السبت، ٤ أغسطس ٢٠١٢

الأصابع الملوثة

23-09-2005
هزمتني إدانتي لنفسي فليتني كنت التي ستدفع الثمن
‏‏أنا سيدة في منتصف الأربعينيات من عمري ـ متزوجة من موظف كبير في إحدي الشركات الخاصة‏,‏ لدي من الأبناء ولد وبنت‏..‏ الولد تخرج في الجامعة منذ‏3‏ سنوات والتحق بالعمل في وظيفة من تلك الوظائف التي يحلم بها أي شاب‏,‏ وابنتي مازالت في عامها قبل الأخير بالجامعة‏.‏

أما أنا يا سيدي ـ وليتني ما كنت ـ فأعمل طبيبة أمراض نساء وتوليد بواحد من المستشفيات الاستثمارية‏,‏ ولدي عيادتي الخاصة في منطقة من أرقي مناطق مدينتي‏..‏ يعني الوضع الاجتماعي والأدبي والمادي مرتفع‏..‏ لم تكن حياتي في بدايتها تنبيء بأني سأنتقل إلي هذه الطبقة الاجتماعية‏,‏ لأني نشأت في أسرة فقيرة نطلق عليها سترا وحياء أنها تنتمي إلي الطبقة المتوسطة‏..‏ الوالد موظف بسيط‏,‏ محدود الدخل‏,‏ والأم ربة منزل طيبة‏,‏ كل حلمها سعادة أبنائها الستة‏,‏ ورضا زوجها الكادح‏..‏ كنت دونا عن أشقائي‏,‏ جامحة‏,‏ طموحي جارح‏,‏ ورغبتي في التمرد والتميز والتفوق خارج حدود سيطرة أي شخص في العائلة‏.‏ حصلت في الثانوية العامة علي مجموع مرتفع‏,‏ والتحقت بكلية الطب في جامعة بمحافظة أخري غير تلك التي كنا نقيم بها‏..‏ هذا الابتعاد وهذه الغربة‏,‏ وكل التمرد بداخلي هي التي صاغت شخصيتي الجديدة التي سأواصل بها زحفي نحو ما وصلت إليه الآن‏.‏

لقد صدمتني المدينة الكبيرة‏,‏ بتناقضاتها‏,‏ بصباحها الكادح‏,‏ المبلل بعرق البسطاء‏.‏ وبليلها العاري الذي يتسع لوجوه مختلفة وكأنها لا تعرف ملامح أبناء صباح تلك المدينة‏,‏ القاهرة‏..‏ كنت حريصة علي الاختلاط بمن هن في مستوي مادي واجتماعي مرتفع‏,‏ أرصد فيهن انفتاحا صادما لكل ما تعلمته في بيتنا‏,‏ وازدواجية دائمة‏,‏ تكفيني للحفاظ علي نفسي من الانجراف إلي عوالمهن المثيرة بغبارها اللامع‏.‏

كان يستفزني كثيرا الحديث الدائم عن الأخلاق‏,‏ وأصحاب الحديث هم أبعد ما يكونون عنها‏..‏ وكان يؤلمني دائما نظرة المجتمع إلي المرأة‏,‏ مجتمع لا يري إلا الرجل‏,‏ لا يسمع إلا له‏,‏ ولا يغفر إلا خطاياه‏.‏

في السنة الأخيرة بالجامعة لفت نظر شاب من أسرة ثرية‏,‏ أعجبته أفكاري وصراحتي‏,‏ فطلب أن يرتبط بي فور تخرجي‏,‏ فرحبت كما رحبت أسرتي به‏,‏ وتم الزواج بسرعة‏..‏ لم يحاصر زوجي طموحي أو يكره نجاحي في عملي كطبيبة‏,‏ وإنما كان يري انشغالي مناسبا لانشغاله الدائم بعمله وسفره المتكرر للخارج‏..‏ واستمرت الحياة هادئة هنية‏,‏ ولد وبنت في ثلاثة أعوام‏.‏

كبر الأبناء‏,‏ وسافرنا مع زوجي إلي إحدي الدول الخليجية المنفتحة‏,‏ التحقت بالعمل هناك في أحد المستشفيات‏,‏ واكتشفت أن الكذب والازدواجية في هذه المجتمعات الأكثر انغلاقا أكبر بكثير مما توقعت ومما اعتقدت أنه مقصور علي المجتمع الذي نشأت فيه‏.‏

سنوات قليلة وعدنا مرة أخري إلي مصر‏,‏ افتتحت عيادتي الخاصة وبدأ نجمي يرتفع وبدأت مأساتي‏..‏ ذات مساء زارتني في العيادة فتاة صغيرة‏,‏ جلست أمامي مرتبكة‏,‏ تتحدث بصعوبة‏,‏ وفجأة طلبت مني ما لم أتوقعه‏..‏ طلبت أن أجري لها جراحة تعيد إليها عذريتها‏..‏ طبعا انتفضت غاضبة‏,‏ طردتها من حجرة الكشف‏,‏ وبينما هي تنصرف باكية‏,‏ وجدت شيئا في داخلي يدفعني لإيقافها‏.‏ سألتها بكثير من الغضب وقليل من الحنان لماذا فعلت ذلك؟‏..‏ حكت لي أنها تعرضت لاعتداء من أحد أقاربها في غياب أسرتها‏,‏ ولم تستطع البوح لأحد بما حدث خوفا من الفضيحة‏,‏ واليوم تقدم لها عريس لم تستطع رفضه كسابقيه‏,‏ وقررت أن تلجأ إلي هذا الحل‏,‏ فإذا فشلت فيه ستهرب من المنزل إلي أي مكان‏..‏ تذكرت ابنتي‏,‏ واستعدت مفاهيم المجتمع الخاطئة عن معني الشرف الذي يختصر في المرأة‏,‏ أما الرجل فعندما يرتكب هذه الخطيئة ينال كل الإعجاب والتشجيع ممن حوله‏..‏ باختصار وافقت وأجريت لها الجراحة‏..‏ وتكررت الحكاية‏..‏ كل يوم فتاة وحكاية مختلفة‏,‏ حتي توقفت عن السؤال‏,‏ وتحول الأمر إلي شيء روتيني في حياتي‏,‏ نعم كنت أشعر أحيانا بحجم الجرم الذي أرتكبه‏,‏ وعندما أتلفت حولي ألتمس العذر ل
لبنات ولنفسي‏,‏ وأدعي أني أنقذ عائلات من العار‏,‏ وأحمي بنات من الإنحراف أو الانتحار وأساعدهن علي الستر‏,‏ لم أكن أحتاج المال كي أفعل ذلك‏,‏ كنت أشعر بسعادة ما‏,‏ أو بمعني أدق بشماتة ما تجاه المجتمع الكاذب‏,‏ مجتمع الذكور وكأني أنتقم من الرجال‏,‏ أتلفت حولي‏,‏ أنظر إلي زوجي وابني فلا أشعر تجاههما بنفس الإحساس‏,‏ لقد أصبت أنا الأخري بالازدواجية‏.‏

لم يكن أحد يعرف ما أرتكبه‏,‏ وبالتحديد زوجي‏..‏ عندما كنت أتحدث مع أبنائي عن الإلتزام والأخلاق أندهش من صوتي‏,‏ من صدقي وأنا الكاذبة‏,‏ ولكنها الحياة‏,‏ نتصالح مع أخطائنا حتي ندمنها ونعتاد علي التعايش معها وتقبلها حتي تصبح الخطيئة جزءا من تصوراتنا عن أنفسنا‏.‏

إلي هنا‏,‏ لم تبدأ المشكلة بعد‏,‏ فهذه أخطائي التي ارتضيتها وكنت أعتقد أن الثمن الذي أدفعه من عذاب ضمير كلما وقفت بين يدي الله هو الثمن الطبيعي والكافي لما أفعله مبررة ذلك بأن ما أقوم به وجه إنساني يغفر لي‏,‏ ولكنها الأقدار حين تمد إليك بكأس ملأتها أنت بيديك وتأمرك بأن تشرب منها‏.‏

فوجئت ذات يوم‏,‏ بابني الذي كنت أقرب إليه من أبيه‏,‏ يخبرني بأنه يعيش حالة حب رائعة مع إحدي زميلاته‏,‏ وأنه يثق في أخلاقها ويعرف أفراد أسرتها جيدا‏,‏ وطلب مني أن أحدد موعدا مع والده لزيارتهم في منزلهم من أجل التعارف أولا قبل أن يتقدم لخطبتها رسميا‏.‏ لأول مرة منذ وقت بعيد‏,‏ أشعر بسعادة غامرة‏,‏ كاد قلبي يتوقف من الفرحة‏..‏ ابني الكبير أصبح عريسا‏,‏ سيتزوج وينجب وأصير جدة‏.‏ عانقته ووعدته بإنجاز المهمة في أسرع وقت‏.‏ نقلت الخبر إلي زوجي‏,‏ فسعد هو الآخر‏,‏ واتفقنا علي موعد الزيارة‏,‏ علي أن نسأل عن أسرة الفتاة بعد اللقاء‏,‏ فابني يستحق جميلة الجميلات ذات الأصل الطيب وذات الدين‏.‏

لم ننم في تلك الليلة‏,‏ وفي الصباح حدد ابني الموعد وتوجهنا إلي بيت العروس‏,‏ البيت في منطقة راقية‏..‏ استقبلنا والدها بترحاب شديد‏..‏ جلسنا ننتظر طلة العروس ـ وليتها ما أطلت ـ ما أن رأيتها حتي كاد قلبي يتوقف‏,‏ وهي توقفت مكانها لدقائق بعد أن هرب الدم من وجهها‏..‏ إنها واحدة منهن‏,‏ من أولئك اللائي ترددن علي عيادتي سرا من أجل الستر‏.‏ أتذكرها جيدا‏,‏ برغم أني أجريت لها الجراحة منذ أكثر من عامين‏,‏ ولكن حكايتها مازالت عالقة في ذاكرتي‏..‏ جلست الفتاة دون أن تنطق بكلمة‏,‏ ابتسامة باهتة‏,‏ وعين متسللة تصطدم بعيني المنكسرة التي تدينها حتي الموت‏.‏ ليتني تركتها يومها تهرب أو تنتحر‏.‏ أدنتها ولم أعرف هل هي الأخري كانت تدينني؟‏..‏ أردت أن أسألها ألم يقل لك ابني أن أمه طبيبة؟ ألم يذكر لك اسمي؟ ربما وقتها كانت أبعدته عنها أو رفضت استقبالنا‏.‏

لم يفهم أحد من الحاضرين سر ما حل بي وبها‏,‏ الصمت كان هو البطل بين كلمات الترحيب التي طالت وحوار الرجال عن العيال اللي كبرت وكبرتنا بسرعة‏..‏ انصرفنا وأسئلة ابني وزوجي تلاحقني عن سبب توتري وصمتي المفاجئين‏,‏ وهل لم تعجبني العروس علي الرغم من أنها جميلة وأنيقة؟ أتذكر أن كل ما قلته إن شيئا فيها لم يريحني‏..‏ إجابة ماسخة بلا معني تكفي لإصابة إبني بالحيرة والغضب‏.‏

ماذا أفعل؟ هل أخبر ابني بما فعلته تلك التي أحبها؟ وماذا أقول له عن نفسي؟‏..‏ وماذا سيكون موقف زوجي‏,‏ هل سيقبل أن يستمر مع امرأة مثلي خدعته كل هذه السنوات؟‏..‏ وما مصير ابنتنا؟

لم أنم ولم أهنأ في تلك الليلة‏,‏ هل أترك ابني يتزوجها؟ يدفع ثمن ما ارتكبته؟

هربت من الاجابة ومن المواجهة‏,‏ منتظرة ما يحمله الصباح وما ستقوله تلك الفتاة لحبيبها‏..‏ عاد إبني في المساء محبطا مهزوما‏,‏ فأسرعت إليه أحتضنه في صدري وأسأله ما به‏,‏ فإذا به يبكي كما الأطفال ويخبرني بأن فتاته أخبرته بأنها صرفت نظر عن موضوع الزواج به نهائيا وطلبت منه ألا يتحدث إليها مرة أخري‏,‏ وعندما حاول أن يفهم سر هذا التغير لم يجد منها إجابة‏..‏ في البداية حمدت الله كثيرا وقلت جاءت من عندها‏,‏ ومثل هذه الأحزان تتلاشي مع الأيام‏..‏ ولكني كنت واهمة‏..‏ لقد انهار ابني يا سيدي‏,‏ انقطع عن الذهاب إلي العمل‏,‏ وهزل جسده‏,‏ وفشلت كل محاولاتنا معه‏..‏ فكرت أن أريح ضميري
وأعترف له بسر حياتي‏,‏ ولكن خوفي علي انهيار بيتنا الدافيء يدفعني إلي الصمت‏.‏ أنا أتعذب كل يوم أمام عذاب ابني‏,‏ ولا أعرف كيف يكون الندم الآن؟ ولا أعرف ماذا يجب أن أفعل أو أقول‏..‏ فهل تساعدني؟

**‏ سيدتي‏:‏ إن الذين يستعذبون خطاياهم‏,‏ يتعذبون بها وهم يحاولون البحث عن مبررات لأفعالهم من أفواه الآخرين‏.‏ فمن السطور الأولي لرسالتك وأنت تحاولين إلصاق الاتهامات بالمجتمع‏,‏ وكأنك تشيرين بأصابعك ـ التي أصبحت ملوثة ـ إلي تناقضات الواقع‏,‏ ملتمسة منها ماقد يدفعك إلي ما فعلته‏,‏ وتنتظرين من الآخرين أن يلعنوا هذا الواقع فيما يمسحون بأياديهم دمعك المسكوب علي ابنك‏,‏ وكنت ستصبحين أكثر تأثيرا فيهم لو كانت دموعك علي نفسك‏,‏ لأنك الخاسرة الأولي في رحلة الحياة التي ستنقضي سريعا مهما طالت‏.‏
نعم‏,‏ مجتمعاتنا تعيش حالة من الازدواجية ومن الكذب ومن الفساد‏,‏ ولكن هل هذا يعني أن نصبح جميعا مزدوجين وكاذبين وفاسدين‏,‏ وهذه ليست حقيقة‏,‏ فالمجتمع فيه عقول وقلوب مستنيرة ومؤمنة تحاول أن تغير ولا تكتفي بمحاولة النجاة‏..‏ ولأنك لست واحدة من هؤلاء‏,‏ فقد استسلمت لرغبة مدمرة تكاد تكون انحرافا سلوكيا مبكرا‏,‏ معتقدة أنك تنتقمين من المجتمع الذكوري‏,‏ بينما أنت تنتقمين من نفسك لأسباب تعمدت عدم ذكرها أو غفلت عنها أو لم تصلي إليها‏,‏ ولأني لا أستطيع أن أتعامل معك كحالة مرضية‏,‏ لأن في هذه الحال عليك باللجوء إلي طبيب متخصص‏,‏ سأتعامل مع ماجاء في رسالتك علي أنك أخطأت الفهم وسلكت طريقا محرما قانونا وشرعا‏.‏

تعالي أولا نتفق علي أن مافعلته جريمة كبري تستحق العقاب الدنيوي الذي تعلمينه جيدا‏,‏ وتستدعي منك الكثير من التوبة والاستغفار‏.‏ فإذا سلمت بهذا فهيا نناقش الواقع الذي تعيشينه‏,‏ أنت تشعرين الآن بخطيئتك‏,‏ لأنك لو نسيتها فستستعظمين خطيئة غيرك‏..‏ لقد ألقيت ياسيدتي بأحجار كثيرة في بئر الحياة وعليك أن تقبلي راضية أن تشربي من نفس البئر التي لوثتها‏,‏ فالله سبحانه وتعالي قال في سورة الأنعام‏:‏ وذروا ظاهر الإثم وباطنه‏,‏ إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون‏..‏ الآن ثمن الجزاء‏..‏ والجزاء لن يكون بالاعتراف لأسرتك‏,‏ لأنك بذلك ستبذرين الشر في نفوس بريئة وستفقدين ولديك الثقة في أي أحد‏,‏ هذا عدا تدمير البيت الذي كان هانئا‏..‏ لقد انحرفت دون مبرر‏,‏ بالرغم من أن الأقدار كانت تغدق عليك بالخير وبالاستقرار‏,‏ وعليك الآن أن تمدي يدك لتحصلي بنفسك علي قدرك راضية بما يصيبك من ألم‏,‏ لأنك لو تعرفين كم أسأت إلي عشرات العائلات‏,‏ ولولا ستر الله ماعرفنا كم الجرائم التي كانت ستحدث لو عرف الرجال بجرم التدليس الذي أدخلته عليهم‏..‏ فأنت بشر وادعيت لنفسك صفة من صفات الله وهي الستر كذبا وزورا لتبرير ماتفعلين‏.‏

تعاملي مع فتاة ابنك‏,‏ بنفس المنطق الكاذب الذي تعاملت به من قبل‏,‏ التمس لها الأعذار‏,‏ وقبل أن ترمين القشة في عينها انظري إلي الخشبة في عينيك‏..‏ اطلبي مقابلتها وأخبريها أنك ستنسين هذه الجريمة التي اشتركتما فيها وعاهديها علي ألا تتطرقا أبدا إلي هذا الحديث‏,‏ علي أن تخلص لابنك وترعاه‏..‏ عامليها كابنتك‏,‏ تطهري أمامها بالاعتراف بخطئك‏,‏ ودعيها هي الأخري تفعل نفس الشيء‏,‏ وتبادر بالاتصال بحبيبها إذا كانت تحبه بصدق‏,‏ أما لو اعترفت لك بأنها لاتحبه فلا جدوي من ذلك‏,‏ لأن مثل هذه العلاقة لن تنجح أو تستمر دون سياج حقيقي من الحب‏.‏

سيدتي‏..‏ لاتغضبي من عنفي معك‏,‏ فمن يزرع الشوك لن يحصد العنب أبدا‏,‏ حتي لو أمهله الله طويلا كي يفيق ولم يفق مثلك‏..‏ ولا تتألمي كثيرا من أجل ابنك‏,‏ فربما هو الآخر كان له علاقات قبل هذه الفتاة‏,‏ وأعتقد أن هذه فرصتك كي لا تسمحي بازدواجية في التفكير تجاه البنت والولد في مجتمعاتنا‏.‏ والي لقاء بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق