23-11-2001
أنا شاب في الرابعة والثلاثين من عمري, نشأت في أسرة مفككة قضت عليها الأقدار بأن تنهار وأنا في مرحلة الطفولة, وطلق أبي أمي وأنا ـ أكبر الأبناءـ في الثامنة, وأختي الصغري لا يتجاوز عمرها بضعة شهور, وكان أبي من الأجيال الأولي التي تخرجت في جامعة فاروق وحازما في عمله, لكنه كان حاد الطباع وليست له علاقات اجتماعية وشديد الغيرة علي أمي وكثير الاعتداء عليها بالضرب في أحيان كثيرة إذا فتحت نافذة المسكن أو إذا تحدثت مجرد حديث مع إحدي جاراتها, ونشأنا نحن الأبناء في هذا الجو المسموم.. وشهدنا المنازعات القضائية حول النفقة وغيرها من الأسباب بين الطرفين. وفشلت كل مساعي الإصلاح بينهما بسبب العناد الشديد من الجانبين.. وعشنا أيامنا في بيت جدي لأمي في إحدي القري, وبعد بضع سنوات تزوجت أمي من رجل قاهري ميسور الحال يقيم في العاصمة, وغادرتنا لكي تحيا معه وتركتنا وراءها في بيت جدي.. وانتابتني حالات نفسية عديدة وبدأت أهمل دروسي بعد أن كنت من المتفوقين, ثم حصل أبي علي حكم قضائي بضمنا إليه وانتقلت للحياة معه في إحدي المدن, ووجدتني أواجه أزماته النفسية وتقلباته المزاجية وحدي وأنا في التاسعة من عمري وقاسيت معه الكثير حتي استقر الخوف منه في أعماقي بسبب حدة طباعه وكثرة خصامه لي بالشهور.. وكنت أنام كل ليلة في السابعة مساء باكيا, لوحدتي وقسوة أبي وفراغ حياتي, حيث لا أجد من أتحدث معه وليس هناك أطفال في سني يخففون عني, كما كان أبي يرفض دائما السماح لي بالذهاب لرؤية أمي أو أخوتي, وأخشي مجرد ذكر اسم والدتي أو أحد من أخوتي أمامه لكيلا يخاصمني من جديد.. ومع ذلك فقد كنت أقوم بمعظم أعمال البيت وأمسح البلاط وأخرج للوقوف في طابور الخبز أمام الفرن.. وأحاول دائما تجنب كل مايثير غضبه أو يدفعه إلي مخاصمتي.. وبلغت مرحلة الثانوية العامة فكان كل همي أن أستذكر دروسي بجد لكي أخرج من السجن الذي أعيش فيه, وأبتعد عن أبي الذي لم يظهر لي أية رحمة أو شفقة. وتمكنت بقوة الألم, الحصول علي الثانوية العامة بمجموع كبير والتحقت بكلية الطب في نفس المدينة, وسعد أبي لذلك بعض الوقت.. لكن سعادته هذه لم تلبث أن تبخرت حين عرف أنني أذهب سرا من حين لآخر إلي أخوتي لكي أراهم. وخاصمني من جديد وامتنع عن إعطائي رسوم الكلية وثمن الكتب, فكنت أدبر حالي.. وأتحايل علي استعارة الكتب من زملائي وأذهب للمذاكرة معهم.. وأغبطهم علي حياتهم العائلية الدافئة.. وأركز كل جهدي في المحاضرات لأسجلها واستوعبها وأنجح كل سنة.. ولم أرسب أبدا, وخلال ذلك كان أبي قد حصل علي شقة أخري تعلو شقتنا الصغيرة التي أقيم فيها معه.. وتركها خالية لفترة, وحين بلغت السنة الرابعة في دراستي بدأ أبي ينقل بعض الأثاث من مسكننا المكون من حجرتين إلي الشقة العلوية, ثم رجعت من الكلية ذات مساء فسمعت أصوات الزغاريد تنطلق من البيت الذي نقيم فيه.. وسألت عن الخبر فقيل لي إن أبي قد تزوج من فتاة من أهل قريته يعمل والدها في الأرض الزراعية التي يملكها وأنه سيقيم معها في المسكن الجديد, وتعجبت ليس لزواجه لأنه حق له وإنما فقط للفارق الكبير في السن بينه وبين زوجته, فهي فتاة في الخامسة والعشرين من عمرها وهو في الستين من عمره وقتها, وكذلك للفارق الاجتماعي الذي يشي بأن هدف الزواج مادي لأنه ميسور الحال ويملك أرضا زراعية.
وأقام أبي في شقته الجديدة ولم يمض وقت طويل حتي بدأت المشاكل المتوقعة في مثل هذه الظروف, فقامت الزوجة الشابة بالوقيعة بيني وبينه.. واختفي الذهب الذي أحضره لها والدي كشبكة لها من شقته. وبدلا من أن يتجه شك أبي إلي الاتجاه الطبيعي في هذه الظروف.. اتهمني أنا ـ سامحه الله ـ بأنني المسئول عن ذلك, ودفعني خارج مسكنه بعنف معلنا أنني لن أعيش معه في منزل واحد بعد الآن, وانتباتني ثورة عصبية شديدة لم أعرفها من قبل ونزلت إلي الشقة الصغيرة فحطمت كل مافيها حتي زجاج النوافذ بيدي حتي قطعت بعض أوتار أصابعي وأخذت ملابسي وخرجت من البيت وليس معي سوي25 قرشا, وركبت القطار إلي بلدة جدي لأمي.. وعشت معه ومع جدتي وأخوالي الذين تعهدوني بالرعاية حتي أنهيت دراسة الطب بتفوق.
وقبيل انتهاء دراستي كنت قد تعرفت علي زميلة لي بالكلية ابنة طبيب كبير مطلقة ولديها طفلان وأعجبت بشخصيتها وأخلاقياتها.. وعرفت منها ظروف زواجها السابق وكيف اختارت لها الأقدار رجلا له نفس ملامح شخصية أبي, فتعاطفت معها وأحببتها ورغبت في الزواج منها بالرغم من معارضة والدتي وأهلي نظرا لظروفها كمطلقة.. وصممت علي أن أرتبط بها بعد أن نتخرج وننهي سنة الامتياز.. ووجدت فيها الشخصية الحانية.. ووجدت في أسرتها نعم المعين والراعي لي ولها.. وأعطانا والدها شقة في عمارته لنتزوج فيها.. وواجهنا الحياة معا بدخلنا الصغير, حيث لم يكن مرتبانا معا يتجاوزان190 جنيها.. وصممنا علي أن نعتمد علي أنفسنا ونتحمل ظروفنا إلي أن نحقق نجاحنا. وتحملنا صعوبات البداية وجاءني التكليف من وزارة الصحة بالعمل في الصعيد, وتركت زوجتي وهي حامل لتقيم مع أهلها وسافرت إلي مقر عملي وسجلت لدرجة الماجستير, وعانيت كثيرا حتي حصلت عليه. وافتتحت عيادة صغيرة في بلدة والدتي لتعينني علي مواجهة نفقات الحياة بمساعدة والد زوجتي صاحب القلب الكبير الذي حنا علي وأعانني علي أمري وأعطاني سيارة صغيرة يملكها لكي أذهب بها إلي عملي, وتوفيت مولودتي الأولي بعد مجيئها للحياة بسبعة أيام, وكانت صدمة كبيرة لنا ونحن في مستهل حياتنا الزوجية, لكننا احتسبناها عند ربها وأنجبنا بعدها بعام طفلة أخري حفظها الله سبحانه وتعالي.. وأصبحت قرة أعين لنا.. ومارست معها لأول مرة إحساس الأبوة الغامر.. وتعجبت حين ضممتها إلي صدري ومازلت أتعجب كلما فعلت ذلك كيف يستطيع أب أن يقسو علي بضعة منه.. أو علي فلذة كبده كما قسا أبي علي وعلي أخوتي.. إن قلبي يخفق لرؤيتها.. وصدري يجيش بالحب والانفعال كلما نظرت في عينيها أو سمعت بكاءها.. أو لامست يدها الصغيرة.. أو قبلتها فكيف يارب تتحجر بعض القلوب علي أبنائها علي هذا النحو ومن أين قدت مثل هذه القلوب.. من لحم ودم مثلنا أم من الحجر الصلد ؟
إنني أكتب لك قصتي لأقول لك إن أبي, غفر الله له وبعد كل هذه السنين وماشهدته حياتي من تطورات حتي لقد سافرت منذ عام للعمل بالخارج, مازال يرفض أن نزوره أو يرانا أو يري أبناءنا.. بل ويرفض أيضا أن نتعرف علي اخوتنا الذين أنجبهم من زوجته.. وقد حاولنا مرارا أن نسترضيه ونتقرب منه ونقوم بزيارته وأرسلنا إليه وسطاء كثيرين من أجل ذلك, لكنه يرفض حتي مجرد سماع أصواتنا ويقول لهؤلاء الوسطاء إننا لسنا أبناءه!
مع أن أحوالنا جميعا الآن والحمد لله طيبة ولا نبتغي من وراء الصلة به أي شيء ولا نطمع في ماله.. ونعرف جيدا أنه لم ينفعنا ونحن صغار ضعفاء محرومون.. فكيف ينفعنا وقد أكرمنا ربنا جميعا بانصلاح الأحوال وأعطانا من الخير مايغنينا عنه, وإني أسألك في ختام رسالتي عن حكم الشرع فيه.. وماذا ينبغي علينا أن نفعل معه ؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
رأي الشرع فيمن يقسو علي أبنائه ويباعدهم ويقطع رحمه بهم ويحرمهم من رعايته وعطفه وحدبه عليهم لا يحتاج إلي تفصيل, فلقد أوصي الله سبحانه وتعالي الأبناء بالبر بآبائهم وأمهاتهم وشدد عليهم إلي حد أن قرن بينه وبين تخصيصه سبحانه بالعبادة وحده, كما جاء في الآية الكريمة التي تقول: وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا وقال المفسرون في شرحهم لهذه الآية إن الله سبحانه وتعالي لم يوص الآباء والأمهات بالبر بأبنائهم لأن عاطفة الأبوة والأمومة التي تصل في تمكنها من النفس إلي حد الغريزة تغني عن الحاجة الي مثل هذا التشديد, مما يعني ان حقوق الآباء والأمهات علي أبنائهم تقابلها بالضرورة واجبات لهم تجاه أبنائهم لاتحتاج إلي تبيان..
وهذا مايؤكده الحديث الشريف الذي يقول رحم الله امرأ أعان ولده علي بره أي أعانه بحدبه عليه وحسن رعايته له وأدائه لكل حقوقه إليه علي أن يكون ابنا صالحا وإنسانا سويا..
وهذا المعني الذي نبهنا إليه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة.. هو مايقول به الآن علماء التربية المحدثون, الذين يقولون إن حقوق الأبوة والأمومة لا تترتب علي الأبناء بمجرد الميلاد وحده.. أي بمجرد أن يجيء بهم الآباء والأمهات إلي الحياة, وإنما تترتب وتتأكد بحسن تنشئتهم ورعايتهم وتحمل مسئولياتهم الإنسانية والمادية, فإذا افتقد الأبناء كل ذلك لم تتفجر في قلوبهم عاطفة البنوة تجاه الآباء والأمهات ولم تتعمق ولقد تتحول علاقتهم بذويهم إلي مايسميه البعض بعلاقة صغار الضفادع بأمهاتها.. فالضفادع حين تضع بيضها في المستنقع تهجر صغارها وتتركها تواجه أقدارها وحدها.. وتنقطع كل صلة بينها وبين هؤلاء الأمهات..
ومن المؤسف حقا أن ينحو البعض في علاقتهم بأبنائهم مثل هذا المنحي المخالف للطبيعة البشرية ولكل شرع ودين. فيتخلون عنهم أو يقسون عليهم قسوة ظالمة, أو يباعدونهم وينفضون أيديهم منهم كأن لم يأتوا بهم من عالم الغيب والشهادة, ويرشحونهم بذلك للعقوق وكل الآثار التربوية والنفسية السيئة لافتقاد الصلة الطبيعية السليمة بين الآباء والأبناء, وقصة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مع الرجل الذي جاءه يشكو إليه عقوق ابنه تؤكد هذا المعني التربوي العظيم.. فلقد شكا إليه من عقوق ابنه وعصيانه له فاستدعاه عمر وعنفه علي ذلك.. فقال له الابن: أليست للولد حقوق علي أبيه فأجاب نعم. قال: ماهي. قال:
أن يحسن اختيار أمه ويحسن اسمه ويعلمه الكتاب. فقال الولد: ياأمير المؤمنين إن أبي لم يفعل شيئا من ذلك, فالتفت عمر إلي الرجل وقال له: جئت تشكو عقوق ابنك وقد عققته قبل أن يعقك وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك, ثم صرف الابن دون عقاب.
والمغزي هو أن للأبناء علي آبائهم حقوقا لا مراء فيها, فإذا قصر فيها الآباء كان عليهم بعض إثم عقوق أبنائهم عليهم.
ولست أريد الإطالة في هذا الحديث لأنه شائع ومعروف, لكني أتوقف فقط أمام اللحظة التي توقفت أنت أمامها متأملا حين تفجر ينبوع عاطفة الأبوة في قلبك تجاه طفلتك الوليدة.. وأنت تضمها إلي صدرك فتعجبت كيف لبعض القلوب أن تقسو علي فلذات أكبادها كما قسا والدك عليك وعلي أخوتك.
وأنت محق بغير شك في تأملك لهذه اللحظة وتألمك لها وأنت تجتر مخزون الذكريات الأليمة عن قسوة أبيك عليك ومقاطعته لك. فالأبوة هبة جليلة يهبها الخالق العظيم لمن يشاء ويجعل من يشاء عقيما كما أنها تاج علي رؤوس الآباء لا يعرف قدره إلا أصحاب القلوب الحكيمة والمحرومون منه.. فماذا نقول لمن يأبي علي نفسه ماكرمه به ربه وأنعم عليه, لقد وجدت لنفسك أبا بديلا في شخص والد زوجتك الذي حدب عليك وأعانك علي أمرك.. فأي خسران لأب ان يضطر ابنه لأن يتلمس لنفسه أبا وسندا وعونا في الحياة غيره وهو حي يرزق ؟
إنك تسألني ماذا تفعل معه.. وجوابي هو أن من تمام سعادة المرء أن ينفي عن نفسه أية شبهة عقوق لأحد أبويه.. وأية شبهة قطع لرحم أمر الله بها أن توصل, إن لم يكن حرصا علي الرحم المقطوعة في حد ذاتها فليكن إبراء للذمة وطلبا لراحة القلب والضمير.. وتوسلا إلي الله رب العالمين أن يحفظ عليه سعادته.. ويحميه من غوائل الأيام.
وبهذا المفهوم فإن من واجبك أن تبذل كل ماتستطيع من جهد لاستعادة صلتك بأبيك أنت وأخوتك ومحو كل ماتراكم في نفسه من مرارات سابقة تجاهك وتجاه اخوتك حتي ولو لم يكن محقا فيها, ليس فقط عن طريق الوسطاء وإنما أيضا بالاتصال المباشر به.. وزيارته.. والصبر علي جفائه لك في البداية وبالكتابة إليه من مهجرك مادا إليه يدك ومؤكدا له أنك لا تطلب من سعيك إليه إلا أن ترعي حدود ربك معه.. ولا تأمل في خير من جانبه.. ولا في أي تعويض عن سابق تخليه عنك ومجافاته لك..
ولا بأس بأن تكتب إليه وتتصل به في المناسبات الدينية مهنئا ومؤكدا أصالتك وصدوعك بأمر ربك بأن تحسن إلي أبيك ولو أساء إليك.. فإن تجاوز عن موقفه السابق منك ومن اخوتك وأسقط حاجز الرفض والقطيعة ولو شكليا بينه وبينكم فلقد تحقق الأمل.. وتخلصت أنت من كل إحساس بالذنب أو الإثم لاستمرار هذه القطيعة معه.. وإن ظل علي تحجره وقسوته ورفضه المطلق لك ولاخوتك وإصراره علي الإثم وقطع أبنائه.. فلقد أبرأت ذمتك من أي تقصير وقدمت كتابك بيمينك خاليا من شبهة الإثم والعقوق.. ولا لوم عليك إن سلمت باليأس منه وتركت أمره لخالقه يوم يكون الحساب.
مدونة بريد الجمعة مدونة إجتماعية ترصد أحوال الشارع المصرى والوطن العربى مدونة تتناول قصص, ومشكلات حقيقية للوطن العربى مثل: (ظاهرة العنوسة, الخيانة الزوجية, الخلافات الزوجية, التفكك الأسرى, الطلاق وآثاره السلبية على الأبناء, الحب من طرف واحد, مرض التوحد, الإبتلاءات من فقر ومرض وكيفية مواجهة الإنسان لها) ثم يعرض الموقع فى أخر كل موضوع رأى المحرر فى التغلب على هذه المحن
السبت، ١ يناير ٢٠٠٠
الجـــو المســـــموم
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق