏ وليته قد رفض معتذرا بعدم قدرته علي تحقيق مطلبي‏..‏ فلقد رفض طلبي بقسوة وأهانني أنا وزوجتي‏,‏ وكادت زوجته تطردنا من بيتها‏,‏ فخرجنا مختنقين بالدموع‏..‏ وبالإحساس المرير بالإهانة والجحود ليس لأنه رفض مساعدتي وقد كان قادرا علي ذلك‏,‏ وإنما لأنه قد أهاننا وجرح مشاعرنا ولم يترفق بنا في الرفض‏..,‏ ورجعنا الي البيت وقد ازدادت الدنيا ظلاما وتجهما‏..‏ ولم يتوقف دمع زوجتي منذ غادرنا بيت أخي وحتي الصباح‏..,‏ وفي اليوم التالي زارتني أختي وزوجها علي غير انتظار‏,‏ وقبل أن أحكي لها أي شيء عما حدث بيني وبين شقيقي فوجئت بها تبلغني أنها وزوجها سوف يتحملان الفارق بين قرار العلاج وتكاليف الجراحة‏,‏ وبغير أن أطلب منهما شيئا فانفجرت باكيا رغما عني واحتضنت أختي وشكرتها مرارا وتكرارا‏..‏ وبكت زوجتي ولكن من الفرح هذه المرة‏..‏ وخلال فترة قصيرة كنت قد انهيت إجراءات السفر

وسافرت وأجريت لي العملية الجراحية وأتم الله نعمته علي ونجحت‏,‏ واستعدت قدرتي علي الحركة‏..‏ وكان اليوم الذي استطعت الوقوف فيه علي قدمي والسير عدة خطوات دون مساعدة من أحد يوما مشهودا وسعيدا من أيام حياتي‏..‏ ولهج لساني بشكر ربي وشكر أختي وزوجها الكريم‏..‏ وجاء موعد العودة وركبت الطائرة عائدا إلي بلدي فتوجهت من المطار إلي بيت أختي لأشكرها‏..‏ فكانت فرحتها برؤيتي سائرا علي أقدامي طاغية‏..‏ وقبلتها عدة مرات وشكرتها ورجعت إلي بيتي لأري أبنائي‏..‏ وبعد فترة قصيرة من النقاهة والاستشفاء رجعت إلي العمل مرة أخري وعملت في شركة كبري للمقاولات وبمرتب كبير‏,‏ وبدأ مستوي معيشتي يتحسن تدريجيا ولست في حاجة لأن أقول لك إنني ومنذ غادرت بيت شقيقي مهانا ومجروح الكرامة كنت قد قطعت كل صلة لي به وبزوجته وأسرته‏..‏ وانه لم يسع هو أيضا من ناحيته لأن يستعيد صلته بي أو يعتذر عما فعل أو يخفف من إحساسي بالمرارة تجاهه‏..‏ وواصلت حياتي وعملي واهتممت بزوجتي وأبنائي وحرصت كل الحرص علي صلة الرحم بيني وبين أختي الوفية البارة وزوجها الكريم وأبنائهما‏,‏ إلي أن جاء يوم وفوجئت بمن يخبرني بأن أخي الوحيد مريض وفي العناية المركزة بأحد المستشفيات وحالته خطيرة‏..‏ وانزعجت بشدة لما سمعت وهرولت إلي المستش
في‏,‏ وقد نسيت كل مافعل ولم أعد أذكر سوي صورة الصبي الصغير الذي كان يحتمي بي ونحن صغار ويرهقني بطلباته الصغيرة فألبيها له بحب وعطف علي يتمه وحرمانه‏.‏ وفي المستشفي لم أجد زوجته إلي جواره ووجدت بعض الزملاء والأصدقاء وسألت عما جري فقيل لي إنه واجه ضائقة مالية استمرت بعض الوقت فلم تحتمل زوجته التي لم تتعود علي الشقاء ذلك وأخذت ماتبقي من ماله وتركته وطلبت الطلاق ولم يحتمل هو ذلك وانهار وأصيب بنزيف في المخ وحدث ماحدث‏..‏

وظل أخي في غيبوبة كاملة إلي أن رحل من الحياة منذ أسابيع فقمت بالواجب الأخير تجاهه‏..‏ وترحمت عليه وشيعته إلي مثواه وأنا أعجب لهذه الدنيا التي لا يتعلم الإنسان دروسها أبدا إلا بعد فوات الأوان‏..‏
ولست أريد أن أدعي المثالية فأقول لك إن قلبي قد انفطر حزنا عليه‏..‏ وإنما أقول لك فقط إنني قد حزنت علي رحيله عن الحياة ويتم أبنائه حزنا مشوبا بالمرارة تجاهه‏..‏ وتساءلت‏:‏ لماذا لم يكن الأخ البار لي كما كنت الأخ البار له‏..‏ ولماذا لم يحرص علي إرضاء أمه التي تحملت الشقاء من أجل أبنائها وماتت وهي غضبي عليه‏..‏ وماذا أخذ معه من متاع الدنيا وقد قطع رحمه وأهان أخاه الأكبر الذي رعاه من بعد أبيه‏..‏ ألا تثير هذه الخواطر التساؤلات الحزينة حقا‏,‏ وهل هناك في الحياة مايستحق ان يغضب الإنسان أمه من أجله أو يقطع رحمه ويجحد أخاه أو أباه؟‏!‏

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
وأنا أيضا لن أدعي المثالية فألومك علي هذه التساؤلات الحزينة أو استنكر أن يخالط حزنك علي أخيك الراحل بعض المرارة التي مازالت عالقة بنفسك تجاهه‏..,‏ فالحق أن المرء قد يحمل أحيانا لبعض الراحلين عنه مثل هذه المشاعر المتضاربة فيحزن لرحيلهم عن الحياة ويأسي في نفس الوقت لأنهم لم ينتهزوا فرصة العمر لإصلاح أخطائهم في حقه والتكفير عن جنايتهم عليه‏,‏ لكي يكون حزنه عليهم خالصا دون شوائب‏,‏ ولا عجب في ذلك لأن الحزن إحساس إنساني صادق والمرارة أيضا إحساس إنساني صادق وقد يختلطان في بعض الأحيان لأن أحزاننا علي الراحلين قد لا تحجب عنا لبعض الوقت مواقفهم السابقة منا‏..‏ غير أن من الأكرم لنا دائما هو ان نحاصر هذه الخواطر الحزينة في داخلنا‏..‏ وألا ينطق بها لساننا بقدر الإمكان عملا بهدي من أدبه ربه فأحسن تأديبه الذي هدانا صلوات الله وسلامه عليه إلي ان نذكر محاسن موتانا‏,‏ ونتجاوز عن سيئاتهم بعد أن أصبحوا بين يدي من لا يظلم عنده أحد‏,‏ فان غلبتنا خواطرنا ونطق بها لساننا فليكن ذلك في مجال الأسي علي من لم يتركوا الذنوب حتي تركتهم الذنوب علي حد تعبير أحد الأئمة الصوفيين‏..,‏ وفي مجال طلب الرحمة لمن ظلموا أنفسهم قبل أن يظلمونا محاذرين غاية الحذر من أن نكون ممن عناهم الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه في قوله الشريف‏:‏ لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك وساعين جهد السعي لأن نكون من الذين إذا رضوا لم يدخلهم الرضا في باطل وإذا غضبوا لم يخرجهم غضبهم عن حق‏,‏ وإذا قدروا عفوا‏.‏

ولست أشك في أنك قد استهدفت برسالتك هذه التنفير من سوء العاقبة لمن يستسلم للأثرة والأنانية فيعق أمه ويجحد أخاه وأهله ويقطع رحمه‏,‏ وتبشير من يرعون حقوق ربهم ولا ينكصون عن أداء واجبهم الإنساني والعائلي تجاه من يعتمدون في حياتهم عليهم‏,‏ بحسن المآل‏,‏ حتي ولو اعترضت حياتهم ذات يوم أعتي العقبات‏.‏
كما أنني أشعر أيضا بأن النصيب الأوفي من جناية شقيقك الأصغر عليك لم يتمثل في رفضه مد يد العون إليك حين احتجت إليه في اصعب الظروف إنما تمثل قبل كل شيء في أنه قد ردك بغلظة وعنف حين طلبت مساعدته‏,‏ ولم يتجمل حتي في النكوص عن القيام بالواجب العائلي تجاهك‏.‏ ولم يترفق بك فيردك ردا كريما هينا معتذرا لك بضيق ذات يده أو بعجزه عن توفير المبلغ المطلوب‏..‏ حتي ولو لم تقتنع بذلك في حينه‏..‏

إذ أنك كنت ربما قد غضبت منه وقتها لاعتقادك بقدرته علي المساعدة‏..‏ لكن غضبك لم يكن ليصبح أبدا جرحا غائرا في النفس ولا طعنة دامية في القلب والكرامة‏..‏ كما حدث حين قرن النكوص عن مساعدتك بإهانتك‏..‏ حتي كادت زوجته ـ سامحها الله ـ تطردك أنت وزوجتك من بيتها‏.‏ غير أننا كثيرا ما لا نلتقي في الحياة إلا بأنفسنا‏..‏
وكثيرا ماتحكم علينا محكمة الأقدار بأن نتجرع نفس الكأس المريرة التي ارتضيناها لغيرنا‏.‏

ولو كان شقيقك الراحل قد أنصف نفسه لأدرك حين اجترأت زوجته علي أخيه الأكبر وكادت تطرده من بيتها هو وزوجته‏..‏ وشجعته علي أن يقبض يده عنه حين اشتدت حاجته إلي عونه‏,‏ إن مثل هذه الرفيقة قد تتخلي عنه هو أيضا في محنته كما تخلي عن شقيقه الأكبر في شدته‏..‏ ولم تكن لتصبر علي تغير أحواله كما لم يصبر هو علي نفسه يوما ما وهو صبي صغير أو شاب أو زوج وأب ورب أسرة‏,‏ فرأي نفسه دائما فوق الجميع واحتياجاته قبل احتياجات الآخرين ولو كانوا أقرب الناس إليه‏.‏
فأي عجب إذن في أن تضيق زوجته بحياتها معه حين تغيرت أحواله وتنصرف عنه‏,‏ وقد انصرف هو من قبل عن أمه في شدة مرضها وعن أخيه في شدة محنته‏,‏وأي عجب في أن تكون الأخت المضحية المقدرة للمسئولية العائلية منذ صغرها والمتنازلة عن بعض احتياجاتها مراعاة لظروف الأسرة الصعبة هي المبادرة بمد يد العون لشقيقها الأكبر بغير أن يطلب منها ذلك‏.‏

ألم يكن ذلك اتساقا طبيعيا مع شخصية كل منهما وقيمه الأخلاقية والدينية ورؤيته للحياة
وألا نتعلم الدروس أبدا‏..‏ ونحن مازلنا قادرين علي إصلاح الأخطاء والتكفير عن الجنايات ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق