07-09-2001
هل تذكر رسالة البوح الجميل للسيدة التي ابتليت بالمرض اللعين فلم يفسد عليها صفاء قلبها.. وإنما زادها إيمانا بربها ورضا بقضائه.. وخلت نفسها من المرارة حتي راحت تعدد نعم الله الكثيرة عليها ؟ وهل تذكر ماقلته لها في تعليقك علي رسالتها من أن النفس الجميلة تخلو دائما من المرارات مهما تكن قسوة الحياة علي صاحبها ؟, لقد دفعتني هذه العبارة الأخيرة لأن أروي لك قصتي وأزيح عن صدري بعض همومها.. فأنا سيدة في الرابعة والثلاثين من عمري, نشأت في أسرة بسيطة بين أب عامل وأم ربة بيت غير متعلمة و7 أخوة من البنين والبنات, وكنا نعيش جميعنا في غرفتين ببدروم بيت متهالك, ويشقي أبي لكي يوفر لنا طعام يومنا.. وتصنع أمي المعجزات لكي تستر أجسادنا فلا نخرج إلي الطريق عراة أو مهلهلي الثياب.. وبسبب انشغال أبي بكفاحه في الحياة كان يغادر البيت في الصباح فلا يرجع إلا في منتصف الليل منهكا فلا نكاد نراه أو يرانا.. وقد وهبني الله منذ الصغر جمالا لافتا للنظر.. فكنت أجمل شقيقاتي, وشعرت منذ الطفولة بنفسي وتميزي عليهن وعلي بنات الجيران, وبدلا من أن أتقبل حياتي وأندمج معها كما يفعل أخوتي.. نشأت كارهة لحياتي وفقر أسرتي ومسكننا الحقير في البدروم.. وحاقدة علي سكان الأدوار العليا الذين ينظرون إلينا نظرة متعالية.. وتماديت في سخطي علي حياتي حتي خيل إلي في بعض الأوقات أنني أكره أبي.. وأكره مسحة المسكنة والاستلام البادية علي وجهه.. وكثيرا ماحاسبته في خيالي عن فقره وعن إنجابه لكل هذا العدد من الأبناء وهو لا يستطيع توفير الحياة الكريمة لهم.. ولم تنج أمي كذلك من سخطي عليها لزواجها من أبي واستجابتها له في الإنجاب بكثرة.. وكثيرا ماانفجرت فيها إذا رأيتها تتطوع لخدمة إحدي سيدات العمارة أو مساعدتها في أعمال المنزل, كما كنت أرفض دائما أن أذوق أي طعام تهديه لها إحدي هؤلاء السيدات في المناسبات الدينية مهما كنت جائعة.. في حين كان أخوتي يتصرفون ببساطة ويقبلون علي التهامه.. وشيئا فشيئا بدأت أشعر بأن أمي تتهيبني وتتجنب الاحتكاك بي, وبدأت ألاحظ كذلك أنها تخفي عني قيامها بمساعدة سيدات العمارة في أعمال البيت من حين لآخر مقابل أجر.. كما تخفي عني مايقدمنه لها من ملابس أبنائهن التي توزعها علي أخوتي دوني.. وتقتطع من رزق أسرتي ماتشتري به لي الملابس الجديدة فأسعد بذلك مهما تكن رخيصة الثمن.. كما بدأت أمي تنظر إلي في صمت في بعض الأحيان وت
قول لي إنها تشعر بالخوف علي أكثر من خوفها علي كل أخوتي.. لأن نفسي كبيرة.. ومتمردة وسوف يعرضني ذلك لمشاكل كثيرة في حياتي.., ولم يغير نصحها لي بالتواضع والرضا بحياتي شيئا, وكان الشيء الوحيد الذي يخفف من إشفاق أمي علي هو أنني كنت وعلي عكس كل أخوتي أنجح في دراستي كل سنة بلا تعثر.. وقد زادني سخطي علي حياتي إصرارا علي ألا أفشل في الدراسة.. وحين بلغت سن الصبا بدأ تهافت الشبان علي.. وكثرت معاكساتهم لي.. بل ومعاكسات بعض الرجال أيضا من الجيران.., وراح أكثر من واحد يحاول الاقتراب مني ويخطب ودي.. فكان رد فعلي علي ذلك دائما في غاية الشراسة, فألزمت كل فتي حده.. وجعلته يتردد ألف مرة قبل أن يفكر في مغازلتي, وأردت بذلك أن أقول لمن أغراهم فقري بالتحرش بي, إنني لست صيدا سهلا لأحد مهما تكن ظروفي..
وبلغت مرحلة الثانوية العامة.. واشتدت حاجتي إلي نفقات إضافية للدروس الخصوصية.. ولم يستطع أبي أن يقدم لي سوي القليل, فاعتمدت علي مجموعات التقوية.. والفصول الملحقة بالمساجد, ونجحت في الامتحان ولكن بمجموع ضعيف لا يؤهلني إلا للالتحاق بمعهد فوق المتوسط.., وسعد أبي وأمي بنجاحي, لكني تلقيت الخبر بحزن شديد.. ورفضت نصيحتهما لي بمراعاة الحال والإلتحاق بأي معهد.. وأصررت علي إعادة الثانوية العامة لتحسين مجموعي وفشلت كل جهودهما لإقناعي بالعدول عن ذلك, ولم يستجيبا لي إلا بعد أن هددتهما بالهرب من البيت والعمل في أي مكان لمواصلة الدراسة.. وكان أبي دائم الشكوي من عنجهيتي برغم الظروف القاسية, لتاجر للبويات والحدايد كان يساعده في بعض مواسم العمل مقابل أجر.. فطلب هذا الرجل أن يتحدث إلي لينصحني وأصطحبني أبي إليه.. وفوجيء الرجل بجمالي حين رآني لأول مرة, وتلطف معي وسألني عن سبب إصراري علي إعادة السنة الدراسية.. وأجبته فلم يعارضني طويلا, وإنما نصح أبي بالاستجابة لرغبتي واعدا بمساعدته علي نفقات الدروس الخصوصية.. وأقرضه بالفعل كما عرفت بعد ذلك رسوم إعادة القيد بالثانوية العامة.., وبدأ يسأل أبي عني
من حين لآخر.. إلي أن فوجئت بأمي ذات يوم تصارحني برغبة هذا الرجل في الارتباط بي, وبغير تردد رفضت العرض وثرت علي أمي ثورة عاتية واتهمتها بأنها تريد أن تبيعني لأول رجل يطرق بابها, ولم تفلح مبرراتها في إقناعي به.. ولم يؤثر في أي حديث عن أنه رجل ميسور الحال وفي الأربعين من عمره.. ومشهود له بالطيبة والاستقامة.. وأرمل منذ4 سنوات ولديه طفلان يعيشان في كفالة أمه, ولن يشاركاني حياتي إلخ.
كما لم تفلح محاولات أبي معي.. ولا مطالبته لي بأن أفكر في حال أخوتي الذين يكادون يتضورون جوعا!
وأصررت علي الرفض.. وواصلت استذكاري لدروسي وحياتي المتقشفة بعناد شديد.. ومن حين إلي آخر تفاتحني أمي في الأمر وتتحدث عن العز الذي سأتمتع به مع هذا الرجل.. والذي سيفيض بالضرورة جانب منه علي إخوتي فلا تجد مني أذنا صاغية.. ودخلت الامتحان ونجحت بمجموع أهلني للالتحاق بكلية نظرية مرموقة, وانتقلت إلي عالم الجامعة الجديد ورأيت دنيا مختلفة وازداد إحساسي بفقري ورثاثة ملابسي.. وقبلت تحت ضغط هذه الظروف الملحة الهدية التي أرسلها تاجر البويات لي بمناسبة الالتحاق بالجامعة وكانت خاتما ذهبيا بعته علي الفور واشتريت بثمنه ملابس لائقة.. وفي غمرة ضيقي بالظروف القاسية التي زادني التحاقي بالجامعة إحساسا بها بدأت أفكر في قبول خطبة هذا الرجل لكي ينفق علي تعليمي الجامعي.. ويخفف شيئا من جفاف حياتي وحياة إخوتي, وأعترف لك بأنني فعلت ذلك بدوافع مادية بحتة.. ولم أفكر لحظة واحدة في شخصية الرجل أو في الامتنان له لرغبته في وتمسكه بي رغم رفضي له, وأعطيت الإشارة لأمي فطارت فرحا, وبعد أيام جاء الرجل محملا بالهدايا.. واضطررت للتنازل عن خطتي السابقة في الاكتفاء بالخطبة إلي أن أنهي دراستي الجامعية أمام إصراره علي تعجل الزواج ووعده لي بمساعدتي علي الدراسة حتي أتخرج.. وخلال3 أشهر كنت قد تزوجت.. وانتقلت إلي مسكن جميل ومفروش بأثاث جديد وعرفت شكلا آخر للحياة غير الذي عرفته طوال حياتي السابقة وعرفت الملابس الأنيقة.. والطعام الشهي.. والنزهات الجميلة.. ووجدت في يدي لأول مرة نقودا كافية أنفقها فيما أريد وتحسنت صحتي كثيرا.. وتورد وجهي بدماء العافية, وعشت مع زوجي أتقبل كرمه.. ورغبته في إسعادي.. ومحاولاته الجاهدة لأن ينال إعجابي به, لكني ظللت في أعماقي قلبا مغلقا دونه.. ودون كل البشر ولا يشغلني إلا النجاح والحصول علي شهادتي الجامعية, والالتحاق بعمل مناسب, ثم يبدأ بعد ذلك التفكير في المستقبل!
ولاحظت أمي بإشفاق أنني لم أحمل بعد مرور عام علي الزواج.. وبدأت تشعر بالقلق, وتستحثني علي عرض نفسي علي الطبيب, لكني لم أفعل وشعرت بالارتياح لعدم حملي.. وسألني زوجي عما إذا كنت أرغب في استشارة الطبيب في ذلك فلم أتحمس.. ولم يكن هو متحمسا من الأصل للإنجاب من جديد فلم يلح علي, ومضت سنوات الدراسة الجامعية وحصلت علي شهادتي وبدأت أتطلع للعمل, ففوجئت بزوجي يعترض علي عملي بدعوي أنني لا احتاج إليه.. ووقع أول خلاف كبير بيننا فهجرت بيتي ورجعت إلي بيت أسرتي, وراح أبي يحاول إقناعي بطاعة زوجي ويذكرني بفضله علي وعلي إخوتي الذين ساعدهم في تعليمهم, كما ساعده أيضا في زواج أختي التي تليني ولكن دون جدوي, ولم يطق زوجي صبرا علي هجري له فرضخ لرغبتي ورجعت إليه, والتحقت بالعمل بإحدي الهيئات وبدأت حياتي العملية.. وأصبح لي دخل من ناتج عملي واجتهادي ومضت أربع سنوات.. وأحوالي المعنوية لا تشهد أي تغيير وكلما أمعن زوجي في التودد لي وإرضائي.. أمعنت أنا في الاغتراب عنه ولم يخف حالي عليه وقال لي ذات يوم إنني أعيش معه بجسمي فقط.. لكني سأعرف له قدره ذات يوم بعد أن يفارق هذه الحياة!
كما لم يخف حالي أيضا علي أمي.. فلامتني مرارا علي عدم تجاوبي مع زوجي, وعدم تقديري لما يفعله من أجلي وتكرر ذلك كثيرا حتي جاءت لحظة ضقت فيها بكل شئ فطلبت من زوجي الطلاق, وهجرت البيت ولم أشأ العودة إلي أسرتي لكي أستريح من إلحاحها علي.. فلجأت إلي زميلة لي في العمل زوجها مسافر إلي الخارج وأقمت لديها بصفة مؤقتة وأرسل إلي زوجي بعض أهله.. يسألونني عما انكره عليه فلا أجد ما أقوله سوي انني لا أنكر عليه شيئ لكنني أريد أن أغير حياتي! وأرسل إلي زوجي يعرض علي أن يؤمن مستقبلي ويكتب الشقة التي يقيم فيها باسمي, ويشتري لي بعض المصوغات الذهبية, فلم أجب سوي بالرفض والاعتذار, وانفجر في أبي قائلا لي: من تظنين نفسك.. إنك ابنة عامل فقير وربيبة بدروم فلماذا تتبطرين علي حياتك وهي أفضل من حياة كل إخوتك الراضين بأقدارهم؟.. ولم أجبه سوي بالدموع فانصرف ساخطا ومهددا بمقاطعتي وبعد أيام جاءني ابنا زوجي وهما ولد وبنت مهذبان وأبلغاني بأن أباهما في المستشفي ويسأل عني.. فتشككت في البداية في صدق حديثهما لكن ما شعرت به من خوفهما وحزنهما دفعني للذهاب معهما إليه.. وفي المستشفي دخلت عليه حجرته فوجدته ممددا في الفراش مصفر ال
وجه.. ومغمض العينين.. فاقتربت منه وقلت له: سلامتك ألف سلامة.. ففتح عينيه ببطء ونظر إلي دامعا.. وقال الحمد لله.. ثم أغمض عينيه مرة أخري, وطلبت من ابن زوجي أن يحضر لي ملابسي.. وأمضيت ليلتي مع زوجي.. وهو ينظر إلي من حين لآخر ويقول لي بصوت ضعيف: متشكر.! وأمضيت مع زوجي في المستشفي ثلاثة أسابيع لم أفارقه خلالها لحظة واحدة.. وعرفت من الأطباء أنه مريض بالكبد منذ فترة طويلة وأن مقاومته للمرض قد انهارت فجأة خلال الفترة الأخيرة..
وغادرنا المستشفي إلي البيت, واكتشفت جمال نفس هذا الرجل الذي أغلقت قلبي دونه طوال ما يقرب من عشر سنوات لم ييأس خلالها يوما من محاولة اكتساب مودتي, وتحسنت حالته الصحية بعض الشيء, ثم انتكس فجأة ورجعنا إلي المستشفي وهو في حالة سيئة.. واشتد به المرض ذات ليلة فبكي قائلا لي إنه يريد أن يحيا فقط لكي يسعدني ويسعد ولده وابنته.. وليس لأي سبب آخر.
ورأيت في المستشفي كل أقاربه يبكون عند اشتداد الأزمة ويذكرون له فضله ومساعدته لكل من احتاج إليه.. وشعرت لأول مرة بالفخر الداخلي لانتمائي إليه.. وانفجر ينبوع الحب في القلب المجدب, بعد طول غياب ووجدتني ذات ليلة أقبل يده أرجوه أن يسامحني علي إعراضي عنه في السنوات الماضية.. وأطلب منه أن ينتصر علي المرض ونخرج من المستشفي لكي نبدأ حياتنا معا من جديد.. وأعوضه عن كل ماحرمته منه في سنوات زواجنا.. وفوجئت بزوجي يقولي لي إنني قد أسعدت قلبه بهذا الكلام.. ومحوت بذلك كل ما كان, وإذا به أيضا يدعو لي بالصحة والسعادة والستر في الدنيا والآخرة, فطفرت دموعي فرحا بهذا الدعاء الصادق, وقبلت يده ورأسه واحتضنته.. وهو سعيد ومبتهج.. وفي الليل فارق زوجي الحياة في هدوء.. وها هو قد مضي مايقرب من ثلاث سنوات الآن علي رحيله عن الحياة ولم يمض شهر أو شهران دون أن أزور قبره.
.. وقد اكتشفت بعد رحيل زوجي المفاجئ أنه كان يتحسب للمستقبل منذ وقت طويل واشتري باسمي شهادات استثمار كافية لتؤمن حياتي..
وفي كل يوم يمضي.. أزداد إحساسا بحمقي وجهلي وغروري وقصر نظري, وتبطري علي النعمة التي كانت بين يدي ولم أحسن تقديرها, بل إني لأنظر الآن في المرآة وأسأل نفسي بماذا اغتررت علي هذا الرجل المحب الطيب وبأي شئ استكثرت نفسي عليه وقد كان أفضل مني وأنبل من كل الجوانب عائليا.. واجتماعيا.. وإنسانيا وماديا.
وأين هو هذا الجمال الذي ظننته قديما صاعقا ويدير الرؤوس؟ إنني أسير في الشارع فلا يلفت منظري أحد ولا يتوقف أمامي أحد كما كان غروري يصور لي من قبل وأذهب إلي العمل فلا يقترب مني إلا الطامعون في نزوة عابرة يظنون أن ترملي ييسرها لهم, وهؤلاء هم من أستعيد شراستي لإيقافهم عند حدهم بعد أن يتركوا في نفسي أسوأ الأثر.
فبم تهت غرورا علي زوجي الطيب الكريم من قبل وهو الذي انتشلني من الحاجة والعوز وأكرمني وأعزني ورعاني.. وتفاني في إسعادي..
وماذا أنكرته عليه حتي أغلقت دونه قلبي ملابسه غير الأنيقة؟ إنني أشتهي أن أراه الآن ببنطلونه الواسع.. وقميصه غير الشبابي وحذاءه المترب.. وتصفيفة شعره التقليدية.. وأشتهي يوما واحدا من أيام صحبته, بل وساعة واحدة منها. وأفتقد حبه وإعزازه لي وحرصه علي إرضائي وهدوءه وحسن معاملته لي.
كنت أنكر عليه أنه ليس شابا وسيما كنجوم السينما وأنه راسب ثانوية عامة؟ وما قيمة الشاب الذي يرتدي السلسلة والملابس الملونة إذا خلا قلبه من الحب والعطاء.. والحنان.. وماذا يعيب تعليمه, وبعض أخوتي لم يحصلوا سوي علي الإعدادية بشق الأنفس, ولم يدرس في الجامعة سواي.
لقد كانت لديه مميزات أعظم وأبقي من كل هذه القشور, فقد كان من أصحاب النفوس الجميلة التي أشرت إليها في تعليقك علي رسالة البوح الجميل.
وكنت أنا من أصحاب النفوس الرديئة الممرورة الناكرة للجميع, الكارهة للبشر بلا مبرر وإني لأذكر لك تعليقا آخر قلت فيه إن الوحدة هي عقاب من يكرهون الآخرين ويسيئون عشرتهم, وها هو عقاب الوحدة يحل بي, فمات أبي بعد زوجي بعام وشعرت بفراغ الدنيا كلها من حولي.. في حين يتزاور اخوتي فيما بينهم ويزورون أمي وتزورهم باستمرار ويجتمعون حولها في مسكنها هم وأولادهم.. وإذا ذهبت إليهم شعرت بالحب الذي يجمعهم وبالتفاهم السائد بينهم.. وشعرت بغربتي وسطهم فلا أطيل الزيارة وأرجع إلي وحدتي وندمي وأحزاني..
إنني أريد أن أكفر عن كل أخطائي في حق زوجي وأمي وأخوتي ونفسي فماذا أفعل؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
بدأت مشكلتك مع الحياة بأكملها بتمردك علي أوضاعك العائلية والاجتماعية ورفضك لها دون أن تكون لديك القدرة علي تغييرها للأفضل بالوسائل المشروعة.. ودون أن تتقبلي حياتك باعتبارها مرحلة مؤقتة لن تلبث أن تنقضي وتتغير الأوضاع إلي الأفضل بالصبر والكفاح والاجتهاد في الدراسة ثم العمل.. ولأنك قد اكتفيت في البداية المبكرة بالرفض والتمرد دون الصبر علي الظروف فلقد بحث عقلك المتمرد عن جناة تحملينهم مسئولية هذه الأوضاع القاسية ومغبة احساسك بالدونية و بالنقص تجاه سكان الأدوارالعليا والمتمتعين بأشكال الحياة الكريمة فلم يجد عقلك أمامه سوي أبيك وأمك, فتراوحت مشاعرك تجاههما بين المودة لهم والنقمة عليهم.. وفي ذلك وحده الكفاية لإفساد مرآتك الداخلية وجهاز استقبالك للمؤثرات الخارجية, فالمرأة المشروخة لاتعكس سوي الصور الشوهاء والمنفرة, ثم تولي إحساسك المغالي فيه بالتميز بجمالك الصاعق علي أخوتك إفساد ماكان قد بقي سالما من علاقتك بالحياة والبشر, ولا غرابة في ذلك, لأن الإحساس الموهوم بالتميز علي الغير, حتي علي أقرب الناس إلي المرء, هو دائما بداية الغرور والأنانية والحقد علي الآخرين.. والسخط علي ما أتاحته الحياة للإنسان من حظوظ.. كما أن من يري نفسه كائنا متفردا يطلب عادة من الحياة ما يري نفسه الاعجوبة هذه جديرة به.. ويسخط علي كل ما يعتبره دون ذلك من عطاء الحياة, ويحقد علي من يري من منظوره الضيق ان الأقدار قد منحتهم دونه مالا يستحقون, وكل ذلك لا يثمر في النهاية سوي نفس بغير جمال تكره الآخرين.. وتدمن السخط والتذمر وتعجز عن التواصل السليم مع الغير ومع الحياة بصفة عامة.. وتحكم علي صاحبها بالشقاء المضاعف لأنها تضيف الي همها بحظها في الحياة, همومها بحظوظ الآخرين منها.. وبما نالوه دونه.. وما ذهب إليهم وكان ينبغي له أن يسعي إليه حبوا.. إلخ.
ولأن الشاعر العربي يقول:
والذي نفسه بغير جمال
لا يري في الوجود شيئا جميلا
فلسوف تطول ساعات سخطه وحقده وضيقه, بالأشياء, وتضيق ساعات صفوه وسعادته واستشعاره جمال الحياه, وأحسب يا سيدتي أن هذا هو ما كان عليه حالك في معظم سني طفولتك وصباك وبداية شبابك, ثم لأنك وكما تعترفين بصراحة قد قبلت بالزواج من ذلك الرجل الطيب بدوافع مادية بحتة, هي الرغبة المجردة في تأمين مورد للدخل يتكفل بنفقات تعليمك الجامعي, ومع عجز مرآتك الداخلية للأسباب السابقة عن استقبال المؤثرات الخارجية علي نحو سليم, فلقد عجزت حتي عن تذوق أسباب الراحة التي أتيحت لك بعد العناء.. وغفلت عن تقدير هذا الحب العظيم الذي حمله لك زوجك حق قدره وعجزت عن استكشاف جمال نفسه وطيبته.. وهدوء طبعه ورغبته المخلصة في إسعادك وتوفير أسباب الهناء لك.. وبدلا من أن تعقدي صلحا ولو مؤقتا بينك وبين الحياة.. انطويت علي أفكارك ونوازعك وغربتك الداخلية ولم تشاركي زوجك الراحل حياته الوجدانية والعاطفية, فحق فيك قوله عنك إنك كنت تعيشين معه بجسدك فقط, أما روحك فهي محلقة علي الدوام في أجواء بعيدة.
وحين بدأ لك ان مخططك السري للنجاة من الحاجة والعوز قد أوشك علي بلوغ هدفه وأنك أصبحت قادرة علي الاستقلال عن زوجك بعد انتهاء دوره في حياتك هجرته بلا توقف أمام كل العطاء العاطفي والمعنوي والمادي الذي قدمه لك, ولولا أنك قد استجبت لرجاء ولديه بزيارة أبيهما في مرضه لكان هذا المخطط قد مضي في طريقه المقدور, ولما غلبتك في النهاية مؤثرات العشرة القديمة أو ربما الحرج الإنساني من التخلي عنه في مرضه.. ولما تفجرت في اللحظات الأخيرة من عمره شرارة الحب أو العطف في قلبك تجاهه.. فأتاح لك قربك منه في المحنة.. استشعار الندم علي الحب الذي كان بين يديك وتمردت عليه والسعادة التي كانت متاحة لك ولم تعرفي لها قدرها في الوقت المناسب.. وهكذا نحن البشر في كثير من الأحيان.. لا نعرف قيمة الأشياء غالبا إلا حين نشعر بأننا علي وشك أن نفقدها.. ولا نعرف عمق المحبة إلا قبيل الرحيل.
ولقد عرفت الآن يا سيدتي ما يعرفه دائما أصحاب القلوب الحكيمة, من أنه لا قيمة لنا في الحياه إلا لدي من يحبوننا ويعتزون بنا, وأنه مهما علت أقدارنا.. أو مهما كان لنا ما نتصوره في أنفسنا من المميزات, لا نعدو في النهاية أن نكون بالنسبة لمن لا يعنيهم أمرنا سوي مجرد ذرات من تراب الإنسانية علي حد تعبير الفيلسوف الألماني نيتشه, وبالتالي فإنه من واجبنا دائما ان نحرص علي من يحرصون علينا ويعتزون بنا وألا نتبطر علي حبهم لنا وعطفهم علينا.
كما لابد أنك قد عرفت أيضا أن كره الآخرين طرد إرادي للسعادة, كما يقول لنا الأديب الفرنسي بول فاليري, وأننا نحتاج دائما الي من نهتم بأمرهم ويهتمون بأمرنا.. ونتشارب معهم كؤوس المودة والمحبة والصفاء, فإذا قلت لك إن أخوتك الراضين منذ البداية بحياتهم والذين تحسنت أحوالهم تدريجيا بغير طفرات غير طبيعية كانوا ومازالوا أكثر استشعارا منك للسعادة وجمال الحياة لما تجاوزت الحقيقة, ذلك أنهم لم يكابدوا مثلك أحاسيس السخط وكره الآخرين, ولم تفسد مشاعرهم تجاه أبويهم.. ولم يعجزوا عن التواصل والتراحم فيما بينهم وبين أمهم, وفيما بين بعضهم البعض, في حين تشعرين أنت بالوحدة والغربة معهم لتقطع الخيوط بينك وبينهم ولانفصالك الوجداني عنهم منذ زمن بعيد..
ولقد راجعت أنت الآن موقفك من الحياة.. وأدركت أخطاء تعاملك السابقة معها, وترغبين في التكفير عنها.. فلتكن البداية إذن أن تحرصي علي ذكري زوجك الراحل, وأن تعترفي له جهرة بفضله وطيب معشره ودوره في حياتك وتشيدي به وبسجاياه الحميدة وأخلاقه الكريمة في موضع ذكره, وأن تحرصي كذلك علي مودة ابنيه وأهله.. فتزوري هذين الابنين علي الدوام وتهتمي بأمرهما ودراستهما ومستقبلهما وتحرصي علي تعميق علاقتك الإنسانية بهما, ثم تأتي أهمية أن تستعيدي علاقتك الطبيعية بأمك وأخوتك وأن تقتلعي من نفسك بقايا الإحساس الخاطيء القديم بالتميز عنهم والترفع علي عالمهم لأنهم عالمك الأصيل مهما حاولت غرس جذورك في أراض أخري, كما أنهم ذوو رحمك وقرباك الذين لا قيمة لك في الحياة لدي غيرهم.. ولا بغيرهم..
فإذا كنت تسألين عن الطريق الي ذلك فإني أذكرك بالنصيحة القديمة التي تقول: إذا أردت أن تحصل علي صديق مخلص لك فكن أنت أولا صديقا مخلصا لأحد من البشر وسوف يصبح غالبا هو هذا الصديق المنشود, وهي نصيحة صالحة للتطبيق مع الأهل الأقربين, كما هي صالحة مع غيرهم من البشر, ومادمت قد عرفت بوعي كل أسباب الداء الذي أفسد عليك من قبل أوقاتا ثمينة من العمر, فلقد عرفت بالتالي الدواء الناجع لها.. وهو التصالح مع الحياة.. والرضا بما أتاحته لنا الأقدار والتخلص من إحساس التفرد والتميز ونبذ الاستعلاء والغرور والإحساس بالنقص والحقد والكراهية والمشاعر السلبية تجاه الآخرين ولابد أن يحقق هذا النهج القويم في النهاية أهدافه, ويصلح ما بين المرء ومن حوله.., مصداقا لقوله تعالي:
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا.. وشكرا علي رسالتك المفيدة.
مدونة بريد الجمعة مدونة إجتماعية ترصد أحوال الشارع المصرى والوطن العربى مدونة تتناول قصص, ومشكلات حقيقية للوطن العربى مثل: (ظاهرة العنوسة, الخيانة الزوجية, الخلافات الزوجية, التفكك الأسرى, الطلاق وآثاره السلبية على الأبناء, الحب من طرف واحد, مرض التوحد, الإبتلاءات من فقر ومرض وكيفية مواجهة الإنسان لها) ثم يعرض الموقع فى أخر كل موضوع رأى المحرر فى التغلب على هذه المحن
السبت، ١ يناير ٢٠٠٠
المتمـــــــــــردة!
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق