الجمعة، ٣ أغسطس ٢٠١٢

هارب إلي الحياة

28-04-2006
ربما يدهشك أن تعلم أنني مزقت رسائل كتبتها إليك عدة مرات‏,‏ لا أعلم هل لأنها بدت لي رسائل طويلة؟ أم لأني لا أصدق انك ستنشرها ـ بما فيها ـ ليقرأها الكل؟‏..‏ لا أعرف‏..‏ ولكني في النهاية استسلمت لرغبتي في البوح وإرسال ما أبوح به عسي أن تصلني كلماتك المتأنية الثابتة‏.‏

إنني ياسيدي توليفة عجيبة من المتناقضات الهائلة التي يصعب ـ علي الأقل في نظري ـ وجودها في شخص آخر‏.‏

فأنا ياسيدي شاب في الثامنة والعشرين من عمري‏,‏ مرت سنوات طويلة علي مقابلتي لشخص غير مجري حياتي‏,‏ كنت في السادسة عشرة عندما تعرفت الي طبيب كان خطيبا مفوها في احدي الزوايا التي تستوي علي عروشها الاتجاهات الدينية كالدعوة السلفية والإخوان والجماعة الإسلامية الي اخره‏,‏ كان ناقدا له منطق وحجة يذم أوضاع الحكم والناس‏,‏ يذكر مفاسدهم ومنكراتهم بوضوح‏,‏ ثم سريعا ما حلق لحيته وخلع جلبابه وتحول لشخص مودرن وبدأ يدعو لفكر التكفير‏,‏ كنت أتردد علي مسجد قريب من منزلي وكان يتردد عليه بالمصادفة ووجدته يغزوني بأفكاره‏..‏ نعم ياسيدي‏.‏

لقد دعاني لتكفير المجتمع بدعوي انه مجتمع جاهلي يحكمه شرع أجنبي‏,‏ يسوقه الحكام بالعصا وحزمة البرسيم‏!!‏

لن أحدثك عن تفاصيل قد لايتسع لها صدر صفحاتك ولكني سأوجز في كلمات سريعة‏..‏ فأنا لا أعرف هل تقبلت كلامه في أعماقي أم لا؟ ولكني وجدت نفسي انساق وراءه وأصاحبه وأصاحب من معه في المجلس‏..‏ وكنت أستمع كعادتي أكثر مما أتكلم‏..‏

التقيت بأناس مثقفين قراءاتهم واسعة ومتبحرين في اللغة والتفسير وكنت أجلس أمامهم فاغر الفاه‏!‏

كانوا يشكلون مجتمعا صغيرا يتحدث عن مجتمع كبير يجب ان ينهار‏,‏ والوسيلة في هذا هي الدعوة‏..‏ نعم الدعوة لخلع الولاء والسعي لهجرة كل ما يقوم به العصاة بلا عنف‏,‏ ولكن بالتقية أي بأن نخفي أهدافنا حتي يحين التمكين فنعلن عنها‏..‏

مرت الأيام‏..‏ لا أعرف كيف استقر وضعي علي السلبية‏,‏ كانوا يرونني سلبيا للغاية فهم يتكلمون ويستمعون وأنا أستمع فقط‏,‏ هم يؤمنون بآرائهم وأنا لا رأي لي‏,‏ وإذا سألوني عن رأيي في أمر ما‏..‏ أشير الي آرائهم هم بلا إجابة تعبر عن نفسي وربما ذلك ما زرع الفجوة بيننا‏..‏ حتي انهم كثيرا ما حاولوا إبعادي عنهم والتنكر لي حتي افارق مجالسهم بعدما رأوني سلبيا أسعي لصحبة جيران في الحي‏,‏ أما هم فيريدون أكثر من هذا يريدون صحبة جهاد وفكر وسعي‏..‏

كنت أقابل تنكرهم لي ـ ولا أعرف السبب ـ بالتودد لهم أجمع معلومات من الكتب حتي أعرضها عليهم وأرضيهم‏,‏ ومرت أحداث طويلة لكني ظللت تائها لا أعلم ما هو موقعي من إعراب جملة الحياة‏!‏ ماذا أريد من التكفير وأهله؟‏!‏ لماذا ألتصق بهذه الجماعة‏..‏ هل لأدفن سلبيتي في شخصياتهم القوية؟ أم لأهرب من الواقع الذي يحياه أترابي ويسعون فيه لتكوين حياتهم؟ أم من أجل الأمل في الجنة والهروب من النار؟‏!‏

ومرت الأيام ووجدت نفسي لا أبتغي من وراء صحبتي لأولئك المكفرين شيئا‏..‏ كنت مجرد دلدول لهم لا أدري هل هذا هو ما يريده الدين؟ أم هذه هي الدنيا التي نذم أهلها وأهواءهم فيها؟

تصور اني فارقت أهلي‏10‏ أشهر بزعم اعتزالهم واعتزال كفرهم ومخالفتهم‏,‏ فاتحا صدري للهجرة التي دعوني اليها بدون نظرة لمتاع الدنيا‏,‏ وسكنت غرفة وحيدا وأكلت الفول والفلافل فقط‏,‏ وزعمت انني علي قدر المسئولية أمام الجماعة‏,‏ ومع كل هذا أشعروني بأني لم أوفق في ان أصبح شيئا ذا قيمة أمامهم‏!‏

أحسست ساعتها انني مسخ أمام نفسي‏,‏ تارة أنظر الي المرآة وضميري يؤلمني لأني لا أستطيع ان أرضي جماعتي‏,‏ وتارة تداعبني شهوات نفسي‏,‏ وتارة أتناسي ما أنا فيه حتي أصبحت أتقلب في ظلمات حوت كالذي ابتلع سيدنا يونس مع الفارق‏..‏ واخيرا استسلمت لهم‏.‏

ولكن في نفسي ظلت أفكار تراودني‏..‏ لماذا هذا الشخص الذي اتبعته لاينظر للطب بقدر نظره للدين؟ لماذا يذم مخالفات كمشاهدة التليفزيون وشرب السجائر والاهتمام بجمع المال بهذه الشدة؟‏.‏

كنت أظهر الامتعاض امامه وأوافقه الرأي‏,‏ لكن في الحقيقة كنت أومن بأن كل انسان له الحق في ان يفعل مايشاء‏.‏

ووجدت نفسي أتخبط في ظلمات التقليد الأعمي‏,‏ فإذا ساروا يمينا أسير يمينا‏,‏ وإذا غيروا اتجاههم يسارا أسير يسارا‏.‏

أما أنا فلا أعرف من أنا؟ وكيف أفكر؟ وماذا أريد ـ هل أنا علي صواب أم الناس؟ هل نحن خارجون علي الحياة بتكفير من فيها أم أن الحياة خارجة علينا؟‏!..‏ وبعدما يئست ويئسوا مني افترقنا‏..‏
عدت أدراجي وكلي نقمة علي من حولي كأنهم هم المتسببون فيما أنا فيه‏..‏

فأنا حاصل علي دبلوم فني‏5‏ سنوات تخصص تبريد وتكييف‏,‏ لم أفكر في امتهان الصنعة‏..‏ لم أفكر في ان أكون ابن سوق اسير في مجالي وأدخر مالا‏..‏
فكرت معهم ان الزواج والسعي لكسب الرزق ملهاة عن ذكر الله والدين والدعوة إليه‏..‏

وجدت نفسي ناقما ـ بجد هذه المرة ـ علي نفسي والناس وعلي أبي الذي يدير محلا بالمشاركة مع جدي ولاشيء لديه ليساعدني به‏..‏ مثل عمي الذي ساعد أولاده ووفر لهم الشقق وجهزهم بالأثاث وأقام لهم حفلات الزفاف مع أن أحدهم طبيب والآخر محاسب‏.‏

صببت خيبتي علي عاتق أبي‏..‏ وشعرت بنقمة أيضا علي صاحب العمل الذي عملت معه لأنه يعطيني راتبا‏320‏ جنيها فقط‏.‏ لايفي بحاجات شاب يريد أن يبني نفسه مع اني لم أعمل معه إلا منذ سنة‏,‏ وكأنه من المفروض عليه أن يتكفل بمصاريفي ومشروعاتي لأعوض مافات في السنوات العجاف‏.‏

شعرت لحنين للفتاة التي أحببتها من قبل ولم أعرف هل الدافع هو شوقي لاستعادة حظي من الحياة؟ أم هو حب حقيقي مع أني الآن في حضيض الحضيض المادي؟ والسنوات الماضية مع الجماعة لم يكن فيها للحب معني‏..‏ كانت المرأة الصالحة هي المنقبة والمخمرة‏.‏

هل تصدق ياسيدي أني جريت خلف غريزتي الجنسية‏,‏ انسقت خلف الصور والمجلات والعادة السرية إلي آخر المقبوحات‏.‏

لقد صرت ياسيدي لا أطيق النظر في المصحف ولا أقرب الكتب الدينية والمراجع‏,‏ لقد كرهت كل ذلك‏,‏ كأنما هي معايير الكذب‏..‏ لم أعد أنظر لأي ملتح ولا أطيق الاقتراب من أي شيء له علاقة بتفكير في الدين‏..‏

كل مايشغلني الرغبة العارمة في ادخار المال وشراء الشقة الفاخرة ولو بفكر شاذ متطرف‏..‏ أسعي لذلك ولو بالاحتيال والطرق الملتوية كأن كل ماكنت أتحدث عنه في الدين قد تبخر‏..‏

أشعر الآن بأني كائن نشأ في أحضان زيف‏,‏ أنظر لنفسي وأقول ماهذا الخليط المشوه‏,‏ تارة يغازلني إحساس بالتدين‏,‏ وتارة بالفجر والخروج الصريح عن كل دين‏..‏

أحيانا أشعر بأن جزائي نار جهنم‏,‏ وأحيانا المغفرة‏.‏ أشعر بأني تائه في صحراء لا أعلام فيها‏,‏ فهلا مددت لي أياديك البيضاء وألهمتني بقطرات بلسمك مايداوي جرحي‏,‏ ويسمعني جوابا عن سؤال لم أفلح في أن أجيب عليه وأنا سائله‏..‏ من أنا؟ كيف أري نفسي؟ كيف أفهمها؟
ر‏.‏ع‏.‏م ـ الاسكندرية

سـيدي‏..‏ فجأة‏,‏ أطلت رسالتك علي ذاكرتي‏,‏ بعد أن تغافلت عنها أسابيع بعيدة‏,‏ منذ أرسلتها لي‏,‏ فقد حرت في موقفي من كلماتك‏,‏ احساس غريب من الغضب والتعاطف‏,‏ فقررت تنحيتها جانبا حتي أتخلص من هذا الإحساس‏,‏ إلي أن وقعت الأحداث الإرهابية الأخيرة في مدينة دهب‏,‏ ورأيت شبابا صغيرا يفجر نفسه‏,‏ ليقتل أبرياء‏,‏ معتقدا أن قتلهم هو الطريق إلي الجنة‏,‏ فتذكرت رسالتك‏,‏ وأصابني فزع انساني تجاهك‏,‏ فربما كنت يوما واحدا من هؤلاء الضالين المضللين فعدت إلي كلماتك مرة أخري‏,‏ لأجد فيها الداء والدواء‏.‏

حائرا كنت‏,‏ هاربا من شئ ما‏,‏ خارجا من دائرة الأحلام‏,‏ إلي صحراء الواقع‏,‏ أنهيت تعليمك‏,‏ وكل ماتتمناه وظيفة تساعدك في العثور علي شقة صغيرة‏,‏ تجمعك مع عروس تتمناها لتواصل زحفك نحو الحياة‏.‏ أوليس هذا حقك وحق كل شاب يعيش علي أرض الوطن؟‏..‏ حقك ياسيدي‏,‏ ولكننا لانصنع ظروف الأوطان‏,‏ ولانملك إلا التعايش مع الواقع‏,‏ مقاومته بحثا عن الأفضل‏,‏ اختراقه‏,‏ حتي نصبح جزءا من هذا الوطن‏..‏ مصر تعاني من أزمات طاحنة‏,‏ بطالة مرتفعة‏,‏ فساد‏,‏ إحباطات‏,‏ ولكنها الوطن‏,‏ الديانة‏,‏ فيها أهلونا وأصدقاؤنا‏,‏ بها ولدنا وبها سنقبر‏.‏ إنها القدر ياسيدي‏,‏ ومن منا يمكنه الهروب من القضاء والقدر‏,‏ كل مانسأل الله عنه هو اللطف فيه‏.‏

مثل ملايين الشباب في بلادنا‏,‏ كان يمكنك تجاوز كل اليأس والإحباط‏,‏ وتطرق أبواب العمل‏,‏ قد يطول الانتظار‏,‏ ولكن الباب لابد أن يستجيب للطرق‏..‏ وإلا هل لديك بديل آخر؟‏!‏

نعم كان البديل متاحا‏,‏ هذا الطبيب الذي استغل غياب وزارة الأوقاف لسنوات طوال واحتل منبر الزاوية ليصل إلي الناس الأبرياء‏,‏ الذين يثقون ويصدقون كل من قال الله والرسول عليه الصلاة والسلام‏,‏ بعد أن انعدمت ثقتهم في المسئولين وكلامهم‏..‏ هذا الطبيب الذي خلع جلبابه وحلق لحيته تقية‏,‏ يعرف أهدافه جيدا‏,‏ يختار الأغصان الغضة ليشكلها كما يشاء‏,‏ يمسك بيديه كل نقاط ضعفك‏,‏ تصيد إحباطك ونقمتك علي المجتمع‏,‏ فسرق أملك في الحياة التي تتفتح أمامك ليوصد لك كل أبوابها‏,‏ حتي تقتنع أن الباب الوحيد المفتوح أمامك هو باب الجنة‏,‏ وحتي تصل إليه عليك أن تكفر هذا المجتمع‏:‏ أبوك وأمك وجدودك واخوتك واصدقاؤك وضيوفك‏,‏ كل هؤلاء كفار‏,‏ أنت محدود الثقافة‏,‏ الذي يعجز عن فهم مايقرأ‏,‏ يكفر مجتمعه‏,‏ ليسهل عليه بعد ذلك قتله وإراقة دمه‏.‏ الطبيب حاول وجماعته الإيحاء لك ولمن هم مثلك بأن لكم أهمية‏,‏ وأهميتك ستكتمل بالطاعة العمياء‏,‏ الطاعة في القتل‏,‏ لا في العمل والصلاح‏.‏

لا أحب دور الواعظ أو الناصح‏,‏ فأنت أفلت من هذا الجحيم‏,‏ لتقع في جحيم نفسك‏,‏ لاتجد وعاء تمد إليه روحك المتعبة فتستريح‏..‏ كرهت الدين الذي رأيتهم يدعونه‏,‏ لمست بنفسك كذبهم‏,‏ ولكن أين الحقيقة التي يمكن أن تعيد إليك نفسك الهاربة المهزومة‏.‏ إنها في داخلك ياسيدي‏..‏ تلك القوي التلقائية التي انتزعتك من هؤلاء الارهابيين‏,‏ نعم أبقتك في بطن الحوت‏,‏ ولكنك مازلت حيا‏,‏ والحوت يلفظ الأحياء إلي الحياة التي تستحق بكل قسوتها أن تحياها‏..‏ الحياة اختيار‏,‏ فاخترها بإصرار‏,‏ لأنك لو استثمرت سنواتك التي ضاعت‏,‏ لكنت الآن صاحب خبرة في العمل الذي أتيح لك إذا لم ترتضه‏.‏

لاتستسلم ياعزيزي لشهوات نفسك‏,‏ ولا لعذابات ضميرك‏,‏ ابحث عن نقاط القوة في داخلك‏,‏ قاوم‏,‏ وابحث عن الأجمل‏..‏ لاتتفرغ للوم الظروف والحكومة حتي لو كانوا يستحقون اللوم علي عدم اهتمامهم بك وبغيرك من الشباب‏,‏ علي الرغم من أن هذا واجبهم ودورهم‏,‏ ولكن لن نموت حتي يفيقوا من غفوتهم‏,‏ جازف كي لاتموت وأنت واقف‏.‏ احلم واسع لتنفيذ حلمك‏,‏ أحذر من تعرف ومن تحب من خطط الإرهابيين الذين خبرتهم‏,‏ فهذا واجب عليك‏,‏ ستستمتع بفعله‏.‏
وثق بأن الله قريب من عباده ولايضيع أجر من أحسن عملا‏.‏ وإلي لقاء بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق