السبت، ١ يناير ٢٠٠٠

دموع التماسيح

18-05-2001
أشعر بالرغبة في الحديث إليك منذ فترة طويلة‏..‏ وأبدأ بأن أقول لك إنني سوف أحاول بكل جهدي أن أخفي بعض التفاصيل‏,‏ لكيلا يعرفني من هم حولي وأنني سوف أغير وأبدل في الأماكن ونوع النشاط التجاري والملامح العائلية كعدد الأخوة أو الأبناء إلخ لنفس هذا الغرض‏..‏ وبعد ذلك أقول لك إنني رجل ومتوسط العمر‏,‏ نشأت وسط عدد من الأخوة بين أب تاجر ناجح وأم ربة بيت‏..,‏ وكان أبي رجلا طيبا‏,‏ لكنه كان ضعيفا تجاه أكبر أبنائه ويفضله علينا ويعتبر طلباته أوامر لا يناقشها‏..,‏ ويخصه بالجديد من الملابس دوننا‏,‏ ويقول لمن يلومونه في ذلك إن الابن الأكبر يتحمل مسئولية الأسرة دائما بعد أبيه ولذلك فلابد من إشعاره بنفسه من سن مبكرة لكي يكون قادرا علي التصرف وتحمل المسئولية‏!‏
ونشأنا نحن في هذا المناخ العائلي وتعودنا علي هذا الوضع المتميز لأخينا الأكبر بالرغم من أنه لم يكن يكبرني بأكثر من ثلاث سنوات‏,‏ واعتاد هو أن تكون له سلطة الأمر والنهي فينا بنينا وبنات‏,‏ ومضت بنا الأعوام‏..‏ وشقيقنا الأكبر يزداد التصاقا بأبينا‏..‏ وتعاليا علينا نحن إخوته‏..‏ ووالدنا يشجعه علي مشاركته في العمل‏..‏ ويكلفه بمهام تجارية‏..‏ بحجة إكسابه خبرة العمل وأسرار السوق استعدادا للمستقبل‏..‏ ويتغاضي عن أخطائه وتعثره الدراسي‏,‏ في حين ينصب لنا نحن المشانق إذا رسب أحدنا في امتحان واحد‏..,‏ ولم يمض وقت طويل حتي كان شقيقي قد يئس من النجاح في الثانوية العامة وقرر أن يتفرغ للعمل مع والدنا‏..,‏ وامتلأ أبي زهوا بذلك واعتبر توقفه عن الدراسة تضحية من جانب الابن المحبوب لصالح الأسرة‏,‏ مع أن الجميع يعرفون أنه توقف عن الدراسة للعجز عن الحصول علي الشهادة وليس لأي دافع آخر‏.‏

وتقدمنا نحن في دراستنا وشجعتنا والدتنا علي ذلك‏..,‏ وانشغل أبي بتزويج الابن الغالي من ابنة تاجر صديق له‏..‏ وشاركنا في الاحتفال بفرحة صادقة‏..,‏ وتزوج شقيقنا وأقام في شقة اشتراها والدنا بمنزل أسرة زوجته بعيدا عن زحام الحي الشعبي الذي نقيم فيه‏..‏ وسعد أبي بزواج ابنه سعادة طاغية‏,‏ وتطلع بشوق لأن يحمل أول أحفاده منه‏,‏ غير أن الأقدار لم تمهله حتي يري أول الأحفاد ورحل عن الحياة فجأة‏,‏ وتسلم الشقيق الأكبر قيادة دفة الأسرة‏,‏ وبعد فترة الصدمة الأولي بدأنا نستعيد أنفسنا ونتساءل عن المستقبل وكنا شقيقين وشقيقتين نعيش مع أمنا‏..‏ وقد اعتدنا علي مستوي كريم من الحياة في كنف أبينا‏..‏ في حين كان شقيقنا الأكبر يعيش مع زوجته في مسكنه بالحي الراقي‏..‏ وفيما عدا مبلغ ليس كبيرا بالبنك تم تقسيمه بيننا حسب الانصبة الشرعية‏.‏ فقد كشفت لنا وفاة أبي عن مفاجأة قاسية هي أن المنشأة التجارية التي يملكها أبي والمخزن التابع لها لا نصيب لنا فيها لأنها مبيعة صوريا من أبي لأخي الأكبر‏,‏ وليس لنا نحن الأبناء من تركة أبينا بعد مبلغ البنك سوي معاش التأمينات الاجتماعية الذي حرص أبي علي دفع أقساطه تحسبا للمستقبل‏,‏ ولا يكفي بالطبع لنفقات حياتنا‏.‏ وعرفنا أن والدتنا كانت تعلم بملكية شقيقنا للمنشأة منذ فترة قصيرة‏..‏ وأن أبي أكد لها أنه نقل ملكيتها له صوريا لأسباب تتعلق بالضرائب وأنه أخذ العهد علي شقيقنا زن يعطي كلا منا حقه في المنشأة بعد حل مشكلة الضرائب‏.‏

وجاء شقيقنا وأكد لنا ذلك‏..‏ وقال إنه سيستمر في إدارة المنشأة‏..‏ وينفق علي الأسرة ومتطلبات التعليم‏..‏ من عائد أنصبتنا الشرعية ويدخر لكل منا فائض الدخل إلي أن يحتاج إليه عند الزواج‏.‏ وبعد أن تستقر الأمور تماما فإنه سوف يكتب عقد شركة جديدا يدخلنا به كشركاء في المنشأة بحقنا العادل فيها‏..‏ واطمأنت قلوبنا لذلك‏..‏ وواصلنا الحياة والدراسة‏..‏ ولاحظنا بعد شهور قليلة أن زيارات شقيقنا لأمنا وبيت الأسرة قد بدأت تتباعد بعد أن كانت شبه يومية‏..‏
ولاحظنا كذلك بداية ظهور بعض المشاكل بين أمنا وبين شقيقنا حول نفقات الأسرة ومتطلباتنا‏..‏وشيئا فشيئا بدأنا نسمع من شقيقنا أننا مطالبون بالتقشف والتنازل عن بعض المطالب‏,‏ لأن التجارة تواجه الكساد وهو يعاني ضائقة‏..‏ ثم أبلغتنا أمنا ذات يوم أن شقيقنا قد خصص لنا مبلغا ضئيلا كل أسبوع ولن يدفع غيره مهما تكن الأحوال‏..‏

وبدأت الأيام تقلب لنا ظهر المجنة كما يقولون حتي جاء وقت امتنع فيه شقيقي نهائيا عن الإنفاق علينا بدعوي أن التجارة كاسدة ولا تربح شيئا‏,‏ وأصبحنا نعتمد في حياتنا علي المعاش التأميني‏,‏ فإذا واجهنا طارئا يتطلب مبلغا من المال‏..‏ باعت أمي قطعة من حليها لتلبي طلباتنا‏,‏ رافضة أن تمس المدخرات القليلة التي ورثناها عن أبي لكي تنفعنا عند زواج البنات‏..‏ والمؤسف حقا هو أنه لم يكن هناك مايستدعي هذا الحرمان أو يبرره‏..‏ ففي الوقت الذي كنا نحن نشد فيه الأحزمة علي البطون ونعجز عن الحفاظ علي مظهرنا الخارجي كان أخي غارقا في الترف والاسراف‏..‏ وزوجته تبذر النقود باليمين والشمال بلا أي تقدير للعواقب‏..‏ وقد أشتري لها سيارة فاخرة‏,‏ وأشتري لنفسه سيارة‏..‏ واشتري شقة أكبر في نفس الحي الراقي انتقل إليها بأسرته لأن شقة منزل أسرة زوجته ضاقت عليه‏..‏ واشتري شقة في المصيف‏..‏ إلخ‏.‏
وباختصار تكشفت لنا حقيقة صارخة وهي أننا وبالرغم من أننا أبناء أب واحد وأم واحدة‏,‏ فإننا فقراء لا نملك من حطام الدنيا سوي معاش التأمينات الاجتماعية والمبلغ الصغير المدخر لزواج البنتين وأن شقيقنا قد استأثر بكل ثروة أبي دوننا ويرفض أن يعطينا نصيبنا منها‏,‏ وقد أعلنها صريحة لنا حين طالبناه بحقنا في تركة أبينا بأنه هو وحده مالك كل شيء رسميا وأمامنا المحاكم إذا استطعنا إثبات أحقيتنا في التركة‏!‏ ولن أصف لك عمق ماشعرنا به من قهر ومرارة في هذه الأيام الكالحة‏..‏

ثم هدأنا بعد حين‏..‏ وسلمنا أمرنا لله‏..‏ وقررنا ألا ننازع شقيقنا وألا نقف أمامه في المحاكم مهما عانينا من متاعب وشجعتنا أمنا علي ذلك‏,‏ لكيلا نقطع آخر خيط معه‏,‏ مؤكدة لنا أن طمع الدنيا لا يفيد وأنه سوف يثوب إلي رشده ويعرف قيمة الأهل والأخوة ذات يوم‏..‏ لكن الأيام مضت وشقيقي لا يرجع إلي نفسه ولا يأسي علي استيلائه علي حق أمه وأخوته وأصبحت الشهور تمضي دون أن يطرق علينا الباب أو يسأل عنا في التليفون‏,‏ وتقطعت معظم علاقاته بالأخوال والأعمام والعمات بسبب محاولتهم للتدخل لديه لكي يترفق بنا‏..‏ وسلمنا في النهاية بأنه لا معين لنا إلا أنفسنا وحبنا لبعضنا البعض واعتمادنا علي الله في كل أمورنا‏..‏ وصبرنا علي متاعب الحياة‏..‏ وتآلفنا مع ظروفنا الجديدة‏..‏ ومع التقشف الشديد والحرمان حتي أنهينا دراستنا وعملنا واحدا بعد الآخر وتزوجت الشقيقتان بالمبلغ المدخر وبلا أي معونة من أخي زيجات بسيطة‏,‏ ولكنها سعيدة والحمد لله وتزوجت أنا بمساعدة أخي الأصغر وخالي الطيب وحين تزوج شقيقي الأصغر رددت له ديونه وساعدته في الزواج في حدود إمكاناتي‏,‏ وأصبحنا نجتمع في بيت أمنا كل أسبوع‏..‏ ونشعر بسعادة الدنيا كلها في اجتماعنا وتراحمنا وتبادلنا للعطف والاهتمام‏,‏ في حين أمعن شقيقي الكبير في البعد عنا وعن كل شيء يربطه بنا‏..‏ فكنا لا نعرف عنه شيئا إلا مما نسمعه عرضا من بعض الجيران القدامي في الحي‏,‏ ومن شذرات الكلام هذه عرفنا أن أحواله المادية قد ازدهرت بصورة كبيرة للغاية وأصبح من رجال الأعمال ويركب سيارة مرسيدس ويصدر ويستورد ويسافر للخارج إلخ‏.‏

ورحلت أمنا عن الحياة فبكيناها جميعا واجتمعنا في بيت الأسرة نستقبل المعزين فكانت وفاة أمي هي المناسبة التي رأينا فيها شقيقنا بعد عامين كاملين انقطع خلالهما عنا وبالرغم من ذلك فلقد احتفينا به وعاملناه باحترام‏..‏ وقدمناه علي أنفسنا لأنه كبيرنا بالرغم من كل شيء‏..‏ وشعر هو بالخجل من نفسه فطلب منا زيارته والسؤال عنه‏!‏
ومضت الأعوام في طريقها المرسوم فلم نزره في بيته لنفور زوجته من ذلك ولم يزرنا هو بالطبع وكبر أبناؤنا‏..‏ وبدأوا يتساءلون عن عمهم الثري الذي يسمعون عنه ويسألون لماذا لا يرونه ولماذا لايزورونه وبدأنا نحن نخترع الأكاذيب لنبرر هذا التباعد بيننا‏..,‏ وجربت شقيقتي الصغري أن تتصل به وتدعوه لزيارة أسرتها لأن أبناءها يرغبون في التعرف عليه‏..‏ فوعدها بالزيارة ولم يف بوعده فسخطت عليه سخطا شديدا واتهمته بالتكبر علي أخوته إلي أن كنت جالسا في صالة مسكني ذات أصيل‏..‏ أتابع مذاكرة الأبناء وأشرب القهوة‏,‏ وأتبادل الحديث بصوت خافت مع زوجتي لكيلا نشوش علي تركيز الأبناء‏..‏ فدق جرس الباب وفتحه ابني الصغير‏..‏ ثم جاءني يقول لي إن بالباب رجلا لا يعرفه ويقول إنه عمه‏,‏ فنهضت لأري القادم فإذا بي أري شقيقي الكبير واقفا وعلي شفتيه إبتسامة مترددة‏..‏ فهتفت مرحبا به وأنا أفتح له ذراعي‏..‏ ودعوته للدخول وأنا أتوجس خيفة من أن يكون مكروه قد حدث لأحد أفراد أسرته لكني رأيته هادئا فدعوت الأبناء للترحيب بعمهم والتففنا حوله ضاحكين مستبشرين‏,‏ وراح هو ينقل عينيه بيني وبين زوجتي في ارتياح ويقول لي هامسا إنه لم يكن يتوقع مني هذا الاستقبال الحار لانقطاعه عني منذ فترة طويلة‏,‏
وبعد تناول الشاي أشرت للأبناء أن يعودوا لمذاكرتهم ودخلت معه الصالون وسألته عن أحواله‏,‏ فإذا به يصارحني بأنه يريد أن يقيم عندي لفترة بشرط ألا يعرف أحد ذلك لأنه هارب من تنفيذ أحكام عليه بالسجن بسبب إصداره شيكات بدون رصيد‏,‏ ويريد الاختفاء بعض الوقت حتي لا يقبض عليه فيعجز عن تدبير أموره وتسوية ديونه مع الدائنين‏..‏ وصدمت لما سمعته وسألته عما جري‏,‏ فحكي لي أنه قد توسع في نشاطه التجاري كثيرا في السنوات الأخيرة‏,‏ وتوسع في الاقتراض وشراء السلع بشيكات مؤجلة اعتمادا علي الأمل في أن تنشط السوق ويحقق أرباحا كبيرة ويسدد كل الديون ويوفر الملايين فخابت بعض تقديراته إلي جانب كثرة نفقاته وإسراف زوجته الشديد فواجه صعوبات عديدة‏..‏ وحاول أن يقنع زوجته ببيع بعض الممتلكات التي اشتراها باسمها لكي يحصل علي السيولة اللازمة فرفضت بإصرار وطلبت منه أن يحل مشاكله بعيدا عنها‏,‏ لأن هذه الممتلكات هي صمام الأمان بالنسبة لها ولأبنائها‏,‏ فكانت النتيجة صدور هذه الأحكام‏.‏ وهو يريد الاختباء حتي يستطيع أن يبيع بعض الممتلكات وشقة المصيف‏,‏ والسيارة المرسيدس ويسدد الديون‏,‏ لكن رجال تنفيذ الأحكام يترصدونه في كل الأماكن التي يتردد عليها ولا يستطيع الاقتراب منها وقد فكر في المكان الذي لا يخطر علي أذهانهم أبدا أن يلجأ إليه فإذا به مسكني أنا الذي لم يدخله سوي مرة واحدة لمدة ربع ساعة أيام زواجي للتهنئة‏!‏

وبالرغم من المفارقة المؤلمة في أن يكون بيت شقيقه هو آخر مكان يتصور أحد لجوءه إليه فلقد رحبت به‏,‏ وأكدت له استعدادي لأن أفعل كل ماهو في صالحه‏..‏ وأقام شقيقي في مسكني حوالي الشهر كان خلاله الضيف المعزز المكرم الذي نؤثره علي أنفسنا‏,‏ ثم انتقل الي بيت شقيقي الأصغر خوفا من أن يكون مقره عندي قد عرف‏,‏ ثم الي بيت شقيقتي الوسطي‏,‏ ثم اختفي فجأة فلم نعرف عنه شيئا إلي أن جاءني صوته في التليفون بعدها بأسبوعين من بلد عربي مجاور ليقول لي إنه سافر إليه وسيظل به إلي أن ينتهي من تسوية مشاكله المالية كلها ويأمن علي نفسه فيعود‏,‏ وظننت أنه يطمئن بذلك علي مصيره فإذا به يكشف لي أنه أتصل بي لأنه يحتاج إلي القيام بكذا وكذا‏..‏ وكذا‏..‏ وكذا‏,‏ وان علي الذهاب إلي المحامي وفعل كذا وكذا والذهاب إلي المنشأة التجارية وإبلاغ من اشتراها منه بكذا وكذا‏.‏ وعشرات المهام والتكليفات التي تحتاج الي تفرغ كامل لتنفيذها‏..‏ ولم أكن لأمانع في القيام بأي عمل يحقق له مصلحته‏,‏ لكني شعرت بغصة شديدة وهو يصدر الي هذه التكاليف ويشدد علي تنفيذها في مواعيد محددة بحق الأخوة التي بيننا كما قال وإلا فسوف تزداد المشاكل‏..‏ وسمحت لنفسي بالتساؤل ولماذا لم يتذكر هذه الأخوة إلا الآن‏..‏ وأين كانت هذه الأخوة حين كنت في حاجة إلي عونه أو حتي إلي أن يبرني بالزيارة‏,‏ لكيلا يشعرني بالضعة والهوان أمام زوجتي وانسبائي في البداية ثم أمام أولادي بعد ذلك‏,‏ لكن هذه الغصة لم تقعدني علي أية حال عن تلبية ندائه‏..‏ وانطلقت أؤدي التكليفات المطلوبة بدقة‏..‏ واهتمام‏.‏

ومنذ ذلك الحين وأنا أجوب الشوارع والمدن وأتردد علي المصالح الحكومية ومكاتب المحامين‏..‏ ومحلات التجار ومكاتب الشهر العقاري‏..‏ لأقوم بما يطلبه مني شقيقي وكلما أنهيت مهمة كلفني بغيرها‏,‏ وإذا تعثر تنفيذ إحدي هذه المهام لأسباب خارجة عن إرادتي أو تأخرت بعض الشيء نسي نفسه وراح يلومني علي ذلك‏,‏ وكأنني المسئول أو كأنني موظف يتقاضي منه أجره ويقصر في عمله‏!‏
و الشيء نفسه راح يفعله ولكن بصورة أخف علي شقيقي الأصغر وشقيقتي الوسطي وزوجها الذين تذكرهم فجأة‏,‏ أما شقيقتي الصغري وزوجها فقد قالا له صراحة إنهما لا شأن لهما بمشاكله وليسا مستعدين لبذل أي نقطة عرق من أجله وهو الذي لم يعرفهما ولم يدخل بيتهما‏!‏ حتي ذلك الحين‏.‏ وبذلك وقع العبء الأكبر لهذه التكليفات علي عاتقي‏.‏ ولم يقتصر هنا العبء علي الجهد والوقت والمشقة والتعرض لرزالات بعض الدائنين الذين يؤذونني بالكلام والتهديدات عن شيء لا ذنب لي فيه‏..‏ وإنما امتد كذلك إلي الغرم المادي‏..‏ فكثير من الأوراق التي يطلبها تحتاج إلي رسوم وتكاليف وإكراميات لإنهائها‏,‏ وأنا محدود الدخل ومثقل بمطالب الحياة‏,‏ وشقيقي يرسل لزوجته بالرغم من تخليها عنه علي عنواني حوالات مصرفية بالآلاف‏,‏ ولا يفكر في إرسال قيمة الرسوم التي أتكبدها أنا من دخلي المحدود ولو أقتصر الأمر علي الجهد والغرم لهان واحتملته إلي النهاية دون شكوي‏..‏ وبالرغم من ظلمه لي ولأخوتي في ميراثنا عن أبينا وتباعده عنا وتعاليه علينا وهو في عنفوان الثروة‏..‏ لكنه الآن يطالبني فوق كل ذلك بالقيام بإجراء معين يعرضني للوقوع تحت طائلة القانون إذا تم اكتشافه ولابد من اكتشافه ذات يوم‏,‏ ويقول لي إن ذلك سوف ينهي متاعبه التي أوشكت علي الانتهاء وأنه سوف يعوضني عن كل مافات بعد عودته إن شاء الله‏,‏ وأنا لا أريد تعويضا ولا أنتظر منه شيئا‏,‏ ولا أريد سوي أن أعيش في سلام كما كنت أحيا قبل أن يظهر شقيقي بمشاكله في حياتنا‏,‏ كما أنني لا أحتمل البهدلة إذا اكتشف الأمر الذي يطلبه مني ويلح علي فيه‏..‏ ولا أدري لماذا يعرضني للخطر أو في تكليف ابنيه وأحدهما في التاسعة عشرة والآخر في السابعة عشرة ولا يفكر في تكليف زوجته التي تستمتع بماله به أو يكلف بذلك أحد أشقاء زوجته الذين لم يكن يعرف لنفسه أهلا سواهم‏,‏ لقد فاتحت زوجتي في هذا الأمر فتحولت الزوجة الطيبة الهادئة التي لم يعل صوتها منذ تزوجتها إلي نمرة شرسة ورفضت بإصرار أن أفعل المطلوب مني وأنا حائر بينها وبين شقيقي ومكالماته التي تصل إلي خمس أو ست مكالمات في اليوم الواحد‏..‏ وهو يصرخ ويبكي ويستعطفني وهي تصرخ وتبكي وتهددني‏..‏ فماذا أفعل؟‏!..‏ إنني أرجو أن تشير علي وتقول لي رأيك فيما ينبغي لي أن أفعله‏,‏ وسوف ألتزم به كحل أخير بعد أن اتفقت مع زوجتي علي الاحتكام إليك‏..‏ وإذا كان لك رأي آخر فهل تتفضل بأن توجه كلمة إلي هذا الشقيق وإلي زوجته ؟

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
من الناس من يصدق فيهم قول بعض الحكماء عن أحد الأشخاص‏:‏ إنه ممن لا يرجو المرء خيرهم وإنما أن ينجو فقط من أذاهم أو شرورهم‏!‏
أو قول المتنبي‏:‏
إنا لفي زمن ترك القبيح فيه
من أكثر الناس إحسان واجمال
والواضح هو أن شقيقك الأكبر هذا من ذلك النوع من البشر الذي لا يتطلع المرء لنوال خيره ذات يوم‏,‏ وإنما يكون أقصي الأمل فيه هو النجاة من شره وأذاه‏..,‏ ففي ذلك إذا حدث إحسان وإجمال‏,‏ كما أنه أيضا من هؤلاء الأشخاص الذين يؤمنون بخصوص الفرح وعموم الغم‏,‏ مع الاعتذار للتعبير الفقهي الشهير العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ومن سمات هؤلاء الأشخاص استئثارهم لأنفسهم بأسباب البهجة والسعادة والفرح لا يشركون فيها أحدا‏,‏ ومسارعتهم في الوقت نفسه إلي نشر همومهم علي من حولهم وإشراكهم فيها حتي الثمالة‏,‏ ومطالبتهم لهم بمكابدتها معهم والبحث عن حلول لها معهم‏,‏ لأنهم ذاتيون في البهجة واشتراكيون في الهموم‏.‏
ولأن شقيقك من هذا النوع من البشر فلقد استأثر لنفسه بكل أسباب البهجة والسعادة والثروة طوال السنوات إقبال الحياة عليه ولم يقترب منكم أو يسمح لكم بالاقتراب منه‏..‏ ومشاركته في شيء مما يرتع فيه حتي ولو كان عز الانتماء الي شقيق ثري من وجهاء القوم يفتخر أبناؤكم بقرابتهم له‏..,‏ وهي مشاركة معنوية لم تكن تكلفه شيئا‏..‏ ثم حين أدارت له الأيام ظهر المحبة‏..‏ وبدأ المتاعب والهموم حملها بقضها وقضيضها وجاء بها إليكم‏..‏ وتذكر حينذاك فقط أن له أخوة يصل بينه وبينهم الرحم ولابد لهم أن يشاركوه همومه ويبذلوا غاية جهدهم لحمايته وإنقاذه‏..‏ ولاشك في أن والدك غفر الله له قد غرس بذور هذه الأنانية والأثرة والبعد عن روح العدل في شخصية شقيقك بتمييزه له عليكم منذ الصغر بتمكينه من الاستيلاء علي حقوقكم في ماله بنقل ملكية منشأته إليه دون التحوط باتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان حقوق الأخوة والأم لديه‏.‏
والحق أنني لا أعترض علي احتفائك بشقيقك عند ظهوره في حياتك لأول مرة بعد سنوات طوال حتي ولو كان هذا الطهور اضطرارا وبدافع الاحتماء بك وليس الشوق إليك‏..‏ كما لا أعترض أيضا علي إخلاصك في خدمته وتكبدك المشاق من أجله وسعيك الدءوب لمساعدته علي حل مشاكله والخروج من محنته‏,‏ فكل واحد ينفق مما عنده كما قال السيد المسيح عليه السلام حين مر بقوم فقالوا شرا وقال لهم خيرا‏..‏
ولأنك ماعاقبت من عصي الله فيك بمثل أن تطيع أنت الله فيه كما قال صادقا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏,‏ وان كان هذا الاحتفاء نفسه برغم كل أذاه السابق لك يترجم قول أحد الحكماء إن من آفات النفس البشرية ان يشعر بعض الأشخاص بالانكسار أمام الآخرين بغير سبب سوي لفقرهم بالمقارنة بثراء هؤلاء الآخرين‏.‏ غير أنني لا أعترض كذلك علي موقف شقيقتك الصغري وزوجها منه حين عجزا عن العطاء لمن لم يعط لهما من قبل شيئا وحرمهما حتي من شرف الاعتزاز بأخوته‏,‏ كما حدث حين رفض زيارتهما استجابة لرجاء أطفالهما‏,‏ فلكل إنسان قدرته علي العطاء التي لا يستطيع أن يتجاوزها‏..‏ وحسبه إذا عجز عن العطاء لمن أساء إليه من قبل ألا يقدم هو الأذي إليه أو ينتقم منه‏..‏
وموقفك منه يترجم عمليا قول الحكيم الصيني لو ـ تسو‏:‏ قابل الرحمة بالرحمة وقابل القسوة بالرحمة أيضا‏!‏
وموقف شقيقتك الصغري منه يترجم قول الفيلسوف كونفوشيوس‏:‏ ردا علي هذه المقولة‏:‏
ـ بل قابل الرحمة بالرحمة وقابل القسوة بالعدل‏!‏
ولأنك قد أديت ومازلت تؤدي متفضلا ومشكورا واجبك الإنساني تجاه شقيقك‏,‏ ولم تتخل عنه في محنته ولم تبخل بالجهد والوقت والمال برغم قلة إمكاناتك في حل مشاكله وقضاء مصالحه دون أي أمل في تعويض نفسي أو مادي منه‏..‏ فإنني أرجوك رجاء حارا ألا تستجيب لندائه إليك بالإقدام علي ذلك الإجراء الذي يعرضك للخطر ويضعك تحت طائلة القانون إذا تم اكتشافة‏..‏ فصلة الرحم‏..‏ والبر بالأخ‏..‏ ومقابلة القسوة بالرحمة كل ذلك لا يعني أبدا أن تورد نفسك مورد التهلكة من أجل هذا الشقيق‏..‏ ليس فقط لأنه لا يستحق هذه التضحية منك وإنما أيضا لأنه ليس من الحكمة أن تعرض نفسك وأسرتك للخطر بصفة عامة‏..‏ وخاصة من أجل هذا الشقيق ذلك مطالبته لك بهذه المخاطرة إنما تؤكد أنه لم يستد شيئا من دروس المحنة‏..‏ ولم يتغير فيه شيء‏..‏ ومازال نفس الشخص الأناني الذي يري ان كل مايحقق له مصلحته الذاتية أمر عادل ومطلوب ولو أدي الي الإضرار بالآخرين وسلبهم حقوقهم‏..‏ وهو نفس المنطق الذي استولي به علي ثروة الأب دونكم‏..‏ وباعدكم وابتعد عنكم طوال سنوات الثراء والبريق بسببه وهاهو يعيد نفس الكرة ويري أن مصلحته الشخصية ينبغي أن تكون لها الأولوية القصوي لديك قبل مصلحة أبنائك وأسرتك ومصلحتك‏,‏ كعادة ذوي الأثرة والأنانية في هذا الاعتقاد بأن كل مايهمهم أمره لابد أن تكون له الأولوية قبل اعتبارات الآخرين فارفض مايدعوك بقوة ولا تأبه لصراخه وبكائه واستعطافه‏..‏ فإنما هو صراخ التحايل ودموع التماسيح واستعطاف الصائد للفريسة لكي تقترب من مرمي نيرانه أو دائرة النار ليحكم اقتناصها‏.‏ وصارحه بأنك لن تبخل ببذل كل مافي وسعك أن تفعله من جهد وعناء‏.‏ لمساعدته ولكن في حدود القانون وحدود ماتسمح به طاقتك وقدرتك‏..‏ وليبحث هو لنفسه عن مخرج آخر من محنته عن طريق من يتعامل معهم من المحامين وشكرا‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق