08-06-2001
لماذا يهرب بعض الناس من حياتهم الهادئة الي حياة مجهولة وعواقب غير مضمونة.. ؟ ولماذا يعتقد الأبناء أن حب الأم لهم قيد وخوفها عليهم ضعف وارتباطها بهم سجن كبير؟ إنني انتقل من هذه التساؤلات الحائرة الي قصة ابنتي المتميزة التي تتمتع بقوة الشخصية والذكاء وصلابة الرأي والعناد ـ فهي ـ متفوقة في كل شئ وعندها من قوة الإقناع ما يكفي لإشعال الحروب أو إنهائها, وفي الوقت نفسه تحمل في قلبها الصغير مشاعر رقيقة للغاية وفي عقلها أفكار حادة جدا.
فقذ تخرجت ابنتي في إحدي كليات القمة وعينت بها بعد حصولها علي الماجستير ومنذ اكثر من عشر سنوات تقدم إليها الكثيرون وكلهم أو معظمهم زملاء لها.. وقوبلوا جميعا بالرفض الشديد من جانبها.. وحين اسألها عن الاسباب تجيب الإجابة القاطعة, وهي لايوجد قبول.. ومن باب عدم القبول هذا تم رفضهم جميعا.. ثم حدث منذ عدة شهور أن سافرت معها الي إحدي الدول الغربية لكي تتلقي دورة تدريبية علي جهاز متقدم ضمن استعدادها للحصول علي الدكتوراة والتقينا هناك بأسرة مصرية صديقة تعرفنا من خلالها علي استاذ جامعي من اهل البلاد, وتحدثت معنا العائلة المصرية الصديقة عن هذا البروفسور وأشادت به وبأخلاقه ويقظة ضميره وبمثالياته, ثم انتهت زيارتنا وعدنا الي مصر.. وبدأت ابنتي تكتب علي البريد الالكتروني رسائل لهذا الاستاذ الاجنبي وترسل له عبر الإنترنت صورا عن مصر وبعض الابحاث وورقات العمل, وتبادلا الرأي في أمور كثيرة حول العمل والتدريس,وكانت تحكي لي عن كتاباته لها وآرائه الصائبة في حكمه علي مجالات العمل والدراسة, وكتب إليها ذات يوم يطلب الحضور الي مصر التي لم يورها ابدا من قبل وفعلا قام ابني بالترتيبات اللازمة لزيارة البروفسور وإقامته,
حيث يعمل في هذا المجال, وحضر الرجل الي مصر وانبهر بها كثيرا, واعجب بجمالها ونيلها وآثارها وكل ما فيها, وشاهد المساجد وسمع صوت الآذان ـ وتأثر كثيرا بهذه الاجواء الدينية الروحية التي لم يشاهد مثلها من قبل.. وبعد قليل راح يوجه إلينا الأسئلة عن الدين وأبدي رغبته الشديدة في قراءة تفسير القرآن بالانجليزية وكتاب عن حياة سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات والسلام فأمددناه بمجموعة كبيرة من الكتب وبتفسير للقرآن الكريم ورجع الي بلده ومعه هذه التفاسير وبمجرد انتهائه من قراءتها ارسل لابنتي بالبريد الالكتروني يبلغها بأنه سيعود الي مصر ويطلب ترتيب زيارة له الي مشيخة الأزهر وجاء الي مصر في رحلة لمدة ثلاثة أيام فقط وذهبنا معه الي مشيخة الأزهر, حيث نطق الشهادتين وتمت إجراءات الاشهار..وأذن لصلاة الظهر وهو موجود فقاموا للصلاة مع شيخ الازهر الذي تمني له التوفيق ثم تقدم الأستاذ رسميا الي زوجي يطلب يد ابنتنا وركب الطائرة في نفس اليوم عائدا لبلده.. وبعد فترة قصيرة سافرت مع ابنتي الي ذلك البلد الاجنبي لكي نتعرف علي اسرته واجتمعنا مع والدته واخته ووجدنا أنه من أسرة عريقة وطيبة, وذات تقاليد ومبادئ مثل عائلاتنا المحافظة, وجرت كل هذه الاحداث في سرعة غريبة وكأنها احداث فيلم أشاهده ولا أشارك فيه وكأنني مزدوجة الشخصية فشخصيتي الأولي هي التي اشتركت في كل ما حدث دون وعي مني أما شخصيتي الحقيقية فقد ظهرت بعد عودتنا من الرحلة الي بلدنا, واعلنت رفضها لهذا الزواج, فبدأت ابنتي تأخذ مني موقفا دفاعيا عن نفسها في بادئ الأمر ثم انقلب إلي موقف عدائي صريح انعكس علي جميع تعاملاتنا معا, بل وعلي حياتنا كلها, واصبحت لا أري في عينيها إلا نظرات اللوم وأجدها تتحرك أمامي وهي حزينة وصامتة مثل عصفور مرهق, ضل الطريق الي عشه الآمن.
وبعد أن كنا لا نتوقف عن الحديث والضحك والمرح, اصبح الصمت هو صديقنا الدائم, وإذا تحدثنا تشاجرنا, وانتهي الحوار إلي خصام, لأن اسباب رفضي له لا تقنعها, ولأنها تحسب علي أنني وافقت في البداية ثم تراجعت عن موافقتي, وفي الحقيقة أنني لم اوافق ولم أتراجع, ولكن الأمور كانت تمضي تلقائية.. واحيانا نتوقف ونعيد النظر في قرارات اتخذناها فإذا ما كانت هذه القرارات تتعلق بمستقبل أبنائنا حبات قلوبنا فهي أدعي لأن نتوقف وندرس ونستشير وبعد حوارات طويلة ومريرة مع ابنتي اتفقنا علي أن نأخذ هدنة لبعض الوقت نراجع خلالها أنفسنا وتفاصيل الموقف ونتروي, ثم نتخذ القرار بعد انتهاء فترة الهدنة بشروط أولها أن من حقها أن نسافر معا إلي بلد البروفسور مرة أخري لنتعرف عليه أكثر وعن قرب ونلاحظ تعاملاته مع الآخرين, ونسأل عنه بالنظرة الجديدة كرجل مرشح للزواج منها وهي نظرة تختلف عن نظرة التلميذة للأستاذ, وبعد هذا تقرر ابنتي إما الرفض أو القبول وتكون النتيجة هذه المرة نهائية وقاطعة.. فهل أحقق لها شرطها هذا في السفر علي الرغم من عدم موافقتي وتحفظي التام علي هذا الارتباط؟؟
أن رفضي لهذا الارتباط اسبابه كثيرة جدا أهمها هي الهجرة التي سوف تقدم عليها بمجرد الزواج وما يترتب عليها من آثار بعيدة وقصيرة المدي, فهي بسفرها هذا سوف تضحي براحتها ومستقبلها هنا في مصر..وحياتها كلها ووجودها معنا, فإذا حدث أي خلاف مثلما يحدث بين حديثي الزواج فسوف تجد نفسها وحيدة تماما في مهجرها بلا أهل ولا أصدقاء, وإذا رزقها الله بالأبناء فكيف تقوم بتربيتهم علي مبادئ ديننا وتقاليدنا الشرقية في مجتمع غربي مفتوح؟
إن الاختلافات بيننا وبينهم كثيرة وما يباح هناك محرم هنا, وما يبثه الإعلام هناك لا يتوافق مع مثلنا وأخلاقنا.. وفوق هذا كله فإنني أخاف عليها خوف الأم التي تحب أن تطمئن علي مستقبل ابنتها مع إنسان من أهلها تعرفه وتعرف طباعه عن قرب وتدرس شخصيته من خلال فترة خطبة هنا وليس في الدنيا البعيدة خاصة وقد رفضت ابنتي من قبل شباب بلدها ووافقت علي هذا الغريب القادم من وراء المحيطات, والذي يكبرها بتسعة عشر عاما.. وهو فارق ليس هينا.. فكيف يلتقي الربيع والخريف؟؟ وكيف ترتبط التلميذة الصغيرة مع الاستاذ ؟ وكيف..وكيف؟
لقد صليت كثيرا واستخرت الله وفي كل مرة كنت أري في منامي رؤي تؤكد رفضي.... وقد استخار زوجي ربه وشعر بالراحة وهو يوافقها علي هذا الارتباط.. وهي المرة الأولي التي تقتنع فيها ابنتي برأي والدها في شيء جوهري, لأنه يوافق رأيها. وقد استشرت أخوتي وكبار العائلة وكلهم يرفضون مثلي.. ولقد هداني الله في استخارتي أن اكتب لك واستشيرك قبل انتهاء الهدنة حتي نستطيع أن نتخذ قرارا بعد استطلاع وجهة نظر محايدة.
ولكاتبة هذه الرسالة أقــــــول:
هيهات أن يتفهم بعض الأبناء عمق مخاوف الآباء والأمهات وهواجسهم بشأنهم, وهيهات أن يتلمسوا لهم الاعذار فيما يستشعرونه من هلع مما قد يصيبهم من التعاسة والشقاء في حياتهم, ولأن الأمر كذلك فلسوف ننحي حديث عاطفة الأبوة والأمومة جانبا, ونناقش الأمر بالمنطق الذي يفهمه هؤلاء الأبناء, وهو منطق النجاح والفشل والربح والخسارة, والسعادة والشقاء, واهتداء بهذا المنطق فإني اقول ان العنصر الوحيد الذي قد يساعد العقل علي فهم مبررات هذا الزواج العابر للقارات, ليس الإقرا به أو تأييده, هو الحب الطاغي القاهر الذي يتملك طرفيه وتتعمق جذوره في قلبيهما وتختبره الحوادث والتجارب والسنون فيتأكد كل منهما انه لابديل له عن الارتباط بصاحبه.. ولو كانت كل الحقائق والشواهد والخبرات السابقة تحذر منه.. وترشحه للفشل بعد حين اكثر مما ترشحه للنجاح علي المدي البعيد والتغلب علي اختلاف الطباع والتقاليد والمفاهيم السائدة والموروثات الثقافية فأين هذا الحب المشبوب القهار الذي قال عنه الاديب الايرلندي الكبير انه قد يكون احيانا ضد العقل والمصلحة وكل حقائق الحياة, وذلك في كلمته البليغة: تعرف أنك عاشق حين تبدأ في التصرف ضد مصلحتك!.
ومتي نشأ هذا الحب بين الاستاذ الاجنبي وتعملق وتمكن من الطرفين وكل منهما لم يعرف الآخر سوي لفترة قصيرة للغاية.. ولم يدرس احدهما الآخر دراسة كافية, ولم تخلق العشرة بينهما تلك التراكمات البللورية البطيئة التي تتجمع حول خيط غير منظور فتصنع منه رباطا صلبا يجمع بين قلبيهما؟
أن رسالتك خالية من اية اشارة الي وجود هذه العاطفة المشبوبة, التي تعمي الابصار عن اشواك الطريق ومحاذير الرحلة في الحالات المشابهة, وصداقتك العميقة مع ابنتك تسمح لك بأن تعرفي بالتأكيد ما إذا كانت قد وقعت في غرام هذا الاستاذ الأجنبي بالفعل أم أنها تقبل به فقط كما تقبل فتاة رشيدة رجلا تراه ملائما لها من كل الجوانب, وتأمل في ان يتحول قبولها النفسي له الي حب خلال فترة الخطبة؟
إن تقديري هو أن هذه العاطفة الطاغية ليست محور تفكير ابنتك في الارتباط بهذا الاجنبي بدليل ان الامر بالنسبة لها مازال قابلا للمناقشة والتفكير وتأجيل القرار, فإذا صح هذا الظن فإن هذا الزواج يصبح بالنسبة لابنتك علي الاقل زواج صالون ويتخذ فيه القرار بعد الارتياح النفسي وفقا لتقدير المزايا الخلقية والإنسانية والاجتماعية والمادية, أما بالنسبة لهذا الاستاذ الجامعي فهو زواج عاطفة يرضي عنه العقل لأنه من مجتمع لا يعرف للزواج مبررا سوي الحب.. كما أنه مجتمع مغامر لا يهاب التجربة والمغامرة طلبا للسعادة.. ولا يعتبر الفشل في الزواج إذا حدث كارثة وليس معني أانه زواج صالون بالنسبة لابنتك أنني أدينه لهذا السبب, لكني أتوقف فقط والأرجح إذن هو انه بالنسبة لأبنتك زواج صالون وان كان صالونا فسيحا للغاية يمتد من بيتكم حتي شواطئ المحيط الاطلنطي.!
ولأنه في زواج الصالون يكون الاحتكام للعقل هو الانسب فلقد يكون من مغريات هذا الزواج بالنسبة لابنتك بعد التسليم بقبولها النفسي لهذا الاستاذ الاجنبي, انه يحقق لها حلم الهجرة الي مجتمع متقدم تري أن فرصها المهنية والعلمية والاجتماعية فيه أفضل منها في مجتمعها ـ فكأن جرءا من ترحيبها بهذا الزواج يرتبط لديها بتذليل العقبات في طريق رغبتها في الهجرة, كما قد يرتبط ايضا برغبتها في التغيير.. والتجديد وتحريك المياه الآسنة في حياتها الهادئة بعد طول رفض لفرص الزواج المحلية وربما يرتبط كذلك بمزاج الهروب النفسي الذي يسيطر أحيانا علي روح الإنسان في بعض فترات الملل ويدفعه للإبحار بعيدا عن شواطئه المألوفة.. وبعض قرارات الإنسان المصيرية قد يتحكم فيها احيانا هذا المزاج النفسي.
فهل هذا هو الحال حقا بالنسبة لابنتك؟.. إن كل هذه المبررات والدوافع لا تصلح اساسا عادلا لزواجها من هذا الاستاذ الاجنبي..ولا شك أنها تظلم نفسها, بل وتظلمه معها إذا كان قبولها له مرتبطا بهذه الدوافع أو ببعضها.. وكل ما أرجوه هو أن تفتشي في أعماقها عن الدوافع الحقيقية لترحيبها بهذا الزواج وأن تتخذ قرارها علي ضوء ما تكشف عنه المراجعة الأمينة لرغبتها الحقيقية وأفكارها وأمنياتها الصادقة.
وفي كل الاحوال فهي مطالبة بالصدق التام مع النفس وبفهم كل الظروف والمحاذير المحيطة بمثل هذا الزواج, وبتقدير العواقب واحتمالات الفشل والنجاح فيه, والاستعانة بعقول من يرغبون بشدة في سعادتها وتجنيبها الاخطار والشقاء والعناء في اتخاذ القرار, وبالاستفادة بتجارب الآخرين مع مثل هذا الزواج في تقدير الاحتمالات المختلفة والمشاكل المتوقعة, كما أنها مطالبة ـ قبل كل ذلك وبعده ـ بفهم دوافعك كأم في التراجع عن موافقتك السابقة عليه وهي دوافع مشروعة ومعروفة وتمثل في الخوف عليها من التعاسة والشقاء والوحدة في بلاد بعيدة ولا عجب في ذلك لأنه شر البلاد مكان لا صديق به.. علي حد تعبير خالد الذكر المتنبي حتي ولو كان هذا المكان نقطة من الفردوس المفقود أو الجنة الموعودة!
مدونة بريد الجمعة مدونة إجتماعية ترصد أحوال الشارع المصرى والوطن العربى مدونة تتناول قصص, ومشكلات حقيقية للوطن العربى مثل: (ظاهرة العنوسة, الخيانة الزوجية, الخلافات الزوجية, التفكك الأسرى, الطلاق وآثاره السلبية على الأبناء, الحب من طرف واحد, مرض التوحد, الإبتلاءات من فقر ومرض وكيفية مواجهة الإنسان لها) ثم يعرض الموقع فى أخر كل موضوع رأى المحرر فى التغلب على هذه المحن
السبت، ١ يناير ٢٠٠٠
الشاطئ البعيد!
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق