الجمعة، ٣ أغسطس ٢٠١٢

الحـــــــرام

21-07-2006
*‏ لا أعرف لماذ أكتب إليك الآن؟‏..‏ هل لأني في هذه اللحظة التي أكتب فيها يكتمل عامي الخامس والستين‏,‏ وأجد نفسي وحيدا مهزوما‏,‏ وأمامي ظل ابني المتهالك؟‏..‏ هل هي الرغبة في الفضفضة واستعراض عمري الذي مر كلمح البصر؟‏..‏ هل لأني عشت عمري أبحث عن السعادة‏,‏ وضحيت بالكثير من أجلها وفي النهاية لم أعثر عليها؟

*‏ أنا ياسيدي ممن يطلق عليهم المجتمع رجال الأعمال بدأت حياتي موظفا صغيرا‏,‏ ولكن لي أهمية كبيرة‏,‏ فتوقيعي علي الأوراق يعني الكثير‏,‏ فهو ينجز مالايجوز‏,‏ ويحل العقد الصعبة‏,‏ ويفتح الأبواب‏,‏ كان راتبي صغيرا لايكفيني لنصف الشهر‏,‏ وكنت ـ في بداية عملي ـ أقضي أغلب الأيام مختبئا في بيتي‏,‏ لأنني لا أستطيع الخروج إلي أي مكان يستدعي إنفاق أي نقود‏.‏

كانت مصر أيامها‏,‏ وأنا في العشرينيات‏,‏ تعيش إحساس الهزيمة والاستعداد للحرب‏..‏ مات عبدالناصر‏,‏ وأحسست مثل أبناء جيلي باليتم‏,‏ ولم يزل هذا الاحساس‏,‏ إلا بعد أن حققنا النصر في حرب أكتوبر‏..‏ وبدأت مصر تنهض‏,‏ ودخلنا دنيا الانفتاح الاقتصادي‏,‏ ودخلت مع الداخلين‏.‏ لم ألجأ إلي التجارة مثلما فعل كثيرون‏,,‏ كل مافعلته أني تلفت حولي‏,‏ فوجدت الكل يتغير‏..‏ رئيسي في العمل‏,‏ زملائي‏,‏ الكل من حولي فتح أدراج المكاتب‏,‏ وبقدر ماتدفع‏,‏ تحصل علي ماتريد‏,‏ وتتجاوز تعقيدات التأشيرات‏.‏

كنت قد أوشكت علي إتمام عامي الخامس والثلاثين‏,‏ وأنا أعيش عالة علي والدي‏,‏ لم أتزوج‏,‏ ولم أشتر شقة‏.‏

لا أعرف متي وكيف استسلمت؟‏!‏ فتحت أنا الآخر درج مكتبي‏,‏ وبدأت في تلقي الاكراميات ـ كما كنا نسميها ـ وبدأت حياتي في التغير‏,‏ ملابس جديدة‏,‏ السهر في أماكن لم أكن أجرؤ علي الاقتراب منها‏,‏ كما دفعت مقدما لشقة في منطقة جيدة‏,‏ ولم تبق إلا العروس‏.‏

اخترت فتاة من أسرة طيبة ميسورة الحال‏,‏ وخلال شهور قليلة كان زواجنا‏..‏ مسئولية جديدة‏,‏ استدعت مني كثيرا من الجهد‏,‏ لإقناع المترددين علي عملي بحجم الجهد الذي أبذله‏,‏ والذي يستحق أن يقابله المزيد من المال‏.‏ فإذا إعترض أحد‏,‏ أو حاول الشكوي والالتفاف علي توقيعي‏,‏ زدت الأمر تعقيدا‏,‏ وضاعفت في المقابل الذي أتقاضاه‏,‏ خاصة بعد ما أصبح كل شيء يتم بالتنسيق بيني وبينك رئيسي وبعض زملائي‏.‏

أنجبت زوجتي طفلة جميلة‏,‏ زاد معها رزقي كثيرا‏,‏ ولكني كنت قد ضقت بوضعي الوظيفي‏,‏ لدي أحلام كبيرة‏,‏ فلست قانعا مثل زملائي بالوظيفة الميري‏,‏ خاصة أني كنت أري الأجواء مهيأة للنمو في دنيا البيزنس ولم يطل انتظاري‏,‏ جاءت الضربة التي كنت أتمناها وانتظرها‏..‏ ضربة واحدة تعادل الآلاف من الفكة التي أتقاضاها‏,‏ كنا في بداية الثمانينيات‏,‏ وجاءني واحد من حيتان هذه المرحلة‏,‏ كان يضع يده علي مئات الأفدنة ويريد أن يقنن وضعه‏,‏ ولأنني أعرف قدراتي‏,‏ إتفقت معه علي مبلغ كبير‏,‏ لإنهاء كل الأوراق التي يريدها‏..‏ لم يتردد‏,‏ وافق فورا‏,‏ وأنا بدوري أعددت كل من أريد توقيعهم‏,‏ وفي هدوء وسرعة أنجزت المهمة‏,‏ وحصلت علي مبلغ‏,‏ لم أتخيل يوما أن أراه‏,‏ بعدها أغلقت درج مكتبي وبقيت في وظيفتي شهورا‏,‏ بعدها قدمت إستقالتي من الوظيفة‏,‏ وأطلقت ساقي نحو عالم جديد‏,‏ بدا ممتعا ومثيرا‏.‏

*‏ ستسألني‏:‏ ألم يؤرقك ضميرك وشعرت بأنك ترتكب جرما حراما؟
في البداية‏,‏ تألمت قليلا‏,‏ ولكني تلفت حولي فوجدت الكثيرين يفعلون ذلك‏,‏ وإن لم أفعل ذلك‏,‏ فسيفعله غيري ويقبض هو الثمن‏..‏ ثم ألم يكن ظلما أن أعيش حياة ضنكا وأري غيري يرفل في النعيم‏..‏ إن الحياة فرص‏,‏ والخاسر هو من يضحي بها‏.‏

في بداية زواجي‏,‏ كنت أحكي لزوجتي عن كل شيء أفعله‏,‏ ولكنها كانت تعذب ضميري تؤنبني‏,‏ وأحيانا تخاصمني‏,‏ فقررت ألا أحكي لها مرة أخري‏,‏ وعاهدتها بألا أفعل ذلك‏,‏ كنت أقول لنفسي‏,‏ لوجربت المعاناة لاتهمتني بالتقصير‏,‏ بل ليس مستبعدا أن تهدم أسرتنا التي انضم إليها إبني العزيز الجالس الآن مثل الأشباح أمامي وأنا أكتب إليك‏.‏

المهم ـ ياسيدي ـ اختطفتني الحياة أو اختطفتها كما اعتقدت وقتها‏,‏ وبدأت أستثمر أموالي في مشاريع عديدة‏,‏ ولأني خبرة قديمة‏,‏ كنت أعرف الطريق إلي درج المكتب‏,‏ فأنجزت أعمالي بسرعة‏,‏ وزادت استثماراتي‏,‏ كما ازداد عدد الطامعين‏..‏ فكلما كثرت أموالك وأعمالك‏,‏ اتسع درج المكتب بحجم من يجلس عليه‏..‏ ومن اعتاد أن يقبض ليس صعبا عليه أن يدفع‏.‏

سنوات قليلة‏,‏ أصبحت من رجال الأعمال المرموقين‏,‏ انتقلت مع أسرتي إلي فيلا أنيقة‏,‏ التحق أبنائي بمدارس أجنبية‏,‏ وأصبحت أخباري وأسفاري ضيفا علي صفحات الصحف‏,‏ بمقابل مادي وبدون‏.‏

سنوات مضت‏,‏كنت أري الله راضيا عني‏,‏ غافرا لي‏,‏ فالحسنات يذهبن السيئات‏,‏ وأنا لم أكن أتواني عن فعل الخير‏,‏ لم أرد سائلا‏,‏ ولم أترك فرصة للمساهمة في بناء مسجد أو مدرسة أو مستشفي إلا واستثمرتها‏.‏ صدقني لم أكن أقصد من وراء ذلك رياء‏,‏ بل كنت أبتغي مرضاة الله ومغفرته‏.‏ فقد حاولت قدر طاقتي ألا استثمر في الحرام‏,‏ كنت أفعل ذلك ـ في أحيان كثيرة ـ مضطرا‏.‏

وذات مساء مقبض استيقظت علي أول طعنة قاسية في حياتي‏,‏ وبدون الدخول في تفاصيل ـ احتراما لأبنائي ـ عرفت أن زوجتي علي علاقة برجل آخر‏,‏ وعندما واجهتها‏,‏ لم تنكر‏,‏ بل انفجرت في وجهي‏,‏ وقالت لي إنها لاتحترمني وأني لم أرع الله في نفسي ولافي أولادي‏,‏ وأنها تشعر أن كل حياتها معي حرام‏,‏ وطلبت مني أن أطلقها في هدوء‏,‏ وإلا ستضطر لفضحي أمام أبنائي وأهلي‏..‏ ولأنني أتحسس رأسي‏,‏ وأخشي علي هدم كل مابنيته وضحيت من أجله فعلت ماطلبته مني‏,‏ وأخبرتني أنها ستتزوج من هذا الشخص الذي تحبه وتحترمه‏,‏ واتفقنا علي أن يبقي الولد والبنت معي‏,‏ وتراهما مرة أومرتين كل أسبوع‏,‏ ولم أعترض علي شيء‏.‏

لم استطع مواجهة ابنتي التي إلتحقت بالجامعة بسر انفصالي عن والدتها‏,‏ أما ابني فيبدو أنه كان سعيدا‏,‏ لأن غياب الأم يعني له مزيدا من الحرية والانطلاق‏.‏

تركتهما في رعاية الخدم في البيت وانطلقت أواصل زحفي نحو مزيد من الثروة حتي اؤمن لهما المستقبل‏,‏ وحتي لايتعرضا للمعاناة أو الضعف اللذين تعرضت لهما في بداية حياتي‏.‏

لم أتعلم من الصفعة الأولي‏,‏ ورأيت أن زوجتي هي الخاسرة الكبري وستندم مع الأيام‏,‏ وقتها لن أغفر لها ولن أقبل عودتها‏.‏

وكان علي أن استيقظ مرة أخري بعد عامين علي مصيبة أخري‏,‏ بل قل مصائب‏.‏ ابنتي حامل‏,‏ ابنتي الجامعية أحبت سائقها وتزوجته عرفيا ولم أكن سأعرف شيئا لولا الحمل‏,‏ ولولا أن زوجها طلب منها مواجهتي بالحقيقة‏,‏ فإما أن أرضي بالأمر الواقع‏,‏ وإما أن تذهب لتعيش معه في بيت أسرته‏.‏

شعرت وقتها بأني أشاهد حلما أو فيلما سينمائيا‏..‏ ستسألني ماذا فعلت؟ رضخت وقبلت وعاش السائق معي في الفيلا‏,‏ يأمر ابنتي ويفعل بها ماشاء وكأنه يريد أن يذلني‏.‏ أما ابني فقد أبي إلا أن تكتمل مأساتي‏,‏ فقد اكتشفت أنه أدمن تعاطي المخدرات‏,‏ فأدخلته مركزا طبيا لعلاج الإدمان‏,‏ وفشل العلاج‏,‏ فأرسلته إلي الخارج‏,‏ وعاد بعد أن اقتنعت أنه شفي تماما‏,‏ ولكن بعد عودته بشهور‏,‏ عاد لنفس الأصدقاء ليواصل رحلة إدمانه‏..‏ أظل طوال الليل أبحث عنه في منازل أصدقائه أو في الملاهي الليلية‏,‏ لأعود به محطما محبطا‏,‏ أغلق عليه الأبواب‏,‏ ليظل أمامي شبحا شاهدا علي الانتقام الإلهي الذي لاينتهي‏.‏

في عامي الخامس والستين‏,‏ تعيش أم أولادي بعيدا عنا‏,‏ تتهمني بأنني دمرت ابنيها‏,‏ وابنتي تركها زوجها بعد أن استولي علي مبلغ كبير من البيت‏..‏ إضافة إلي كل مجوهراتها‏,‏ وتركها لي مع حفيدها‏,‏ حزينة محبطة‏..‏ أما ابني فلم يكمل تعليمه الجامعي‏,‏ أجول به بين الأطباء‏,‏ يقولون لي إنه ليس لديه رغبة في الشفاء‏.‏

نعيش ثلاثتنا في بيت موحش‏..‏ فقدت رغبتي في العمل‏..‏ لا أعرف خطوتي المقبلة‏,‏ أعرف أني أدفع ثمن أخطائي‏,‏ ولكن ماذنب أبنائي؟ أفكر في بيع كل ماأملك‏,‏ أفكر كثيرا في الهروب‏,‏ فهل سيصفح الله عني‏,‏ وهل سيصفح عن أبنائي‏,‏ أم أني سأعيش لأتعذب برؤية أحب الناس إلي قلبي يتعذبون؟

أشعر ببعض الراحة الآن لأني تحدثت‏,‏ وإن كنت في حاجة إلي نصيحة أكثر من حاجتي إلي الإدانة‏..‏ فأنا أعرف أخطائي‏,‏ ولكن لا أجد حولي من يأخذ بيدي أويربت علي كتفي‏..‏ فهل تفعل؟

*‏ سيدي‏..‏ كنت أتمني أن تكون أكثر وضوحا مع نفسك‏,‏ وتعترف بأن ما تعانيه‏,‏ وما عانته أسرتك‏,‏ بسببك أنت‏..‏ بسبب المال الحرام الذي بنيت عليه حياتكم‏..‏ كنت من ذوي الإيمان الضعيف لأنك لو آمنت بما قاله رسولنا الكريم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت لو آمنت بهذا ما ارتضيت أن تتعجل في الحصول علي رزقك ـ وهو مقدر لك ـ ورفضت أن تحصل عليه من طرق حرام‏.‏ لقد أوجدت لنفسك مبررات الرشوة منذ بداية حياتك‏,‏ معتقدا أن المال يستر رذيلة الأغنياء‏,‏ فسترك الله طويلا‏,‏ ولم تلتفت إلي أنه سبحانه وتعالي يمهل ولا يهمل‏,‏ فسدت وأفسدت مستغلا كل الحيل للهروب من عقاب القانون ونسيت أن عقاب الضمير أقسي وأصعب‏.‏
سيدي‏..‏ لا أريد أن أقسو عليك بكلماتي‏,‏ ولكني أتأمل معك رحلتك في الحياة‏,‏ تلك الرحلة التي قد تدفع الكثيرين منا إلي الخوض فيها‏,‏ دون التوقف لتأمل فلسفة الحياة‏,‏ إن حياتنا طالت أو قصرت‏,‏ هي رحلة بين بابين ما أن ندخل من الأول حتي نغادر من الثاني‏.‏

ألم تشبع يوما‏,‏ ألم يكفك ما جمعته من مال أم أنها الفتنة إنما أموالكم وأولادكم فتنة‏,‏ والله عنده أجر عظيم صدق الله العظيم‏.‏

إن الطمع الذي حملك من حرام إلي حرام‏,‏ هو الذي أعمي بصيرتك فجعلك لاتري الرسالة القاسية التي وجهها الله إليك بفرار زوجتك منك بصورة مهينة‏,‏وبدلا من الالتفات إلي العار الذي عيرتك به وجعلك تتنازل عن كل شيء‏,‏ قبلت بما أملته عليك‏,‏ حتي تواصل زحفك‏..‏ من أجل من ياسيدي؟

من أجل تأمين مستقبل ابنك وابنتك‏!..‏ أين هما الآن وماذا حدث لهما؟
لاتعتقد أن الرحمن الرحيم ينتقم منك فيهما‏,‏ فهو القائل في كتابه الحكيمولاتزر وازرة وزر أخري‏,‏ ولكن ما حدث لهما‏,‏ هو سوء تربية‏,‏ وغياب كامل للأب مع اهتزاز صورته‏,‏ وتغييب الأم‏..‏ فهل نفعك المال في إنقاذهما؟‏!‏

سيدي‏..‏ لقد حرت كثيرا في أمر المال الحرام الذي كونته عبر سنوات طوال‏,‏ وكنت أعتقد أن التخلص منه هو بداية الخلاص‏,‏ ولكني عدت بالسؤال إلي العالم الأزهري الأستاذ الدكتور مبروك عطية‏,‏ فأفادني بأن عليك بالتخلص من المال الحرام الذي حصلت عليه في بداية حياتك‏,‏ برده إلي أهله أو التبرع به في أعمال خير‏,‏ لأن في ذلك صفاء للنفس وبركة في البدن‏,‏ علي أن يكون قبل ذلك توبة صادقة مخلصة‏,‏ مستندا في ذلك إلي الآية الكريمة‏:‏
وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لاتظلمون ولا تظلمون‏.‏
أيضا عليك بالتصدق الدائم عنك وعن أبنيك تكفيرا عن ذنبك وذنوبهما‏.‏

هذا خاص بالشق الديني‏,‏ بعد ذلك عليك أن تتفرغ لابنك وابنتك حاصرهما بحبك واهتمامك‏,‏ وامنح والدتهما فرصة التقرب إليهما‏,‏

وكن حريصا علي علاج ابنك ومتابعته‏.‏ وثق في عدل الله وعفوه ورحمته‏,‏ لاتستكبر خطاياك‏,‏ فقد يستبدلها الله بكرمه حسنات مع التوبة والاستغفار‏.‏ وإلي لقاء بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق