الجمعة، ٣ أغسطس ٢٠١٢

بعد الوسواس

30-06-2006
سيدي‏..‏ لقد نشأت في بيئة متدينة لأب سليل عائلة من العلماء يلتزم بالأمانة والشرف والتفاني في العمل‏..‏ كان قليل الكلام‏,‏ كثير الفعل لا يحابي أحدا في عمله‏..‏ الكل كان يهابه ونحن أيضا في البيت رغم أنه ـ يرحمه الله ـ لم يمد يده علي أحد فينا‏,‏ بل لم يرفع صوته علي أحد منا‏..‏ كان يحب القراءة وعلي درجة كبيرة من الثقافة‏,‏ فنشأنا مثله نحب القراءة‏,‏ والالتزام يسري في دمنا‏.‏ أمي أيضا كانت مثقفة وربة منزل ممتازة وهي سليلة أعرق الأسر في محافظتنا‏..‏ وفرت لنا الجو الهادئ وربتنا تربية حانية‏.‏

مرت الأعوام وتزوجت زواجا تقليديا من رجل فاضل وأنجبت أبنائي‏,‏ حفظهم الله ما عدا أكبرهم الذي هو لب المشكلة‏..‏ فبعد أن تعرض والده لحادث سيارة منذ عدة سنوات نزلنا القاهرة لمتابعة الأطباء وزرنا ابني في الشقة التي استأجرناها له بعد أن التحق بإحدي كليات القمة وكان يقضي فيها فترة الدراسة‏,‏ ففوجئت به وقد أهمل دراسته إهمالا شديدا‏,‏ لم أصدق نفسي وأنا أراه يقدم الاعتذار عن أداء الامتحانات في تلك الكلية المرموقة التي دخلها بتفوقه وتميزه ونجح في العام الأول بتقدير‏..‏ والأدهي أنه لم يدخل الامتحانات في العام الذي يليه وبدأت ألاحظ عليه أعراض الوسواس القهري‏..‏ يدخل الحمام كل خمس دقائق ليغسل يديه‏,‏ يأنف من الملاءة والغطاء وكيس المخدة‏..‏ وبدأ يرهقني بطلباته التي تبالغ في النظافة‏,‏ فأعيد غسيل الملابس عدة مرات دون أن يمسها وأعيد الترتيب والتنظيم‏,‏ رغم ضيق وقتي بعد عودتي من عملي المرموق الذي يتطلب جهدا إضافيا‏.‏

بعد أيام أهمل ابني الكبير في مظهره‏,‏ رفض حلاقة ذقنه وأطال شعره وابتعد عني وعن أبيه فأدركت أن حالته تسوء‏..‏

بدأنا نطرق أبواب الأطباء النفسيين وتمت معالجته من الوسواس القهري بنجاح والحمد لله‏,‏ لكنه استمر علي إهمال دروسه والتفنن في تضييع الوقت وطلب الأموال لإنفاقها علي أشياء تافهة ولا يبالي بنا ولا يتحمل المسئولية‏,‏ اشتريت كتبا في علم النفس وقرأتها وأظن الآن أن حالته تتشابه إلي حد كبير مع مرض اسمه اكتئاب ثنائي القطبين وهو من أصعب الأمراض النفسية من حيث العلاج‏.‏

قررنا‏,‏ والده وأنا‏,‏ أن ننتقل ونقيم معه في شقة القاهرة وتحملنا أعباء مادية مرهقة فقابلنا ببرود‏,‏ غير مقدر لما نفعله من أجله‏,‏ بل أصر علي أن يحيط نفسه بمزيد من الغموض‏..‏ تابعنا زيارة الأطباء النفسيين وكلما سألنا طبيبا عن حالته لا يصارحنا بالحقيقة‏,‏ فهناك من يقول إنها ضغوط نفسية وإحباط بسبب ظروف الحياة والبلد‏,‏ وهناك من يقول إنها أزمة مراهقة ومأساة جيل‏..‏ لكن هل هذا ما يجعله متبلد الأحاسيس مغيب الضمير معدوم النفس اللوامة‏,‏ يفكر فقط فيما له من حقوق ويدعي التدين‏,‏ أين هو منا وقد كنا نعرف واجباتنا ونتفاني في تأديتها؟ أين هو من التزامنا والتزام آبائنا؟ لقد كنا من جيل يؤدي ما عليه قبل أن يسأل عما له‏..‏ أريد من أي طبيب مخلص أن يطلعني علي حقيقة حالة ابني وكيف أتعامل معه وهل هناك أمل في العلاج أم لا‏.‏ هل يمكن أن يعود ناجحا ومسئولا وحريصا علي مستقبله أم سيظل عذابا لي‏..‏ وهل هو مريض أصلا أم أنه محسود؟ وأذكر أنه نجح في العام الجامعي الأول بتفوق بعد أن نجح في الثانوية بتفوق أيضا‏,‏ في حين رسب زملاؤه من أبناء البلد أو أتوا بمجاميع ضعيفة‏..‏ قالوا عنه ساعتها إنه ذكي ومن بيت متفوقين‏..‏ فهل هذا هو السبب‏,‏ أم أنه
معمول له سحر ليبقي محلك سر بينما يتابع الآخرون حياتهم؟ ونحن نفكر أن نطرق باب التداوي من السحر ونخشي من ذلك لأنه باب غامض ومضلل‏,‏ لكني أعتقد أنه الحسد وأقرأ له القرآن دائما لعله يبرأ‏.‏ فهل نذهب إلي هؤلاء الذين يدعون العلاج بالقرآن؟‏..‏ لقد اختلطت علينا الأشياء‏.‏

سيدي‏..‏ إني أتحسر علي ابني في كل يوم ألف مرة‏,‏ فهو خسارة بشهادة الجميع‏,‏ ولو كان غبيا لكنت سلمت الأمر لله لأن هذه هي إمكاناته‏,‏ لكنه ذكي‏..‏ ربما حسده أحدهم وتمني الشر له‏..‏ لكن لماذا‏..‏ لماذا يتمني ابن آدم الشر لأخيه‏..‏ إني أرجو شيئين‏..‏ أولهما‏:‏ طبيب صبور يخرجنا من هذا النفق المظلم ويشخص حالة ابني ويكون لديه وقت يمنحنا إياه‏(‏ معظم الأطباء الكبار الذين زرناهم لم يكن لديهم الوقت الكافي لنا‏),‏ وثانيهما‏:‏ أن يدعو لنا كل أخ وكل أخت سيذهبان في عمرة بأن يرفع الله هذا البلاء‏.‏
وأخيرا أقول‏:‏ اللهم لا تجعل لنا من أولادنا عدوا لنا‏..‏ بل قرة أعين‏..‏ آمين‏.‏

سيدتي‏..‏ ما استوقفني في رسالتك‏,‏ أنك المتعلمة المثقفة‏,‏ صاحبة الوظيفة المرموقة‏,‏ ابتعدت بتفكيرك عن الحل العلمي لمرض ابنك‏,‏ وفكرت ـ مثل كثيرين ـ في الأعمال والسحر والعلاج بالقرآن‏,‏ في حين أن ابنك يعاني من مرض نفسي أعراضه واضحة‏.‏

إن حالة ابنك تحتاج إلي طبيب نفسي‏,‏ لذلك عرضتها علي الدكتور هاني السبكي استشاري الطب النفسي فقال لي‏:‏ إن بعض حالات الوسواس القهري تتطور وتأخذ شكل الانعزال والإهمال وعادة يكون لدي المريض أفكار مرضية ليس من السهل البوح بها‏,‏ بل إن الأعراض هي عدم البوح‏,‏ فيبدو لكم مكتئبا‏.‏

ما فيه ابنك الآن مرحلة من الاضطراب العقلي تسمي علميا انفصام الشخصية المستتر الأعراض أو السلبي ويحدث هذا المرض نتيجة خلل في بعض كيماويات المخ‏,‏ وهو مرض عالمي نسبته‏1%‏ من تعداد السكان‏,‏ وغير معروف السبب حتي الآن‏.‏

ولكن علاجه معروف بأدوية معينة وبالجلسات الكهربائية ويستغرق العلاج شهرا متصلا‏,‏ وإن كان يستدعي البقاء تحت إشراف طبي مستمر‏.‏

سيدتي‏..‏ لا تضيعي وقتك في البحث عن مشعوذين أو دجالين‏,‏ فابنك مريض وأمانة بين يديك‏,‏ وليس أمامك إلا التوجه به فورا للدخول في أي مستشفي للأمراض النفسية ليبقي هناك فترة العلاج‏,‏ وعليك الالتفات إلي أنه لن يقبل بذلك ولن يرضي بسهولة‏,‏ ولكن إذا عرفت أن العلاج متاح ويمكن أن يعيده إلي ما كان عليه فإن الأمر يستدعي سرعة التحرك‏..‏ وإذا احتجت مساعدتي في ذلك أرجو أن تتصلي بي‏..‏ وإلي لقاء بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق