السبت، ٤ أغسطس ٢٠١٢

جــذور الحــب والموت

02-09-2005
أنا رجل عمري‏45‏ عاما‏..‏ تزوجت من فتاة جميلة متدينة‏..‏ اختارتني علي الرغم من أني كنت في بداية حياتي العملية‏,‏ وإمكاناتي متواضعة علي كل المستويات‏,‏ ولكن أحلامي بلا حدود‏.‏ وكانت زوجتي من أسرة ثرية‏,‏ تحفظت في البداية علي زواجنا‏,‏ بسبب الفارق الاجتماعي‏,‏ ولكن زوجتي رأت في مالم يروه‏,‏ وبذلت معهم جهدا كبيرا لتقنعهم بأني سأكون ناجحا في عملي‏,‏ وأن سعادتها ستكون معي‏.‏

لم تكن بيننا قصة حب‏,‏ كما توحي الكلمات السابقة‏,‏ كان بيننا إعجاب كبير‏,‏ تفاهم واطمئنان لم يكن هناك ظاهريا مايبررهما‏.‏

تزوجنا‏,‏ وخلال وقت قصير‏,‏ تحول هذا الإعجاب إلي حب جارف‏,‏ حب لون الحياة بالبهجة‏,‏ ودفعني دفعا للنجاح حتي أثبت لها أن رهانها أمام أهلها لم يكن خطأ‏,‏ وأني جدير بأن أكون فارسها‏.‏ وحتي أكون أمينا في روايتي‏,‏ هي أيضا تفرغت لصناعتي‏,‏ جعلتني مشروعها الأول والأخير‏,‏ دعمتني بالمال‏,‏ وتركت وظيفتها‏,‏ ومنحتني كل شئ في أيامها‏.‏ازدهرت حياتنا‏,‏ ونبتت في بيتنا وردة جميلة‏,‏ طفلة رائعة تشبه زوجتي‏,‏ فأحببتها حبين‏,‏ الأول لأنها من دمي‏,‏ والثاني لأن من يحب الشجرة يحب الأغصان‏.‏

سيدي‏..‏ سارت حياتنا من حسن إلي حسن‏..‏ استقرار عائلي‏,‏ حب دافئ‏,‏ ونجاح دائم في العمل‏.‏ كنت أسأل نفسي‏:‏ هل يمكن أن تجود الحياة بكل هذه السعادة‏,‏ وكأني كنت أحسد حالي‏,‏ فالأيام علمتني أن الحزن يختبئ دائما في جلباب السعادة‏.‏ ولكن لأن الايمان كان عنوان بيتنا كنت أثق في رحمة الله ورعايته‏,‏ وقبل أن أذهب في النوم أشكر الله كثيرا وأدعوه أن يتم نعمته علينا‏.‏

سنوات مضت‏,‏ سعادة أخري تأتي‏,‏ وخلافات صغيرة‏,‏ يذيبها الحب والتفاهم‏,‏ إلي أن أتي هذا اليوم العصيب‏.‏

منذ‏3‏ سنوات‏,‏ كان شقيق زوجتي الأصغر‏,‏ في طريقه إلي الاسكندرية بسيارته‏,‏ وتعرض لحادث أليم لتفيض روحه إلي بارئها وهو في أحلي سنوات عمره‏.‏ مات قبل زواجه بأيام‏,‏ وماتت معه السعادة في بيتي‏.‏ إنهارت زوجتي‏,‏ تحولت إلي إنسان آخر‏..‏ بكاء في الليل‏,‏ وصمت في النهار‏..‏ إذا تحدثت إليها‏,‏ ردت باقتضاب‏,‏ امتنعت عن لقاء الناس‏,‏ حتي حديثها مع ابنتنا الوحيدة كاد أن ينقطع‏,‏ لاأسمع بينهما حوارا إلا إذا كان صراخا من جانب زوجتي‏,‏ إذا تأخرت ابنتنا مع صديقاتها أو في بيت جدها‏.‏ حرمت زوجتي علي نفسها ارتداء أي ملابس ملونة‏,‏ أو استخدام الماكياج‏,‏ أو مشاهدة التليفزيون‏,‏ علي الرغم من مرور شهور طويلة علي الحادث‏.‏ قلت إن هذا رد فعل طبيعي‏,‏ فقد كان شقيقها قريبا إلي نفسها‏,‏ كما أن الموت يصدمنا عندما يفاجئنا بوجوده الناعم المختبئ فيثير فينا التوجس والقلق‏,‏ وكأنه سيطل علينا مرة أخري فيمن نحب‏.‏

راهنت علي الزمن‏,‏ طبيب الألم‏,‏ فكل الأحزان في بدايتها كبيرة ثم تصغر‏,‏ إلا حزن حبيبتي‏,‏ لقد تضخم نما وتشعب وفشلت كل محاولات لاحتوائه‏.‏ لم أغضب‏,‏ ولم أنصرف عن زوجتي‏,‏ بل ازددت اقترابا وأفضت حنانا‏,‏ لكن دون جدوي‏.‏ كانت أمامي مشكلة أخري‏,‏ ابنتي‏,‏ زهرة عمري‏,‏ ذبلت ابتسامتها وانطفأ توهجها‏,‏ فما أقسي أن ينفجر الليل في وجه الشمس لحظة الشروق‏,‏ وأن يعلن الموت عن وجوده الدائم في أحلي سنوات الحياة‏.‏

لم يقف الأمر عند هذا الحد‏,‏ لقد بدأت زوجتي تتردد علي المساجد بكثرة‏,‏ مهملة لي ولابنتنا‏,‏ ثم تطور الأمر وبدأت في حضور جلسات دينية بأحد النوادي الشهيرة‏,‏ بعدها ارتدت الحجاب‏,‏ ثم الاسدال والجوانتي حتي لاتسلم علي أحد‏..‏ تغير وجه زوجتي وتغيرت لغتها‏..‏ دخلت كلمة حرام بيتنا من أوسع أبوابه‏..‏ كل شئ حرام‏,‏ التليفزيون‏,‏ الراديو‏,‏ قراءة الصحف والمجلات‏..‏ خروجي مع أصدقائي للعشاء في مطعم‏,‏ كلامي مع بعض موظفات شركتي‏,‏ حتي الضحك يميت القلب‏..‏ كله ياسيدي حرام‏..‏ حرام‏.‏ بدأ ظهور شخصيات جديدة في حياة زوجتي‏,‏ سيدات مختمرات ومنقبات يترددن عليها بصفة دائمة‏.‏ في البداية كانت تذهب معهن لحضور دروس دينية في بيوت بعضهن‏,‏ وعندما أعلنت غضبي وتذمري من كثرة خروجها‏,‏ حولت منزلنا إلي قاعة درس ديني‏,‏ كل أسبوع شيخة جديدة وعشاء وتعليمات حتي فقدت إحساسي بأني أعيش في بيت‏,‏ بل أعيش في حضرة أو قاعة دروس دينية‏.‏

وأين إبنتنا في كل هذا‏,‏ لقد حاولت أمها دفعها إلي هذا العالم ولكن ابنتي شعرت باختناق‏,‏ وأصبحت لاتطيق الجلوس في البيت‏..‏ ولأني أيضا منشغل بعملي‏,‏ كما أني كنت أهرب إلي أصدقائي‏,‏ لم أستطع متابعة تصرفاتها أو معرفة أصدقائها‏.‏

وعندما أحسست بالخطر‏,‏ جلست مع زوجتي في مواجهة حادة وحاسمة‏,‏ قلت لها إنني متدين أيضا وأراعي الله في كل تصرفاتي‏,‏ ولكن ماتفعله ليس هو التدين‏,‏ لأنه يأتي علي حساب البيت ومن فيه‏..‏

حذرتها مما تفعله ومن الطريق الذي تأخذنا إليه‏,‏ فقالت لي‏:‏ لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق‏,‏ وأن هذا هو اختيارها‏,‏ لأنها تعرف أن الموت قريب وعليها الاستعداد لتلك اللحظة‏,‏ وتركت لي حرية الاختيار إما قبولها بما هي عليه أو فراق بمعروف‏.‏

صدمني موقفها بقسوة‏,‏ فلم يكن ضمن خياراتي فكرة الطلاق‏,‏ ولكنها كسرت شيئا في نفسي‏,‏ بل في قلبي‏.‏

سيدي‏..‏ لقد أصبحت وحيدا‏,‏ لاأشعر بالراحة في بيتي‏,‏ فاستأجرت شقة دون علم أحد‏..‏ أذهب إليها أغلب وقتي‏,‏ وأعود إلي بيتي نادرا لأري ابنتي‏,‏ وارتضيت بهذه الحياة وبما قسمه الله لي‏,‏ إلي أن جاء يوم وفوجئت بابنتي باكية تخبرني بأن أمها تريد إجبارها علي إرتداء الحجاب بعد أن أخبرتها برغبتها في العمل كموديل مثل صديقاتها‏.‏

لقد صدمني الخياران‏,‏ إجبارها علي الحجاب‏,‏ واختيارها للعمل كموديل‏.‏ شعرت بحجم الجرم الذي ارتكبناه معا في حق ابنتنا وشعرت بغضب يصل إلي حد الكره تجاه زوجتي‏,‏ ووجدت نفسي أفكر في الزواج بأخري‏,‏ لعل هذا الحل يعيد زوجتي إلي صوابها‏.‏ ويوفر لابنتي مناخا مستقرا تنمو فيه‏,‏ وفي نفس الوقت أعيش بعضا مما تبقي لي في الحياة‏,‏ ولكن شيئا ما في نفسي يذكرني بأيام البهجة‏,‏ ووقوف زوجتي بجواري في الزمن الصعب‏,‏ فأتراجع وأسقط بين الخيارين‏..‏ فهل لك أن تساعدني علي اتخاذ القرار المناسب‏.‏

سيدي لا أخفيك سرا إذا اعترفت لك بأن رسالتك صدمتني أكثر من مرة‏..‏ الأولي عندما أوحت لي بسردك لما فعلته زوجتك معك‏,‏ ونبلها الدائم في مساندتك‏,‏ وهذا الحب وتلك السعادة التي نبتت في بيتكم‏,‏ أقول لك أوحت لي أني في طريقي إلي إعتراف بخطأ في حق تلك السيدة العظيمة‏..‏ ولكني إكتشفت أنك في حالة لوم وعتاب‏,‏ وبتعبير أدق في حالة فرار‏.‏

أما الصدمة الثانية والقاسية‏,‏ فهي تلك الأنانية التي تعاملت بها أنت وزوجتك مع ابنتكما‏,‏ فأنت تضحي بكل شيء من أجل إستمتاعك بالدنيا‏,‏ وزوجتك الفاضلة تضحي هي الآخري بكل شيء من أجل ضمان الآخرة‏..‏ أما الإبنة فلها الضياع والتشتت‏.‏

لذلك أري أن الأزمة الكبري والخطر الحقيقي يمس أولا تلك الفتاة التي تدفع ثمنا لأشياء ليست مسئولة عنها‏.‏

دعني ياصديقي أسألك أولا‏:‏ هل تعتقد أن زوجتك‏,‏ الحانية‏,‏ الرقيقة‏,‏ التي أشعت في بيتكم السعادة علي مدي أكثر من‏15‏ عاما‏,‏ تعيش في سنواتها الأخيرة بصورة طبيعية‏,‏ أم تستشعر أنها تعاني حالة مرضية؟

أعتقد أنك ستميل إلي الإجابة الثانية‏..‏ فإذا سلمت بهذا الرأي‏,‏ سأطرح عليك سؤالا آخر‏:‏ مارأيك في طبيب يهرب ويفر من مريضه عندما يشتد عليه المرض؟‏...‏ بدون سماع رأيك‏,‏ أقول لك أنك هذا الطبيب‏,‏ مع الفارق طبعا‏,‏ فقد أحببت ياصديقي الغصن لأنك تحب الشجرة‏,‏ ولكنك في خريف لتلك الشجرة‏,‏ قررت التضحية بالشجرة والغصن‏.‏

سيدي لا أحب قسوتي عليك‏,‏ فأنا أتفهم معاناتك مع زوجتك‏,‏ وأعرف أن مرارة الألم تصبح أشد عندما تأتي بعد شهد السعادة‏,‏ ولكن ألست معي أنه لا يجب أن تكون كالأسد في الحب ثم تنصرف كالحمل مع اشتداد الرياح‏.‏ إن الموت بإحساسه المفزع حاصر زوجتك واستوطنها فلم تستطع الخروج منه‏,‏ وكان عليك أن تقترب أكثر مما فعلت‏,‏ كان عليك أن تستعين بأصدقائكما‏,‏ بأهلها‏,‏ أو حتي بطبيب متخصص‏.‏

فما أقسي أن يعيش الإنسان وهو لايري إلا الموت‏.‏ ولكنك فرطت بسهولة في كل هذا التاريخ من السعادة‏,‏ وقررت أن تقفز من السفينة‏,‏ وتنجو بنفسك في شقة سرية بحثا عن الأمان وهربا من الوحدة‏,‏ فماذا وجدت ياسيدي؟‏!..‏ إن ابنتك في طريقها للضياع لأنها وجدت نفسها فجأة بين تطرفين‏,‏ أم لاتري إلا الموت‏,‏ غارقة مع صديقاتها‏,‏ وأنت هارب دوما من قيظ البيت إلي ظل الوحدة والهدوء‏.‏ ليس الحل ياصديقي أن تقطع الغصن حتي تموت الشجرة وحيدة‏,‏ بل الحب هو ضخ مياه الحياة مرة أخري إلي جذور الشجرة حتي يزدهر الغصن مرة أخري‏.‏

وأقول لزوجتك الفاضلة‏,‏ إن الذين لايتقبلون حقيقة الموت بسهولة هم البائسون‏,‏ واختيارك لطريق الله بهذا الأسلوب وعلي حساب بيتك وزوجك وابنتك‏,‏ هو اختيار خاطيء‏,‏ فأنت وزوجك متدينان ولو كنت وازنت بين تدينك ورعاية أهلك‏,‏ مالامك أحد‏,‏ ولكنك فضلت العزلة ونسيت أن الله يأمرنا بالاستمتاع بمباهج الحياة‏,‏ فليس دائما ما تسمعينه من تلك الأخوات صائبا‏,‏ فقد سمعت كثيرا آراء مغلوطة وبلاسند‏..‏ تذكري ياعزيزتي أيام البهجة‏,‏ وسلي نفسك في ماذا كنت تعصين الله؟‏!..‏ إن زوجك سيضيع من بين يديك‏,‏ وإبنتك ستفقد مستقبلها‏,‏ فلاتمارسي عليها إكراها‏,‏ لأن الأولاد في حاجة إلي نماذج أكثر منهم إلي نقاد كما قال أحد الفلاسفة‏,‏ وأذكرك بقول سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنه‏:‏إن الله لايطاع استكراها ولايعصي بغلبة‏..‏ إن ابنتك أمانة‏,‏ عليك أن تحافظي عليها‏,‏ فعودي إلي الحياة مرة أخري‏,‏ فما أصعب ألا نري في الحياة إلا الموت‏,‏ فإذا كان الموت حقيقة فإن الحياة ياسيدتي حقيقة أيضا‏,‏ ولكن كيف نحياها؟‏...‏
وإلي لقاء بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق