السبت، ٤ أغسطس ٢٠١٢

خــــريف الحـــرمان

02-12-2005
سيدي‏..‏ قرأت رسالة الزواج الحرام التي نشرت في بريد الجمعة الأسبوع الماضي‏,‏ والغريب أني لم أغضب من هذه السيدة‏,‏ ولم أدنها‏,‏ والأغرب أني رأيت مشكلتها بسيطة‏,‏ بدءا من اختيار الانفصال عن زوجها مضحية بحياة مستقرة‏,‏ بحثا عن الحب لدي شاب أصغر منها بعشر سنوات‏,‏ وانتهاء باكتشافها سوء خلقه‏.‏ تفهمت ضعفها وتعاطفت مع عدم مقدرتها علي تجاوز أزمة هذا العمر عند المرأة الأربعينية‏.‏

لا أقصد من مقدمتي هذه التعليق علي ماجاء في الرسالة‏,‏ ولكني وجدتها صورة أخري لمأساة نعيشها كأسرة منذ شهور‏,‏ تجسد وجها أصعب لمثل هذه المشكلة‏,‏ ولانعرف طريقا للخروج‏.‏

فأنا سيدة عمري‏36‏ عاما من أسرة عريقة‏,‏ كنت الوسطي بين شاب وفتاة‏..‏ والدي كان يشغل مركزا مرموقا‏,‏ ووالدتي كانت موظفة حتي وصلت إلي سن المعاش‏.‏

كنا أسرة نموذجية‏:‏ أب وأم متفاهمان‏,‏ كلاهما له شخصيته القوية مع احترام كامل لدور الآخر في الحياة‏..‏ كانت أمي تعشق أبي‏,‏ لا تستطيع إغضابه‏,‏ حتي لا تغضب الله‏,‏ فالله سبحانه وتعالي كان حاضرا بقوة في بيتنا‏,‏ نصلي جماعة في البيت‏,‏ لا نشاهد في التليفزيون‏,‏ إلا ماهو مفيد وأخلاقي‏..‏ نجتمع نهاية كل أسبوع في النادي‏.‏

سارت حياتنا هانئة حتي تخرجنا نحن الثلاثة من أفضل الكليات‏,‏ وتزوجنا من مستويات تقاربنا‏,‏ تصادفنا العواصف التقليدية‏,‏ حتي هبت رياح القدر ورحل والدي عن دنيانا منذ‏11‏ عاما‏,‏ وهو يوصينا بأمنا خيرا‏,‏ ويوصيها بنا طويلا‏,‏ لأنه كان يلمس مقدار رغبتها في السيطرة الدائمة علينا‏.‏

مات أبي تاركا أمي علي عتبات الخمسين من عمرها‏,‏ وكان هذا الرحيل هو بداية التغيير‏..‏ أصبحت أمي أكثر استبدادا‏,‏ فرضت علينا مجموعة من القوانين‏,‏ لانخرج بدون أن تعرف إلي أين نذهب‏,‏ لانشتري‏,‏ لا نبيع‏,‏ لا نحلم إلا بعد عرض الأمر عليها‏,‏ فإذا وافقت فعلنا‏,‏ وإذا اعترضت لانملك إلا الرضوخ‏,‏ ومن يخرج علي هذا القانون‏,‏ يجد صدا وموقفا عنيفا منها‏..‏ كنا نقبل هذا راضين‏,‏ مبررين كل هذه التصرفات بحبها الشديد لنا‏,‏ وإن كان الأمر لايخلو من تذمر صامت غالبا ومعلن أحيانا‏.‏

تعمقت أمي في الدين أكثر‏,‏ هجرت التليفزيون نهائيا‏,‏ وبدأت في حضور الدروس الدينية في منازل صديقاتها‏,‏ ثم أصبحت تقيم ندوة دينية كل أسبوع في بيتها‏..‏ أصبحت لاترتدي إلا الملابس المسدلة‏,‏ لا تضع الماكياج‏,‏ لاتصافح الرجال‏,‏ ثم تتابع كل واحد فينا هل أدي فروضه في أوقاتها أم لا‏.‏

خلال هذه السنوات ياسيدي‏,‏ زادت المشكلات بيني وبين زوجي‏,‏ الذي بدأ يضيق بتدخل أمي‏,‏ بالإضافة إلي إساءته معاملتي‏,‏ حتي فاض بي الكيل‏,‏ فأخبرت والدتي برغبتي في الطلاق بعد أن أيدني شقيقي وشقيقتي‏,‏ ولكن والدتي ثارت في وجهي‏,‏ وهددتني إن انفصلت عن زوجي‏,‏ وقالت لي إن المرأة وجدت لخدمة أولادها‏,‏ وعليها أن تضحي بسعادتها وحياتها من أجلهم‏,‏ وعلي الرغم من عدم مقدرتي علي الاستمرار إلا أني رضخت مؤقتا لقرارها‏.‏

لا أذكر تحديدا منذ متي بدأ التغير في علاقتنا بأمي‏,‏ انشغلنا بحياتنا‏,‏ أو ابتعدنا عمدا بحثا عن راحة أو استقلال‏,‏ تباعدت اللقاءات‏,‏ والاتصالات‏,‏ مرة في اليوم‏,‏ كل يومين‏,‏ لقاء وحيد يوم الجمعة‏,‏ حوارات مبتورة‏,‏ ودفء قديم هارب خلف نظرات العيون‏,‏ حتي حدث ما جمعنا من جديد‏..‏ مصيبة‏,‏ فاجعة‏,‏ صدمة لم يكن أحد فينا يتخيلها‏..‏

أمي ياسيدي‏,‏ الجدة لثمانية أحفاد‏,‏ بعد أن بلغت الخامسة والستين من عمرها‏..‏ فجأة ودون مقدمات‏,‏ غيرت من طريقة ملابسها‏,‏ بدأت تهتم بمكياجها‏,‏ لا تعاتبنا علي عدم الاتصال‏,‏ وإذا سألنا عن سر غيابها‏,‏ أخبرتنا باقتضاب بأنها كانت مع صديقاتها في النادي‏.‏

شك ما تسلل إلينا‏,‏ خصلة الشعر التي بدأت تسقط من أسفل حجابها‏,‏ المبالغة في الأناقة‏,‏ ثم هذا التورد الذي تسلل إلي وجهها‏,‏ وتلك القوة التي دبت في جسدها الذي كان يشكو من آلام الشيخوخة‏..‏ هل يمكن أن يكون هو‏...‏ الحب؟‏..‏ سؤال طرحناه علي أنفسنا‏,‏ لا‏,‏ مستحيل‏,‏ صعب‏..‏ لماذا لا؟‏..‏ هكذا قلت لشقيقي وشقيقتي‏,‏ حقها‏,‏ ربما تكون قد تعرفت علي رجل قريب لها في العمر‏,‏ ونس‏,‏ ولكن لماذا لاتخبرنا؟‏..‏ طلب أخي أن ننتظر علي أن يأتي لنا بالخبر اليقين‏,‏ ولم تمر أيام طويلة حتي جاءنا بالخبر الفاجعة‏,‏ أمنا‏,‏ تلك السيدة العظيمة‏,‏ علي علاقة بسائق تاكسي‏,‏ شاب يقترب من نصف عمرها‏,‏ تلتقي به يوميا‏,‏ منظرهما مخز‏,‏ يتصرفان كأنهما عروسان في شهر العسل‏.‏

كارثة حلت بالعائلة‏,‏ ماذا لو عرف الناس‏,‏ أزواجنا‏,‏ الأقارب‏,‏ الأحفاد‏..‏ هل جنت؟ لابد من إيقافها عند حدها‏.‏

ذهبنا إليها‏,‏ واجهناها بما لدينا من معلومات‏,‏ ثارت في وجوهنا‏,‏ فتراجعنا‏,‏ قالت لنا‏:‏ الآن فقط تذكرتموني‏,‏ ليس لكم شأن بي وبحياتي‏,‏ لم تؤكد ولم تنف‏,‏ وتركتنا في حيرتنا وأزمتنا‏,‏ وكادت تطردنا من بيتها‏.‏

الحل‏,‏ اقترحته أنا سيدي‏,‏ وليتني مافعلت‏,‏ لقد انفجر في وجوهنا بركان‏,‏ ليتنا ما فجرناه‏...‏ أحضرت جهاز تسجيل لمراقبة هاتفها الذي كان ينشغل طوال الليل‏,‏ وجلسنا نستمع للمكالمات‏,‏ كارثة حقيقية‏,‏ أمي علي علاقة بهذا الشاب‏,‏ السائق‏,‏ النصاب‏,‏ متزوجة منه سرا‏,‏ يقول لها كلاما معسولا لايليق بفتاة صغيرة‏,‏ يعترف لها بأنه متيم بها‏,‏ وأنه لايري إمرأة سواها‏,‏ وبعدأن يغرقها في بحر من الكلام‏,‏ يطلب منها مايشاء من نقود وأشياء أخري‏,‏ وهي تعده بالتنفيذ في الحال‏.‏

وصلنا جميعا إلي طريق مسدود‏,‏ تحولت حياتنا إلي جحيم دائم‏,‏ نخشي من مواجهتها بما عرفناه‏,‏ ونخشي أن تطردنا تماما من حياتها‏,‏ ونخشي أن نتركها فريسة لهذا النصاب‏,‏ ونخشي الفضيحة‏,‏ ونخشي أن نتركها حتي تفيق علي الوهم الذي عاشته‏.‏
أعيانا التفكير‏,‏ فلجأنا إليك‏..‏ فهل من رأي تنصحنا به؟‏..‏

سـيدتي‏..‏ قبل أن أشاركك في إدانة السيدة والدتك‏,‏ أسألك هل انشغلت مع شقيقيك وأنتم تواجهون الأزمة بتفسير‏:‏ ما الذي دفع تلك المرأة المحترمة إلي هذا الطريق؟ ولماذا تغيرت هكذا فجأة من امرأة ملتزمة جدا‏,‏ إلي امرأة تمارس المراهقة في هذا العمر؟‏!‏
إنها الوحدة ياعزيزتي‏,‏ هي التي دفعت أمك في البداية إلي التشدد دينيا‏,‏ فوصلت في هذا العمر إلي عدم مصافحة الرجال‏,‏ لجأت أكثر إلي الله بحثا عن أمان لم تجده في وجودكم حولها‏,‏ فقد انشغلتم عنها بحثا عن راحة أو استقلال دون أن تلتفتوا إلي أن الإنسان بعد أن يضحي بعمره من أجل أولاده‏,‏ يحتاجهم معه في خريف العمر‏,‏ ولكن كلا منكم انشغل بحياته تاركا إمرأة وحيدة‏,‏ غاضبة‏,‏ وهي التي إعتادت أن تأمر وتنهي‏,‏ فتجيبوا‏,‏ ويبدو أن ابتعادكم طال‏,‏ ابتعاد سمح لها بالخروج إلي النادي‏,‏ ثم إلي الشارع لينقض عليها قناص‏,‏ يشغل وحدتها‏,‏ ويمنحها الفرصة للانتقام منكم‏,‏ تلاقت الأهداف‏,‏ فهو يبحث عن ممول‏,‏ عن صيد دائم‏,‏ وهي تريد أن تؤكد لنفسها أنها مازالت تعيش‏,‏ ويجب عليها ألا تجلس في بيتها وحيدة تنتظر الموت‏...‏ فرصة جديدة ــ من وجهة نظرها ــ للحياة‏,‏ قد تكون في قرارة نفسها توقن أنه مخادع ونصاب‏,‏ ولكنه يمنحها السعادة في الحلال‏,‏ يعطيها الوقت والكلام الجميل‏..‏ الأمان لها في الليل عبر الهاتف‏,‏ والثمن له في الصباح‏,‏ تراه مثلكم‏,‏ بل ربما أفضل منكم‏,‏ لقد أخذتم منها الكثير‏,‏ فأين أنتم الآن‏,‏ أما هو فيعطي ثم يحصل علي المقابل‏,‏ صفقة مغلوطة وخادعة ولكنها تمتلك تبريرا كافيا لتقبل بها‏.‏

ماذا فعلتم أنتم لاستعادة أمكم التي ضلت الطريق‏,‏ لقد انشغلتم بالفضيحة‏,‏ والأهل والأصدقاء‏.‏ ماذا لو عرف الناس؟‏..‏ وكان السؤال الأهم كيف ننقذ تلك الأم المسكينة؟

إنها الأنانية التي مارستموها طويلا‏,‏ وعليكم أن تعيدوا النظر فيما ارتكبتموه‏,‏ فالخطأ ليس مقصورا عليها‏,‏ بل هي التي في أشد الحاجة إلي مساعدتكم‏,‏ فالله سبحانه وتعالي أمرنا أن نقول لهما قولا كريما حتي لو جاهدانا للشرك به‏,‏ فما بالكم والخطأ ليس في حق الخالق ولكن في حقكم‏,‏ هل هذا يمنحكم حق التجاوز في حديثكم معها؟‏!‏

سيدتي‏..‏ عليكم التوقف عن الحديث معها في هذا الموضوع‏,‏ أحيطوها أولا بحبكم ورعايتكم‏,‏ صاحبوها في يومكم وهمومكم وسعادتكم‏..‏ اجعلوها تصدق أنكم تحبونها وتحتاجون إليها ولن تتركوها أبدا وحيدة‏,‏ وقتها فقط ستعترف لنفسها بخطئها وتعود إلي حياتها وحياتكم‏..‏ وسامحيني إذ لم أقس علي تصرفها‏,‏ فأنا لا أستطيع القسوة علي أم في مثل هذا العمر‏,‏ حتي لو أخطأت الطريق‏..‏ ومن منا لا يخطئ يا عزيزتي‏..‏ المهم أن يجد من يأخذ يده إلي شاطئ الأمان‏.‏
وفي النهاية أقول لوالدتك ليس عارا علي الإنسان أن يسقط أمام الألم ولكن العار أن ينهار أمام اللذة وإلي لقاء إنشاء الله‏..‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق