الجمعة، ٣ أغسطس ٢٠١٢

الكـــــــــــنز

08-09-2006
*‏ السعادة‏..‏ الحب‏..‏ الضمير‏..‏ و‏..‏و‏...‏كلمات غامضة يستحيل بلوغها عن طريق التعريف اللغوي والتوصيف‏..‏ بل هي لآلئ ـ أو أغلي ـ يلزم أن تنقب عنها بالغوص بنفسك في أعماق أعماق الحياة‏..‏ لتكتشف في النهاية أنها داخل ذاتك أنت شخصيا‏..!!‏

فتخيل ما نلهث لبلوغه يمينا ويسارا بأرجاء الحياة‏,‏ وندوخ من أجله السبع دوخات‏..‏ ما بين حل وترحال‏..‏ ومناصب أو ثروات أو‏..‏ تكتشف في النهاية أنه بداخلك أنت‏..!!‏

فما أغربها تلك الحياة بحكمتها وبلاغتها وسهلها الممتنع‏..‏ وما أعجبه ذلك الإنسان باندفاعه المحموم كالفراش نحو البريق الزائف والأضواء ـ محترقا بها في أغلب الأحوال ـ تاركا أعماق الذات مقفرة وموحشة‏..‏ دون أدني إنارة أو إعمار أو تعبيد‏..!!‏

وإذا كان للفيلسوف البليغ ديوجين مقولته الخالدة عندما شوهد يبحث بمصباحه عن شيء في عز النهار بالطرقات‏..‏ فلما سئل عنه أجاب أنه يبحث عن الإنسان‏..‏ ففي رأينا المتواضع أن هذا الإنسان يلزم أن يجري البحث عنه بالداخل وفي الأعماق وليس بالطرقات‏..‏ وأن هذا المصباح هو الآخر يلزم أن ينبع ويشع من الداخل كي ينير لنا هو تلك الدروب والطرقات‏!!..‏

إن بلوغ المعني الحقيقي لكل ما سبق يبقي طلسما غامضا يحتاج إلي من يفك رموزه‏..‏ فإذا بدأنا اليوم بمعني السعادة ـ محور رسالة الأسبوع الماضي ـ فما هي هذا الشيء الهلامي الأقرب إلي الوهم والسراب؟‏!‏

لاأخفيك أني بعد مناقشات ومبارزات مع النفس والغير حول مثل هذه المعاني‏,‏ انتهت جميعها لمزيد من الغموض‏..‏ فقد قررت التوقف تماما عن مجرد التفكير فيها‏..‏ مركزا كل اهتماماتي علي القيام بالدور الأساسي الذي خلقنا المولي من أجله‏..‏ وهو إعمار الكون والأنفس من قبله وبعده‏..‏ وذلك وفق الخطوط الرشيدة والبليغة التي حددها لنا‏..‏ وهي أنه بذاته جل علاه‏,‏ وبلا أي واسطة أو تقارير‏,‏ سيري بنفسه هذه الأعمال‏..‏ وأنه من أجل ذلك أمرنا بالإتقان والذي يفوق بمراحل ـ لفظا ومعني ـ ما يسمي في عصرنا هذا بالجودة أو معاييرها‏.‏

بما يعنيه ذلك بالضرورة من عدم الكروتة أو التزويغ‏..‏ أو التذرع بتبريرات فاسدة ومدمرة من نوعية علي قد فلوسهم‏..‏ فأنت تعمل في هذه الحياة من الأصل والبداية بتكليف من الله وعنده مباشرة‏..‏ وأعمالك سيراها بذاته أولا بأول‏.‏

مضي بنا قطار الحياة بمحطاته ـ وبحوادثه وصداماته ـ والذي آثرنا أن نشارك بفعالية في جل أحداثه‏..‏ من تطوع عند الحروب‏..‏ أو المشاركة في حملات مضنية لجمع التبرع بالدم أو المال للمجهود الحربي أو عند الحوادث والكوارث‏..‏ وصولا للمشاركة أيضا بالمظاهرات‏..‏ ومعاك كشف الفساد‏..‏ و‏...‏و‏..‏

وانتهي بنا المطاف إلي نشاط محدود داخل أرجاء الكلية لمعاونة غير القادرين من الطلاب والعمال بالمصروفات والكساء‏..‏ وأغلقنا ملفاتنا ـ اكتفاء بهذا الدور ـ في انتظار أن يقضي الله بأمره المحتوم وبلوغ محطة الوصول‏.‏

لكن القدر كان له رأي مغاير‏..‏ فإذا بالخالق عز وجل وكأنه أراد أن يمنحني مكافأة نهاية الخدمة‏..‏ منبها إياي أن المهمة لم تنته بعد ـ بل وستبدأ من جديد ـ فإذا به يعثرني علي كنز رائع وثمين أتحدي أحدا بالعالم إلا قلة يصادفون مثله‏..!!‏

فذات يوم منذ نحو ثلاثة أعوام‏..‏ وبعد طرقات خافتة علي باب المكتب وثلاث من الملائكة الشابات يسألن عني شخصيا‏..‏ فتخيلت علي الفور انهن من طالبات المعونات‏..‏ فإن بهن من السخيات في العطاء‏..‏ بل ويملكن أنقي وأروع وأغلي مفاتيحه ـ عطاء الحب والنبل والمساندة والقيم والأحلام‏..‏ الأحلام بألا يوجد بمجتمعنا كسير أو محتاج‏..‏ وأنهن يرجونني أن أقبل تبني هذا الحلم والإشراف عليه‏..‏ فإذا بي أنا الذي أغلق ملفاته ويقبع بالانتظار أرجوهن باندفاع وحماس وإلحاح أن يقبلن هن أن يأخذوني معهن بهذا الحلم النبيل والنشاط‏..‏ وإذا بروح جديدة تدب بالعروق والأوصال‏..‏ وبدأنا ـ ومعنا نفر قليل من الطلاب ـ الرحلة والطريق‏.‏

واخترنا لأنفسنا اسم قافلة شعاع الخير‏..‏ ومازلنا نتذكر تلك اللحظات التي بدأنا فيها وقلوبنا تخفق بالأمل والرهبة والخوف ـ الخوف من الفشل في تحقيق أبسط الأحلام‏..‏ والتي لا نملك لها مليما واحدا من الإمكانيات‏..‏ وتوكلنا بكل إخلاص ورجاء علي الله‏..‏ فإذا بنا ومن اليوم التالي مباشرة تنفتح علينا أبواب السماء‏..‏ وينهمر الخير بصورة لا تصدق‏..‏ فأيقنا أن الله معنا‏..‏ وحمدناه وواصلنا المسير‏..‏ وبالأخص داخل الكلية لذوي الحاجة من الطلاب والعمال‏.‏

إلي أن جاء ذات يوم خارج التوقعات والحسبان‏..‏ عندما قررت قافلتنا المضيئة ـ وبأحد أيام رمضان ـ الذهاب ولأول مرة لأطفال الفشل الكلوي والسرطان وتنظيم حفل ترفيهي لهم‏.‏

وداخل قاعة مكتظة بالفقر والثياب المهلهلة والاصفرار والهزال‏..‏ ورائحة العرق الكريه والمرض‏..‏ وجو عام من الاكتئاب والإحباط‏..‏ فإذا بمفاجأة وتحول مذهل وغير متوقع يحدث فور دخولنا وعبورنا الباب‏..‏ فإذا بسكينة وأضواء روحانية تغمر الجميع والمكان‏..‏ وأحاسيس لا توصف‏..‏ وارتقاء لأعلي درجات السماء‏..‏ فأيقنا أن الله بملائكته كان في الانتظار والاستقبال‏..‏ وبالفعل فإذا بالكل في حالة وجدانية رائعة ومرهفة‏..‏ اختلطت فيها الدموع الساخنة مع الرقص والغناء لا فرق بين طالب وأستاذ والأطفال في أحضاننا أو فوق الأكتاف‏..‏ و‏..‏و‏..‏

وإذا باللحظات الخاطفة تعبر عن مرور ساعات‏..‏ ولا أحد يريد التوقف‏..‏ ولا حتي الفرقة التي كانت لديها ارتباطات‏..‏ ولا أهالي المرضي أو الأطفال‏..‏ إلي أن جاء التوقف في النهاية رضوخا وامتثالا لمقتضيات ومواعيد الدواء وجلسات العلاج‏..‏

وعدنا لمنازلنا بعد سفر مرهق ـ وبحكم السن والصيام ـ فيما يشبه الإنهاك‏..‏ وبعد غفوة التقاط أنفاس‏..‏ فإذا بي أرفض تماما مغادرة الفراش أو حتي إضاءة الحجرة‏..‏ فمازلت أعيش وأسبح في تلك الحالة الرائعة غير المسبوقة في حياتي علي الإطلاق‏..‏ واسترجع شريطها بلحظاته مرات ومرات‏..‏ لأفاجأ بهاتف دخيل من الأعماق يقطع علي هذه الحالة بعند وإصرار‏..‏ ويقول لي كنت تتساءل في الماضي عن معني السعادة‏..‏ فها انت تعيشها الآن بكل مذاقها ونبلها‏..‏ ولا تريد أن تتسرب منك أحاسيسها أو روعتها‏!!‏

فيا الله‏..‏ أخيرا جاءتنا الإجابة‏..‏ وبعد أن انصرفنا أساسا عن التفكير في السؤال‏!!.‏

طيب‏..‏ وإذا كانت هذه هي السعادة‏,‏ فبماذا نسمي ما كنا نشعر به بأنشطتنا السابقة من تبرع بالدماء أو مساندة العديد من ذوي الحاجات‏..‏ فيأتينا الرد بأنه كان الإحساس بالرضا عن أداء المهمة‏,‏ أو ما هو أكثر منها‏..‏ أما ما حدث اليوم فهو يختلف جذريا عن كل ما سبق‏.‏

وكان الدرس‏:‏ السعادة ليست سلعة جاهزة يمكن الحصول عليها بالمال أو بالجاه بل يجب أن تصنعها أنت بذاتك وكيانك‏..‏ وأن تغرسها في نفوس الآخرين‏..‏ كي تحصدها في النهاية من نظرات العيون‏!!..‏

يا الله‏..‏ ما هذه البلاغة في الدروس؟ أي أن السعادة يستحيل أن يبلغها الإنسان لنفسه متفردا وحيدا‏..‏ وأنها لا تأتينا إلا بغرسها لدي الآخرين‏..‏ ما هذه الروعة؟‏!.‏

ولعل في ذلك إجابة علي صاحب الرسالة الذي كان يكتفي بإعطاء أو بالأحري إلقاء بعض الصدقات والجنيهات علي أشقائه دون أن يعيرهم أدني اهتمام‏..‏ ويشكو من التعاسة والجفاف‏!!.‏

وللأسف فأمثاله بالملايين ممن يتصورون وهما بأن دورهم يقتصر علي مجرد إخراج الصدقة أو الزكاة‏,,‏ ودعك عن هؤلاء الجماد الذين يعجزون أو يتأففون من وضع اللقمة أو الدواء في فم أمهاتهم‏..‏ أو أن يغسلوا لهن أيديهن الطاهرة‏..‏ أو يدخلوا بهن لدورات المياه‏..‏ أو‏..‏ بل ولا يطيقون حتي السماع لهمومهن أو حكاياتهن المكررة والمعادة‏..‏ ويتصورون أنهم أبرأوا ذمتهم بالهدايا أو بالشهرية المقررة لهن أو للخادمة أو دار الرعاية التي وكلت بها بدلا منهم‏.‏

وهم أنفسهم بالمناسبة نفس الأراضي البور والجماد الذين يتأففون من زيارة أي مريض بالمستشفيات تحت تلك الحجة البالية‏,‏ أن مشاعرهم لا تحتمل ـ ياعيني ـ مشاهدة هذه الحالات‏,‏ وهم في واقع الأمر لا يملكون من هذه المشاعر سوي الأنانية المفرطة وحب الذات‏!!.‏

وعلنا هنا نتأمل معا في تلك المعاني الرائعة والبليغة التي وردت بكتاب النبي لجبران خليل جبران‏:‏ أنك مهما أعطيت مما تملك‏..‏ فإنما أعطيت القليل‏..‏ أما العطاء الحقيقي فهو أن تعطي من ذاتك ومن نفسك‏..‏ ولعل هذا هو الفارق ذاته بين زراع وصناع الحياة والبهجة والسعادة‏..‏ وبين المحرومين منها ويظنون أنهم علي قيد الحياة‏!..‏

عموما توالت علينا بعد ذلك بالقافلة السعادة الرائعة والغامرة بلا حدود‏..‏ فالفئة المباركة القليلة التي كانت تنوء بأعباء العمل أضحت بالفعل قافلة متسعة كبيرة يشكو أعضاؤها أنه مازال لديهم الكثير من الطاقات غير المستغلة‏..‏ والخريجون لا يتركوننا إلا لسفر أو زواج‏..‏ ولتسمع من كل وافد جديد كلمات ونغمات وحيدة لا تتغير أنا ولدت من جديد‏..‏ قبل كده حياتي لم يكن لها معني‏..‏ أرجوكم عايز دور أكبر و‏..‏و‏...‏

وانتقلت أنا في الدور والمكانة من مجرد مشرف أو دكتور‏..‏ إلي أن أصبحت بالنسبة للجميع بابا فلان فهل من سعادة في الدنيا أعمق وأروع من ذلك‏..‏ أن تكون أبا لهذه الكوكبة الرائعة من الملائكة‏..‏ وأن تسمع بكل عذوبة وحنو لنداء بابا من أفواههم‏..‏ وقلوبهم طلابا وطالبات‏..‏؟‏!‏ أتحدي‏.‏

فإذا كنت قد خرجت من الدنيا دون أي ثروة أو ممتلكات سوي هذه الكلمة الرائعة والوسام الذي اختصني به الله وملائكته ـ والذي ينطق به أحيانا بعض المعاقين والأيتام ـ فأنا بلا أدني شك من أغني أغني الأثرياء‏!!.‏

وامتد الغرس وشعاع الخير ليشمل الكثير من المجالات‏..‏ من إنشاءات وتجهيزات تعليمية بمدارس فقراء المعاقين التي تعاني اللا آدمية والإهمال‏..‏ للمشاركات الوجدانية والإنسانية أكثر من المادية للأيتام وأطفال الكلي والسرطان من المسلمين والمسيحيين علي حد سواء ـ‏..‏ لتوزيع الأقمشة والبطاطين بالشتاء‏..‏ وشنط الطعام‏..‏و‏..‏

ولن تصدقني إذا قلت لك إننا في كل مرة نجد الله في الانتظار والاستقبال‏..‏ وننتقل إلي ذات الحالة الوجدانية والارتقاء لأعلي درجات السماء‏..‏ رافضين تماما ـ ودوما ـ الانصراف حتي بعد مغادرة الأطفال‏..‏ كنوع من التلذذ بالشعور بالروحانية والسعادة التي تغمرنا‏,‏ والممزوجة بأروع لحظات حب تجمعنا بالقافلة لدرجة الشعور عند المغادرة في كل مرة بعذاب الفراق‏!!.‏ هل تصدق‏..‏؟؟ والله‏..‏ والله‏..‏ هذا يحدث ـ بل وأكثر منه‏.‏

سيدي إذا صدقتني بأننا نجد الله في كل مرة بالانتظار‏..‏ فاسمح لي أيضا أن نقول لك إننا نراه‏..‏ وعلي الدوام‏..‏ فكم من مطلب بسيط أو عويص لبعض ذوي الحاجة مما قد نعجز عنه أو لا نملكه‏..‏ إلا ونجد وعلي الفور طارقا أو هاتفا بالتليفون ينبئنا شاكيا تصور بأنه لديه فائضا من هذا ـ نفس هذا الشيء ـ ولا يعرف كيف يتصرف أو يتصدق به لمن يحتاجه‏..!!‏ فننظر إلي الله مبهورين وخاشعين‏..‏ ومرددين في نفس واحد يا سبحان الله‏!!..‏

ويتكرر هذا الأمر بصورة عجيبة ومذهلة مرات ومرات‏..‏ لدرجة أننا أصبحنا ما يشبه محطات للتفريغ والتحميل دون أي فضل منا‏!!.‏

بل ولدرجة أننا كنا نضطر في العديد من الحالات ـ تخفيفا للعبء‏..‏ أو حماية لأنفسنا من القيل والقال ـ أن نغلق هذه المحطة مقتصرين علي توجيه أصحاب الأيدي الكريمة رأسا لذوي الحاجات‏.‏

ويضيق المجال أن نسرد لكم لمسات السعادة الرقيقة والسامية التي تحاول القافلة أن تزرعها للجميع وفي شتي المناسبات‏..‏ من وفاء للمحالين للمعاش‏..‏ لاحتفاء بالأوائل‏..‏ إلي عيد الأم والذي يشمل من العاملات لهيئة التدريس‏..‏ ورمضان بشنطه الكريمة‏..‏ وإفطاره الرائع مع المرضي وأطفال الجنة من الأيتام والمعاقين‏..‏ وأعياد أشقائنا المسيحيين ـ والتي كان آخرها والذي جاء ردا علي حادث الإسكندرية مهرجانا حقيقيا للحب والوفاء والانصهار‏..‏ والذي تفضلت صفحة شباب وتعليم بجريدتكم الرائدة بتناوله تفصيلا في حينه‏.‏

سيدي‏..‏ لم أقل لك إن حياتي نغمة حالمة بلا هموم ومشكلات أو حتي بلا أخطاء جسيمة وعيوب‏..‏ بل علي العكس فقد اختصني الله منها وله الحمد بالكثير والعويص‏...‏ مما قد يستحق منك أن تفرد له صفحتك لأسابيع‏..‏ ولكنه أنعم علي في الوقت ذاته ببصيرة جعلتني ادرك ـ ومنذ البداية ـ ان للحياة أدوارها المتعددة والمتنوعة والمتشعبة‏..‏ وليست مجرد دور ضيق وحيد‏..‏ وأن لها بالتالي العديد من الدروب والطرقات‏..‏ فإذا صادفت تعثرا أو تعاسة باحدها الصحة أو الأسرة أو العمل‏..‏ فمازال أمامك باقي الطرقات‏..‏ وعلي رأسها دوما ذلك الطريق الذي تجد فيه ـ حتما ويقينا ـ الله دائما في الاستقبال والانتظار‏..!!‏

والآن فنحن علي أبواب عمل ضخم كبير ونبيل لأطفال السرطان وأمراض الدم بمستشفانا الجامعي يتطلب ملايين لن نحدثكم عنه الآن كي لا تتصور أن رسالتنا لهذا الغرض‏..‏ لكن لنقول لكم إننا لانملك له مليما واحدا‏..‏ لكننا علي ثقة تامة ـ ككل مرة ـ أن الله بالانتظار‏..!!‏

والفضل في ذلك كله ـ بعده عز وجل ـ لتلك الضمائر والقلوب الشابة التي تقود العمل وتبدع فيه بتفان وتجرد منقطع النظير‏.‏

فمن السهل والمنطقي أن تجد متقدما في السن أو شيخا أو قسيسا يهتم بأمور الأرامل ورعاية الأيتام‏..‏ أما عندما تجد ما هو أروع وابدع من ذلك يأتي من بين زهور غضة ومتفتحة وقلوب خضراء ـ منصرفين من أجلها عن جميع المغريات ـ فذلك هو الاعجاز‏..‏ وتلك هي السعادة المضاعفة‏..‏ سعادة اللحظة والانجاز‏..‏ وسعادة الاطمئنان علي مصير هذا الوطن بأن به أمثال تلك النماذج الراقية الرائعة‏..‏ والتي يوجد مثلها بالآلاف بالجمعيات الخيرية الشبابية الأخري‏.‏

فهل من اطمئنان وسعادة اروع‏.‏؟‏!‏
وإذا كان المسيح عليه السلام قد غسل بيده المباركة اقدام حوارييه‏..‏ فأنا لا استحيي القول بأني اتمني تقبيل هذه الأقدام‏..‏ أقدام ملائكة شباب صحبة وصحابة الخير‏..‏ والتي يسلكون بها طرق النبل الوعرة والمتربة للمساندة والعطاء‏..‏ بل وأضع هذه الأقدام ذاتها أيضا ـ وبكل فخر ورضا وسعادة ـ فوق رأسي قبل قلبي‏.!‏

فشكرا وسجودا وعرفانا للخالق عز وجل علي تلك المكافأة والكنز الذي وهبني إياه‏..‏ وتلك السعادة الرائعة التي غمرنا بها‏..‏ وأحاطنا بسر صنعتها‏.!!‏

والآن فهل استطعت ان أقترب من إجابة ذلك السؤال العويص عن معني السعادة وكيف نجدها؟ وهل اختلفت في ذلك عما وصفته انت في ردك علي صاحب الرسالة؟‏..‏ ام انها اتفقت معه في الجوهر والصميم‏..‏؟

وهل لمن يشكو التعاسة والجفاف أن يلحق بالطريق؟‏..‏ ام سيظل أسير الأطماع والأحقاد‏..‏ والغش والكروتة‏..‏ وجفاف الأفئدة والضمائر البور؟‏!‏

ولكم في النهاية خالص الحب والقبلات والدعاء‏..‏

دكتور‏/‏ عادل حسن قاسم
عضو هيئة التدريس ـ كلية التجارة ـ جامعة الزقازيق

{‏ سـيدي‏..‏ قبل قراءتي لرسالتك بيوم واحد كنت في زيارة لمعهد الأورام التابع لجامعة القاهرة‏,‏ وما شاهدته وسمعته جعلني أشعر بالضآلة وبالغضب وبالدهشة‏..‏ كيف لنا أن ننام‏,‏ أو نهنأ أو نتحدث عن السعادة‏,‏ وبيننا أطفال وشباب يئنون من إصابتهم بالسرطان وتعجز إمكانات الدولة عن علاجهم‏,‏ ونقف نحن مكتوفي الأيدي‏,‏ علي الرغم من أننا نمتلك الكثير‏,‏ والقليل منه يجعل الضحكة تتقافز علي شفاه بريئة‏.‏

كنز ثمين تشرع نوافذه أمامنا بزهورك الجميلة التي تؤكد أن مصر ستظل عامرة مزدهرة‏,‏ دافئة‏,‏ بشبابها الرائع الذي يبحث عن فرصة ليرفع الغطاء عن كم الخير والعطاء الذي يسكن قلوب مستقبل مصر‏.‏

دعني أحكي لك ولأصدقاء بريد الجمعة ما شهدته ـ وما أقوله لايدين المعهد بقدر ما يدين كل المجتمع خاصة مترفيه ـ فالمعهد بطوابقه المتعددة ينوء بزائريه‏,‏ فلا مكان للأطفال الذين ينتظرون دورهم للحصول علي جرعة الكيماوي‏,‏ أطفال تنام علي السلالم‏,‏ وفي الطرقات‏,‏ وأمام المعهد‏.‏ لاتوجد حجرة خالية‏,‏ الأطفال الذين يحصلون علي الجرعة يجلسون علي المقاعد بالساعات‏,‏ معلقة في أياديهم المحاليل‏,‏ يتحلق أهلوهم حولهم‏,‏ تتلمس الحزن والحسرة في عيون الجميع‏,‏

أما الأسرة فقد ضاقت بنائميها‏,‏ علي السرير الواحد أكثر من طفل‏,‏ أجساد مهدودة‏,‏ رؤوس حليقة‏,‏ وابتسامات بريئة باهتة‏.‏ المريض الواحد يتكلف عشرات الآلاف من الجنيهات‏,‏ العلاج مكلف لكنه يأتي بنتائج مذهلة‏,‏ الجانب المشرق في هذه المأساة‏,‏ هم هؤلاء الزهور الذين تتحدث عنهم‏..‏ شباب وفتيات متطوعون للتخفيف عن الأطفال‏,‏ يتحلقون حولهم كالملائكة‏,‏ كل ركن في المعهد شاهد علي إنسان وجد سعادته في إسعاد الآخرين‏..‏ حجرة وحيدة ضيقة بها بعض الالعاب المهداة من الزائرين‏,‏ يزدحم بها الأطفال‏,‏ هل يمكن تخيل أن ألعاب أطفالنا التي نبدلها ونرميهايمكن أن تسعد هؤلاء الاطفال‏,‏ الملابس القديمة‏

القصص الملونة‏,‏ علب الحلوي‏,‏ والكلمة الطيبة‏,‏ كلها أشياء‏,‏ مع بساطتها تمنحنا السعادة قبل أن تتسلل إلي قلوب هؤلاء الصغار الذين يقضون ليلهم في ألم وأنين‏.‏

سيدي‏..‏ أقدر الإحساس النبيل الذي تتحدث عنه‏,‏ تلمسته بيدي‏,‏ وأيقنت أن الله سبحانه وتعالي يبتلي البعض منا فيعجزه ويحرمه من سعادة بأبخس الأثمان‏..‏ بعضهم يبحث عن المحبة والسعادة بإقامة الحفلات والولائم وتقديم الهدايا لمن لا يحتاج‏,‏ وتعمي بصيرته عن رؤية أبواب السعادة والرضا‏.‏

سيدي‏..‏ لا أريد تكرار معان سامية أوردتها في رسالتك‏,‏ ولكني أعيد التأكيد علي أن السعادة لن تأتي أبدا إلا بإدخال البهجة إلي قلوب الآخرين‏,‏ وأنتهزها فرصة لتذكير التائهين في دروب الحياة وهم يجهلون الدرب الممهد للسعادة‏,‏ وأدعوهم إلي مد أياديهم الي المستشفيات‏,‏ ودور الأيتام والملاجئ‏,‏ فلن ننتظر هذا من الحكومة‏..‏ زيارة واحدة قد تكفي لإنارة طريق البهجة والاحساس بالرضا في النفوس‏..‏ وأذكرهم أيضا بأن مستشفي‏57357‏ قد اكتمل بناؤه الرائع‏,‏ وأصبح علي وشك الافتتاح بعد شراء أغلب الاجهزة‏,‏ وكل هذا تم بالتبرع بجنيه‏

وأغلب الذين ساهموا في إنشاء هذا المشروع متبرعون بوقتهم‏,‏ وخبرتهم‏,‏ ومالهم‏,‏ ونفوسهم الطيبة‏,‏ هذا المستشفي سيستوعب كثيرا من أطفالنا المرضي‏,‏ فأغلب مرضي السرطان من الأطفال أقل من‏18‏ سنة‏,‏ لأن‏42%‏ من سكان مصر تحت هذه السن‏,‏ والاحصاءات العالمية تقول إن واحدا من‏300‏ تحت سن‏18‏ يصاب بهذا المرض‏,‏ فإذا أضفنا عوامل الازدحام والتلوث لأيقنا أن مصر مصابة في مستقبلها‏..‏ هذا المستشفي يحتاج مزيدا من الدعم الانساني‏,‏ من الزهور الطيبة أمثال أبنائك‏,‏ الذين أدخلوا البهجة والتفاؤل الي نفسي مثلما أدخلوها إليك‏

وكذلك مشروعكم الرائع في جامعة الزقازيق الذي ينتظر زهورا جديدة تنهض به ليمسح ألم طفل أو دمعة أم‏.‏

سيدي‏..‏ جاءت رسالتك كباقة أمل‏,‏ وقمر علي طريق الخير‏,‏ وسط رسائل مليئة بالشكوي من الحياة‏,‏ من الحب والفراق والزواج الثاني والثالث‏,‏ لتؤكد لنا مرة أخري‏,‏ أننا في حاجة إلي إنارة ذواتنا حتي تشع بالخير علي الآخرين‏,‏ فإذا هنئوا وقرت عيونهم‏..‏ نام البشر سعداء وإلي لقاء بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق