السبت، ١ يناير ٢٠٠٠

الشمس الساطعة

15-06-2001
أكتب إليك لأطلب منك المساعدة في مشكلة تؤرق ضميري‏,‏ فأنا رجل متوسط العمر ومتزوج ولي ابنة عزيزة علي قلبي‏..‏وناجح في عملي وحياتي العائلية ــ ومنذ نحو سبع سنوات طلبت مني زوجتي أن أتعاون مع أسرتها في التخلص من زوج شقيقتها أي من عديلي‏..‏ وكان المبرر لذلك كما قيل لي هو أن أختها لم تعد تحبه‏,‏ وأنها كانت قد طلبت منه مرارا وتكرارا أن يكتب بعض أملاكه باسمها بدعوي رغبتها في الاحساس بالأمان‏,‏ لأنه فلقد يتزوج عليها في أي وقت فرفض‏,‏ ولهذا لقد أرادت التخلص منه لتحصل علي مؤخر الصداق الكبير الذي كتبه علي نفسه‏,‏ وعلي نفقة كبيرة منه لأنه ميسور الحال‏.‏ وبالفعل قامت شقيقة زوجتي بتحرير محضر سب وضرب ضد زوجها في قسم الشرطة ودعيت للشهادة أنا وشقيقتها فأكدنا حدوث الواقعة‏,‏ وتوالت الإجراءات القانونية حتي نظرت القضية وشهدت بوقوع الواقعة وكاد الرجل يدخل السجن بالفعل لولا فطنة قاضي محكمة الجنايات الذي وجد كثيرا من التناقضات في سياق القصة فحكم ببراءته‏..‏ وتوالت المشاكل والمنازعات وانتهي الأمر في النهاية بحصول شقيقة زوجتي علي الطلاق البائن وعلي مؤخر الصداق الضخم والنفقة الكبيرة‏,‏ وتخلت عن أطفالها‏,‏ فأصبح والدهم هو المسئول وحده عن رعايتهم وبينهم‏,‏ من كان صغيرا للغاية‏,‏ مما أثر سلبيا علي حياة الرجل ومستقبله وعمله‏.‏

ومضت السنوات ثم بدأ الظلام ينقشع أمام عيني‏,‏ مع ابتلاء الله في أحب الناس إلي وهي ابنتي‏,‏ فلقد أصيبت بمرض عضال فشل الأطباء في علاجه حتي الآن‏,‏ وأصبحت أري ابنتي الغالية تتألم أمامي وأقف أمامها عاجزا عن أن أخفف آلامها ولا أملك لها إلا الدمع والدعاء‏,‏ واشتد عليها الألم ذات مرة وبكت وبكيت معها بحرقة‏..‏ وسألت نفسي‏:‏ ماذا جنيت ياربي حتي تتعذب ابنتي وأتعذب معها كل هذا العذاب‏..‏ فإذا بصورة الرجل الذي ساعدت علي هدم بيته بلا ذنب جناه قبل سنوات قليلة تقفز إلي مخيلتي‏,‏ وكأنما تسألني بإلحاح‏:‏ لماذا قبلت أن أفعل ذلك‏,‏ وأين كان عقلي وضميري حين فعلته‏..‏ وماذا جنيت من افترائي عليه بالباطل والشهادة الكاذبة ضده في محاضر الشرطة والمحاكم؟
فارتجفت من الانفعال‏..‏ وأصبحت هذه التساؤلات تدور في ذهني بصفة دائمة منذ ذلك الحين‏,‏ وانني أشهد الآن أنه كان رجلا بكل معني الكلمة وفيه من الميزات ما تطلبه أية زوجة فاضلة في زوجها‏..‏ وإنني لم أعرف عنه قبل أن تطلب مني زوجتي المساعدة في هذا الأمر ما يسئ إليه أو ينتقص من شهامته‏,‏ وإنما استجبت فقط فيما فعلت لطلب زوجتي‏,‏ إنني أعلم أن الله سبحانه وتعالي يغفر الذنوب جميعا إلا الشرك به‏,‏ وظلم الإنسان لأخيه الانسان فيؤجل الحكم فيه إلي أن يقف الاثنان أمامه في اليوم المشهود‏.‏

ولقد أدركت جرم ما فعلت ولا أجرؤ علي رفع سماعة التليفون لأتصل بهذا الرجل وأطلب منه العفو عن جريمتي في حقه‏,‏ وليس هناك صديق مشترك بيننا يمهد لي الطريق معه‏..‏ وأعرف جيدا حجم المعاناة والاهانة والهزيمة التي لقيها هذا الرجل علي يد زوجته الظالمة‏,‏ والتي وقفت معها للأسف في ثلاث محاكم ضده‏..‏ فهل يمكن لهذا الرجل أن يصفح بالفعل ذات يوم؟
وكيف أحصل علي هذا العفو؟

إنني أريد أن ألقي الله وصحيفتي بيضاء‏.‏ وقد يكون هذا اللقاء في أي لحظة‏,‏ وأريد أن أمحو هذه الجريمة من صفحتي بعد أن أنعم الله علي بنعمة الايمان وأشرقت شمس الحق والحقيقة ساطعة في عقلي وضميري بعد طول غروب‏,‏ فلا تبخل علي‏]‏ بالنصية‏.‏

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
بعض ما ميز به الله سبحانه وتعالي الانسان عن وحوش الغابة التي لا يرعها عن تحقيق أهدافها البدائية رادع من دين أو أخلاق‏,‏ هو القدرة علي التمييز بين الحق والباطل أو ما اصطلح علي تسميته بالضمير‏,‏ وهو شئ فطري في الانسان لكنه يتأثر بالوسط الذي ينشأ فيه‏,‏ ويشبهه بعض العلماء بإحدي عضلات الجسم التي إن لم تستخدم ضعفت‏,‏ ومشكلة بعض البشر هي أنهم لايستخدمون عضلة الضمير هذه كثيرا في حياتهم الشخصية‏,‏ مما يؤدي إلي ضعفها ووهنها ويزيد من تعقيد الحياة وعنائها ومشاكلها علي الغير‏.‏
ومن أسف أنهم بذلك إنما يتنازلون طوعا عما كرمهم به ربهم وميزهم عن وحوش الغابة‏,‏ فيتصرفون في حياتهم كالوثنيين الذين لايرجون بأعمالهم الله واليوم الآخر‏,‏ ولايخشون عقابا سماويا عاجلا أو مؤجلا علي شئ مما يصنعون‏,‏ وكأنما لا حساب ولا عقاب في الدنيا أو الآخرة علي إيذاء الغير أو الافتراء عليهم بالباطل أو خيانة الشرف والأمانة أو اغتصاب حقوق الآخرين أو إعانة الظالم علي ظلمه رجاء منفعة أو طلبا لعرض من أعراض الدنيا أو إيثارا للسلامة‏.‏

وعلي الناحية الأخري يؤمن أصحاب النفوس الشريفة أن الضمير المستريح هو أفضل منوم في العالم كما يقول أحد الحكماء‏,‏ وأن اجتناب الاثم والفواحش وايذاء الغير والافتراء عليهم بالباطل هو خير ضمان لراحة القلب والضمير‏..‏ وأفضل دعاء إلي السماء أن تحميهم من غوائل الأيام ولا عجب في ذلك لأن النفس الشريفة كما يقول لنا الامام شمس الدين محمد بن قيم الجوزيه‏:‏ لاترضي من الأشياء إلا باعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة‏,‏ والنفس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب علي الأقذار‏,‏ وهذا هو معني قوله سبحانه وتعالي قل كل يعمل علي شاكلته الإسراء‏84‏ وأنت ياسيدي قد استجبت لطلب زوجتك بالتعاون مع أسرتها في التخلص من زوج شقيقتها‏,‏ لكنه شتان بين تعاون علي الحق وتعاون علي الباطل‏,‏ وبين تعاون يتطلب من صاحبه أن يخالف ضميره ويشهد شهادة الزور ويعين ظالما علي ظلمه‏,‏ وبين تعاون يرد الحق إلي صاحبه وبدفع الظلم عن المظلوم‏,‏ ويلتزم فيه صاحبه بما يمليه عليه ضميره ودينه‏,‏ فكيف فاتك أن المساعدة الحقيقية لأي إنسان لاتكون بإعانته علي الباطل‏,‏ وإنما برده عنه؟ فإذا كان النظر في وجه الظالم خطيئة كما يقول لنا الامام المحدث أبوسفيان الثوري‏,‏ فما بالك باعانته علي ظلمه بشهادة الزور؟ علي أية حالة لقد حدث ما حدث‏,‏ وتهدمت أسرة ذلك الرجل الذي تشهد له الآن بالشهامة والرجولة والفضائل‏,‏ وتجرع مرارة الهزيمة والمهانة في كل الجولات القضائية التي خاضتها ضده زوجته بمساندتك‏..‏

والمشكلة بالنسبة لك ليست في تهدم أسرته في حد ذاته‏,‏ لأن زوجته كانت تستطيع في كل الأحوال الحصول علي الطلاق منه مادامت تصر عليه‏,‏ وإنما في أنها قد حصلت مع الطلاق علي ما لا حق لها فيه مستخدمة في ذلك شهادتك ضد زوجها في المحاكم المختلفة‏.‏
لهذا فمن حق هذا الرجل أن يأسي بالفعل لنفسه حين يري من لم يمسهم بأذي يعينون خصمه عليه بشهادة الزور والافتراء عليه بالباطل‏,‏ ومن حقه أن يتساءل عن جدوي القيم الدينية والأخلاقية والمثل العليا إذا كانت لا تردع طرفا لم يسئ هو إليه عن إيذائه بلا مبرر‏,‏ سوي رجاء الدنيا أو رجاء رضا زوجته عنه‏!‏

ولأننا قد نتصرف في بعض الأحيان في حياتنا كالبحارة الذين لايذكرون الله إلا ساعة الغرق‏,‏ فلقد تذكرت في محنة مرض ابنتك ــ عجل الله لها الشفاء ــ ظلمك لهذا الرجل الذي تهدمت أسرته وتخلت زوجته له عن أطفالها‏,‏ ومنهم من كان في سن الرضاعة تقريبا‏,‏ فتأثرت حياته ومستقبله‏,‏ وأدركت كم كنت لاهيا وغافلا عن خطورة ما تفعل وعن عمق مخالفتك لكل ما أمر به الله سبحانه وتعالي من العدل والإحسان‏,‏ واستشعرت الاثم فيه ورجوت صفح ضحيتك عنه‏..‏ والمعروف أن المعصية إذا كانت بين العبد وربه فإن شروط التوبة منها ثلاثة هي أن يقلع عنها‏,‏ وأن يندم علي فعلها‏,‏ وألا يرجع إليها أبدا‏,‏ فإن فقد مرتكبها أحد هذه الشروط الثلاثة لم تصح توبته‏,‏ أما إذا تعلقت المعصية بحق انسان آخر فشروطها أربعة هي‏:‏ نفس الشروط السابقة مضافا إليها أن يبرأ مرتكبها من حق صاحبها‏!‏ بمعني أن يرد عليه حقه إذا كانت البراءة من الحق تتحقق علي هذا النحو‏,‏ أو ينفي عنه ما شهد به عليه زورا وعدوانا إذا كان في ذلك ما يصلح خطأه ويشهد له بما يستحقه من شهادة الحق‏,‏ ويطلب صفحه عما فعل به ويصبر عليه إلي أن يعفو بنفس راضية‏,‏ فليكن طريقك إلي صفح هذا الرجل عنك إذن هو إعلانك لكل من يعرفه أولا شهادة الحق في شأنه وندمك علي افترائك عليه بالباطل‏,‏ لأن شهادة الزور من الكبائر التي لايغفرها إلا كثرة الاستغفار وصدق الندم وإبراء الذمة من حق من ظلم بها‏..‏
فهل أنت علي استعداد لأن تفعل ذلك؟

انك إن فعلته فلقد مهدت الطريق لطلب صفح الرجل عنك وعفوه‏,‏ وتستطيع بعد ذلك أن تتصل به‏..‏ ولست أظن إلا أنه سوف يصفح ويغفر عملا بقول الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه من أعطي فشكر‏,‏ ومنع فصبر‏,‏ وظلم فغفر وظلم فاستغفر فأولئك لهم الأمن وهم مهتدون‏.‏
ولسوف يكتفي غالبا بعد أن حدث ماحدث وفات أوان إصلاحه بالجانب المعنوي من شهادتك وهو إقرارك بخطئك في حقه‏..‏ وظلمك له ونفيك لما نسبته إليه في شهادة الباطل السابقة‏..‏

علي انني أقول لك بالرغم من ذلك أن صفحه عنك‏,‏ سواء أكان هذا الصفح من القلب أو اللسان‏,‏ لايعني بالضرورة أنك سوف تصبح صديقا مقربا له أو محببا إليه‏..‏ أو موثوقا فيه‏,‏ وإنما يعني فقط انك سوف تصبح بالنسبة إليه بشرا من البشر الذين لايشعر تجاههم بالمرارة‏..‏ ولا يجد في الوقت نفسه في سيرتهم معه ما يدفعه إلي حبهم أو تفضيلهم علي العالمين‏.‏
وفي هذا الكفاية كل الكفاية الآن‏,‏ عسي الله سبحانه وتعالي أن يأذن لابنتك بالشفاء التام ويعيد البسمة إليها وإليك‏,‏ والله غفور رحيم‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق