الجمعة، ٣ أغسطس ٢٠١٢

رائحة الموت‏

05-05-2006
*‏ سيدي‏..‏ استوقفتني قصة الشاب الهارب الي الحياة‏,‏ والذي هرب من قسوة الأيام الي التطرف‏,‏ ثم عاد مرة أخري‏,‏ ليسقط في منطقة لايعرف هل هي الحياة أو الموت‏.‏

أسئلته لك‏,‏ ولنفسه‏,‏ بحثا عن ذاته الضائعة‏,‏ جسدت لي مأساتي‏,‏ علي الرغم من اني وجه آخر للضياع‏.‏

فأنا شاب في الثلاثين من عمري‏..‏ قبل‏12‏ عاما جرفني الاصدقاء الي عالم المخدرات‏,‏ كنت صغيرا‏,‏ تائها‏,‏ يمنحني الأهل ثقتهم‏,‏ بحجة اني كبرت ولاخوف علي‏.‏ بدأت المسألة بالأدوية‏,‏ كانت موضة‏,‏ نذهب الي الصيدليات لنشتري الحبوب الممنوعة من معدومي الضمير‏..‏ البداية لعب وتقليد حتي أصبحت إدمانا‏..‏ يوميا نجمع ما معنا من نقود‏,‏ ولان الطلب كبير‏,‏ ارتفعت الأسعار‏,‏ وكنت أنفق يوميا مايقارب مائتي جنيه‏,‏ ولأننا من أسر متوسطة‏,‏ لم يكن أمامنا إلا بيع كل ما نملك‏,‏ ثم بدأنا في سرقة عائلاتنا‏,‏ وبالطبع انفضح أمرنا‏,‏ بعد أن ظهرت علينا علامات الإدمان‏,‏ ولكن أهلي تكتموا الأمر خوفا من الفضيحة أمام الجيران والأصدقاء‏.‏

استمرت الحياة علي ماهي عليه‏,‏ يوم سرقة‏,‏ ويوم بيع‏,‏ حتي دخلت الجيش‏,‏ وكانت فرصة رائعة لنا جميعا حتي نتوقف عن الإدمان إجباريا‏,‏ وبدأ بعض أصدقائي يتجه الي التدين‏,‏ والبعض الآخر ارتبط بالخطبة‏,‏ أما انا فاتجهت الي التجارة‏,‏ وساعدني أهلي علي ذلك‏,‏ وتحولت الحياة الي الأفضل‏,‏ ونجحت في استعادة احترام الناس لي‏,‏ ولكن لم يدم الأمر طويلا‏.‏

لم يكن لدي مبدأ أحافظ عليه‏,‏ طاقة هائلة لاأعرف كيف استثمرها‏,‏ وكما بدأ إدماني بالأصدقاء‏,‏ عدت اليه أيضا بالأصدقاء ولكن هذه المرة إدمان مختلف‏.‏

في بداية عام‏2003‏ عرفنا البودرة أو البيسة كما يطلق عليها الشباب‏,‏ كان يبيعها لنا عرب السويس وسيناء في مدقات علي طريق الاسماعيلية في منطقة التل الكبير‏,‏ زحام شديد من شباب‏,‏ ونساء‏,‏ ورجال محترمين‏,‏ وكأننا علي باب نادي يوم الخميس‏.‏ ناس تبيع أجهزة تليفزيون‏,‏ موبايلات‏,‏ ساعات‏,‏ ملابس وبطاطين‏,‏ وتجار الصنف يقبلون أي شيء‏.‏

أقسم لك لا أكذب في أي كلمة أكتبها لك‏,‏ فأنا لا أريد إلا الاعتراف بكل ماحدث لعلك تنجح في مساعدتي‏.‏

ذاع صيت المكان‏,‏ فانتشرت لجان التفتيش في الطريق‏,‏ لكن كان دائما هناك طريق نستطيع المرور منه بدون تفتيش‏,‏ سياسة مين حطها وليه الله أعلم‏.‏ وبناء علي رغبة الجماهير‏,‏ اقترب العرب حتي وصلوا الي أول طريق السويس يعني‏5‏ دقائق من مدينة نصر‏,‏ طبعا اللجان في الطريق تفتش علي أذرعة الشباب‏,‏ ولكن التجار في أماكنهم‏.‏

لايوجد شيء قذر يمكن ان تتخيله لم نفعله‏,‏ البنات كانت تبيع أجسادها‏,‏ ونحن نسرق كل شيء أمامنا‏,‏ في البيت أو في الشارع‏.‏

ومثل أي أحد أدمن الهيروين‏,‏ خاصة المغشوش‏,‏ بدأنا في الانهيار‏,‏ بعضنا مات أمام عيوننا‏,‏ والبعض الآخر أدخله أهله المستشفي للعلاج‏,‏ ثم خرج أكثر إدمانا‏,‏ وهذا ما أصابنا باليأس ولم يحرضنا علي السعي للعلاج‏,‏ وان كانت رغبة كل منا هي الهروب من هذا المستنقع‏,‏ ولكن تجار الصنف كانوا كلما ابتعدنا طاردونا بخفض الأسعار‏.‏

استمرت حياتي هكذا حتي مات صديقي من الإدمان أمام عيني‏,‏ فاتخذت قراري بالتوقف نهائيا‏,‏ حبست نفسي في بيتي‏,‏ كنت أموت في اليوم مليون مرة من أعراض الانسحاب‏,‏ وأصبت باكتئاب شديد كلما تذكرت ديوني وما سببته لأهلي‏,‏ وكلما نظرت الي نفسي في المرآة‏.‏

شعرت بأني شفيت فخرجت الي الحياة‏,‏ ولكن بلا أصحاب‏,‏ فكرت أن أكون ايجابيا‏,‏ فذهبت الي رئيس مباحث احدي المدن الجديدة علي حدود القاهرة واصطحبته معي الي احد المدقات‏,‏ ولكنه خشي ومن معه الدخول الي المنطقة المظلمة‏,‏ وأوسعوني ضربا‏,‏ واتهموني بأني مدمن وابلغت لأني علي خلاف مع التاجر‏,‏ فعدت حزينا لأتصل بأحد أصدقائي المدمنين‏,‏ وعدت مرة أخري الي نفس الطريق‏..‏ طريق الموت‏,‏ فكرت في الانتحار ولكن مازال لدي أمل في النجاة‏.‏
أنا الآن في حجرتي وحدي‏,‏ أغلقت علي نفسي الأبواب مرة أخري‏..‏

أتمني ان أعيش حياة طبيعية‏..‏ نحن أولاد ناس‏,‏ ممكن يطلع مننا حاجات حلوة كثير‏,‏ ولكن تهنا ولم نجد من يمد يده لينقذنا‏..‏ نفسي أعود الي الحياة وأحس ان هناك من يريدنا‏,‏ يعطف علينا ويحبنا‏,‏ ويؤكد أن لنا قيمة‏..‏
هل يمكن ان يحدث هذا؟ أم نستسلم لما وصلنا اليه حتي يرحمنا الله ويتوفانا‏,‏ وان كنت أتمني الا أموت وأنا علي هذه الحال‏,‏ لأني أخشي من عذابه الشديد‏.‏

*‏ عزيزي‏..‏ نعم أنت الوجه الآخر لصاحب رسالة هارب إلي الحياة
هو ذهب الي الموت عن طريق جماعة متطرفة دعته الي قتل المجتمع الذي كفرته‏..‏

وانت كفرت بالحياة فهربت الي الموت بتطرف آخر‏..‏ انت مثله تماما‏,‏ لم تفهم وتعي معني وجودك في الحياة وأهميته لك وللآخرين‏.‏

لقد اخترت طريق الإدمان وانت صغير السن‏,‏ فابن الـ‏18‏ لم يصطدم بعد بالحياة‏,‏ لم تقس عليه الأيام ولم تصبه باليأس لانه فشل في العثور علي عمل أو شقة‏.‏ المسئولية الكبري تقع في مثل هذه السن علي الآباء والأمهات‏,‏ فوالداك أهملا في تربيتك بزعم انك كبرت‏,‏ وهذا خطأ كبير‏,‏ لأن هذا العمر أولي بالرعاية والاهتمام‏..‏ كثير من الاباء يهملون أبناءهم منذ الصغر‏,‏ فلا يدفعونهم الي ممارسة الرياضة أو يشركونهم في أنشطة ثقافية أو اجتماعية ـ وهذا ليس كلاما انشائيا ـ لاستيعاب طاقاتهم المتفجرة وأفكارهم المتمردة‏,‏ هذا الطريق هو الذي يحمي الأبناء ويضعهم في دائرة أصدقاء آمنين‏,‏ ولكن إطلاق الأبناء في الشارع وعدم مراقبة تصرفاتهم وعلاقاتهم هي التي تؤدي الي مثل ما وصلت اليه‏.‏

ولأن اللوم الان لن يفيد في شيء‏,‏ فإنك تضع يديك علي باب الخروج‏,‏ باب الفرار من الجحيم‏,‏ لقد نجحت بنفسك في العلاج‏,‏ ولكنك عدت الي نفس الطريق‏,‏ وها أنت تغلق عليك بابك‏,‏ اعتمد علي عزيمتك ويمكنني مساعدتك بإدخالك مستشفي متخصص لعلاج الإدمان‏,‏ المهم ان تكون عازم النية علي العودة سالما الي الحياة‏,‏ كما ان وزارة الداخلية تولي مكافحة المخدرات اهتماما خاصا‏,‏ وتطارد تجار الموت في كل مكان‏,‏ وليس تصرف خاطيء من ضابط شرطه دافعا لليأس‏,‏ يمكنك ان تلعب دورا كبيرا في حماية غيرك من الشباب لو اتصلت بي أو ارسلت لي تفصيليا أماكن تجار المخدرات الذين كنت تتردد عليهم أنت وأصدقاؤك‏.‏

عزيزي‏..‏ مرة أخري الحياة تستحق ان تعيشها‏,‏ مازلت صغيرا في السن‏,‏ واصل عزمك علي الشفاء‏,‏ وثق بمقدرتك علي العمل وسداد ديونك‏,‏ وبعدها يمكنك تكوين اسرة سليمة وتتلافي في أبنائك كل الأخطاء التي ارتكبتها وارتكبها أهلك معك‏,‏ اطرد رائحة الموت التي تحاصرك واستنشق ياعزيزي عبير الحياة‏.‏

ولا اعتقد اني في حاجة الي تأكيد دور الحكومة في رعاية مثل هذه الحالات‏,‏ لانها في الواقع ضحية لقصور وإهمال في استيعاب الشباب وتوجيههم ومقاومة غزوهم من تجار الموت الذين انتشروا واستغلوا نقاط الضعف في المجتمع‏,‏ لقتل المستقبل قبل ان يقوي عوده‏..‏ والي لقاء بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق