السبت، ١ يناير ٢٠٠٠

بداية الطريق

25-05-2001
وأفوض أمري إلي الله إن الله بصير بالعباد صدق الله العظيم
لقد أردت أن أبدأ رسالتي إليك بهذه الآية الكريمة‏,‏ ثم أقول لك بعدها إنني شاب في السادسة والعشرين من عمري أكبر أخوتي ولي شقيقان وأم مكافحة وأب له قصة تروي‏,‏ فلقد تفتحت عيناي علي الحياة فوجدت أمي هي كل شيء في حياتنا‏..‏ فأبي غائب في دولة عربية غير ثرية ولا يرسل إلينا نقودا ومايكسبه فيها يكاد يكفيه وحده بصعوبة شديدة‏,‏ وأمي هي الأب والأم والسند والمعين لنا في حياتنا الصعبة‏,‏ حيث نقيم بإحدي مدن الأقاليم‏,‏ ولكي تتحايل علي تدبير متطلبات حياتنا باعت الخضر أمام منزلنا وباعت القصب في مواسمه وكذلك البطيخ وفعلت كل شيء‏,‏ ولكن بالقرب من البيت لكيلا تبتعد عنا‏,‏ ولكي نظل باستمرار تحت أنظارها‏,‏ فالمهم لديها دائما هو أن نكون معا‏,‏ وأن نتعلم ونستذكر دروسنا‏..‏ ونحصل علي شهادات دراسية‏,‏ ومنذ صغري كانت تناديني بلقب الدكتور وتقول لي إنني سأصبح ذات يوم طبيبا أو صيدلانيا وسأكون إنسانا ناجحا ومحترما‏,‏ وحينذاك سوف أتذكر ماقدمته هي لي من تضحيات‏..‏ وسوف أعوضها عن كفاحها من أجلنا خيرا‏,‏ ومضت الأيام بنا وعاد أبي من سفره وأنا تلميذ بالصف الإعدادي الثالث‏,‏ مريضا بالفشل الكلوي والالتهاب الكبدي الوبائي‏,‏ وواصلت أمي الكفاح‏..‏ وق
د أضيفت إلي أعبائها أعباء جديدة‏..‏ وواصلت أنا التعليم حتي بلغت الثانوية العامة‏,‏ وتوفي أبي وأنا أؤدي امتحاناتها‏,‏ فأثر ذلك علي مجموعي‏,‏ وحصلت علي الشهادة بمجموع لا يؤهلني للالتحاق بإحدي كليات القمة‏,‏ وقبلت في كلية التربية قسم الكيمياء والطبيعة ولم تسعد أمي المكافحة بذلك‏,‏ وحثتني علي دخول امتحان الثانوية العامة مرة ثانية لتحسين مجموعي‏,‏ بالرغم من صعوبات الحياة التي تحيط بنا من كل جانب‏..‏ وبالفعل أمضيت عاما دراسيا في المنزل كنت خلاله أحلق رأسي بالموس لكي أوفر أجر الحلاق‏..‏ وأمنع نفسي من الخروج‏,‏ واشتد جفاف الحياة حولنا حتي لم نكن لنذوق اللحم إلا في عيد الأضحي فقط‏.‏ ودخلت امتحان الثانوية العامة مرة ثانية‏,‏ وحصلت علي مجموع أكبر والتحقت بكلية الصيدلة وبدأت بشائر حلم أمي تقترب من التحقيق‏,‏ واجتهدت في دراستي لكي أجد الفرصة للاقامة بالمدينة الجامعية التي لاتقبل سوي الناجحين توفيرا لنفقات الإقامة الخارجية‏,‏ وحصلت علي البكالوريوس في النهاية‏..‏ وبتقدير جيد بعد رحلة كفاج عنيدة ضد الظروف والصعوبات‏,‏ ووقفت أمام اللوحة التي تحمل أسماء الناجحين بالكلية‏..‏ وقلت لنفسي‏:‏ الآن قد جاء دوري يا أمي لكي أعفيك من ال

عناء‏..‏ وأعوضك عن كفاحك المرير‏,‏ فأما عن فرحتها بنجاحي وحصولي علي الشهادة وحملي للقب الغالي‏,‏ فلا تكفي الصفحات لكي أحدثك عنه‏..‏ وأما عن التعويض فلقد عملت كصيدلي ثان في صيدلية بمدينة نصر بالقاهرة‏,‏ وانتظرت أول راتب لي وكان‏730‏ جنيها‏,‏ فما أن قبضته حتي توجهت إلي محل أحد الصاغة واشتريت لأمي قرطا ذهبيا‏..‏ كما اشتريت لها جلبابا جميلا وتوجهت بالهدية إليها وأنا أشعر بسعادة الدنيا كلها في قلبي‏.‏

وجاء موعد أدائي للخدمة العسكرية‏..‏ وخشيت أن ينقطع رزقي بسببها وترجع الأسرة إلي جفاف الحياة مرة أخري‏,‏ لكن تدبير السماء كان أكثر رفقا بنا‏,‏ فلقد تم تجنيدي بوحدة طبية تقع في مدينة نصر فلن أنقطع عن عملي بالصيدلية سوي فترة المستجدين في بداية التجنيد‏,‏ وبعد ذلك كنت أصحو من نومي في السابعة صباحا فأكون في الوحدة العسكرية من السابعة والنصف صباحا حتي الثالثة بعد الظهر‏,‏ ومن بعدها أتوجه للصيدلية وأعمل بها حتي الواحدة صباحا‏,‏ أما في يوم الجمعة فلقد كنت أعمل بالصيدلية‏14‏ ساعة متصلة‏,‏ وكنت سعيدا بذلك‏,‏ وتحملت هذا الجهد لكي أعوض أمي عن كفاحها وأرطب حياتة الشقيقين بشيء من الراحة بعد طول العناء‏,‏ وكل شهر أشتري لست الحبايب أو لأحد الشقيقين شيئا مما يحتاجون إليه‏..‏

وأشعر بنشوة عجيبة وأنا أسمع دعاء أمي لي بالستر والفلاح في الدنيا والآخرة‏.‏
والدنيا قد ابتسمت لنا أخيرا‏.‏
وانتهت أيام الحرمان‏..‏ والجفاف‏..‏ والضيق إلي غير رجعة والحمد لله والمستقبل ممدود أمامي‏,‏ لكي أحقق فيه أحلامي وأحلام أمي والأخوة بإذن الله‏.‏

وجاءت الذكري السابعة لوفاة أبي فتوجهت إلي مدينتي بالأقاليم لزيارة قبره وقراءة القرآن كعادتنا كل سنة‏..‏ وحصلت علي اجازة يومين من الصيدلية‏,‏ وبعد زيارة أبي رجعت إلي البيت فإذا بي أشعر بالإعياء الشديد وسخونة أشد‏,‏ توجهت للطبيب فاكتشف أصابتي بالحمي وتم حجزي بمستشفي الحميات هناك‏..‏ ثم غبت عن الوعي ولم أشعر بما حولي‏,‏ وبعد ثلاثة أيام من دخولي المستشفي حدث لي احتباس بولي فجاءوا إلي بطبيب للمسالك لفحصي‏,‏ فما أن رآني وفحصني حتي ثار علي أطباء مستشفي الحميات وشتمهم لأنهم أخطأوا تشخيص الحالة وطلب نقلي علي الفور إلي مستشفي الطوارئ وإجراء فحص بالرنين المغناطيسي للحبل الشوكي‏,‏ لأن حالتي ليست حمي وإنما التهاب مستعرض بالنخاع الشوكي‏,‏ وتم نقلي للمستشفي وإجراء الرنين المغناطيسي لي وتكلف ستمائة جنيه كانت هي كل ما كنت قد ادخرته من فترة عملي القصيرة كصيدلي وعولجت بالكورتيزون‏,‏ وبعد‏15‏ يوما من الغيبوبة أفقت لأجد نفسي طريح الفراش‏..‏ وقرأت التشخيص‏,‏ وعرفت عن مرضي أنه مرض نادر يصيب شخصا واحدا من كل مليوني شخص‏.‏ أي أن مصر كلها قد لايكون بها سوي نحو‏60‏ حالة من هذا النوع‏..‏ واكتشفت أيضا لحسرتي أن هذا المرض النادر قد سبب لي شللا بالطرفين السفليين‏..‏ وفي اليوم الأول الذي جلست فيه علي المقعد المتحرك مرت أمامي أحداث حياتي كلها كأنها شريط سينمائي ووجدت عيني تدمع ولسان حالي يتساءل في مرارة‏:‏ أبعد كل هذا الحرمان يارب‏..‏ وهذه التضحيات من أمي وهذا الكفاح والعناء وسهر الليالي والمذاكرة والجهاد لكي أحقق حلم أمي وأحمل اللقب الغالي أجدني مرة أخري مستحقا للعطف والإحسان؟ وساءت حالتي النفسية إلي أبعد حد‏..‏ ومع ذلك فلم أيأس من رحمة الله‏..‏ وانتظمت في جلسات العلاج الطبيعي والنفسي‏.‏ وطالت الجلسات العلاجية والنفسية حتي كدت أملها‏..‏ وأتوقف عنها لكنني لم أتوقف ولم أيأس أيضا وتمسكت بالأمل الضعيف‏..‏ وبعد فترة مرهقة من العلاج الطبيعي بدأت أمشي ممسكا العكاز خطوة وخطوتين وثلاث خطوات‏.‏ ثم بدأت أمشي بطول الممر في المستشفي‏,‏ وبعد فترة أخري تركت العكاز واستندت إلي كتف أمي‏,‏ كأنما قدرها أن تكون سندا لي صغيرا وكبيرا‏,‏ وبدأت أمشي وهي تشجعني وتحثني علي الصبر والأمل‏,‏ وبعد مرور ستة أشهر من العلاج تحققت المعجزة واستطعت أن أمشي بلا مساعدة من أحد‏,‏ وعدت سليما معافي بأمر ربي‏..‏ فإذا عرفت أن نسبة الشفاء التام مما يسببه هذا المرض من عجز لاتزيد علي‏4%‏ فقط‏..‏ عرفت علي الفور كم أكرمني ربي وكم كان بي رحيما كريما‏,‏ فقد أتاني بمرض نسبة الإصابة به لاتتعدي شخصا من كل مليوني شخص‏,‏ فكنت هذا الواحد بين مليونين من البشر‏,‏ ثم شفائي منه ونسبة الشفاء مما يسببه من عجز لاتتعدي‏4%,‏ فكنت أيضا واحدا من أربعة أشخاص بين كل مائة شخص يبتلون بهذا المرض‏,‏ وينجون من العجز الذي يسببه‏.‏
فالحمد لله الذي قدر وعفا‏..‏ والحمد لله كثيرا كثيرا‏..‏
وأنا الآن معافي تماما‏,‏ لكني لم أعمل بعد منذ توقفت عن العمل بسبب المرض‏,‏ وأرجو الله أن يرزقني رزقا واسعا أسدد به بعض ديوني وادعو الله لأمي بتمام الصحة والعافية والشفاء من كل داء‏,‏ وخالص دعائي لقراء بابك ولكل المرضي بالشفاء التام‏,‏ خاصة الطبيب الإنسان كاتب رسالة والسيدة الفاضلة كاتبة رسالة اليوم الجميل كما أدعو الله لكل المهمومين والصابرين أن يعينهم ربهم علي أمرهم‏,‏ ويخفف عنهم أحزانهم‏..‏ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏
من مفارقات الحياة المؤلمة أن يشقي الإنسان لتحقيق هدف غال‏..‏ من أهداف الحياة وما أن يضع أقدامه بعد طول العناء علي بداية الطريق إليه‏,‏ حتي يصاب بما يقعده عن الانطلاق إليه أو يفقده الحماس له بعد أن شقي طويلا من أجله‏..‏ ولا شك في أن هذا هو ماكان يشعرك بالمرارة القاسية وأنت تجد نفسك فجأة قعيد الكرسي المتحرك وأنت في عنفوان شبابك‏,‏ وتستعد للركض علي الطريق لتحقيق الأهداف وتعويض سنوات العناء والحرمان‏.‏
لهذا فلقد كان عدلا أن يترفق بك ربك سبحانه وتعالي ويهبك معجزة الشفاء التام من العجز والشلل‏,‏ ويعيد إليك قدرتك علي مواصلة الطريق الذي بدأته لتعويض والدتك المكافحة عن تضحياتها من أجلك وترطيب حياة أسرتك بعد طول العناء‏..‏
وكما كنت مميزا في الابتلاء بهذا المرض النادر الذي يصيب شخصا واحدا من كل مليونين من البشر‏,‏ كنت مميزا كذلك في النعمة عليك بالشفاء التام‏,‏ مما يؤدي إليه من عجز وشلل علي ندرة ما ينجو أحد من بصماته وآثاره‏,‏ وأحسب أنك سوف تكون مميزا كذلك بإذن الله في العطاء لك من رب السماء وفي تعويضه وجوائزه لأمثالك من الأمناء مع الحياة‏.‏
ولسوف يرزقك الله سبحانه وتعالي خيرا عميما تسدد به كل الديون وتواصل عطاءك لأمك وأخويك وتبني حياتك بإذن الله‏..‏
ولسوف تصبح محنة المرض الداهم الذي كان يئد كل أحلامك وآمالك في الحياة‏,‏ ذكري تذكرك إذا نسيت بقيمة كل لحظة من لحظات العمر‏..‏ وقيمة نعمة الصحة والعافية بل وقيمة حتي مجرد القدرة علي الحركة دون الاستناد إلي كتف أحد وقيمة بقية النعم الأخري الجليلة لانعرف قيمتها للأسف إلا حين نفقد بعضها أو يعتورها المرض‏.‏ ولا عجب في ذلك فبضدها تعرف الأشياء غالبا‏,‏ ولولا الموت ما عرفنا قيمة الحياة‏,‏ ولولا المرض لما أدركنا قيمة الصحة‏,‏ ولولا وعورة الطريق لما استشعرنا راحة الوصول‏,‏ فتذكر كل ذلك أيها الشاب الطيب وأنت في بداية حياتك العملية‏..‏ وامض في طريقك مطمئنا إلي أن عناية الله ترعاك‏..‏ ودعاء والدتك واخويك يحجب عنك السوء‏,‏ وأعلم ــ كما يقول لك الامام أبوحامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين ــ أن أجر الصابرين فيما يصابون به أكبر من النعمة عليهم فيما يعانون منه‏.‏
فإذا كانت النعمة عليك فيما عوفيت منه بهذا القدر الجليل فكيف يكون إذن أجرك في السماء عما ابتليت به؟
إن هذه المحنة هي مقدمة السرور الحقيقي في حياتك علي حد تعبير الأديب الفرنسي فيكتور هوجو الذي كان يعتبر المحن والأحزان مقدمات للسعادة الموعودة والنجاح في الحياة ولسوف يعطيك ربك فترضي بإذن الله‏.‏
ولسوف تقول أنت وأفراد أسرتك ووالدتك دائما‏:‏
وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور صدق الله العظيم‏.‏
وشكرا لك علي رسالتك الجميلة هذه وعلي أمنياتك الطيبة لكاتبي رسالتي جمال الأشياء واليوم الجميل والجميع‏..‏ وأرجو لك كل الخير والسعادة والتوفيق في الحياة بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق