21-07-2006
* لا أعرف لماذ أكتب إليك الآن؟.. هل لأني في هذه اللحظة التي أكتب فيها يكتمل عامي الخامس والستين, وأجد نفسي وحيدا مهزوما, وأمامي ظل ابني المتهالك؟.. هل هي الرغبة في الفضفضة واستعراض عمري الذي مر كلمح البصر؟.. هل لأني عشت عمري أبحث عن السعادة, وضحيت بالكثير من أجلها وفي النهاية لم أعثر عليها؟
* أنا ياسيدي ممن يطلق عليهم المجتمع رجال الأعمال بدأت حياتي موظفا صغيرا, ولكن لي أهمية كبيرة, فتوقيعي علي الأوراق يعني الكثير, فهو ينجز مالايجوز, ويحل العقد الصعبة, ويفتح الأبواب, كان راتبي صغيرا لايكفيني لنصف الشهر, وكنت ـ في بداية عملي ـ أقضي أغلب الأيام مختبئا في بيتي, لأنني لا أستطيع الخروج إلي أي مكان يستدعي إنفاق أي نقود.
كانت مصر أيامها, وأنا في العشرينيات, تعيش إحساس الهزيمة والاستعداد للحرب.. مات عبدالناصر, وأحسست مثل أبناء جيلي باليتم, ولم يزل هذا الاحساس, إلا بعد أن حققنا النصر في حرب أكتوبر.. وبدأت مصر تنهض, ودخلنا دنيا الانفتاح الاقتصادي, ودخلت مع الداخلين. لم ألجأ إلي التجارة مثلما فعل كثيرون,, كل مافعلته أني تلفت حولي, فوجدت الكل يتغير.. رئيسي في العمل, زملائي, الكل من حولي فتح أدراج المكاتب, وبقدر ماتدفع, تحصل علي ماتريد, وتتجاوز تعقيدات التأشيرات.
كنت قد أوشكت علي إتمام عامي الخامس والثلاثين, وأنا أعيش عالة علي والدي, لم أتزوج, ولم أشتر شقة.
لا أعرف متي وكيف استسلمت؟! فتحت أنا الآخر درج مكتبي, وبدأت في تلقي الاكراميات ـ كما كنا نسميها ـ وبدأت حياتي في التغير, ملابس جديدة, السهر في أماكن لم أكن أجرؤ علي الاقتراب منها, كما دفعت مقدما لشقة في منطقة جيدة, ولم تبق إلا العروس.
اخترت فتاة من أسرة طيبة ميسورة الحال, وخلال شهور قليلة كان زواجنا.. مسئولية جديدة, استدعت مني كثيرا من الجهد, لإقناع المترددين علي عملي بحجم الجهد الذي أبذله, والذي يستحق أن يقابله المزيد من المال. فإذا إعترض أحد, أو حاول الشكوي والالتفاف علي توقيعي, زدت الأمر تعقيدا, وضاعفت في المقابل الذي أتقاضاه, خاصة بعد ما أصبح كل شيء يتم بالتنسيق بيني وبينك رئيسي وبعض زملائي.
أنجبت زوجتي طفلة جميلة, زاد معها رزقي كثيرا, ولكني كنت قد ضقت بوضعي الوظيفي, لدي أحلام كبيرة, فلست قانعا مثل زملائي بالوظيفة الميري, خاصة أني كنت أري الأجواء مهيأة للنمو في دنيا البيزنس ولم يطل انتظاري, جاءت الضربة التي كنت أتمناها وانتظرها.. ضربة واحدة تعادل الآلاف من الفكة التي أتقاضاها, كنا في بداية الثمانينيات, وجاءني واحد من حيتان هذه المرحلة, كان يضع يده علي مئات الأفدنة ويريد أن يقنن وضعه, ولأنني أعرف قدراتي, إتفقت معه علي مبلغ كبير, لإنهاء كل الأوراق التي يريدها.. لم يتردد, وافق فورا, وأنا بدوري أعددت كل من أريد توقيعهم, وفي هدوء وسرعة أنجزت المهمة, وحصلت علي مبلغ, لم أتخيل يوما أن أراه, بعدها أغلقت درج مكتبي وبقيت في وظيفتي شهورا, بعدها قدمت إستقالتي من الوظيفة, وأطلقت ساقي نحو عالم جديد, بدا ممتعا ومثيرا.
* ستسألني: ألم يؤرقك ضميرك وشعرت بأنك ترتكب جرما حراما؟
في البداية, تألمت قليلا, ولكني تلفت حولي فوجدت الكثيرين يفعلون ذلك, وإن لم أفعل ذلك, فسيفعله غيري ويقبض هو الثمن.. ثم ألم يكن ظلما أن أعيش حياة ضنكا وأري غيري يرفل في النعيم.. إن الحياة فرص, والخاسر هو من يضحي بها.
في بداية زواجي, كنت أحكي لزوجتي عن كل شيء أفعله, ولكنها كانت تعذب ضميري تؤنبني, وأحيانا تخاصمني, فقررت ألا أحكي لها مرة أخري, وعاهدتها بألا أفعل ذلك, كنت أقول لنفسي, لوجربت المعاناة لاتهمتني بالتقصير, بل ليس مستبعدا أن تهدم أسرتنا التي انضم إليها إبني العزيز الجالس الآن مثل الأشباح أمامي وأنا أكتب إليك.
المهم ـ ياسيدي ـ اختطفتني الحياة أو اختطفتها كما اعتقدت وقتها, وبدأت أستثمر أموالي في مشاريع عديدة, ولأني خبرة قديمة, كنت أعرف الطريق إلي درج المكتب, فأنجزت أعمالي بسرعة, وزادت استثماراتي, كما ازداد عدد الطامعين.. فكلما كثرت أموالك وأعمالك, اتسع درج المكتب بحجم من يجلس عليه.. ومن اعتاد أن يقبض ليس صعبا عليه أن يدفع.
سنوات قليلة, أصبحت من رجال الأعمال المرموقين, انتقلت مع أسرتي إلي فيلا أنيقة, التحق أبنائي بمدارس أجنبية, وأصبحت أخباري وأسفاري ضيفا علي صفحات الصحف, بمقابل مادي وبدون.
سنوات مضت,كنت أري الله راضيا عني, غافرا لي, فالحسنات يذهبن السيئات, وأنا لم أكن أتواني عن فعل الخير, لم أرد سائلا, ولم أترك فرصة للمساهمة في بناء مسجد أو مدرسة أو مستشفي إلا واستثمرتها. صدقني لم أكن أقصد من وراء ذلك رياء, بل كنت أبتغي مرضاة الله ومغفرته. فقد حاولت قدر طاقتي ألا استثمر في الحرام, كنت أفعل ذلك ـ في أحيان كثيرة ـ مضطرا.
وذات مساء مقبض استيقظت علي أول طعنة قاسية في حياتي, وبدون الدخول في تفاصيل ـ احتراما لأبنائي ـ عرفت أن زوجتي علي علاقة برجل آخر, وعندما واجهتها, لم تنكر, بل انفجرت في وجهي, وقالت لي إنها لاتحترمني وأني لم أرع الله في نفسي ولافي أولادي, وأنها تشعر أن كل حياتها معي حرام, وطلبت مني أن أطلقها في هدوء, وإلا ستضطر لفضحي أمام أبنائي وأهلي.. ولأنني أتحسس رأسي, وأخشي علي هدم كل مابنيته وضحيت من أجله فعلت ماطلبته مني, وأخبرتني أنها ستتزوج من هذا الشخص الذي تحبه وتحترمه, واتفقنا علي أن يبقي الولد والبنت معي, وتراهما مرة أومرتين كل أسبوع, ولم أعترض علي شيء.
لم استطع مواجهة ابنتي التي إلتحقت بالجامعة بسر انفصالي عن والدتها, أما ابني فيبدو أنه كان سعيدا, لأن غياب الأم يعني له مزيدا من الحرية والانطلاق.
تركتهما في رعاية الخدم في البيت وانطلقت أواصل زحفي نحو مزيد من الثروة حتي اؤمن لهما المستقبل, وحتي لايتعرضا للمعاناة أو الضعف اللذين تعرضت لهما في بداية حياتي.
لم أتعلم من الصفعة الأولي, ورأيت أن زوجتي هي الخاسرة الكبري وستندم مع الأيام, وقتها لن أغفر لها ولن أقبل عودتها.
وكان علي أن استيقظ مرة أخري بعد عامين علي مصيبة أخري, بل قل مصائب. ابنتي حامل, ابنتي الجامعية أحبت سائقها وتزوجته عرفيا ولم أكن سأعرف شيئا لولا الحمل, ولولا أن زوجها طلب منها مواجهتي بالحقيقة, فإما أن أرضي بالأمر الواقع, وإما أن تذهب لتعيش معه في بيت أسرته.
شعرت وقتها بأني أشاهد حلما أو فيلما سينمائيا.. ستسألني ماذا فعلت؟ رضخت وقبلت وعاش السائق معي في الفيلا, يأمر ابنتي ويفعل بها ماشاء وكأنه يريد أن يذلني. أما ابني فقد أبي إلا أن تكتمل مأساتي, فقد اكتشفت أنه أدمن تعاطي المخدرات, فأدخلته مركزا طبيا لعلاج الإدمان, وفشل العلاج, فأرسلته إلي الخارج, وعاد بعد أن اقتنعت أنه شفي تماما, ولكن بعد عودته بشهور, عاد لنفس الأصدقاء ليواصل رحلة إدمانه.. أظل طوال الليل أبحث عنه في منازل أصدقائه أو في الملاهي الليلية, لأعود به محطما محبطا, أغلق عليه الأبواب, ليظل أمامي شبحا شاهدا علي الانتقام الإلهي الذي لاينتهي.
في عامي الخامس والستين, تعيش أم أولادي بعيدا عنا, تتهمني بأنني دمرت ابنيها, وابنتي تركها زوجها بعد أن استولي علي مبلغ كبير من البيت.. إضافة إلي كل مجوهراتها, وتركها لي مع حفيدها, حزينة محبطة.. أما ابني فلم يكمل تعليمه الجامعي, أجول به بين الأطباء, يقولون لي إنه ليس لديه رغبة في الشفاء.
نعيش ثلاثتنا في بيت موحش.. فقدت رغبتي في العمل.. لا أعرف خطوتي المقبلة, أعرف أني أدفع ثمن أخطائي, ولكن ماذنب أبنائي؟ أفكر في بيع كل ماأملك, أفكر كثيرا في الهروب, فهل سيصفح الله عني, وهل سيصفح عن أبنائي, أم أني سأعيش لأتعذب برؤية أحب الناس إلي قلبي يتعذبون؟
أشعر ببعض الراحة الآن لأني تحدثت, وإن كنت في حاجة إلي نصيحة أكثر من حاجتي إلي الإدانة.. فأنا أعرف أخطائي, ولكن لا أجد حولي من يأخذ بيدي أويربت علي كتفي.. فهل تفعل؟
* سيدي.. كنت أتمني أن تكون أكثر وضوحا مع نفسك, وتعترف بأن ما تعانيه, وما عانته أسرتك, بسببك أنت.. بسبب المال الحرام الذي بنيت عليه حياتكم.. كنت من ذوي الإيمان الضعيف لأنك لو آمنت بما قاله رسولنا الكريم( صلي الله عليه وسلم) لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت لو آمنت بهذا ما ارتضيت أن تتعجل في الحصول علي رزقك ـ وهو مقدر لك ـ ورفضت أن تحصل عليه من طرق حرام. لقد أوجدت لنفسك مبررات الرشوة منذ بداية حياتك, معتقدا أن المال يستر رذيلة الأغنياء, فسترك الله طويلا, ولم تلتفت إلي أنه سبحانه وتعالي يمهل ولا يهمل, فسدت وأفسدت مستغلا كل الحيل للهروب من عقاب القانون ونسيت أن عقاب الضمير أقسي وأصعب.
سيدي.. لا أريد أن أقسو عليك بكلماتي, ولكني أتأمل معك رحلتك في الحياة, تلك الرحلة التي قد تدفع الكثيرين منا إلي الخوض فيها, دون التوقف لتأمل فلسفة الحياة, إن حياتنا طالت أو قصرت, هي رحلة بين بابين ما أن ندخل من الأول حتي نغادر من الثاني.
ألم تشبع يوما, ألم يكفك ما جمعته من مال أم أنها الفتنة إنما أموالكم وأولادكم فتنة, والله عنده أجر عظيم صدق الله العظيم.
إن الطمع الذي حملك من حرام إلي حرام, هو الذي أعمي بصيرتك فجعلك لاتري الرسالة القاسية التي وجهها الله إليك بفرار زوجتك منك بصورة مهينة,وبدلا من الالتفات إلي العار الذي عيرتك به وجعلك تتنازل عن كل شيء, قبلت بما أملته عليك, حتي تواصل زحفك.. من أجل من ياسيدي؟
من أجل تأمين مستقبل ابنك وابنتك!.. أين هما الآن وماذا حدث لهما؟
لاتعتقد أن الرحمن الرحيم ينتقم منك فيهما, فهو القائل في كتابه الحكيمولاتزر وازرة وزر أخري, ولكن ما حدث لهما, هو سوء تربية, وغياب كامل للأب مع اهتزاز صورته, وتغييب الأم.. فهل نفعك المال في إنقاذهما؟!
سيدي.. لقد حرت كثيرا في أمر المال الحرام الذي كونته عبر سنوات طوال, وكنت أعتقد أن التخلص منه هو بداية الخلاص, ولكني عدت بالسؤال إلي العالم الأزهري الأستاذ الدكتور مبروك عطية, فأفادني بأن عليك بالتخلص من المال الحرام الذي حصلت عليه في بداية حياتك, برده إلي أهله أو التبرع به في أعمال خير, لأن في ذلك صفاء للنفس وبركة في البدن, علي أن يكون قبل ذلك توبة صادقة مخلصة, مستندا في ذلك إلي الآية الكريمة:
وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لاتظلمون ولا تظلمون.
أيضا عليك بالتصدق الدائم عنك وعن أبنيك تكفيرا عن ذنبك وذنوبهما.
هذا خاص بالشق الديني, بعد ذلك عليك أن تتفرغ لابنك وابنتك حاصرهما بحبك واهتمامك, وامنح والدتهما فرصة التقرب إليهما,
وكن حريصا علي علاج ابنك ومتابعته. وثق في عدل الله وعفوه ورحمته, لاتستكبر خطاياك, فقد يستبدلها الله بكرمه حسنات مع التوبة والاستغفار. وإلي لقاء بإذن الله.
مدونة بريد الجمعة مدونة إجتماعية ترصد أحوال الشارع المصرى والوطن العربى مدونة تتناول قصص, ومشكلات حقيقية للوطن العربى مثل: (ظاهرة العنوسة, الخيانة الزوجية, الخلافات الزوجية, التفكك الأسرى, الطلاق وآثاره السلبية على الأبناء, الحب من طرف واحد, مرض التوحد, الإبتلاءات من فقر ومرض وكيفية مواجهة الإنسان لها) ثم يعرض الموقع فى أخر كل موضوع رأى المحرر فى التغلب على هذه المحن
الجمعة، ٣ أغسطس ٢٠١٢
الحـــــــرام
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق