السبت، ١ يناير ٢٠٠٠

الأيام القليلة

11-05-2001
أنا زوجة عشت حياة هادئة‏,‏ لم تخل ككل حياة من المشاكل العادية‏..‏ وقد فقدت في بداية زواجي طفلي الأول وفرحة عمري وأول جنين يتشكل في أحشائي‏.‏ وحزنت عليه حزنا عميقا‏..‏ ثم سلمت بإرادة الله ومضت حياتي في طريقها المرسوم‏..‏ وحملت بعد ذلك وأنجبت طفلة‏,‏ ومرضت عقب ولادتها مباشرة بالسكر‏,‏ وكان تفسير الأطباء لمرضي المبكر به هو شدة الحزن علي ابني‏,‏ إلا أن فرحتي بطفلتي طغت علي مرضي فأحببتها بجماع نفسي وكرست وقتي لها‏..‏ وأشفقت عليها من وحدتها في الحياة بلا أخ لها ولا أخت‏.‏ وشغلني مصيرها وماسيئول إليه أمرها حين نرحل أنا ووالدها عن الحياة ذات يوم‏,‏ وكان زوجي يهديء من خواطري دائما ويقول لي إننا سوف نتركها حين يأتي الأجل في رعاية الله‏,.‏ وأننا إذا أحسنا تربيتها فلا خوف عليها إن شاء الله‏.‏
وهكذا مرت الأعوام إلي أن بلغت ابنتي الثامنة من عمرها‏,‏ ويئست أنا تماما بعد عدة تجارب فاشلة من إنجاب أخت أو أخ لها‏..,‏ ثم فوجئت ذات يوم بأعراض الحمل تظهر علي وبالأطباء يؤكدون لي نجاحه واستمراره هذه المرة‏..‏ وبالفعل مضت شهوره بسلام وأنجبت طفلة ثانية فرحت لها فرحة طاغية وشعرت معها بشعور مختلف تماما عن إحساسي بابنتي الأولي‏,‏ وراقبت الطفلة الوليدة وهي تنمو ببطء حتي احتفلنا بعيد ميلادها الأول ونحن في قمة السعادة‏..‏ وبعد عيد ميلادها بأيام بدأت الطفلة تعاني أعراضا مرضية لم يستطع كبار الأطباء الذين عرضناها عليهم معرفة سرها‏,‏ وتكررت محاولاتي العلاج بلا جدوي‏,‏ والطفلة تتألم‏..‏ وتذبل إلي أن نصحنا أحد الأطباء بالسعي لعلاجها في الخارج إذا كنا قادرين علي ذلك‏,‏ ودبرنا تكاليف السفر إلي إنجلترا وسافرنا بابنتي‏..‏ وصدمني الأطباء هناك صدمة قاسية بمصارحتي بحقيقة مرضها‏,‏ واضطر زوجي بعد فترة من الوقت للعودة لبلدنا‏,‏ وبقيت أنا هناك‏8‏ أشهر قضيت بعضها في المستشفي مع ابنتي للعلاج‏,‏ والبعض الآخر خارجه للمتابعة وتماسكت وأنا أري ابنتي تذبل بين يدي من قسوة العلاج عليها‏.‏ لكي استطيع رعايتها‏.‏

وبعد انتهاء برنامج العلاج الرهيب بشرني الطبيب المعالج بأنني استطيع العودة مع ابنتي إلي بلدي بعد أن شفيت من المرض علي أن أرجع كل شهر مرة للمتابعة‏,‏ وحمدت الله كثيرا علي ذلك وعدت إلي بيتي وزوجي وابنتي الكبري‏.‏ وخفق قلبي بالأمل وأنا أري دماء العافية ترجع إلي وجه الطفلة الصغيرة ومضي الشهر سريعا ورجعت للمتابعة‏..‏ وطمأنني الطبيب علي حالتها‏,‏ وبدأت أشعر بأن هذه المحنة سوف تزول نهائيا من حياتنا بإذن الله‏..‏ لكن الآلام عاودت طفلتي الحبيبة بعد اسبوعين فقط من العودة من زيارة الاطمئنان والبشري بالشفاء‏..‏ وبدأنا رحلة العذاب من جديد ورجعت إلي الغربة‏..‏ والخوف‏..‏ والتعلق بالأمل الواهي‏..‏ وأصبح اليوم الواحد يمر علي وكأنه سنة أو أكثر‏,‏ والأطباء يهزون رءوسهم ويقولون لي في بساطة إن الحالة قد أصبحت ميئوسا‏,‏ منها وتمسكت بالرغم من ذلك بالأمل إلي أن جاء يوم ونصحني الطبيب بحزم بأن أرجع بطفلتي إلي بلدي لتعيش أيامها بين أهلها ومن يحبونها وانهمرت الدموع من عيني كالمطر‏..‏ وظللت طوال رحلة الطائرة أدعو الله سرا وعلانية أن ينقذ ابنتي ويحفظها لي‏,‏ وبعد عودتي من السفر بيومين انطفأت الشمعة الصغيرة التي كانت تنير حياتي بالأمل والحب والسعادة‏,‏ وأظلمت الدنيا من حولي وأصبحت أرفض الحياة وكل شيء حولي‏,‏ وأعيش علي ذكري ابنتي وأتذكر الأيام القليلة السعيدة في حياتها‏,‏ وبعد أن كنت أحب الصحبة أصبحت أريد العزلة والبعد عن الجميع‏,‏ وبعد أن كان يوم الجمعة يوما مقدسا في حياتي العائلية لابد أن نخرج فيه أنا وزوجي والبنتان لنتناول الغداء في الخارج‏,‏ أصبح موعد زيارتي لابنتي في مثواها الأخير ومن أصعب أيام حياتي‏.‏

وتحيرني أشياء أريد إجابات شافية لها‏..‏ هل كانت ابنتي التي لم تكمل الثالثة من عمرها تشعر بقرب النهاية وتريدني أن أشبع منها قبل الفراق الأبدي ؟‏..‏ هل يري الأطفال ملاك الموت وهو يقترب منهم ؟ لقد كانت شديدة الالتصاق بي في أيامها الأخيرة‏..‏ وتريد أن أكون معها كل الوقت دون أي إنسان آخر حتي والدها أو أختها‏..‏ وتنظر إلي نظرات إشفاق غريبة كأنها تشفق علي مما سأعانيه بعد رحيلها‏..‏ فما معني هذه العلامات ؟ وماقيمة الحياة حين نفقد أغلي مافيها ؟
إنني لا أعرف ماذا يمكن أن تقدمه لي في هذه المحنة‏,‏ لكني أرجوك ألا تنصحني بالصبر لأنني كرهت هذه الكلمة من كثرة ماسمعتها من الناصحين ومن رجال الدين الذين أحضرهم لي زوجي‏..‏ وشكرا لك‏.‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏
لم أكرر عليك ماسبق أن قيل لك مرارا وتكرارا حتي ضقت به‏,‏ لكني سأقول لك فقط أنه مهما تكن مرارة الأحزان التي تكتوي بها جوانحنا فإننا مطالبون بأن نعين أنفسنا علي الصمود لها واجتياز فتراتها العصيبة بأقل قدر ممكن من الخسائر النفسية والصحية‏..‏ ذلك أن مضاعفة البلاء لا تفيد أحدا‏..‏ وإنما تضر بنا وبمن حولنا ممن يعتمدون في حياتهم علينا‏..‏ ومن واجبنا دائما تجاه هؤلاء الأعزاء وتجاه أنفسنا ألا ننهزم أمام آلام الحياة القاسية‏..‏ وأن نتلمس كل السبل لترويض الأحزان‏..‏ ومصادقتها‏..‏ والتواصل مع الحياة ونحن نطوي الصدور علي بصماتها‏.‏

لقد كان من تقاليد البحارة حين يلتقون بحوت كبير في البحر أن يلقوا إليه بقارب صغير فارغ لينشغل بمهاجمته عن مهاجمة السفينة الأصلية حتي لا يغرقها‏..‏ ثم يحاولون ـ خلال انشغاله بملاطمة القارب الفارغ ـ صيده أو النجاة بسفينتهم بعيدا عنه‏..‏ وكذلك ينبغي أن نفعل نحن أيضا مع حوت أحزاننا وهمومنا لكيلا يلتهمنا ويقضي علينا‏,‏ أن نشغله عنا‏..‏ بالاندماج في العمل والحياة الاجتماعية والعلاقات العائلية والمجاملات الإنسانية ووسائل الترويح المشروعة عن النفس‏..‏ وبالتفكير في المستقبل‏..‏ والعمل من أجله‏..‏ ونتذكر حقوق الأعزاء علينا وعمق احتياجهم لنا وواجباتنا تجاههم وبالاهتمام بالأشياء الصغيرة في الحياة‏,‏ التي تصرف أذهاننا ولو للحظات عن التفكير في أحزاننا‏,‏ فالطبيعة ضد الفراغ‏..‏ وخلو عقل الإنسان مما يشغله من الأمور الإيجابية ولو للحظات لا يعني إلا تسلل الهموم والأحزان إليه‏,‏ والفارق بين من يعين نفسه علي أحزانه‏..‏ ومن يعين أحزانه عليه هو الفارق بين من يهلع لقضاء لا راد له‏,‏ ويظل مقيما علي هذا الهلع بعد فترة الصدمة الأولي وإلي ما لا نهاية‏..‏ وبين من يتصبر ويتجلد أمام القضاء حتي ولو كان قد انفطر قلبه من الحزن الصادق في البداية فيصبح كمن قال عنه أمير الشعراء أحمد شوقي‏:‏
وصابر تلهج الدنيا بنكبته
تخاله من جميل الصبر مانكبا
ولأنك لا تريدين مني أن أنصحك بالصبر‏..‏ فلن أفعل‏..‏ وإنما سأرجو لك الله سبحانه وتعالي أن يخفف عنك أحزانك ويعينك عليها‏..‏ ويخرجك من دائرتها الخانقة إلي الرحاب الواسعة من حولك بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق