الجمعة، ٣ أغسطس ٢٠١٢

البخــــــــلاء

24-02-2006
تبدأ القصة قبل ثلاثين عاما حين تزوجت والدتي بوالدي الذي يكبرها بسنوات تقترب من الثلاثين‏,‏ زواجا رجت منه ان ترطب جفاف حياتها في بيت أبيها فما لبثت ان علمت انها ما انتقلت من جفاف إلا إلي جفاف أقسي‏,‏ جمعت فيه بين شظف العيش لبخل الزوج وغياب المودة والرحمة‏,‏ لبغضها الزوج لكنها سلمت بأنها دفنت شبابها مع عجوز‏,‏ بخيل سيئ الخلق وكانت دائما ما تردد هذه العبارة علي غير وعي انها بذلك تسمم نفسياتنا تجاه والدنا وتزرع فيها المرارة‏.‏

واستمرت الحياة بينهما علي هذا الحال ورزقا بالبنين والبنات كنت انا احدهم في رحلة مليئة بالنوادر والغرائب تستحق ان توضع في الكتب التي تحكي عن البخلاء‏.‏

كان والدي يمتلك متجرا صغيرا لكنه علي الرغم من صغره وتواضع البضاعة المعروضة فيه كان يدر ربحا لابأس به‏,‏ منه كبرنا وتعلمنا وتزوجنا‏,‏ ومنه أهدر الكثير في سفاهات يطول المقام بذكرها ومنه أيضا بني والدي بيتا في احدي المدن الجديدة صار مصدر فخره وواحدا من أهم انجازاته في الحياة‏,‏ ومن أجله حرمنا من أكثر مباهج الحياة وكانت أمي سامحها الله كثيرا ما تلقي علي مسامعنا انه لولاها لما أنفق أبي علي طعامنا الزهيد‏,‏ ولا تعليمنا ولولا انها تخبره بأن ملابس العيد انما هي منحة من جارتنا لحدث ما لاتحمد عقباه‏.‏

وحقا لقد كانت والدتي صادقة لكنها كانت تزرع في قلوبنا الحنظل لنجنيه جميعا علقما‏.‏

ولأن والدي تزوج كبيرا فما كدنا نشب عن الطوق حتي ألمت به أمراض الشيخوخة فأقعدت ذهنه وان لم تقعد بدنه‏,‏ والحمد لله فهو يجد من القوة ما يمارس به مهنته في البيع والشراء لكنه يقع أيضا في السهو والنسيان‏,‏ ناهيك عن طبعه الأصيل في الشح‏,‏ فبدأ الصراع بينه وبين ابنيه الذكرين والوالدة‏..‏ وكانوا جميعا يساعدونه في أعمال المحل حول من الأحق بتولي الأمور‏,‏ وحسم الأمر بعد قليل وتولي الابنان ادارة التجارة‏,‏ استأثر الصغير بالنصيب الأكبر وحصل الكبير علي أجر المثل‏,‏ كان هدفهما من ذلك حماية التجارة والهروب من البخل‏.‏

سيدي أرجو ان تدرك انني أحكي ذلك عن والدي لا لأكشف عورة له بل لأبين انني اتفهم الدوافع وان كنت لا أقر ما حدث وما سأحكيه بعد ذلك من فصول القصة‏.‏

عادت احدي اخواتي زائرة من الدولة التي تقيم فيها مع زوجها فتطول بها الاقامة قليلا وتري وجها غير الوجه ويبدي أخي كثيرا من التبرم بها وبنفقاتها التي لم تكن مبالغا فيها‏,‏ وتصدت له زاعمة ان لها من الحق في هذه التجارة كما له‏,‏ واتجهنا أمام رفضه الي أهل الذكر نستفتيهم عساه ينزل علي الحق‏,‏ فردتنا الاجابة الي حقيقة ما كان أغفلنا عنها ان ابي مازال حيا والمال ماله‏,‏ فليس لأحد فيه نصيب‏,‏ واما الذكران العاملان فلكل منهما أجر المثل‏.‏

لكن الرأي استقر علي ان يترك الأمر علي ما هو عليه حتي يتزوج الأخ الصغير وكان لم يتزوج بعد‏,‏ كان هذا هو اقتراح الأخ الأكبر لحاجة في نفس يعقوب‏.‏

وتزوج أخي اخيرا وطرح الموضوع مجددا‏,‏ طرحته انا حين رأيت أبي وما انتهي اليه حاله واعجب لتصاريف القدر فبعد ان كان الآمر الناهي المستبد لا يحصل أهله علي ما يريدون الا بالاختلاس‏,‏ صار يجلس علي باب الحانوت الصغير يتحين الغفلة ليفعل كما كانوا يفعلون‏,‏ ويالعجب الأيام تفرض الحراسة والمناوبة حتي لا تترك فرصة له ليبيع بدعوي الاحتراس من سهوه ظاهرا ولحماية المال من يده باطنا‏.‏

صار يشتهي فلا يجد الطعام الذي يحبه‏..‏ يمرض فيتململ منه أهلوه يدعون الفقر حين يطلب منهم ثمن الدواء الذي يحتاجه‏,‏ وجيوبهم عامرة بماله‏,‏ واذا كرمت اريحية احدهم واخرج القليل ظن نفسه في أعلي مقامات البر والإحسان‏.‏

صار أبي يشكو فلا يجد من يسمع شكواه ويتألم حين تثوب اليه نفسه فلا يجد تحت يده شيئا مما كان يتوقع من الحب والشكر‏,‏ فلا يجد الا النكران‏,‏ يسعي ليعيد السطوة الذاهبة فلا يجد الي ذلك سبيلا‏,‏ فتثور ثائرته لكنها لاتعدوا في اثرها زوبعة في فنجان‏.‏

حقا لقد شح والدي لكن شحه بما يملك‏,‏ أفيشح احدهم بما لايملك‏,‏ حقا لقد خرف لكن الوصاية عليه لاتعني تمليكهم ما لايملكون‏.‏

لقد استعنت بالله وحملت عليهم لاحملهم علي الحق وحاولت اقناعهم خاصة أمي بان الأمر وان طاب اليوم فلن يطيب غدا وان ما صار اليه والدي قد تصير هي اليه يوما‏,‏ وحاولت اقناع اخوي وزوجتيهما لكنني لم أجد الا آذانا صما وقلوبا اعماها اتباع الهوي وحب العاجلة‏.‏

ولا عجب ياسيدي فما هذه القصة إلا صورة من فساد الحياة بأكملها‏,‏ فالكل الا من رحم ربي يسعي لتحقيق آماله ومصالحه ولو وطئت أقدامه في سبيل ذلك رؤوس العالمين بمن فيهم أقرب الأقربين ومن أمرنا الله ببرهما والسعي في مرضاتهما‏.‏

لقد استفدت في أثناء ذلك أمورا كثيرة لعل أهمها انني تخلصت من المرارة القديمة التي أورثتنيها أمي سامحها الله‏,‏ وتعلمت ان للوالد حقا لايسقطه تقصيره ان قصر فهو سبب وجودي وباب جعله الله مفتوحا الي الجنة‏.‏

حقا لقد شح بذات يده لكنها كانت يدا عفيفة عن الحرام ومنه تعلمنا ذلك‏.‏
وحقا لقد كان سيئ الخلق لكنه كان في النهاية رحيما طيب القلب‏.‏

حقا لطالما وجدته يمنعني من شراء دواء البرد حين كنت أصاب به لكنني اشكر له الآن اذ منحني ذلك العافية فيما بعد

حقا لقد تألمت لضيق ذات يدي امام قريناتي‏,‏ ولكنني أحمد هذه الأيام التي عودتني الرضا بالقليل والسعادة الطاغية بالخير إذا نلته

وأخيرا أيها الأب كن بارا بأبنائك ولا تحرمهم ما فيه مصلحتهم حتي لاتفارقك محبتهم حين لا ينفعك مالك الذي ربما تفقده أيضا‏.‏

أيها الأبناء بروا آباءكم ولو ظلموكم فالوالد أوسط أبواب الجنة‏.‏

أيتها الزوجة الكارهة لزوجها لاتحملي أبناءك مرارة اختيارك ودعيهم يخوضوا الحياة وقلوبهم سليمة‏.‏

*‏ سيدتي‏..‏ حفظك الله وأنار بصيرتك‏,‏ فقد اختزلت مأساة كبري بحكمة يضن بها الله سبحانه وتعالي علي الحمقي وأصحاب القلوب الغلف‏,‏ الذين لم يعوا الدرس وهو ماثل حي بين أيديهم‏.‏

لقد طرحت رسالتك ـ سيدتي ـ ثلاث قضايا مهمة وشائكة‏..‏ الأولي وهي البخل وتصلني عنه رسائل عديدة تحكي عن آباء يضنون بما جاد الله به عليهم من رزقه الواسع‏,‏ فظنوا ان كنز المال حماية لهم من غدر الزمان‏,‏ غافلين ان البخيل يعيش فقيرا ويموت غنيا‏.‏ فالبخيل لما له‏,‏ أما ماله فليس له‏,‏ كما قال الروائي الروسي تشيكوف‏.‏

حرمان في الدنيا وحرمان في الآخرة‏...‏ فالرسول الكريم صلي الله عليه وسلم يقول البخيل بعيد من الله‏,‏ بعيد من الجنة‏,‏ بعيد من الناس‏,‏ قريب من النار‏.‏

أقف مندهشا أمام هؤلاء الذين يملكون ثم يبخلون علي الآخرين وعلي أنفسهم‏,‏ فيزرعون الحنظل في نفوس أقرب الناس اليهم‏,‏ معتقدين انهم يختزنون الامان لهم في المستقبل‏,‏ فعل والدك ذلك وتعامل مثل الجمال العطشانة التي تحمل الماء علي ظهورها‏,‏ وفي نهاية الرحلة اجتمعت القافلة تشرب مما كان يحمل كل سنوات العمر‏,‏ وهو لايستطيع ان يروي بعض ظمئه‏.‏

أما الأمر الثاني فهو تصرف والدتك معكم‏,‏ عندما غرست فيكم المرارة والغضب تجاه والدكم‏,‏ علي الرغم من تحملها خطأ اختيار من يكبرها سنا بكثير وتعبيرها الدائم عن سوء حظها واحساسها بانها دفنت شبابها معه‏,‏ هذا الاحساس الذي انتقل حتما اليه‏,‏ فلم يعدل من سلوكه معها‏,‏ لأنه يحس بعدم رضاها‏.‏

الأم الصالحة ـ مادامت ارتضت أن تستمر في حياتها مع رجل ـ عليها ان تحمي الحالة النفسية لأبنائها‏,‏ لان غرس الكره والمرارة في نفوسهم البريئة منذ الصغر ستنعكس عليهم في الكبر‏,‏ وسيقسون كما قسي اخوتك‏,‏ وسيعصون الله فيه وفيها‏.‏ نعم أقدر حجم معاناتها‏,‏ ولكن ما ذنبكم أنتم؟‏..‏ ألا يكفي ما عايشتموه بأنفسكم‏..‏ لقد كان أجدر بها ان تتحدث عنه بالحسني ـ علي الأقل في طفولتكم ـ حتي تخفف من الأثر السيئ لتصرفاته‏.‏

وأخيرا ـ سيدتي ـ موقف اخوتك العاصي لأوامر الله سبحانه وتعالي‏..‏
واذكرهم بحكاية الابن المتزوج الذي كان يقدم الطعام لابيه العجوز في طبق من خشب في المطبخ‏,‏ بعيدا عن مائدة الطعام التي تجمعه مع زوجته وأبنائه‏,‏ ولاحظ الأب الصغير ان طفله يذهب الي جده بعد تناول الغذاء ليحمل طبقه ويغسله‏,‏ وعندما سأله أبوه عن سر فعلته المتكررة‏,‏ أخبره انه يفعل ذلك حتي يحفظ الطبق سليما حتي يقدم فيه الطعام لأبيه عندما يكبر‏.‏ فكما تدين تدان‏..‏ ولقد أمرنا الله سبحانه وتعالي في كتابه الحكيم فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما فما بالنا بما يفعله اخوتك‏,‏ الذين لم يسمعوا صوتك العاقل المتدين‏.‏

ادعو الله معك ان يهديهم ويهتدوا الي قول الرسول صلي الله عليه وسلم‏:‏ كل الذنوب يؤخر الله تعالي ماشاء منها الي يوم القيامة الا عقوق الوالدين‏.‏

إن الحمقي وحدهم يحتقرون تجارب غيرهم‏,‏ ومن لم يتعظ مما عايشه فهل يمكن ان يتعظ بحكايات الآخرين‏..‏ والي لقاء بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق