04-05-2001
حاولت الكتابة إليك مرات عديدة.. وفي كل مرة كنت أتردد وأحجم عن أن أروي لك قصتي.. فأنا سيدة متوسطة العمر.. تزوجت في شبابي لمدة عام واحد, ذقت خلاله كل ألوان العذاب من رجل لا ضمير له ومريض بالبخل الشديد والشك وحب الذات, فحول أيامي معه إلي جحيم بالرغم من أنني كنت نعم الزوجة المخلصة له والمتفانية في خدمته, ونظرا لأنني لست من أنصار نظرية ظل الرجل ولا ظل الحائط فإنني لم أحتمل طباعه وطلبت منه الطلاق وتنازلت له عن كل حقوقي وكل شئ مقابل النجاة بنفسي وطفلي الوحيد, وغادرت بيت الزوجية عائدة إلي بيت أبي وطفلي الوحيد لايزيد عمره علي شهر واحد, وقررت ألا أخوض تجربة الزواج مرة أخري, وأن أعيش لابني فقط وأعطيه كل حناني وحبي واهتمامي.. وبدأت أبحث عن عمل لأعوله به, لأنني من أسرة بسيطة, وبعد أن رفض والده أن يتحمل نفقاته بالرغم من قدرته المالية, نكاية في, ولم ننازعه قضائيا ابتعادا عن المشاكل, وكنت الابنة الوحيدة لأبي وأمي فاعتبرا طفلي ابنا ثانيا لهما.
وساعدني بعض المعارف في الحصول علي عمل, وبدأته فكانت ساعاته تستغرق النهار كله من الصباح حتي المساء.. وتحملت ذلك بسعادة وكنت أترك طفلي في رعاية أمي.. وأحاول بعد عودتي من العمل مرهقة أن أعوضه بحناني عن غيابي عنه.
ومضت الأيام وأنا سعيدة بالرغم مما ألاقيه من عناء الحياة, وراح الجميع من حولي يلحون علي في الزواج مرة أخري لأنني شابة جميلة وقال لي بعضهم إن ابني سيكبر ذات يوم وسينصرف لحياته الخاصة المستقلة ولن يشكرني حينذاك علي تضحيتي من أجله بعدم الزواج فأجد نفسي وحيدة تماما, فكان ردي عليهم دائما هو أنني مادمت سأربيه علي المبادئ والقيم والأخلاق الحميدة فلسوف يشب إنسانا عطوفا حافظا للجميل بإذن الله.
ومضت بنا الأيام والتحق ابني بالمدرسة, وأصبح بالنسبة لي هو كل الحياة, فكنا نخرج معا كل أسبوع إلي أجمل الأماكن, وأحاول تعويضه عن غياب الأب بالحب والحنان والهدايا والملابس الغالية, وأحرم نفسي من متطلباتي الخاصة لأدخر له مصاريف المصيف الذي يحرص عليه ليكون مع أطفال العائلة, وحين بلغ الشهادة الإعدادية مرضت أمي التي كانت ترعاه في غيابي ولازمت الفراش فاضطررت للانقطاع عن العمل لكي أرعاها.. ولم يمهلها القدر لتسعد بنجاح حفيدها الوحيد في الشهادة الاعدادية فلقيت وجه ربها قبل الامتحان بأيام وشعرت بالحزن العميق عليها رحمها الله, وأصبت بالاكتئاب لمدة سنة كاملة. وشعرت بالوحدة الشديدة بالرغم من وجود أبي وابني, ورجعت للعمل مرة أخري, وأصبحت أرجع في المساء لأقوم بشئون البيت من طهي ونظافة وغسيل إلي ما بعد منتصف الليل.
ومضت الأعوام ثقيلة وأنا كالطاحونة الدائرة التي لاتستريح أبدا, والابن يتقدم في مراحل العمر وطلباته تتزايد.. وإرهاقه لي بها يتزايد أيضا مع سن المراهقة, ثم بلغ سنة الدبلوم في مدرسته المتوسطة, فبدأ يشعر ــ لدهشتي ــ بالحقد علي لاعتقاده أنني السبب في حرمانه من أبيه, مع أن هذا الأب كان يتهرب منه حين يتصل به أو يحاول أن يزوره خوفا من أن يطلب منه نقودا, ويدع زوجته لترد عليه دونه, وكم مضت أعياد ومناسبات مباركة كشهر رمضان دون أن يعطيه قرشا واحدا أو يحاول أن يزوره.
والآن وبعد كل هذا العطاء لابني والتضحية من أجله بفرصتي في الزواج, يلومني هذا الابن ويحقد علي ويعتبرني المسئولة عن عدم وجود أب له.. ويتهمني بعدم الصبر علي حياتي مع أبيه وحرمانه من حقه في أن تكون له أسرة طبيعية من أب وأم وبيت وأخوة.. وكأنني المسئولة وحدي عن كل شرور الدنيا..
لقد أنهي دراسته المتوسطة.. وعمل.. ولايسهم بقرش واحد في مصروف الأسرة, في حين تركت أنا عملي وأنا في أشد الحاجة لمرتبي منه لأني شعرت بأنه محتاج إلي وجودي بجواره في هذه السن الحرجة, واكتفيت بالاعتماد علي معاش أبي.. فإذا بابني الذي كرست له حياتي, يتحول إلي قنبلة موقوتة تنفجر في لأتفه الأسباب, ولا يمضي يوم دون أن تحدث مشكلة بيني وبينه فيحترق دمي بسبب أسلوبه الاستفزازي في التعامل معي, وأصبح لايتكلم معي علي الإطلاق ولا أعرف عنه أي شئ, وكل أسراره الشخصية مع أصدقائه دوني, ويتطاول علي باللسان واليد أكثر من مرة, حتي كاد يكسر ذراعي ذات مرة حين عاتبته علي تأخره خارج البيت في إحدي الليالي دون أن يطمئنني عليه بالتليفون, كما أنه يرفع يديه إلي السماء داعيا الله علي بالمرض, ولايقول لي في عيد الأم كل سنة وانت طيبة ولايخرج معي منذ كان عمره12 عاما مع أن مظهري محترم وأنيق ويتهمني بأنني لا أفهم شيئا, فإذا عاتبته علي هذه المعاملة السيئة بعد كل ما قدمته له علي مدي22 عاما أمضيتها دون زواج من أجله, أجابني باستهتار: وماذا قدمت لي؟ طلبت الطلاق من أبي بعد سنة واحدة من الزواج؟ وطلقت منه وأنا طفل مولود عمري شهر واحد؟ أهذا هو ما تفخرين بأنك قد قدمته لي؟
فهل يرضيك هذا ياسيدي؟
لقد عشت له22 عاما ضاع خلالها شبابي, في حين تزوج أبوه وأنجب وعاش حياته, فهل يكون هذا هو جائزة السماء لي علي صبري وحرماني ورعايتي لابني طوال هذه السنوات؟
إني لم أفعل ما يغضب أبي وأمي وكنت لهما نعم الابنة البارة بهما, فكيف لايكون ابني بالنسبة لي كما كنت لهما.
لقد أصبح عمري الآن52 عاما وأنا في كامل صحتي وحيويتي وأشعر بالحزن والوحدة والفراغ القاتل, وكنت أتمني أن يملأ ابني هذا الفراغ بحبه لي وحنانه, لكني علي العكس من ذلك أشعر بأنه يكرهني ويتمني لي أسوأ الأمنيات, فماذا نفعل نحن الأمهات مع أبنائنا في مثل هذه الظروف التي واجهتها بعد طلاقي؟
إذا تزوجنا من غير أبيهم بعد فشل الزواج الأول أصيبوا بالعقد النفسية, وإذا كرسنا حياتنا لهم دون زواج أصيبوا بعقد الدنيا كلها.. مع أنني كنت ومازلت إنسانة ملتزمة في سلوكي وتصرفاتي ومحترمة في مظهري وهيئتي العامة, وحافظت علي سمعتي لكي يفخر بي ابني بين أقرانه.
لقد شعرت الآن فقط بافتقادي وجود رجل إلي جواري يعوضني عما حرمت منه, وأشعر بالقهر والندم لعدم زواجي وأنا شابة صغيرة.. ولرفضي مبدأ الزواج بإصرار حتي انصرف عني الراغبون, وانصح كل سيدة يغيب عنها زوجها بالطلاق أو الموت أن تتزوج عند ظهور الرجل المناسب لها, وأرجو في النهاية أن تنصحني بما أفعل مع ابني هذا.. وكيف أتعامل معه لأنني خائفة علي مصيري ومن أيامي المقبلة, خاصة أن أبي رجل كبير في السن ولايريد التدخل في مشاكلي مع ابني.. ولا يقدر علي ذلك أيضا.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
لا أحد يقبل بمثل هذه المعاملة القاسية من ابن لأمه بغض النظر عن حجم عطائها له أو نوعيته.. بل ولا أحد يقبل بها أيضا حتي ولو لم يكن لهذه الأم أي فضل علي ابنها سوي أن حملته وهنا علي وهن, ثم توقف عطاؤها له عند ذلك الحد, فالابن مطالب بالرفق بأبويه في كل الظروف والأحوال, وإهداره لحق أحدهما عليه في حسن الرعاية والترفق به إثم عظيم لا يغفره الله سبحانه وتعالي لمن لايندم عليه ندما صادقا ويستغفر ربه منه آناء الليل وأطراف النهار, ويستدرك ما فاته من حسن الرعاية لأبويه قبل أن يفوت الأوان ويتعذر عليه تصحيح الأخطاء وتعويض من لايضيع حقهم عليه في الدنيا ولا في الآخرة, فلقد جاء في الأثر أن من الذنوب ما يعجل الله العقاب عليه لمرتكبها في الدنيا, ومنها ما يؤجل سبحانه العقاب عليه إلي الآخرة إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل العقاب عليه لمرتكبه في الدنيا مع ما يدخره له من عقاب في الآخرة, فليستزد ابنك إذن من عقاب الدنيا والآخرة كما يشاء أو كما يري نفسه جديرا به, فعلي نفسه إثم ما يفعل إن شاء أكثر منه وإن شاء قلل أو امتنع, فلقد تذكرت قصة إمام الزهد حسن البصري حين شاهد أميرا يضرب رجلا بالسوط فلم يستعطفه ليرحمه.. أو يترفق به وإنما قال له: والله ماتضرب إلا نفسك, فإن شئت فكثر وإن شئت فقلل!
والحق هو أن رسالتك تكشف لنا عن جانب آخر قد لا يعرفه البعض لما تعده بعض الأمهات تضحية كبري من جانبهن للأبناء تستوجب منهم دائما أن يقدروها لهن ويعرفوا لهن قدرها..
ومع أن هذه التضحية ليست واجبا مفروضا علي كل أم تجاه أبنائها, وإنما هي سخاء في الفضل يشكر من يقدمه ولا يلام تاركه ولا ينتقص من قدره إذا امتنع عنه, إلا أنه يغيب عن بعض الأمهات إدراك الفارق الجوهري بين نوعين من هذه التضحية, يكون تقدير الأبناء لأحدهما خالصا وخاليا من كل شائبة, ويكون تقديرهم للثاني مركبا أو مختلطا ببعض الشوائب النفسية لديهم!
فالأبناء يفرقون بين تضحية الأم بعدم الزواج من أجلهم بعد رحيل الأب عن الحياة, وبين تضحية هذه الأم بنفسها من أجلهم بتقديم نفس العطاء لهم إذا كان الحرمان من الأب قد حدث بسبب إصرار الأم علي طلب الطلاق منه لأسباب رأتها هي كافية لذلك.. ولايراها الأبناء عادة كافية لحرمانهم من حقهم في الحياة المستقرة بين أبوين يعيشان تحت سقف واحد.
فإذا كان هذا الانفصال قد تم بناء علي رغبة الأم وليس رغما عن إرادتها, فإن تقدير الابن الذي تكرس حياتها له وترفض الزواج من أجله, لهذه التضحية ولعطاء الأم من أجله قد لايعفيها في بعض الأحيان من لومه الباطني لها علي حرمانه من الحياة العائلية الطبيعية. فكأنما يدور الصراع داخله بين حبه لهذه الأم وتقديره لعطائها له وبين غضبه منها واتهامه لها بالمسئولية عن هذا الحرمان.
وكلما تقدم في مدارج العمر وازدادت مطالبه من الحياة وازدادت صعوبات الطريق, اشتد الصراع داخله بين هذين النداءين.. نداء الحب والعرفان للأم.. ونداء اللوم لها والاتهام بالمسئولية عن متاعبه, فكأنما يقول لنفسه إن أمه هذه سيدة عظيمة بالفعل لرفضها مغريات الزواج بعد أبيه من أجله.. وتستحق من أجل ذلك كل الحب والاحترام والوفاء.. ولكن ما ضرها لو كانت قد أتمت الفضل وصبرت علي حياتها مع أبي لكي أحظي مثل غيري بحياة عائلية مستقرة ومحترمة وأتمتع بحماية الأب ورعاية الأم في الوقت نفسه؟
فإذا كان هذا الانفصال قد وقع بعد فترة قصيرة من الزواج فإن قصر عمره يكون دليلا لدي الابن علي أن أمه لم تبذل كل ما في وسعها كلا تحرمه من الحياة المستقرة... ولم تصبر الصبر الكافي الذي يحق لها بعده أن تقول إنها قد استفذت كل الحيل من أجل الإصلاح. حتي لم يعد في القوس منزع, فيشفع لها ذلك عند الابن في تخليص تقديره لتضحيتها من أي شبهة اتهام لها بالأنانية وتغليب اعتباراتها الذاتية علي مصلحته الحقيقية.. إلخ.
وهذا هو منطلق بعض الأبناء الذين لايغفرون في أعماقهم لأمهاتهم أو آبائهم حرمانهم من حقهم المشروع في الحياة العائلية مهما يكن شقاء الأبوين بها.
وبغض النظر عن عدالة هذا المنطلق أو تجنيه فإننا لابد أن نتفهمه ونضعه في حساباتنا عند اتخاذ القرارات المصيرية في حياتنا, وأنت من حقك أن تحزني بالفعل ياسيدتي لقسوة هذا الابن الضال معك, وأن تتساءلي عن الجائزة التي كان ينبغي له أن يقابل بها تضحيتك من أجله.. غير إنني أقول لك في النهاية إن جوائزنا عن عطائنا لإبنائنا إن هي ضاعت لديهم فإنها لاتضيع عند من يملك حقا منح الجوائز سبحانه وتعالي, فإن كنا نسعد بالفعل بكل لفتة عرفان أو حب أو حنان تأتينا من جانب الأبناء وتعكس لنا تقديرهم لعطائنا لهم, فلقد أعطيناهم من الأصل ونحن لانفكر في عائد هذا العطاء.. ولا في موعد سدادهم لديوننا لديهم, ولعلنا كنا نؤدي إليهم ما وهبه لنا آباؤنا وأمهاتنا من عطاء, لكي تتواصل الأجيال وتطرد الحياة, فإن كانوا ممن لايذهب العرف بينهم فلقد اختاروا لأنفسهم السعادة والأمان في الدارين, فإن ضنوا علينا بالعرفان فيكفينا أننا قد أدينا واجبنا الديني والإنساني تجاههم ولم نكن من الظالمين.
أما المكافأة لنا عن العطاء لهم.. فلقد قبضنا بالفعل بعضها حين استمتعنا بالعطاء لهؤلاء الأبناء وأرضينا ضمائرنا ورعينا حدود الله فيهم.. وراقبنا هؤلاء الأبناء وهم ينمون أمامنا, ويرضعون لبان حبنا ويتدثرون بدفء عطفنا, فكان الجزء المعجل لنا من المكافأة هو هذا الفرح المقدس بالعطاء للأعزاء..
فنحن ممن قال عنهم الأديب والشاعر جبران خليل جبران, إن بعض الناس يعطون بفرح فيكون فرحهم هذا هو مكافآتهم علي عطائهم.
وليس من عطاء يرضي فاعله عن نفسه سواء عرف له متلقيه فضله أم لم يعرفه كعطاء الآباء والأمهات للأبناء, وعطاء الابن البار لأبويه, ولهذا فإن نصيحتي لك في النهاية هي ألا تسمحي لهذا الابن بالاجتراء عليك مرة أخري مهما تكن الظروف والأحوال.. وبأن تتعاملي معه بتحفظ يشعره بعدم الرضا عنه إلي أن يرجع إلي رشده ويعرف لك قدرك, علي أن تسلمي في الوقت نفسه بأنه قد شب عن الطوق وأصبحت له حياة مستقلة وعالم آخر وفلتتقبلي هذه الحقيقة بروح واقعية لتقل فرص الاحتكاك والملاحاة بينكما.. وتستقيم علاقتكما وتتخذ شكلها السليم من جديد.
مدونة بريد الجمعة مدونة إجتماعية ترصد أحوال الشارع المصرى والوطن العربى مدونة تتناول قصص, ومشكلات حقيقية للوطن العربى مثل: (ظاهرة العنوسة, الخيانة الزوجية, الخلافات الزوجية, التفكك الأسرى, الطلاق وآثاره السلبية على الأبناء, الحب من طرف واحد, مرض التوحد, الإبتلاءات من فقر ومرض وكيفية مواجهة الإنسان لها) ثم يعرض الموقع فى أخر كل موضوع رأى المحرر فى التغلب على هذه المحن
السبت، ١ يناير ٢٠٠٠
القنبلة الموقوتة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق